الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 00:56 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة ابراهيم على ابراهيم المحامى(ابراهيم على ابراهيم المحامى)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-23-2007, 08:08 PM

ابراهيم على ابراهيم المحامى

تاريخ التسجيل: 04-19-2011
مجموع المشاركات: 126

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها (Re: ابراهيم على ابراهيم المحامى)

    الفصل الثالث
    (3)


    في نهار يوم قائظ من أيام العطلة الصيفية كنت ألعب الكرة مع بعض الصبية في فناء دار جدي الظليلة، وكان الصمت عادة ما يخيم على الضاحية في مثل هذا الوقت من النهار، ولا تكاد تسمع إلا أصوات وابورات المياه المتناثرة على شاطئ النيل وهي تسقي المزارع والجنائن. فجأة شق عنان النهار الصامت صوت صراخ قادم من اتجاه النيل، جلجل في فضاء الضاحية، وتعالت على إثره صيحاتٌ تطايرت لها أوراق أشجار المانجو وصفق لها النيم والليمون، و ناحت طيور الغابة. توقفنا من اللعب وجلين. دخلت علينا أمي كالملسوعة، وكانت تبكي وتولول، ونظرت إلينا نظرة فاحصة، وسألتني عن بقية إخوتي وانصرفت. تبعتها وأنا ألاحقها بالأسئلة عن ما حدث. أصابني منظر أمي وهي تبكي بالرعب، فأيقنت أن مصيبة ما حلت بنا، وأحسست بجزع رهيب سكن في داخلي مدة من الزمن، واضطرب قلبي و زادت دقاته حتى كاد أن يقفز من جنبي.

    بدأ الناس يخرجون من كل صوب من الضاحية، رجال ونساء، شباب و كهول وأطفال، وكانوا يسرعون الخطى نحو النيل وقد ارتسم الرعب على وجوهم، وأسئلة كثيرة تبحث عن إجابات: من هو الغريق، ومن كان يسبح معه، وكيف حدث ذلك، وفي أي جزء من النيل حدث الغرق. ومع تقاطع أصوات الناس واختلاطها بنحيب بعض النساء، اتضحت الإجابة. الغرقى ثلاثة صبيان، منهم اثنين كانوا زملائي في الفصل الثالث في المرحلة المتوسطة. كانت أعمارهم مثل عمري، أما الغريق الثالث فكان هو ذلك البقال الذي جاء للعمل في الضاحية منذ سنوات. غرقوا جميعاً عندما كانوا يسبحون في البحيرة الملحقة بالنيل والتي تسمى محليا بـ "بجيقا".

    هدأ روع أمي تماماً، بعد أن تلقت إجابات لجميع أسئلتها، فلم يكن أحد هؤلاء الغرقى يمت لنا بصلة القربى. في هذه اللحظة انتبهت أمي إلى أنني لا زلت اتبعها وان الخوف بدأ يتسرب إلي.

    كان الذهاب إلى البحر ( هكذا يسمى أهل الضاحية النيل) هو إحدى المحرمات في منزلنا، ولا استثناء في ذلك إلا تلك السانحات النادرة عندما يتعطل وابور المياه الجوفية الذي يسقى الضاحية بمياه الشرب. عندها تضطر أمي إلى اصطحابنا إلى النيل للاستحمام ولمساعدتها في نقل الماء إلى المنزل. فالنيل يعني بالنسبة لي مجموعة من الألغاز الغامضة والمغامرات المخيفة.

    كان الجميع يتجهون نحو النيل باتجاه بحيرة بجيقا، بعضهم راجلا، وبعضهم تكدس في سيارات. حافلات المواصلات غيرت خط سيرها لينتهي عند شاطئ النيل. عندما وصلنا إلى ضفة النيل، اتجهنا شمالا حتى نتفادى صعود الهضبة التي تقع تحتها بحيرة "بجيقا"، لنصل إلى الشاطئ من الناحية الغربية عند المنحنى. كان الناس قد اصطفوا على طول الشاطئ، بعضهم يروي كيف غرق الصبيان، وبعضهم يستمع. كانت الرواية تنتقل وتسري بين الناس في ثواني كما تسري النار في الهشيم ، فيصدقها الجميع. تمر دقائق وتسمع رواية أخرى، ويصدقها الناس أيضا. كثرت الروايات أم اختلفت كثيرا، لا يهم. ما يهم هو أن الناس متفقين على أشياء محددة هي أسماء الغرقى، و الخوف من عدم العثور على جثثهم لمكوثها في قاع بحيرة "بجيقا" العميقة في اغلب الظن.

    لا أحد يدري على وجه الدقة من أين جاء اسم "بجيقا" الذي يقصد به تلك البحيرة الصناعية الضخمة العميقة الملحقة بالنيل الأزرق عند منحناه تحت تلك الهضبة العالية التي تمثل أعلى نقطة في شاطئه. ومهما تختلف الروايات حول حقيقة الاسم، إلا أنها تتفق حول مرجعيته التاريخية لزمن الإنجليز عندما كانوا يجهزون لقيام المشروع الزراعي الكبير في المنطقة المروية. فقد تم حفر هذه البحيرة كامتداد للنيل، لتدور حولها المياه في دوامة "شيم" تشكل دوائر ظاهرة تتسع الدوائر وتختفي كأنها دميرة دائمة، لتصبح اكبر مخزون لمياه النيل في المنطقة. وربما يكون الاسم مصدره اسم الخواجة الذي بدأ الحفريات في هذه البحيرة في بداية القرن الماضي.

    كان المبنى الضخم الذي يعلو البحيرة مشيدا على أربعة طوابق تحتوى على غرف كثيرة رُكبن فوق بعض، كأنه مبنى لفندق غائص في الماء. أبواب الغرف الحديدية تفتح وتقفل من تلقاء نفسها في خفقان مرتب ومتناسق مع حركة الأمواج، دخولا وخروجاً.

    في أعلى الهضبة تم تركيب الماكينات الضخمة التي ألصقت على قواعد أسمنتية تغوص في باطن الأرض. تخرج من هذه المضخات مواسير ملتوية كأنها أمعاء ضخمة لغول كبير، تنزل المواسير إلي أسفل المبنى مخترقة الغرف إلي أسفل، ثم إلي أسفل ثم إلى أسفل، لتخترق الطوابق الأربعة. في كل غرفة من الغرف ينتهي عدد من المواسير بفوهات مفتوحة كبيرة شرهة لابتلاع المياه الكثيرة التي بداخل الغرفة. ثم تقوم هذه المواسير الملتوية بضخ المياه إلى أعلى، حيث يجري حملها بعد خروجها من بحيرة "بجيقا" على ركائز تم بناءها من الحجر الصخري، كانت متراصة ومتوازية في ثنائية عجيبة، متجهة جنوباً. كانت الركائز تحمل المواسير وتشق الضاحية وتمتد إلى بضعة كيلومترات تنتهي خارج حدود المنازل عند هضبة عالية تطل على سهول خصبة، ومن أعلى هذه الهضبة العالية تنهمر المياه التي تحملها المواسير من بجيقا لتصب في ترعة كبيرة لتسقي أولى مزارع القطن في المشروع الكبير.

    لم يعد الآن من "بجيقا" نفع يذكر بعد أن تخلى عنها المشروع الزراعي و فضل عليها نظام القنوات والترع التي تحمل الماء من خزان سنار. أصبحت مسكناً للثعابين وحشرات الليل والبوم والطيور الغريبة. خرافات كثيرة تروى حولها، وذكريات غامضة كتبت على جدرانها.

    في ارتطام كل موجة بحائط المبنى تسمع صوتاً، وفي كل صوت نذر بالخطر. تتقاطع المياه بين غرفها المختلفة، و تجري دماً على جدران "بجيقا". ولكن أكثر ما ينبعث منها صخباً هو صوت الليل وهو يلملم نعش النهار.
    تبدو بحيرة "بجيقا" في الصيف هادئة و مياهها شفافة تماماً بحيث يخيل إليك انك تستطيع أن ترى ما يدور في أعماقها. في الصيف وفي هذا المكان بالتحديد تكثر حوادث الغرق في الضاحية حيث تكون المدارس في عطلتها الصيفية وينحسر النيل إلى أقصى مداه مخلفاً بساط من الرمال البيضاء المموجة التي تبدو كالسجاد الفارسي الموشى، حيث تظهر آثار الأمواج والمد والجزر، وتصير المياه اكثر شفافية. يقول بعض مواطني الضاحية الساخرين واصفين حالة الطقس، أن بالضاحية فصلين في السنة: فصل للزراعة و فصل للغرق.

    في كل عام يأخذ النيل معه زهرتين أو ثلاثة من صبيان الضاحية، يغوصون في أعماقه، ويتحولون إلى ذرات تختلط في تناغم غريب مع ذرات مياهه، ويختفون إلى الأبد. إن كان هناك خيار في الموت فان أهل الضاحية يفضلون الحصول على جثث غرقاهم بدلا من هذا الغياب الأبدي في غياهب المجهول المخيف في أعماق البحيرة السحيقة.

    بعد ساعات من الانتظار والغوص اليائس حان وقت العصر وصلى الناس في جماعة كبيرة على رمال الشاطئ، وكانت دموعهم قد أحالت النيل إلى بحر مالح. كان الوجوم يكسو وجوههم، وقد اعتراهم الخوف من صدق مخاوفهم في عدم العثور على الغرقى رغم محاولات البحث المستمرة التي استمرت طول النهار من بعض السباحين الشباب.

    بعد أن نزلت الشمس قليلا وبرد الجو، تكوم الناس في حلقات على ضفة النيل يرون قصص الغرق الكثيرة كما هي عادتهم في كل حادثة. كانوا يتحدثون عن الرمال الغائرة في قاع النيل والجنيات اللاتي يسكن قاع بحيرة "بجيقا"، وقام بعضهم باسترجاع ذكرى أولئك الذين أخذهم النيل ولم يعودوا أبدا، وذكروهم اسماً اسما فازداد خوفنا وتوترنا. كانوا يختلفون في الكيفية التي يأخذ بها النيل الصبية وهو في هذه الحالة من الشيخوخة والموات في أشهر الصيف، ولكن ظل عدم العثور على الجثث دائماً لغزاً محيراً لهم. يعتقد فريق منهم إن حركة الأمواج الرملية الفوارة التي تستمر في قاع النيل هي التي تدفنهم بعد أن تكون أجسامهم قد امتلأت بالماء. وقال البعض أن رؤوس الغرقى تصطدم بحجر السار في قاع النيل فيفقدون الوعي وهم داخل المياه ثم يموتون.

    وكان صوت جفّال المسطول قد خفت قليلا بعد نشاط طول النهار. كان يتوسط مجموعة كبيرة من الصبية الذين كانوا يجلسون في حلقة كبيرة على رمال الشاطئ، يحكي لهم بلذة غريبة فيزداد احمرار عينيه واتقادهما وهو يوصف ما يجري في قاع النيل، كان حديثه مثل حديث الخبير العارف ببواطن النيل، وكان يعلم انه أصبح يشكل رأياً مهماً وسط هؤلاء الصبية في هذا اليوم العصيب.

    قال جفّال:
    "إن الجن يتخذ من "بجيقا" مسكناً له، وانه كثيراً ما شاهد الجنيات الحسناوات وهن يمشطن شعرهن الطويل خارج البحيرة عند المساء".
    و أضاف مؤكداً حديثه:
    "إن أبو زعبل الذي غرق قبل سنوات ولم يعد حتى الآن، لا يزال يعيش معهن في قاع البحيرة بعد أن أعجبن بجماله الساحر".
    وأضاف شخص جالس وهو يسابق الآخرين في فرصة للكلام:
    "إن أبو زعبل قد روى لي مرة انه شاهد جنية حسناء وقد خاطبته عندما كان يجلس في أعلى قمة "بجيقا" وقالت له إنهن يمارسن حياتهن بصورة عادية في أسفل قاع البحيرة، فلم يصدق أحد أبو زعبل، وبعد أن غرق واختفى حبس الناس أنفاسهم في انتظار عودته التي لن تحدث أبدا. "

    وروى ثالث كيف انتحر حرّان بعد أن ألقى بنفسه من أعلى قمة بجيقا، استقرت جثته النحيفة في قاع البحيرة ولم تخرج منها أبدا. ما زال الناس يرددون محاولات حرّان المتكررة ليختبر قاع بجيقا، وكيف انه كان يعزي اختلال عقله إلى علاقته بكائنات بجيقا التي كان يحاورها ليلا أثناء جلوسه في قمة الهضبة بعد أن تكون الكائنات البشرية قد غطت في نوم عميق.

    انتهى اليوم الأول للبحث عن الجثث بانتهاء صلاة العشاء، و نادى المنادي بانصراف الجميع إلا قلة من السباحين تقوم بواجب وردية الحراسة الليلية.
    في رحلة العودة إلى البيت في ذلك المساء سألت أمي قائلاً:
    - كيف يغرق الناس ؟
    قالت أمي:
    "إن الأولاد عندما يسبحون في البحر يغوصون في الداخل تمتلئ بطونهم بالمياه فيصبح رأس الغريق إلى أسفل فلا يستطيع الخروج، ويبقى مثبتاً في هذا الوضع لدقائق طويلة إلى أن تخرج روحه من منخريه في شكل سلاسل بيضاء تلتصق بقاع البحر فلا يستطيع حراكا، ويظل على هذا الوضع حتى تتحلل أعضاؤه وتتلاشى مع المياه المسافرة".

    لم انم تلك الليلة، أصابني الرعب وسكن الخوف جوانحي واستقر البرد الشديد في عظام ظهري السفلى. زارتني الهواجس في تلك الليلة ولازمتني طويلا. "شعرت بأنني في حالة بين الموت والغيبوبة، وكانت أنفاسي تتقطع و شيء ما يسد حلقومي ". عندما عدت من عالم الهلوسة والاختناق قفزت كالمجنون إلى زر النور بحثاً عن الإضاءة حتى تعود الطمأنينة إلى قلبي برؤية معالم الغرفة، فعلت ذلك وأنا اردد كلمات مبهمة و أتلمس جسدي لأتأكد من أنني لا زلت حياً. كنت أشعر بانتفاخ في بطني وفقاقيع تجوب أمعائي، وامتلاء في مثانتي.

    *******
    في اليوم الثاني لحادثة الغرق اشتدت حركة الناس جيئة وذهاباً، وكنا ننقل الأواني المليئة بالأكل والشرب للناس الذين عسكروا ونصبوا خيامهم على شاطئ النيل في أعلى هضبة بجيقا. تحولت حياة أهل الضاحية إلى النيل، فعسكروا فيه لعلهم يظفرون بجثث غرقاهم. وكان العائدون من العمل يتجهون مباشرة إلى النيل، والمعزين توافدوا من المدينة والقرى المجاورة، وكانت السيارات تنقل الطعام ومزيداً من الكراسي. وكانت عملية البحث عن الغرقى تستمر من الصباح الباكر حتى وقت العشاء حيث يصلي الناس جماعة وينصرفون معلنين انتهاء يوم من أيام البحث الثلاثة حسب العرف الجاري.

    كنت أتجول بين الناس وأشم رائحة الماء من خلف الشفق، عندما يزداد الحر وتقوى أشعة الشمس تنتشر هذه الرائحة في كل مكان. هناك في سطح تلك المياه المموجة بلفح الهواء حيث تلقي أشجار المانجو الضخمة بظلالها، لا احد يستطيع إدراك القاع والأغوار البعيدة، حتى الغريق يتحول إلى ورقة من أوراق أشجار المانجو تتحلل خلاياه وأنسجته وتتلاشى مع الزمن، لن يبقى منه إلا خيوط رفيعة من الذكريات نقوم بسردها عند واقعة غرق أخرى. ولكن ليس مستبعد أن تطفو جثة غريق محظوظ لتتلقفه الأيدي المثابرة مرة أخرى ليحظى بشبر في أرض الضاحية بدلا من التوهان الأبدي في تلك المياه الهادرة.

    في اليوم الثالث، لم يكن هناك ثمة تقدم، ولا شيء سوى السماء الصافية، نصف المحترقة بلون الغروب. كانت الشمس قد هوت إلى الجانب الغربي من النيل، تقاوم أشعتها الذهبية الأشجار الضخمة التي تكاثفت على الضفاف الغربية. توجس الجميع خيفة أن تزول شمس هذا اليوم دون ظهور لجثث الغرقى.

    كنت أتمشى على الشاطئ وقت الترقب. وجدت لنفسي طريقاً في الرمال المبتلة لأقف قبالة المياه. نظرتُ إلى “بجيقا"، ذلك المبنى العملاق ذو الطوابق الأربعة. كان المبنى يشغل جانباً كبيراً من البحيرة المرفقة بالنيل عند المنحنى، تغطي المياه نصفه ويتصاعد منه الرمق الأخير لدخان الأمواج القادمة من أقصى الشرق. وكان الجميع في حالة هدوء، فمنهم من اتخذ الرمال مرقداً، ومنهم من جلس في حلقات يتداولون موضوع الغرق في الضاحية، ويسترجعون ذكرى أولئك الذين ماتوا غرقاً ولم يعودوا على مر التاريخ. لم استطع تبين ملامح وجوههم، ولا الدموع التي كانت تبلل آثار أقدامهم في الرمال. كنت أراقب قسمات مجلسهم وهي تتغير، و أحياناً يجفل بعضهم واقفاً إذا ظن انه رأى شيئاً يتحرك في سطح الماء.

    انتهى الآن ذلك المشهد الذي ألفناه طيلة النهار ونحن نرقب الغطاسين يحاولون إنقاذ جثث الغرقى من التوهان الأبدي. في هذا الوقت يتنفس النيل أنفاسه الحارة التي ظل يكتمها طيلة النهار، ومعها تخرج الأشياء الكامنة فيه. وكانت أيدي الغطاسين تتشابك قبل النزول إلى قاع النهر وهم يهمهمون بأشياء غير مفهومة، كنت أحاول فك طلاسمها.

    قال صوت مُدرَّب:
    "أيها الغطاسون بإمكانكم أن تستريحوا الآن، لقد أوشك المغيب، وسوف تلفظ المياه كل ما بداخلها من جثث في هذا الوقت مع تصاعد الأمواج الحارة المندفعة من الأعماق".
    وقال غطاس نيجيري الملامح بلهجة مكسورة:
    "لقد انتهي دورنا، ولن نغطس بعد نزول الظلام على أية حال، لأن قاع بحيرة "بجيقا" مسكون بالجن والشياطين".
    و قال غطاس آخر خارج لتوه من الماء، محاولاً مواراة فشله:
    "نعم بعد المغيب يسرح الجن والشياطين بين يدي الليل، وتزداد الخطورة علينا في المياه المظلمة في القاع".

    كان وقت السحر ذهبياً، مترعاً بهواء حار عطن يخرج من سطح الماء من ناحية البحيرة، يزيد قرار الغطاسين غموضاً ويملأ النفوس بالوجل. وكان النيل يجري لا يعبأ بشيء، وأمواجه المندفعة تفور عند قوس "بجيقا" تحدث أصواتاً تزيد المكان رهبة وتحيل حديث الغطاسين إلى حقيقة مفزعة.

    بعد أن اكتمل نزول الظلام انضممتُ إلى مجموعة من الصبية والشباب كانوا يجلوسون على الشاطئ، وكنا نراقب أضواء الفوانيس القلقة التي تناثرت هنا وهناك على سطح الماء، كان أصحابها لا يرغبون في تفويت فرصة لرؤية أي شيء يخرج من سطح الماء. وكان الرجال يشمرون عن سواعدهم، وبعضهم قد ربط عمامته حول وسطه استعدادا لأي طارئ، و ترقباً لأي قادم من رحم المجهول. وكان أهل الغرقى وذويهم يتمنى كل واحد منهم أن تكون الجثة الأولى الخارجة له حتى يرتاحون من عناء الانتظار ويتحللون من هول فكرة عدم عودة جثة ابنهم الغريق وتوهانها الأبدي في مياه النيل.

    ازدادت الهمة وظهرت قوارب خشبية صغيرة تتصاعد منها صيحات، وثمة أصوات متوجسة ومترقبة تضع الخطة وتقول:
    - يا إخوان ... قاربان يقفان على قبالة أبواب "بجيقا" ..... وقاربان يسدان الاتجاه الشمالي لخط سير الأمواج المندفعة.
    قال رجل آخر:
    - أرجو أن يكون حديث ذلك الخبير الذي أنهى مهمة الغطاسين صحيحاً.

    وقف الجميع في ترقب وحذر مشوب بالتوتر، تثقل قلوبهم وطأة الانتظار، والصمت الرهيب يلف المكان عدا همهمات باهتة. فجأة شق الصمت صوت طيور بلون الليل، خرجت من البرج الثالث لبجيقا وحلقت في الظلام تولول، فزادت الموقف تشاؤماً. اشرأبت الأعناق وخفقت القلوب، وكاد قلبي أن يسقط مني وأنا انهض مع الناس وقوفاً على اثر الصراخ المتعالي. بعدها انطلق جسمٌ داكن خرج من اتجاه "بجيقا" واندفع مسرعاً على سطح الماء كأنه سهم منطلق. اتجه الجسم مع مجرى النيل شمالا بعد أن لف ودار حول نفسه دورة كاملة مع دائرة من الشيم الفوارة.
    صرخ رجل:
    - طلعت جثة واحدة .....انفلتت باتجاه الموج ..... اقطعوا عليها الطريق... يا جماعة.
    تعالت الأصوات من كل جهة محذرة ومرشدة. وقال الذي كان يقتفي أثرها وهو ممسك بحبال وشباك لصيد الأسماك، ناهضاً على قاربه الصغير في حالة تأهب تام للانقضاض على تلك الجثة الهاربة:
    "سوف أتمكن منها".
    القارب يبدو حاداً ومدبباً، ينطلق كالسيف في الظلام.
    أصوات الموجهون تعلو و تتقاطع، تسابق الجثة المنفلتة:
    "هنا ....... هناك .... يسارا ......يميناً ...تقترب منك.....أحذر ....أحذر لا تمسكوا بها في تلك الشيمة الفوارة فقد تفلت أو تتفسخ منكم فلن تستطيعوا الإمساك بها.."
    نزل عدد من الذين يجيدون السباحة إلى الماء وهم يحملون شباكاً طويلة، وشكلوا مثلثاً داخل الماء، وكانت القوارب تحوم حولهم في تشكيلة هندسية غريبة. وفي اللحظة التي أصبح فيها الجسم داخل هذا المثلث، تلقفته الشباك، وشكلت سدا منيعاً أمام حركته. تعثرت الجثة وأبطأت حركتها القيود التي تلفلفت حولها، أحاطت بها من كل جانب، وصمت الجميع في ترقب لإعلان النتيجة. اقترب القارب الثاني الذي كان مرابطاً في رأس المثلث في حركة تقاطعية حتى تمكن من حصار الجثة المنتفخة ووضعها في مسافة صغيرة بين القاربين، وتم رفع الجثمان بحذر شديد إلى داخل القارب.
    "لقد وقعت في الفخ".
    قال الذي نال منها بعد أن احتواها بشباكه بمهارة فائقة وخبرة ظاهرة:

    كاد قلبي أن ينزلق ويسقط في أعماقي، وأطبق علي حزن مخيف وأنا انظر إليهم وهم يقتربون نحونا يجرون غنيمتهم .... تلك الجثة الهاربة. عند الشاطئ توقفت حركة التدحرج ، واستقرت الجثة عند الرمال المبتلة.
    - جنازة من ؟ .... تعالت بعض أصوات الذين كانوا جلوساً وهم ينهضون.
    قلت في سري:
    "ماذا يفيد الأمر" !

    التف الجميع في ذهول حول الجسم المنتفخ المسجي على الرمال. رهبة الموت تسيطر على المكان، وطائر الليل يزيده ردحاً وعويلاً. انهمر ضوء البطاريات جميعها وتركز على هذا الجسم المسجي على الرمل.
    شق الصفوف رجل احدودب ظهره من كثرة البكاء والنحيب على ابنه الغريق، يكسو وجهه أمل طفيف في أن تكون الجثة لولده، عله يستريح من هذا العناء القاتل.
    قال لهم:
    "أستميحكم العذر في العجلة".
    وأحس بعد ذلك بأن تلك الحشرجة التي خرجت بها كلماته كانت مثل خروج الروح منه. فجأة، تملكه هدوء ووقار وهو يقف أمام الجثة المتقيحة.
    كانت الجثة تبدو وكأنها لشخص هارب من هول مصيبة ما. كانت ساقاها قد تقشرت بشرتهما فاستحالت معرفة لونه، ولم يكن ثمة ملابس تغطيه سوى سروال قصير ستر ما كان من عورته.
    قال الرجل الأحدب:
    - ولدي !
    أجابه الجمع:
    - لا ... ليس هو ولدك....بل هو الفاضل، التاجر البقال الغريب ....
    هزمت الإجابات المتسرعة آخر آمال الرجل الأحدب في هذه الحياة، فازدادت انحناءة ظهره تحت وطأة الهزيمة، وانسحب من المشهد.

    لما رأيت الجثة، تذكرت أنني قابلت هذا التاجر البقال الغريب عدة مرات منذ أن حط برحاله في الضاحية عاملاً بإحدى البقالات. نمت بيننا إلفة ومودة من نوع تلك التي تنشأ بين تاجر وزبون، كان في مثل عمري. حدثني عن منطقته وأهله الذين يعملون في تربية الخراف والماعز بكردفان وكيف انه هجر موطن أهله وحرفتهم. قال لي منشرحاً ذات مرة أنه لا يشعر بغربة في الضاحية، بل يرى أن الجميع أهله وأسرته حيث عاملوه بمودة وحب. ومرة روى لي بأنه مسرور لحقيقة وجوده بالضاحية.
    كان اسمرا ووسيماً وبشوشاً، وعندما انتشر خبر وسامة طلعته ازداد رواج بضاعة تلك البقالة التي كان يعمل بها وكثر عدد الفتيات المشتريات منها.

    بدأت الخيبة على الجميع وهم يتراجعون، والجثة قابعة وسطهم على الأرض لا يرغب فيها أحد. كان الجميع يبحث عن جثة ضائعة في هذا اليوم الحاسم، انه اليوم الثالث ولا أمل بعده في العثور على شيء حي أم ميت. لم يكن أحد يتوقع خروج جثة الغريب أولاً.

    قام الرجال الحادبون بلف الجثة بقماش من التيل القوي أحضروه خصيصاً لهذا الغرض، ودفنوها في حفرة كبيرة في "مقبرة حمدان" الصغيرة التي يدفن فيها الغرباء وأموات أبناء حي "الديم" الذين لا يمتون لغالبية أهل الضاحية بصلة قرابة. وضعوا على القبر كمية من الأشواك وقطع من الحديد القديم حتى لا تجذب إليها حيوانات الليل والكلاب الضالة. لم يكن أحد من أهله حاضراً، ربما لا يعلمون بمصيره بعد. لفظه البحر كالغريب الذي لا يرغب فيه. إن الانتماء مهم حتى في الموت ! لم تخرج جثة الغرقى الآخرين وخابت توقعات وآمال أهل الضاحية في تلك الليلة الثالثة، وانصرف الجميع إلى بيوتهم والي حزنهم الأبدي.. وبنهاية اليوم الثالث تم الإعلان عن وقف المحاولات ووقف الانتظار طبقاً لنواميس النيل الأزرق.

    رجعت إلى المنزل وانأ أحاول ترتيب ذكريات تلك الأيام الثلاثة المأساوية الماضية. استلقيت على فراشي في الفناء تحت أشجار النيم، وداهمتني الحمى، بدأت كإحساس بالبرودة كأنه ثلج وضع في مؤخرة ظهري، ثم ما لبث البرد أن تمدد إلى أعلى حتى غطى رأسي وصدري وصرت ارتجف من البرد في تلك الليلة الصيفية الحارة.
    وحلمتُ:
    " كنت اهوّم في فضاءات ومجالات غريبة، و أرود آفاق بعيدة لم اخبرها من قبل، و ما أكاد أفيق منها حتى أعود ثانية لذلك الهذيان الذي يقع في مكانة وسطى بين النوم والموت والصحو. لم أكن استقر على مكان في فراشي، فكنت امسك بلحافي حين اشعر بأن أعضائي تنشفط مني و أكاد اسقط و اغرق في قاع بحيرة بجيقا. اختلط الأمر علي بادئ الأمر، ثم اتضح لي أن الذي سقط هو شقيقي الأكبر. كنت أراه وأراقبه برعب شديد وهو يمضي نحو القاع بشكل عمودي غائصاً على رأسه وقدماه لأعلى، ورأيت سلاسله البيضاء تخرج مثل عظام من منخريه وتستقر في قاع البحيرة، وتلتف حول شعابها المرجانية وتربطه بقاع النيل ليثبت هناك، رأسه إلى أسفل ورجلاه تتأرجحان إلى أعلى، تماماً كما حدثتني أمي. سيطر على كياني الرعب وشعرت أن أعصابي وعظامي تسيل كماء. غمر الماء المكان، أحسست به في كل مكان، خارج الغرفة و داخلها، وقبل أن أتيقن من حقيقة المشهد، انطلقت صرخة مدوية مني أيقظتني كآلة للتنبيه."
    قفزت إلى أعلى ناحية مفتاح النور وضغطت عليه، ومع انبثاق النور الذي ملأ الغرفة، ظهر وجه أمي وهي تنظر إليْ في أسى بليغ، فتلاشت تلك الصور المرعبة، و لم أتذكر تفاصيل ذلك الحلم، ولكنني كنت متأكدا من حقيقة واحدة هي: أن لحافي كان مبتلا حين صحوت من نومي.
    ********
                  

العنوان الكاتب Date
الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 07:54 PM
  Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 07:58 PM
    Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 08:08 PM
    Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 08:09 PM
      Re: الحيـــــطان ......مهداة الى ضحايا التعذيب في السودان ابراهيم على ابراهيم المحامى04-30-07, 09:24 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de