س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من الدخول

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 05:54 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة سودانيز أون لاين دوت كم
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-04-2006, 00:40 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة (Re: بكرى ابوبكر)

    المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة

    بحُكم الواقع, واستناداً على نتائج آخر انتخابات ديمقراطية، جرت في العام 1986, لا يمكن القول - بصورةٍ مُطلقة- إن الجبهة الإسلامية، رغم تدبيرها للانقلاب, هي التي حكمت السُودان مُنفردة لأكثر من عقد ونصف (1989– 2005), ذلك لأنها اصطحبت معها في رحلة الحكم هذه ثلة من المُهرولين، بهُويَّات سياسية مختلفة، أو بدونها, وذلك بغضِّ النظر عن حجمهم، أو دورهم التمثيلي.

    قياساً على ذلك، فإن المشهد عينه تكرَّرت وقائِعه -بصورة نسبية- في النظامين الديكتاتوريين السابقين, اللذين وضعا بصماتهما السيِّئة في التاريخ السياسي السُوداني الحديث, الأمرُ الذي يطرح سؤالاً طالما ظلَّ مُحلقاً في فضاءات السياسة السُودانية ردحاً من الزمن, ومثل، في الوقت نفسه، مُرتكزاً أساسياً في تشخيص حالات التخبُّط وعدم الاستقرار، الذي لازم بِناء الدولَة مُنذ استقلالها.. لماذا تبدِّل بعضُ النخب ولاءاتها السياسية إلى النقيض، وتهرول خفافاً نحو الأنظمة الديكتاتورية؟!

    إن الإجابة الموضوعية على هذا السؤال قد تفسِّر الأسباب التي جعلت الأنظمة الديكتاتوريَّة الثلاثة تصمُد -مُجتمعة- زهاء الأربعة عقود زمنية, في حين أن الأنظمة الديمقراطية الثلاثة، أيضاً, لم تعمِّر لأكثر من عقدٍ واحد، بإضافة الفترات البينيَّة الانتقالية.

    من المؤكد أن الأنظمة الديكتاتورية، حينما تتخذ الانقلابات العسكرية وسيلة، مستترة أو علنية, تلجأ مباشرة إلى نشر حبائلها حول النخبُ ذوي الهويَّات السياسية المُختلفة، وإغوائهم في مشاركتها, وتَهدف من وراء ذلك إلى توطيد دعائم سُلْطاتها، وتكريس ”شرعية“ الأمر الواقع.. ومن جهة أخرى، فإنَّ استجابة النخب دائماً ما تأتي بدوافع الطموحات الشخصية, وغالباً ما تغلفُ بستار ”تحقيق أهداف وطنية نبيلة“, ومن أعيته الحيلة في التبرير، يلجأ إلى أسلوب المُفاضلة بين سوءتين, خاصة من قبل الذين كانوا يوماً من حُماة الأنظمة الديمقراطية وسُداتها, رغم التبايُن بين النظامين.

    ير أن المشاركة، في حالات استثنائية نادرة، كانت من باب ”الحماقة السياسية“, مثل التي دفعت بالسيد ”أحمد خير“ لأن يتقلَّد منصب وزير الخارجية في نظام اصطلح على تسميته بـ”الديكتاتورية الأولى“, وأصبح أول من استن تلك السُنة، غير الحميدة بالطبع.. فعلى خطاه سار آخرون, علماً بأن السيد ”خير“ كان قامة سياسية شامخة، ورائداً من روَّاد الحركة الوطنية، التي ناهضت الاستعمار، وتطلعت إلى تأسيس نظامٍ ديمقراطي نموذجي، يُلبى رغائب أهل السُودان, وإليه يُنسَبُ الفضل في طرح فكرة ”مؤتمر الخريجين“، الوعاء الحاضن للحركة الوطنية مُحققة الاستقلال.. «جاء ميلاد الفكرة في محاضرة ألقاها أحمد خير في ود مدني تحت عنوان: ”واجبنا السياسي بعد معاهدة 1936“، ونشرت مجلة ”الفجر“ نص المحاضرة في عددها الصادر في مايو 1937».

    عزا أحد أبناء جيله ما أسميناه بـ”الحماقة السياسية“ إلى إِغواء السلطَة وإغراءاتها، بغضِّ النظر عن هويتها، وقال إن مشاركته كانت نتيجة: ”طموحه الجامح للقيادة والزعامة“.. وأضافَ، غامزاً وهامزاً، أنه: «لم يكن يكتفي بمنافسة رصفائه وأبناء جيله, بل كان يتطلَّع لمنافسة من سبقوه بأعوامٍ وأعوام في هذا المسار، ممَّن صارت لهُم شعبيةٌ كبيرةٌ بين المُواطنين، لا يستطيع زعزعتها». وأيَّاً كان التفسير لتلك الظاهرة, لكن صاحب الرأي نفسه، السيد أحمد محمد يسن, وهو أيضاً من رُوَّاد الحركة الوطنية، نهى عن خُلُقٍ وجاء بمثله، ليس بالمشاركة في نفس النظام فحسب, وإنما في الديكتاتورية الثانية أيضاً, وذلك حينما استجاب لتعيينه في مجلس الشعب القومي الخامس، في نظام نميري, غير عابئ بتلك المشاركة البغيضة، التي اختتم بها حياة حافلة في العمل السياسي، لما يقارب نصف القرن.

    بعد مشاركة أحمد خير، تداعت تلك المواقف الشاذة، مُتجاهلة طبيعة النظام الحاكم, إذ قامت نخبة من روَّاد الحركة الوطنية، ضمَّتهم قائمة سُمِّيت بـ”كِرامُ المُواطنين“، وعلى رأسهم الشيخ علي عبدالرحمن ”الشيخ الأحمر“، والسادة محمد نور الدين, حمَّاد توفيق, يحيى الفضلي, أحمد محمد ياسين, برفع مذكرة في 29/11/1960، نيابة عن حزب الشعب الديمقراطي, لتوطيد أركان النظام الديكتاتوري, زعموا أنها محاولة للانعتاق من ربقة الطائفيَّة, فاستخفُّوا حتى بالنعت الذي وصفوا به أنفسهم, بافتراض أنه يحكم مواقفَ مُناهضة للنظام، وليس سُبل دعمه ومُساندته. وكذلك تبعهم من على البعد السيد خضر حمد، وأرسل برقية من القاهرة قبل أن تطأ قدميه أرض بلاده.. وأيضاً نخبة من رواد الحزب الوطني الاتحادي, وأيده ”الإخوان المسلمين“.. وقد ذكرنا في مشهد سابق مُباركة السيدين!!

    وفي شخصيَّات ذلك الجيل أيضاً, ما الذي حدا بقامة سياسية ووطنيَّة سامقة، كالدكتور ”أحمد السيِّد حَمَد“ للمشاركة في نظام الديكتاتورية الثانية؟! والمُفارقة أنه النظامُ الذي انقضَّ على الديمقراطيَّة الثانية, والتي كان د. أحمد أحد وجُوهها البارزة.. وذات النظام الذي دبَّر له سلسلَة من التهم، وحاكمه للانتقاص من قدره السياسي والوطني.

    في واقعِ الأمر، كان نظامُ الرئيس المخلوع جعفر نميري، الموصوف بالحاكم الفرد, قد برع في التلاعُبِ بمواقف النخبة السياسيَّة, وبلغت به الاستهانة درجة في الاستمتاع بتعيينهم وإقالتهم، من خلال وسائل الإعلام!! ودفعه ذلك للتباهي بأنه جعل المنصب الوزاري مشاعاً لمن استطاع إليه سبيلا، فقال إنه: «عيَّن أكثر من ثلاثمائة وزير في فترة حكمه، البالغة ستة عشر عاما». أما أهلُ الإنقاذ، فقد ضربوا رقماً قياسياً في تاريخ الاستوزار في السُودان, بأن جعلوه محجَّاً لكلِّ طائف، سواءٌ من المُوالين، أو ضعافُ النفوس، من أصحاب الهويَّات السياسية الأخرى.. ويكفي استدلالاً أيضاً بأن ما يُسَمَّى بِـ”حُكومة الوحدة الوطنية“ التي جمعت بَيْنَ النظام والحركة الشعبية، ضمَّت جيشاً جراراً من الوزراء، ووزراء الدولة، والمُستشارين.. وإذا ما أضفنا لهُم الوزارات الولائية، والولاة، وحكومة الجنوب, نكونُ أمام ظاهرة لا يُشارك السُودان فيها دولة أخرى في العالم, أيَّا كان تصنيفها، في قوائم المتخلِّفين، أو المُتقدِّمين.. ويبدو أنها أخذت باقتراحٍ ساخر لزعيم الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نُقد في البيان الإماراتية 18/7/2005، إذ قال: «اقترحتُ على الترابي أيام تواجدنا معاً في المعتقل أن ينشئ وزارة ”دوَّارة“، يبقى فيها من يشغلها ستة أشهر، حتى ينال لقب ”وزير سابق“ الذي يتهافت عليه البعض، رغم أن الوزارة فقدت ذلك البريق الذي كان».

    عموماً، فإن شئنا الحصر, نسوقُ أمثلة لفئة استمرأت العيش تحت إبط الأنظمة الاستبدادية, فتمرَّغت بين ديكتاتوريتين، حتى تقيَّحت جلودها، منهم: إسماعيل الحاج موسى, عزالدين السيد, شريف التهامي, أحمد سليمان, على شُمُّو, عبدالله أحمد عبدالله, أحمد عبدالحليم, بدر الدين سليمان, أبوالقاسم محمد إبراهيم, حسن عابدين, عون الشريف قاسم, محمد يوسف محمد.. وآخرون كثر.. ومثلَما استغرب البعض موقف أحمد خير، كرَّر القاضيان، أصحاب المواقف التاريخية الناصعة, بابكر عوض الله وعبدالمجيد إمام، الخطأ نفسه، بالمشاركة في النظام المايوي, ولحقهُم من نوَّاب الديمقراطية الثانية د. محي الدين صابر، وموسى المُبارَك.. ثم سر الختم الخليفة رئيس وزراء حكومة أكتوبر, والسادة فاروق أبوعيسى، وأحمد إبراهيم دريج, بدر الدين مدثر, واستمر الحبل على الجرار.

    ومن مُفارقات السياسة السُودانية، أن د. منصور خالد، مُبتدع عبارة ”سدنة مايو“ التي سار بها الركبان, تحايل عليها بقلمه الرشيق، في كتابه ”النخبة السودانية وإدمان الفشل“.. وحتى يتسنَّى له الانفكاك من ربقة تلك الزُمرة, قام بتحقيب سنوات النظام المايوي، وذلك بتقسيمه إلى أربعة ”مايوهات“، وجميعها -كما هو معروف- لا تستر عورة.. علاوة على أن ذلك أمرٌ من فعل الحُواة، لا السياسيين, لأن للسياسة مقاييسها، التي تضع مثل تلك الأنظمة في مكانها الطبيعي.. وقد ظلَّ يردِّد في أحاديثه، ويداور في كتابِاته لذلك المفهوم، بادعاء أن الربع الأول والثاني، من عمر النظام، كانا عامرين بالإنجازات والإعجازات.. «نعم، كانت لنا في مايو أيام نضرات تحققت فيها أحلامٌ كبار, إيقافُ نزيفُ الدم لمدة عشر سنوات, وبناء صُروحٍ في الصناعة والزراعة والطرق والجامعات، وجعل التنمية همَّاً أساسياً للحاكم»..

    تلك هي الأحلامُ الكبار التي توحي لقارئِها غير المُدرك لحقيقة الصورة، لكأنما السودان كان في كنفها جنَّة تجري من تحتها الأنهار.. مع أن الأمر، قياساً بعدد السنوات، يُلجمُ اللسان حياءً عن ذكره.. فالجامعتان، ومصنعا السكر، وقاعة الصداقة، والطريق البري بين العاصمة والميناء, بغضِّ النظر عن كونها من صميم مسئوليات الحكومات المُحترمة, إلا أن هذه الحكومات لا تدَّخر لها سنين عددا، تقتطعها من جلود مواطنيها الصابرين.. علاوة على أنه منطق معلول، لأن الأنظمة الديكتاتورية يُمكن أن تستخدمه مقياساً لشرعيتها, وبه يَحِقُّ لأهل الإنقاذ أن يقولوا للسُودانيين: لماذا كل هذا العناء في معارضتنا، وعدم الاعتراف بشرعيتنا, فقد استخرجنا لكم البترول من باطن الأرض, وشيَّدنا مصافيه على ظاهرها, وصدَّرناه للعالم الخارجي, وأصبحنا مُراقبين في منظومة دول ”أوبك“, ونتطَلَّع لعضوية كاملة الدسم!!

    أمَّا اتفاقية أديس أبابا، التي عدَّها ضمن تلك الإنجازات البئيسة, فصحيح أنها أوقفت نزيف الدم لسنوات, ولكن، ما لا يُمكن للمرء أن يفهمه هي تلك الدهشة التي يُبديها د. منصور، إزاء تنكر نميري للاتفاقية، وعبثه بها، كما يعبثُ أي طفل بِدُميته بعد إشباع رغائبه منها.. فما الذي يمكن أن نتوقعه من اتفاقية صمتت عن الديمقراطية، المُناط بها إبراء كل الجروح؟! وما الذي يُمكن توقعه من رئيسٍ كان يعتبر مُجرَّد الحديث عنها، ناهيكَ عن تطبيقها، رجسٌ من عمل الشيطان؟! وقياساً، يرجو المرء أن لا يُبدي د. منصور دهشة أخرى، إن تنكر أهلُ الإنقاذ لاتفاقية نيفاشا.. فالحصيفون الذين ينظرون لتَجارب الماضي، بعين العظة والاعتبار، توقَّعوا حُدوث هذا بحقائق المنطق الأزلي، التي تُؤكد أن ”فاقد الشيء لا يُعطيه“.. وفي واقع الأمر، حينما يردِّد د. منصور تلك الإنجازات، ليس بهدف أن تمنح النظام صكاً جزئياً للغفران, ولكن بإيحاء أن تمنحه شخصياً ذلك الصك، حتى ينزوي من ناظريه همٌ، بات يعتريه كلَّما جاءت سيرة ذلك التاريخ اللعين.

    عندما تحدَّث الناس مراراً وتكراراً عن حقبة ديكتاتورية استطالَت سنواتها، حتى ملَّها سدنتها أنفسهم, يُصبح لزاماً على المراقبين وضع سنوات النصف الأول للنظام تحتَ المجهر.. أي النصف الذي تقلَّب فيه د. منصور في المناصب، كتقلُّب الرقطاء على الرغام، واعتبره في أجندته عامراً بالإنجازات!! فبعد أقل من شهرٍ على حدوث الانقلاب، امتطى د. منصور صهوة وزارة الشباب والرياضة في 19/6/1969, وهى الوزارة المعنيَّة بالشباب، عماد الأمَّة، وبرامج إرشادهم، وتوجيههم، وبذرُ القيم المثاليَّة والوطنية والتقويميَّة في نفوسهم.. وقطعاً ليس من بين كلِّ تلك الأهداف توطيد دعائم نظام ديكتاتوري، وتمجيد ”ثورة مايو“ -”الظافرة أبداً بإذن الله“- ورئيسُها المُلهِم والمُلهَم!! وبعدها، كان على ظهر وزارة الرعاية الاجتماعية في 28/10/1969, وهي المعنيَّة برسالة مُحدَّدة نحو المُجتمع، كذلك ليس من بينها استقطابهِم لشيءٍ لا يرومونه.. ثم حملَه البُراق ليكون مندوباً للنظام في أروقة الأمم المُتحدة في 21/7/1970، وبغضِّ النظر عن أن تلك كانت رغبته التي سعى لها سعياً حثيثاً، لشيء في نفسه.. فالمنصب أيضاً كان معنياً بترويج ديمقراطية النظام, والدِّفاع عن انتهاكاته للحريات العامة, ووضع المساحيق التي تخفى عُيوبه، وتحيلُ مساوئه إلى محاسن.. وبعد أن قضى وطره، عاد وزيراً للتربية والتعليم, التي تأمل فيها شاعرنا الفحل محمد سعيد العباسي أن ”تعلم النشء علماً يستبين به سُبُل الحياة“.. ومؤكداً أن “قبل العلم أخلاقاً“.. ثم وزيراً للخارجية، لمواصلة نفس الأهداف السامية، والمقاصد النبيلة.. ولاشكَّ أنه برع في صنعته، بما لديه من إمكانات خاصة.. ومع استمرار الرسالة التبشيرية، فقد أغمض عينيه، وصمَّ أذنيه عن سُخْطِ الناس على النظام, والتعبير عن مُعارضتهم له بشتَّى الوسائل المعروفة.. تظاهراتٍ, انتفاضاتٍ, إضرابٌ عن العمل ”عصيان مدني“, انقلابات عسكرية, صِدامٌ مُسلَّح.. الخ، ولا ينقص من قدرها أنها لم تبلغ النجاح في النصف الأول، العامر بالإنجازات, وأتت أُكلها في النصف الثاني، المليء بالإخفاقات.. على حدِّ تصنيفه!!

    إن النصف العامر، الذي كانت له فيه سنواتٌ نضِرات, هو النصفُ الذي خلخل فيه النظام التعليم بالبدعة التي أدخلَته في المتاهة الكبرى.. وهو النصفُ الذي انهمرت فيه دماءُ أبرياء في ودنوباوي والجزيرة أبا, ورهط من العسكريين في ”دروة“ الشجرة، والحزام الأخضر، وسفوح جبال كرري.. وآخرين جاءوا من خلف الحُدود، لن ينتقص من وطنيَّتهم وصفُ النظامِ لهم بـ”المُرتزقة“.. فلماذا لا يُعَدُّ هؤلاء ضمن إنجازات التباهي؟! وحتى لو حصرنا الأمر في نطاقٍ أضيق، هل كتب د. منصور، أو قالَ شيئاً للناس، عندما أقدم النظام، الذي طاف حول كَعْبَتِه، بإعدام خليلَه وصفِيُّه -كما زَعَمَ- ”فاروق حمدالله“ رمياً بالرصاص, وكان يُزَمجرُ كهزبرٍ ثائر، مُردِّداً عبارات زُهد، كلُّ من سمعها في الدنيا, ولم يزهد هو في المنصب الزائل؟! أما رفاقُ ”حمدالله“ الآخرين، فلتغفر له أرواحهم كلمات الاستحسانِ التي ذرَّها على مسامع ”الرئيس القائد“ تزلفاً وقربى.

    في إطارِ ما ذكرناهُ سابقاً، عن أن الأنظمة الديكتاتورية تنشُر حبائلها لإغواء المُتهافتين, لم يكن غريباً أن يُشارك د. منصور في نظامٍ لبَّى رغائبه الشخصية.. فهو حينما وسَّع جلباب طموحه السياسي، بدأ مُبشِّراً –ضمنياً- بفكرة الحزب الواحد، في حواره مع الصفوة.. وزادَ جُرعة طموحه لاختصار المسافات، نحو ذلك الهدف، بالتمهيد أو التبشير بالانقلاب غير المرئي، في سلسلة مقالات.. ذلك ما أكده، أو اعترف به لاحقاً، وبشيء من الزهو والفخر.. «كان كثيرٌ من أعضاء المجلس متأثرين بمقالاتي التي كتبتها قبل ثورتهم».. ومَن كانت تلك غايته، فلا جناح ولا تثريب عليه، إن كوفئ بمنصب في النظام الانقلابي.

    المعروف أن د. منصور، حينما يُسألُ عن مشاركته في تلك الفترة، فهو لا ينفيها, وبالطبع لا ينبغي له.. لكن الغريب في الأمر، أن تأكيداته تأتى دوماً مقرونة بتبرير الخطأ، وتبرئَة الخطيئة.. ذلك ما يجعل حديثه مُجرَّد حداءٍ في صحراء، لا يسمعُ الحادي فيها سوى صدى صوته.. والأكثر دهشة، أن التبرير يأتي أحياناً بشيء من المُكابرة، وخداع الذات.. «لم أكُن يوماً من سُوَّاسِ الخَيْلِ الذين يُبَدِّلون أحصنتهم في مُنتَصف العَدْوِ».. يقولُ ذلك، رغم السلوك الذي لا تستطيعُ العين نكرانه، إلا من رمد.. فبغضِّ النظر عن تبديل الأحصنة، فإن المُشاركة نفسها لا تحتملها كلماتُ الاستدراك، ولا التسويف، ولا التلاعُب بالألفاظ, فهي من جنس الأفعال التي لا تقف عند حدود الاعتراف, وحتى الاغتسال سبع مرات في مياه النيل العذب الطهور، لن يُجدي في إزالة أدرانها.

    غادر د. منصور خندق النظام المايوي في فبراير/شباط 1980, أي في ”الربع الثالث الرديء“ وليس المُنتصف كما يُسوِّق، وتحديداً كان ذلك في أعقاب مؤتمرُ القمَّة الأفريقي، الذي عقد دورته في الخرطوم، واختير فيه نميري رئيساً للمُنظمة.. ومثل ذلك الحدث، بغضِّ النظر عن طبيعة النظام، يعتبره أي وزير خارجية كيوم عُرسه, لكنَّه على العكس، كان الحدث الذي بدأ فيه نجم د. منصور -وزير الخارجية- في الأفول, بعد أن استأسد عليه سدنة القصر، وأوغروا صدر الرئيس ”المُلهِم“ ضدَّه.. وشعر وقتذاك بأن الأرض بدأت تهتز تحت قدميه, وإزاء قناعته بضعف موقفه، آثر الرحيل عن النظام، بادِّعاء بطولة متأخرة، في مقالات كتبها، وسمَّاها: ”لا خَيْرَ فينا إن لَم نقلها“.. ولا يذكر أن الذين أصرُّوا على نشرها، فعلوا ذلك ليس حباً فيها, بقدر ما كان في إطار الصراعات المختلفة، التي كانت تعجُّ بها ساحة النظام في تلك الفترة.. وليس مُهماً هذا التفصيل، لكن المُهم أنها حينما نشرت، كان كاتبها قد طوى الأرض طيَّاً, ولم يشأ البقاء حتى يرى رد فعل النظام.. وبالطبعِ ليس من الحكمة أن يرمي ابنُ آدم نفسه في التهلكة, لكن ادِّعاء ما لم يكن كائناً، هو في حقيقته تزييفٌ للواقع، وذرٌ للرمادِ في العيون.

    عندما استبدل د. منصور حصان النظام المايوي بحصان المُعارضة, انبرى في كتابات راتبه في صحيفة ”القبس“ الكويتية، بنقد النظام وسياساته، كمن اكتشفها فجأة بعد عقد من الزمان.. وهو -بلا شك- تأمَّل أن تكون تلك المقالات شفيعاً له عند ذلك الشعب، المغلوب على أمره.. وكنا قد ذكرنا من قبل أنه بعد سقوط النظام في أبريل/نيسان 1985، جاء إلى الخرطوم زائراً، ومُعتقداً بأنه سيُستقبل استقبال الفاتحين, غير أن البعض أفسَدَ عليه بهجة يومه ذاك، بنبش صفحة المواجع التي ظنَّها قبِرَت, فغادر الخرطوم آسفاً، وترك خلفه القومُ يصطرِعون حول سدانته.. ومضى في توطيد انضمامه للحركة الشعبية.. وهو في الأصل، حينما انضم لها، كان بحسِّه السياسي يتحسَّبُ لمثل ذلك اليوم, إذ ليس من الفطنة أن تواجه أعداءك بظهر مكشوف, وكانت الحركة الشعبية وقتئذٍ، الوحيدة التي يُمكن أن توفِّر له ملاذاً آمناً، يقي من نوائب الدهر، وشرور الخصوم.

    بذاتِ المُكوِّنات الأحادية، التي تحوصلت في دواخل د. منصور، والمو######## من النظام المايوي, قدَّم أوراق اعتماده رسمياً لقائد الحركة الشعبية، بالتحليق حول أفكاره ”قرنق يتحدث 1986“.. ولم يشأ أن يجعل مؤلفه ينداح رحابة على الحركة كلها، حتى في العنوان، مُكرِّساً بذلك نقطة ضعف لازمتها منذ التأسيس، وحتى رحيل قائدها في يوليو/تموز 2005.. ولأن الانضمام، في الأصل، كان ملاذاً، كما ذكرنا، لم يُكلِّف د. منصور نفسه بتبريرٍ واقعيٍ للذين استغربوا تناقضاته, ليقول لهم: لماذا استطاب الماركسية -التي كانت هوية الحركة آنذاك- وعبَّرت عنها بوضوحٍ في مانفستو التأسيس, ولم تَرُق له من حزبٍ ظلَّ يحملُها كصخرة سيزيف، ويُبشِّر بها منذ منتصف الأربعينيات؟!

    ولأن عين الرِضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ, ففي المؤلَّف المُشار إليه, تجاهَلَ د. منصور ملاحظة أساسية، أوردها د. قرنق: «إن النميري كان شيوعياً»، علماً بأنَّه يعرفُ المذكور كمعرفته بفطاحل الشعراء العرب, وإن تقاصَرَت معرفة قرنق به.. مثلما أنه أيضاً لم يُكلف نفسه بتصحيح معلومة أساسية، حول انتفاضة أبريل: «لم تكُن سوى انقلاب دُبِّر في الخارج، بموافقة ومشاركة النميري، ونفذه جنرالات النميري في الداخل»!! ويبدو جلياً أن ذلك الخطأ الإستراتيجي في التحليل، هو الذي بنت عليه الحركة موقفها السِّلبي, عندما أخذتها العِزَّة بالإثم، واعتبرت التغيير الذي حدث لا يعنِيها في كبير شيء.. ولرُبَّما تصحيحه ساعتئذٍ كان يُمكن أن يغيِّر أشياء كثيرة.. ولم يكن تجاهله من باب الهفوة، ولكن لأنه أمرٌ صادف هوىً في نفسِ مَن كانَ يُرجى منه تصحيحاً, أو على الأقل تلك صفحةٌ من كتاب يتمنى د. منصور أن يمزِّقها، لا أن يصحِّحها!! وقد ذكرنا من قبل، أنه ساهم بعدئذٍ في تعميق تلك الفجوة المفاهيمية, وكان مثيراً للمراقبين أن الحركة الشعبية، التي جَهَرَت برأيها في جنرالات نميري, أصبح أحد سدنة ذات النظام مُستشاراً سياسياً مُعيَّناً لقائدها.. وجميعهم في تلك الحظيرة سواء.

    على كلٍ، تلاقت الإرادات الخفيَّة, فالحركة الشعبية لم تكن الديمقراطية في أولوياتها, وعليه لم يكن وجود المُستشار الجديد بين ظهرانيها غريباً, فهو أيضاً لم يذكرها في مؤلفاته العديدة، إلاَّ لماماً.. ومعاً قالا للمُتسائلين، إنها مؤجَّلةٌ حتى تضع الحربُ أوزارها, ويُغرِّد كل متلهِّف لها أغاني السلام، في رُبوعِ المليون ميل مربع.. ولن يخطئ من يقول بأنه: ”وعد عرقوب“، كما تقول العرب العاربة, قياساً بما تمخَّضت عنه مشاركة نيفاشا مع طرف ثانٍ، لم يقل إنها مؤجَّلة، ولكنه قال جهاراً نهاراً بأنها حرامٌ في أجندته, وذلك ما سنقتفي آثاره في فصول تالية.

    بموجب تلك الشراكة، عاد د. منصور إلى السُّلطة، في ختام تلك الرحلة المُرهقة, مُستشاراً ضمن زُمرَة أحد عشر كوكباً آخرين، يُرجَى مِنهم تقديمُ النصحِ والإرشاد، والاستشارات، لمؤسسة رئاسة الجمهورية, والتي قال عَن رُوَّادها ما لَم يقله مالِك في الخَمر.. ولعل اللافت للنظر، في عودته الثانية، أنها جاءت بعد أكثر من رُبع قرنٍ على مُفارقته السلطة.. ولعمري، ذلك أمرٌ لا يحدُثُ إلاَّ في بلدٍ مُفترَى عليه، وعلى أهله، كالسُودان.. ومثل هذا يُعَد في مَصَافِ رابع المستحيلات في الغرب، المفتون به منصور, حيثُ للمنصب هناك بيانٌ وتَبيين، وميقات معلوم, لكنه هذه المرة جاء مسكونا بـ”فوبيا بهاء الدين محمد إدريس“، أو ”راسبوتين“ النظام المايوي, والذي كان السبب الرئيسي في مغادرته لخندق النظام، في ذاك الزمن التليد.. والقصور، كما نَعلمُ، ليسَت مكاناً للحُكم وحده, فهي أيضاً، وعَبرَ التاريخ، مكان للتآمر والدسائس، وتصفية الحسابات، ما ظهر منها، وما بَطن.. وقد أضاف لها بهاء الدين، قبلاً، الحسومات المئويَّة عند كل مغنمٍ، والتي التصقت باسمه التصاقُ الوشم بالجلد.. ومِن المُؤكد بأن القرَّاء موعُودون غداً بسفرٍ جديد يحكي فيه منصور -كدأبِه في تأرخة الأحداث- أسرار القصر، بصفته مُراقباً، وليس مُستشاراً. وربما شمل ذلك نظم القريض في شجرة ”الهشاب“ بقريحة الشعراء, ومنتوجها اللزج، الجاذب لذوي المواهب الدفينة في دنيا المال والأعمال.

    مواصلة للمَبحَث الذي تناولنا فيه تَكالب النخَب السياسية على الأنظمة الديكتاتورية, تؤكد التجارب الماضية أن الديكتاتوريات دائماً ما تقتنص الترهُّل، الذي يُلقي بكَلكَلِه على الأنظمة الانتقالية, فتضع جُرثومتها في أحشائها, أفكاراً بغرض النموِّ، وأشخاصاً بهدف الاستقطاب.. وقد كانت الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نميري من الرداءة بمكان، بحيث تصلح نموذجاً لرثاء العقل السياسي السُوداني.. شعبٌ تمخَّض ثورة، فوَلَدَت مسخاً مشوهاً!!

    كانت الجبهة الإسلامية قد استهدفت تلك الفترة الانتقالية، ووضعت جُرثومتها في أجساد أربعة مِمَّن لهُم ارتباطاتٌ باطنيَّة بتوجهاتها، أو مُهيَّأين لخدمة أجندتها.. كان أولهم المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، رئيس المجلس العسكري, وثانيهم نائبه الفريق أول تاج الدين عبدالله فضل.. فقد كافأت الأول بتولِّي منصب أمين أمناء ”منظمة الدعوة الإسلامية“, وقد ردَّ لها الحسنة بعشرٍ من أمثالها, بتسخير استوديوهات المنظَّمة في عملٍ ”دعَوِيٍ“ لتسجيل ”البيان الأول“ للانقلاب، قبل شهرٍ تقريباً من حدوثه.. والذي يدعو للاستغراب في شخصيَّة المُشير، أنه حينما أصبح الأمرُ واقعاً في انتفاضة أبريل 1985، وتحتَّم انحياز المُؤسَّسة العسكريَّة لجانب الشعب, رضخ سيادته، بعد أن استخار ربُ العباد, وصام أيام كفارة لحنثه بقسم ”البيعة“، التي نصَّبت نميري أميراً للمُؤمنين؟! في حينِ أن حدثاً آخر كان هو طرفه، واستوجب انزواءه مِن الحياة العامة, لكنه عبَّر دون إحساس لديه بالذنب، وبرغم أنه كلَّف الموعود به حياته, وكان الضابط ضمن كوكبة الضباط المغدورين في ”مذبحة رمضان“.. يومذاك كانت سُلطة الإنقاذ قد استعانت بالمُشير سوار الذهب للتوسُّط في إقناع ”اللواء حسين عبدالقادر الكدرو“ في انقلاب إبريل 1990، والذي كان مُتحصِّناً في قيادة المُدرَّعات، مُصمِّماً على المُقاومة حتى الرمق الأخير, فاستسلم بعد أن وعدهُ المُشير بضمانِ ”مُحاكمة عادلة“, وتعهَّد له بذلك، فصدَّقه المغدور به، نِسبَة لثقته فيه -على ما يبدو- واتضح أن الوعد والتعهُّد هما المقصلة التي كانت في انتظاره!! ومع ذلك، استمرَّ المُشير في تقديم خدماته، دون أدنى وازعٍ أخلاقي.. وبعد كل ذلك، مطلوبٌ من الشعب السُوداني الصبور، أن يضع المُشير في قائمة الشَّرف!! عِلماً بأننا شهدنا في ”فسطاط“ دار الكُفرِ، على حدِّ تعبير كبيرهم الذي علمهم الإرهاب، أن مسؤولين زهدوا في مناصبهم, بل آثروا الرحيل من الدنيا بأكملها لمُجرَّد أن مُواطناً تعثر في حُدودِ واجبهم!!

    كذلك، كوفئ الفريق تاج الدين بـ”منظمة شباب البناء“, وهى أيضاً رافدٌ من روافد منظمات الجبهة الإسلامية.. وثالث الفرسان، كان رئيس وزراء حكومة الفترة الانتقالية، د. الجزولي دفع الله، والذي جاء إلى منصبه ذاك من سجن كوبر، محمولاً على أعناق الجماهير، فتنكر لذلك التكريم بتسويف قضايا تلك الجماهير، خدمة لأجندة الجبهة الإسلامية, وخاصة ”أمُّ القضايا“، المُسمَّاة بـ”قوانين سبتمبر“, وهي القوانين المنسوبة زوراً وبُهتاناً إلى الشريعة الإسلامية.. وقد كوفئ في نهاية الفترة الانتقالية بترؤسه لـ”وكالة الغوث الأفريقية“!! فحيثما توجد كلمة ”إغاثة“، أو ”طوعية“، فابحث عن الجبهة الإسلامية!! (وضعتها الإدارة الأمريكية مُنتصف العام 2005 في قائمة المُنظمات المحظورة).. وقد شاركه في مُهمَّة التسويف تلك النائب العام عمر عبدالعاطي، ولذا فقد طالته الاتهامات أيضاً، ويبدو أنه لم يطل ”لا بلح الشام، ولا عِنَبُ اليمن“, من العطايا التي نثرتها الجبهة الإسلامية على من سلفت أيديهم في خدمة أجندتها.

    نعم، فالمُتساقطون في نظام مايو كثرٌ, والذين ولغوا من ديكتاتورية الإنقاذ أكثر.. وبين المنزلتين كانت الفترة الانتقالية وكراً, والحقبة الديمقراطية جسراً, وبهما عبر البعضُ من شاطئ إلى شاطئ, دون اعتبار لتغيُّر الوجوه, ولا تبدُّل الألسنة، ولا تشوُّه ملامح التاريخ.. وهكذا تسَلسَلَت الدورة الشريرة.. ولمَّا كنا قد بدأنا هذا المبحثُ بالتساؤل حول هرولة النخب السياسية نحو الأنظمة الديكتاتورية, في محاولة تهدفُ إلى إِجلاء الحقائق، حول أسباب تمدُّد سنوات تلك الأنظمة, فلابد من الإشارة هنا إلى أنه في سياق التمويه الذي ابتدعته سلطة الإنقاذ بداية تسلمها السُلطة, عَمِلَت على ضمِّ وجوه انتهازيَّة إلى قافلتها، وهم أصحابُ الولاءات المُجزَّأة، الذين تسكرهم السُلطة، بغضِّ النظر عن هويَّتها.

    في طليعة أولئك، كان د. حسين أبوصالح، نطاسي جراحة المخ والأعصاب, فتمَّ تعيينه بعد الانقلاب وزيراً للإسكان, وبعدها وزيراً للرعاية الاجتماعية, ثم وزيراً للخارجية، وهو ذاتُ المنصب الذي شغله في النظام الديمقراطي, إلى جانب وزير الثقافة والإعلام, وقبلهما كان في الفترة الانتقالية وزيراً للصحة.. وبعد أن أشبع غرائزه في كراسي تلك الوزارات, اختارت له الإنقاذ عشَّاً آخر، أكثر دفئاً وحميمية، مع توجهاتها، فعيَّنوه في نوفمبر/تشرين الثاني 1997، رئيساً لما أسموها بـ”الهيئة الشعبية للحوار الوطني“.. وحتى لا تعتري الدهشة وجوه الذين يستعجبون ذلك التقلب، فهُو يذكِّرهم بأنه حامِلُ لواء القِيَم النبيلة، التي دفعته لقبول تلك المناصب تكليفاً، لا تشريفاً.. «عَمِلتُ مع الحكومة [5] سنوات، وابتعدتُ لأسباب ليس هذا أوان الحديث عنها, ولكنّ الظروف الوطنية لا تسمح أن يقف الإنسان مكتوف الأيدي, ولابد من الإسهام بجدية من أجل الحفاظ على وحدة السودان، يكون أو لا يكون».. وهل يذكر القرَّاء أي مقولة غير هذه لكلِّ من كشفت الأنظمة الديكتاتورية انتهازيَّته، المخبوءة تحتَ دثار صورة زائفة؟! على كلٍ، فمواصلة لتلك الرسالة الوطنية، لبَّى د. أبوصالح نداء الإنقاذ في البدعة المُسمَّاة بـ”التوالي السياسي“, فقام بتسجيل حزب ”وادي النيل“.. وبغضِّ النظر عن أن الحزب، وآخرين مثله، مجرد وهم في مخيلة صانعيه, إلاَّ أن مثل هذه التسمية يقول عنها السُودانيون في عامِّيتهم: ”الجوابُ يكفيك عنوانه“!! ولأن السُلطة التي أدمن د. أبوصالح كراسيها, لم تعد ”أعصابه“ تتحمَّل الابتعاد عنها, أعادته الإنقاذ في العام 2004 لسيرتها الأولى، فتولَّى رئاسة ”منظمة الدفاع عن العقيدة والوطن“.. والمُفارقة، أن التعيين الأخير هذا جاء في الوقت الذي فرَّت فيه العقيدة من أهل الإنقاذ، وتولَّى فيه المُبشَّرون بـ”دُنوِّ عذابهم“ أمر الوطن بأكمله.

    ذلك النموذج، قابله -بصورة نسبية- من حزب الأمَّة اثنان, لم يجدا حرجاً منذ وقت مُبكر، في الانضمام لمسيرة الإنقاذ الظافرة.. أولهُما عبدالله محمد أحمد، الذي كان وزيراً للثقافة والإعلام في الفترة الديمقراطية, وقد عُرف عنه يومها بأنه ”الوزير الاستثناء“ في تاريخ السُودان الحديث، الذي ثابر في تمرير أجندة لا صلة لها بالإعلام، ولا قبل لها بالثقافة, وكانت في واقع الأمر مطابقة لأجندة الجبهة الإسلامية، في رؤيتها للرسالتين معاً.. ولا غرُو، فقد كان أحد الكوادر المُؤسِّسة لحركة ”الإخوان المسلمين“.. وربما لهذا السبب، أو لغيره عيَّنته الإنقاذ سفيراً لها في إيطاليا بعد الانقلاب, ثم ما لبثت أن أزاحته من موقعه دون أن تذكر أن الإقالة تمَّت بسبب تورُّطه في فضيحة صفقات تجارية مع شركات إيطالية، صدَّرت مواد غير صالحة لتنقية مياه الشرب -”الشبَّ“- إلى السُودان, فغادر مسرح الإنقاذ مُستسلماً في هدوء لتلك الخاتمة.

    الثاني كان عثمان عبدالقادر عبداللطيف، حاكم الإقليم الأوسط في الفترة الديمقراطية.. عيَّنته الإنقاذ وزيراً للطرق والمُواصلات, ولأسباب تقتربُ من سابقه، أقيل أيضاً, ولكنها وجدت له موقعاً رحيباً في الهيئة القيادية في حزب ”المؤتمر الوطني“ الحاكم، وظلَّ يقدِّم خدماته بتلك الروح الانتهازية, إلى أن توارى، أو وُورِي!! وجاء ثالثٌ في نهاية المطاف، محمد علي المرضي، حاكم كردفان السابق, وعيَّنته الإنقاذ وزيراً للعدل، بعد أن اقتنعت بأنه جاءها مثقلاً بنحو ثلاثة آلاف عضو من حزب الأمَّة، انضموا لحزب السُلطة، المؤتمر الوطني، أو كما قال.

    أيضاً واصلت الإنقاذ مساعيها الحميدة لاستقطاب آخرين من الحزب الموصوف بالفلتان التنظيمي, فأعلن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في حفل بهيج يوم 1/2/2006, انضمام نجوم جُدُد من الاتحادي الديمقراطي, هم اللواء مهندس عبدالعزيز محمد الأمين، حاكم الإقليم الشمالي السابق, وعضو المجلس العسكري الانتقالي الأسبق، د. الفاتح محمد التيجاني، وزير الزراعة السابق، وعمر الشيخ حضرة، وزير الإسكان السابق، ثم عبيد حاج علي، رئيس القضاء الأسبق. ومثل هذا الاختيار وظروفه, يمكن أن يقال أنه تطابق فيه خطأ الزمان والمكان.

    إنَّ نظام الجبهة الإسلامية، التي تولت زمام سلطة الإنقاذ، كان روَّاده في حقيقتهم خليطاً متنافراً من ذوي التوجهات الثيوقراطية والشمولية والأوتوقراطية، وأهمها الانتهازية.. والأخيرة أيديولوجيا مُستحدثة في السياسة السُودانية من قبل المُتهافتين.. وكان لزاماً على كل زائرٍ ومقيم في دار الإنقاذ، تفسير الأمور وفقاً لمُنطَلقاته، أو تمنياته.. ولعلَّ أغرَبَ ما رشح عن كائن سياسي، منذ أن ظلَّ السُودان يبحث عن استقرارٍ لنظام حكمه, ما نطق بِه عبدالباسط سَبْدَرات، الذي أدمَنَ الشمولية، للدرجة التي لم يرعوِ معها في إِخصَاءِ الديمقراطية.. فقرَّر نيابة عن أهلِ السُودان جميعاً، أنَّ: «الشمولية هي الأنسب لحكم السودان»!! من المؤكد أن قائل هذا الرأي التالف، أو مَن شاطره ذات التوجُّهات, لو أن ثقافتهم السياسيَّة أسعفتهم للاطلاع على أشهر خطب المُناضل الجنوب أفريقي ”نيلسون مانديلا“ لما جهروا به.. فقد قال ”مانديلا“ للقاضي الذي حكم عليه بعقوبة السجن مدى الحياة, عوضاً عن عُقوبة الإعدام التي كانت مُتوقعة, وذلك قبل مُغادرته منصة محكمة ”ريفونيا“ إلى ”سجن روبن“ الرَّهيب, وكان وقتها في ريعان شبابه: «لقد وهبتُ نفسي خلال حياتي للكفاح من أجل الشعب الأفريقي, فقد ناضلتُ ضد سيطرة البِيض، وناضلتُ ضد سيطرة السُّود, فقد تعلَقتُ بالمجتمع الديمقراطي، الحر، المثالي، الذي يعيشُ فيهِ كل الناس معاً في انسجامٍ، وبفرص متساوِية, وهو الهدفُ الذي أتمنى أن أعيش من أجله، ويتحقق، وإن تَطَلَّب الأمر، فهُو الغاية التي أنا على استعداد للموت في سبيلها». وقد طابق قوله فعله، فقد صَمَدَ في سجنه زُهاء الثلاثة عقودٍ زمنيَّة، بإيمانٍ لم يتزعزع، إلى أن تحقق الهدف الذي نذر له حياته.

    مع تمدُّد سنوات الإنقاذ، كانت محنة بعض النخب السياسيَّة تزدادُ غوراً, واستمرَّ التساقط مُنتظماً كحبات المسبحة.. وكان لبعض النخب الجنوبية نصيبٌ في التقلُّب بين الأنظمة، بهُويَّاتها المُتباينة, للدرجة التي عزَّ فيها وجود استثناء, وتلك هي إحدى نقاط الضعف التي استغلتها الأنظمة المركزيَّة في الشمال، لمُداراة عجزها وفشلها في حلِّ قضِيَّة الحرب والسلام.. ولعلَّ السيد ألدو أجو دينق يُعَد نموذجاً لسياسي سجَّل رقماً قياسياً في تاريخ الاستوزار في السُودان، في رحلة ماراثونية، بدأت منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، وحتى الألفية الثانية.. وحاذاه في السباق السادة أنجلو بيدا، وماثيو أبور، وجوزيف لاقو.. وأضيف لهم مؤخراً بونا ملوال، بعد عودته للسُلطة مُستشاراً في القصر, كصنوِّه الذي قضى مثله سبع سنواتٍ نضرات في كنف النظام المايوي.. ومن النخب الجنوبيَّة الذين شاركوا في هذا النظام, لكنهم اختطوا لحياتهم طريقاً آخر، السادة أبيل ألير، وفرانسيس دينق، ودينق ألور.. وقد جرفت أحداث انقسام الحركة الشعبية في العام 1991 د. رياك مشار، للارتماء في أحضان الإنقاذ، في منصِبٍ شرفي، كمساعد لرئيس الجمهورية.. وأيضا د. لام أكول، وزيراً للمُواصلات، بموجب ”اتفاقية الخرطوم للسلام“.. لكنهما، بعد خمس سنوات من المشاركة، عادا أدراجهِما إلى سرب الحركة الشعبية, وكأنَّهُما كانا في رحلة للترويح عن النفس.. وكانت الاتفاقية المذكورة قد شملت آخرين، منهم من قضى نحبه، مثل كاربينو كوانين, وليم نون, أروك طون أروك.. ومنهم من ينتظر، ويصعب حصرهم.

    كنا قد ذكرنا من قبل أنَّ السيد الشريف زين العابدين الهندي, كان ثاني ثلاثة من السُلطة الديمقراطية، لم يشملهم الاعتقال، عند حدوث الانقلاب, نسبة لوجوده في القاهرة آنذاك، وقد استبقى نفسه فيها لعدة سنوات, لم يشغل نفسه فيها بشيء سوى اجترار الذكريات، وأقوالٌ متناثرة هنا وهناك، لم ترق لمستوى أفعال تنظيمية جادَّة.. فهو، من جهة، عندما انتظَم النشاط المُعارض للنظام, أو فلنقل بداية مُحاولات البعض لتفعيل دور التجمُّع الوطني, اتخذ منه موقعاً قصيَّاً قبل أن يستبين ليله من ضُحاه.. «نحن لم نعمل ضد ما أسميتموه بالتجمع الوطني الديمقراطي, فقَد أشرنا إلى جثَته قبل إعلان وفاته, وكان على يدينا كسر عصا سُليمان، التي استندت عليها رفاته»..

    لم يكن مطلوباً من الشريف الهندي أن ينضمَّ للتجمُّع, ولكننا أوردنا ذلك من باب استمراء الرجُل للنقد السلبي، الذي لا يُقدم بديلاً مقنعاً, وهو الخط نفسه الذي انتهجه في النظام الديمقراطي، الذي كان أحد أركانه حزبِياً وشخصياً, وكان واضحاً أن موقفه من التجمُّع جاء نكاية في رئيس حزبِه، السيد محمد عثمان الميرغني, رغم أن الأخير هذا نفسه، كان حتى ذلك الوقت، بعيداً عن نشاطات التجمُّع التنظيمية.. صحيح أن الشريف، وحولَه قلة من المؤازرين، أعلنوا موقفهم المُعارِض للنظام, لكنها مُعارضة بذات الأقوال النظريَّة المُضطربة التي تغترف دوماً من بحر التمنيات والأوهام.. «منذ تسلط هذا النظام على رِقاب العباد، ظلت إشاعاتُ المُصالحات تتردد بين الفينة والأخرى, وأعلنا موقفنا صريحاً وواضحاً، أن لا صُلح, ولا تفاوُض, ولا مُهادنة, لأن من يفعل ذلك إنما يُصالحُ على جثث الشهداء، وعرق الضعفاء»..

    تأكيداً لتلك القناعات الصارمة، قام الشريف بزيادة جُرعتها في مؤتَمر صحفي في لندن، عقده بتاريخ 5/2/1995، وقال فيه: «إن نظام البشير فَقد مقومات البقاء، لأنه سلب الإنسان السوداني حريته، وشوه عقيدَته، وملأ البلاد فقراً ومرضاً وجوعاً».. ثم ألقَى بختميَّاته في المؤتمر بنبوءة العرَّافين، وقرَّاء الفناجيل: «إن هذا النظام لَن يسقط بانقلاب عسكري، كما يظن البعض, وإنما بمزيج من القوة العسكرية والثورة الشعبية».. ولأنه يعلَم بأنه لا يملك شروى نقير من الآلية التي حدَّدها لإسقاط النظام, فما الذي حدث بعد فترة قصيرة، لم تغادر فيها حتى حتمِيَّاته حنجرته!! عاد الشريف في أكتوبر/تشرين الأول 1996 إلى الخرطوم, مُهادناً النظام ”الذي ملأ البلاد فقراً وجوعاً ومرضاً“، ومُفاوضاً على ”جثث الشهداء وعرق الضعفاء“، ومُصالحاً بثلاث وزارات استأثر بها ”جلال الدقير“, ”السماني الوسيلة“ و”أحمد بلال“.. لم يكن ذلك إيماناً من أهل الإنقاذ بمقدراتهم الخارقة، وإنما لهدفٍ ليس في حاجة إلى لبيبٌ ليفهمه.. ويُمكن أن يفك طلاسمه بعد أن انضمَّ ”الحزب“ للمؤتمر الوطني.. وثقافة بسطاء أهل السُودان، تقول عن مثل هذه المواقف بمُختصرٍ مُفيد: ”لا فرق بين أحمد.. وحاج أحمد“.

    إن كثيراً من النخب السياسية لا يُحسنون تقدير المواقف، بطرح آراء يعلمون سلفاً أنهم غير قادرين على تحمل تبعاتها, ولهذا فهُم دوماً يقعون في مأزق عدم المصداقيَّة.. والأنكى أنهم لا يطرف لهم جفنٌ حينما يقدمون على فعل نقيضها.. ولعلَّ ذلك لا يخرج عن نطاق أسباب ثلاثة: فإمَّا أنهم يستخفون بذاكرة الناس, أو أنهم يعتقدون – واهمين- بأنَّ أولئك الناس ما خلقوا إلا للتجريب.. أو لقناعتهم بأن المنهج السِياسي السُوداني يفتقر إلى أهمِّ ركيزتين أساسيتين في العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وهما: ”الشفافية“ و”المُحاسبة“.. بالتالي، ليس غريباً أن تتكرَّر الخيبة، والتجارِب الفاشلة، واستنساخ الأزمات في الحياة السياسية السُودانية, طالما أن البعض يظن أنه لا رقيب ولا عتيد على مُمارساته, ولا حسيب لتجاوزاته، حتى لو كانت انتهاكاً لحقوق الإنسان.

    بعد سقوط لاءاته الثلاث، ومشاركته الإنقاذ أتراحها, اقتنص الشريف زين العابِدين فرصاً عديدة لتقديم آيات الولاء والطاعة لأهل النظام، ”الذي سلب الإنسان السُوداني حُريته وشوَّه عقيدته“، ولم يتورَّع في التَعبير عن ذلك بشيء من النفاق السياسي.. ففي 18/4/2002، أقام لنائب الرئيس، علي عُثمان طه، احتفالاً في مزرعته في ”حلة كُوكُو“، بمناسبة شفائه من وعكة صحِّية، فدائما ما تنتهز الأنظمة الشمولية هكذا مُناسبات لضخ الهواء في جسدها المُنهَك.. خطب الشريف في ضيوفه، مُوجِّهاً حديثُه للمُحتفى به، ومُستلهماً عبق المناسبة: «لَيتَني كُنتُ مع الطَباخين في خُطوط الإمداد, أطبخ الطعام لمن يُدافعون عن الثغور».. لكأنما القائل لا يعلَمُ أن المُدافعين عن الثغور هم فتية غرَّرت بهم الإنقاذ، وأجبرتهم على القتال كرهاً تحت مظلَّة مشروعٍ وهمي.

    عودة الشريف زين العابدين، وانخراطه في النظام الذي سبق وأن انتقده نظرياً, بغضِّ النظر عن ضآلَتها وقيمتها السياسيَّة, إلاَّ أننا أوردناها هنا للتدليل على تناقضات النخبة السُودانِيَّة.. ولا شك أنها -رغم ذلك- قد دفعت البعض ممَّن يحكمون على الأمُور بظواهرها, إلى المُحصِّلة التي تساوي بين سوءتين.. عُسر السلطة، ويُسر المُدَّعين معارضتها!! وفى ذلك تفسير لبعض الأسباب حول تمدُّد سنوات الإنقاذ.

    كان أكثرُ المُنتَقدين لعودَة الشريف في أروقة التجمُّع الوطني الديمقراطي, أمينه العام مُبارَك الفاضل المهدي, والذي بادر في اليوم التالي مُباشرة لعودته في 23/10/1996 إلى عقد مُؤتمر صحفي بمقر التنظيم في أسمرا -دار السفارة السُودانيَّة سابقاً- قال فيه إنها خطوة: «معزولةٌ ويائسة، ولا تمثل علاجاً».. وإنها: «جاءت نتِيجة تعب هؤلاء من النضال».. وقفزاً على المراحِل، نقِفُ أيضاً عند ”ثوابت“ مُبارَك الفاضل في المُعارضة، على خلفِيَّة انتقاداته لعودة الشريف: «لا تسوِية سلمية مع النظام إلا بعد تنفيذ قرارات أسمرا للعام 1995، وتخلِّي النظام عن طموحاته وتَعنته، وتَفكيك نظامه لمصلَحة إقامة نظام جديد على أساس السلام والعدل والديمقراطيَّة».. ويُضفي على ثوابته تلك ما درج الآخرون على ترديده: «لأن النظام فاقدٌ للشرعية أصلاً، ولا يمكن أن يطرح تعددية، لأنه لو كان يؤمن بالديمقراطية لما انقلب عليها».. ويشترط على النظام، إن كان يريد حلاً فعلياً للأزمة التي أوقع فيها البلاد، وهلك جرَّاءها العباد، أن: «يسلم السلطة، ويفسح المجال أمام عودة الديمقراطية والسلام الحقيقي».. وحتى عندما كانت تصدر إشارات أو تكهنات ترمي في اتجاه مُصالَحَة بين النظام وحزب الأمَّة, يلجأ مُبارك إلى مُضاعفة التصريحات المُتشدِّدة ليدحض ظنون المُتشككين.. وفي مطلع فبراير/شباط 1998، قالها أمام رهط من نشطاء الحزب في مؤتمر عقدوه في العاصمة الإريترية أسمرا، في ظلِّ روايات مُتداولة عن مُصالَحَةٍ: «نطالبُ بِإغلاق الباب نهائياً أمام طرح النظام لحلولٍ جزئية، أو ثنائية، يسعى من خلالها إلى كسب الوقت، وتفتيت قُوى المُعارضة».. فما الذي حدث؟!

    أولاً، ولأن القائل تصدَّر قائمة السِياسِيين الذين يقولون ما لا يفعلون, ويفعلون ما لا يقولون, لم يكن عصيَّاً على مُبارَك أن يطأ بقدميه على كمٍ هائل من ”الأدب السياسي“ المُعارض, ويمشي على ذات خطى الشريف، التي وصفها بـ”العزلة واليأس“.. والمُفارقة، أنه بينما كان يُجري ترتيبات ”لقاء جيبوتي“ مع أهل النظام, تصدَّى نيابة عن المُعارضين لقولٍ مُستفزٍ نطق به الفريق البشير، لدى افتتاحه مصفاة ”بشائر“ في 5/9/1999: «إذا تَجاوزنا عن الإساءات التي ساقَها الفريق البشير، على قادة المعارضة، باعتبارها انعكاساً لأزمة الحكم والقيادة التي تعانيها بلادنا, فلا يُمكننا أن نتجاوز عن دعوتِه المُعارَضة إلى التوبة والانخراط في نظام الإنقاذ».

    بعد ”اتفاق جيبوتي“، أدار مُبارَك ظهره للعمل المُعارض والمُعارضِين معاً، وكان لَهوفاً تجاه السُلطَة، التي قذفها بالأمس بأسوأ النعوت, بعد أن فجَّر خلافاً مُحتقناً بينه وبين السيد الصادق المهدي في يناير/كانون الثاني 2002, واحتضنه النظام بمُوجب اتفاقٍ ثنائي، وقعه مع ”قطبي المهدي“ في 7/7/2002، نصَّ علي: «شراكة وتحالف بين الطرفين، يشملان كل أجهزة الدولة ومؤسساتها كافة، من القَاعدة إلى القمَّة», وكان الشُركاء الجُدُد على استعداد لوهبه أكثر من ذلك، باعتبار أن ما فعله في حزب الأمَّة, كان هدفاً لهم، و”جيبوتي“ كانت وسيلتهم في الوُصول إليه, علاوة على يقينهم بأنها عطايا مرحليَّة.. وبموجب الاتفاق، حقق مُبارَك طموحاً ذاتياً بتوليه منصب مُساعِد رئيس الجمهورية، وإن كان شرفياً.. وبغضِّ النظر عن هوية النظام، التي لَم تتغيَّر إلاَّ في نظره, وتطلب ذلك أن يستبدل لساناً بلسان، بزَّ ميكافيلي في منهجه.. «إن أي أفكار سارت عليها القوى السِياسية، أو حل النظام وإقامة نظام آخر تشارِك فيه كل القوى السِياسية, أو حل النظام وإقامة انتخابات أولاً، ثم المُشارَكة, كلها نظرِيات سقطت الآن، وما عادت ذات جدوى»..

    بالطبع، ما لم يُرِد مُبارَك ذِكرُه، أن تلك النظريات، لو سقطت, فهي لم تسقط من تلقاء نفسها، إنما بفعل مَن تبارى على نقض العُهود والمواثيق، وهو في طليعتهم بمُشاركته تلك, والتي وضع لها إطاراً شخصانياً، افترض فيه أن خلق الله يسهرون ويختصمون في طبيعة علاقاته الأُسريَّة، بينما هو ينامُ ملء جُفونِه عن شواردها!! «لا أذيع سراً إذا قلت بيني وبين النائب الأول علاقةُ نسب، وكثيرٌ من الناس غير مُلِمِّين بهذا الأمر، ويُركزون أكثر على علاقتي مع د. غازي صلاح الدين, لكن بنفس القدر، النائب الأول زوجتهُ من عائلَتي, بمعنى أن هناك علاقة مصاهرة بيننا، وهناك تقارُباً بيننا، باعتبار أننا من جيلٍ واحد, ولهذا استطعنا إقامة علاقَة تفاهُم»..

    ولأنه كان في رحلة استكشافية في دهاليز أهل السُلطة، لجأ إلى أسلوب منح الشهادات المجَّانية بما لا يسمن ولا يُغني من جوع.. «البشير لديه مساحة كبيرة جداً للآخر، ولا توجد لَديه النزعة ”الكلبوشية“ زي ما بقول أخونا المرحوم د.عمر نورالدائم, ويمكنك مناقشته في أي قضِية، والخروج بموافقة على أن تلعب فيها دوراً ما».. بلا شك، إن أهل الإنقاذ -وبرغم معرفتهم لشخصيَّة مُبارَك من قبل- إلاَّ أنهم اندهشوا لرشاقة العصافير التي تنقل بها من فننٍ إلى فَنَن.. وعندما تأكدوا بأنه استنفد أغراضه، وانتهت صلاحيَّته، أُقيل بصورة مُهينة.. ببيانٍ مقتضب، من خلال وسائل الإعلام, لأنه اعتقد واهماً أن المُشاركة تعني الاقتراب من جُحر المنظومة المُتحكمة في مفاصل النظام!! ولم تشفع له العلاقاتُ الشخصيَّة والأُسَريَّة التي تزلف بها إلى أهل النظام.. وزاد من محنته تنكر الانتهازيين، عاطِلي الفِكر والسياسة الذين استصحَبَهُم معه في رحلة المُشاركة, فلم يتوانوا في بيعه بدراهم معدودات، بعدما استطابوا الكراسي الوزارية.

    تعدُّ الفترة التي مارس فيها مُبارَك الفاضل نشاطاً مُعارضاً ضد النظام, واحتلَّ فيها منصب الأمين العام للتجمُّع الوطني, من أخصب فترات حياته السياسيَّة, ذلك لأنها من جهة أتاحت له فرصة إقامة علاقات عامة، كان يفتقرُ إليها، مع أوساط مُؤثرة في عملية صُنع القرار في بُلدانها، على المُستويين الإقليمي والدولي.. ومن جهة أخرى، فإنه خلال تلك الفترة استطاعَ مُواراة صُورة كئيبة التصقت به عن شخصه، خلال الحقبة الديمقراطيَّة، التي تولى فيها مقاليد عدَّة وزارات.. والمعروف أنه جاء إلى العمل المُعارض وهو مُثقلٌ بكمٍ هائلٍ من الاتهامات، والتجاوزات المالية, وقد اجتهد في البداية لمحوها إعلامياً، بلقاءات مُكثفة.. «يردِّد النظام ذلك لأنني رفعتُ لواء المُعارضة، وكنتُ في مُواجهته.. مارس معي إستراتيجية اغتيال الشخصية بِوصفي أنني فاسِدٌ, فحقق في كلِّ الوزارات التي توليتها، وكانت لجان التحقيق تأتي على غير ما كان يتمنى»..

    غير أن الأهم من كل ذلك، فإن مُبارَك اجتهد أيضاً أثناء وجوده في صفوف المُعارِضين في اكتناز المال من عواصم تحسن الظنَّ في علاقَتِها بالتجمُّع الوطني بصفة عامة، وحزب الأمَّة بصفة خاصة.. وليس سراً أن اندفاع رئيس الحزب نحو العودة المُتعجِّلَة لداخل السودان, كانت في المقام الأول لأسباب مالية، أكثر من كونها سياسيَّة.. ويُعتقدُ بأن مُبارَك بهذه الخُطوة كان يُدرك أن الخلاف بينه وبين رئيس الحزب سيؤدِّي لا محالَة إلى فراق.. الأمر الذي يتطلبُ إمكانات ماليَّة، إن شق طريقه كما فعل.

    لا يتورَّع مُبارَك الفاضِل، في سبيل الوُصول إلى غاياته، في أن يُثقِلُ الوطء على جُثث من يعتقدُ بأنهم أعداؤه.. ولأنه مسكونٌ دوماً بهاجس المُؤامرة، فهُو دائِمُ البحث عن عدو ينفثُ فيه طاقته.. وحتى إن لم يجده، فقد يتوهَّمه أحياناً.. «مبدئي أن لا أدخل في تسويات ومُماطلات لأني أواجه عدواً، وأسابقُ الزمن، لذا أتعاملُ بحزمٍ يَصِلُ للغلظة, ولم أنجرف لاستفزاز أو معركة جانبية, وأديرُ رأسي لكل من أحس منه بعدم فائدة لي في العمل, ولذلك فإن كثيراً من الإخوة شككوا، لأسباب شخصية تتعلق بمواقِع وتحقيق مآرب».. ذلك تشخيصٌ واقعيٌ ينسجمُ مع شخصه، رغم أن العدُو مُبهمٌ.. ولهذا، فإن مقاييسه في العمل السياسي أقرب إلى الديماجوجية.. «ملاحظتي على السياسة السودانية، إجماعُ الناس على الضعيف، واختلافهم على القوي».. ويستشهدُ في هذا التقييم بحدثٍ استثنائي، يبدو أنه احتلَّ موقعاً في عقله الباطن، ووضعه نصب عينيه في الوُصول لأهدافه السياسيَّة.. «بحث الناسُ عن شخصِية ضعيفَة لا علاقَة لها بالسياسة, فكان ”سر الختم الخليفة“, أيقَظوه من النوم ليُصبِح رئيس وزراء وهو ليس من المشتَركين في الندوة, ولا علاقة له بها، وأراد مُختارُوه تمييع القضايا».. ولاشكَّ مُطلقاً في أن مَن وضَعَ مثل هذا التقييم نصب عينيه, لن يجد مشقة تذكرُ في تدوير مواقفه، سواءٌ في إطار الحزب الذي ترعرع سياسياً وأسرِياً في كنفه, أو ما بين المُعارضَة والنظام.. وما يهمنا بالنسبة للأخير، أن المُلابسات أجابت على سؤال البداية، الذي أكدنا فيه أن الإنقاذ في مسيرتها، اصطحبت معها ثلة من أصحاب الهويات السِياسيَّة المُختلفة, وهم أحد أسباب تطويل فترة بقائها في السلطة.

    كان د. علي حسن تاج الدين، القيادي في حزب الأمَّة, وعضو مجلس رأس الدولة السابق، أحد الميامين الذين خاضَ بهم السيد مُبارَك الفاضل مَعرِكة انقسامه من الحزب, وكوفئ بعد المُشاركة في السُلطة بتعيينه مُستشاراً لرئيس الجمهورية للشئون الأفريقية.. ولاحظ هنا أن ”المُستشارية“ في ظل الإنقاذ هي وظيفة من لا وظيفةَ له!! وإحقاقاً للحق، فَقَد كان أكثرهم وضوحاً في أول مُؤتمر صحفيٍ له بعد التعيين, إذ أكد فيه انتهازيته بصورة مفضوحة، مُشيراً إلى أنَّ الكرسي ديدنه، ولا شيء غيره, وضرب في ذلك مثلاً مُتداولاً في الثقافة الشعبية لأهل غرب السودان.. ”سُلطَة للساق، ولا مال للخنَّاق“.. ولم يُعِنهُ ذلك الزاد القليل في تكملة مشوار التقلب في المناصب, فركلته الإنقاذ أيضاً.

    وفي رِحلَة السقوط السفلي تلك، اصطحب مُبارَك الفاضل معه أيضاً نجيب الخير عبدالوهاب, وكان هو من حرَّضه على الانضمامِ لصفوف المُعارضَة، ليس لموقف مبدئي, فانخرط في صفوف النشاط المُعارِض، ولكن بِلا لَون، أو طعم، أو رائحة.. وقد شغل نفسه في أروقتها بأن أصبح عين مُبارَك التي ترى, وأذنه التي تسمع، وثابر في ذلك بِولاء أدهش ناظريه, ولم يتوقف عطاؤه لـ”مُبارَك“ إلا بعد أن آثر كرسي السُلطة على من أوصله لبوَّابتها!! وتبعه في ذلك آخرون، تشظوا بعد أن استغنت الإنقاذ عن رئيس المجموعة المُنقسمة إلى نحو خمس كيانات جديدة, ولا يُمكِنُ بأية حال إطلاق صفَة حزب على أي منها، وفقاً للمقاييس التنظيمية السياسيَّة المعروفة.

    تطولُ قائمة المتساقطين, فَمن الذين أضاعوا عمراً للكرى، في منظومة المُعارَضَة, كان اللواء الهادي بشرى، الذي رست سفينته على شواطئ الإنقاذ قبل مُبارَك وصَحبُه بسنوات, ويُعَدُّ في واقع الأمر ضمن بضاعة مُبارَك الفاسدة والكاسدة، التي قدَّمها للمُعارَضة, فقد فَرض انضمام المذكور على ”القيادة الشرعيَّة“، الجناح العسكري آنذاك للمُعارضة, بدعوى أن يكون في وسَطها كادرٌ ”أنصاري“.. وبالطَبع، ذَلَك سببٌ لم يذكره صراحة.. كان الهادي يشغل منصب نائب رئيس جهاز أمن السودان في الفترة الديمقراطية, وقبيل الانقلاب بيومٍ واحدٍ، غادَرَ الخرطوم إلى ألمانيا, في وقتٍ كان رئيس الجهاز خارج البلاد أيضاً!! ومعروفٌ الدور الذي لعبه هذا الجهاز في الانقلاب، حينما خلا الجو للرجل الثالث، العقيد محمد السنوسي, والعميد إبراهيم نايل إيدام.. وقد أثار كل ذلك شكوكاً حول الهادي بشرى.. وزادت قتامة تلك الشكوك حينما عاد، ولم يُعتقل، ولو لساعات معدودة، أو حتى من باب محاولة الانقلابيين الإلمام بأسرار في الجهاز، تعينهم على التحكم أكثر في السلطة!! على كلٍ، جاء الهادي بهذا الإرث المُثقل بالشكوك، وانضم للمُعارضة، في قطاعٍ كانت قد وضعت عليه آمالاً عراضاً آنذاك, وكانت تلك الآمال مدعاةَ له لأن يختال بمشية طاؤوسيَّة وسط المُعارضين.. كان كثيرُ الحديث عن المواقف الأخلاقية.. «إن بيع المواقف لم يعُد لعبة صالحة حتى لدى الأطفال»، وجاء ذلك مثالاً في معرض رده على موقف قيادة مُنظمة التحرير الفلسطينية, التي كانت مُساندة للنظام، بحسابات لا علاقة لها بغياب الديمقراطية في السُودان, أو حتى مدى شرعية النظام التي يتجادل حولَها السُودانيون.

    على أن اللواء بشرى استهوته تلك اللغة, وظل يصيغ بها بيانات ”القيادة الشرعيَّة“، حتى أغرقتها في أتون السياسة، وأبعدتها عن الهدف الذي تأسَّست من أجله.. «إن مُصالحة تقفز فَوق أسبابُ الخلاف وتُبقيها خامدة قابلة لمُعاودة الظهور, وتكرس واقعاً رفضه كافة الناس منذ حدوثه في 30/6/1989 لا ينبغي أن يطلَق عليها اسم مصالحة, بل هي رُضوخٌ كاملٌ لرغبة المُستَبِدِّ الظالم».. وكان في كلِّ بيانٍ لا ينسى أن يقطع بالتعهُّدات التي تنزلُ الطُمأنينة على قلوب المُعارِضين, وقد اتضح - بما جرى بعدئذ- أنه كان يعني بها عكس ما كتب.. «إن هذا النظام لَن يظفُر منا بقولٍ أو فعل، أو حتى إيماءة توحي بمُهادنة أو مصالحة».. وعندما لم تسع البيانات موهبته اللغوية, تمدَّد على صفحات صحيفتي ”الخرطوم“ و”الاتحادي الدولية“, اللتين كانتا تصدُران من القاهرة, واتخذ صفحاتهما مَيداناً للرماية، بمقالاتٍ مُتتالية, كانت توحي لقارئيها بأنَّ جِنرالاً مُحترِفاً يقودُ جنوداً لا يرونها, يقفُ مُتأهِّباً على أعتاب الخرطوم العاصمة!! ولَم يستمر الوهم طويلاً، فَبعد فترة وجيزة، من انضمامه، رمى الهادي بشرى بذلك التراث، ووضعه خلف ظهره، وارتمى في أحضان النظام ”المُستبد الظالم“, والذي سبق أن أكد، من فَرط تمسُّكه بمبادئه، ”أنه لن يظفر منه بمُجرَّد إيماءة“، ناهيك عن مُصالحة؟! وتلك تحكيها فصولٌ قادمة، بتفاصيل يَندَى لها جبينُ الشرفاء.. وأمَّا المذكور، فقد ألحَقَت به عاراً لَن يزول.

    إلى جانِب السياسِيين، شمِلت مِظلة الإنقاذ طائفة من المُثقفين، حملَة لواء التنوير في الُمُجتمع.. ففي وقتٍ مُبكر، فاجأ الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم الذين أحبوه أديباً فذاً، مَلكَ شِغافُ القلوب بروائع شعريَّة خالدة, وكذلك بمواقفه السياسيَّة الصلبة، والمُناهضة للديكتاتوريات السابِقة, إلاَّ أنه في لحظة غفتْ فيها عَينُ التاريخ، سخَّر قلمه، وأعلَن موقفه المؤيِّد لنظام الإنقاذ , إلى حد تبرُّعه من حُرِّ ماله للنظام، دعماً له في حربِه ”الجهادية“.. لكنه في واقع الأمر فَعل ذلك ليس إيماناً منه بتوجُّهاتِ الإنقاذ, وإنما لأسباب شخصية تتعلق بِموقفه من د. منصور خالد!! لكن حتى الذين يعلمون ذلك، أحزنهم موقفه, ولم ينسوا له تلك الكبوة، التي كانت بِمثابة بقعة سوداء في ثوبِه الوطَني الناصع البياض.. ولم تمهِله الأقدار ليرى ما الذي فعلته الإنقاذ في السودان وأهله.

    دخل بعضُ المثقفين أيضاً دارُ الإنقاذ، وظنوا أنها آمنة, ولم يلبثوا فيها طويلاً، بعدما ”اكتشفوا“ أنها مليئة بالعقارب والثعابين.. من هؤلاء، الأديب الشاعر محمد المكي إبراهيم, فيما أسماه بـ”مغامرتي السياسية في برلمان الجبهة“، ويقصد انخراطه في إحدى مؤسَّسات النظام الوهميَّة ”المجلس الوطني“, وقد اعترف لاحقاً بخطأ المشاركة في كثير ممَّا كتب, وتلك محمدة ينقص اكتمالها محاولته –أحياناً- إسباغ تبريراتٍ غير مقنعة لمشاركته. وكان السيد محمد محجوب عثمان قد شاركه عضويَّة المجلس المذكور, إلاَّ أنه انسحب في هدوء، تاركاً خلفه ظلالاً من التساؤلات المقرونة بخيبة التصقت بتاريخه السياسي. أيضاً ضمَّت قافلة المثقفين الشاعر فرَّاج الطيب السرَّاج, الذي انبرى منذ البِداية في نظمِ قصائد تمدح النظام وقادته, وقد وافَته المنيَّة بتلك الخاتمة.

    غيرَ أنه ثمَّة آخرون من المُنضوينَ تحت لواء الحركة الإسلاميَّة, قفزوا من المركب قبل سنوات, وغيَّروا مواقفهم الدَّاعمة للنظام، إلى نقيضها المُعارِض.. ومن هؤلاء، د. عبدالوهاب الأفندي، الذي سبق أن استمات في الدفاع عن سياسات النظام، وتوجهاته، في السنوات التي كان فيها في قمَّة تطَرُّفه.. ولا غرابة في ذلك, لكنَّ الغريب حقاً أنه فجأة خلع ذلك الجُلباب، وارتدى آخر غير محدَّد الهويَّة, وبدأ في انتقاد ذات النظام، وخصَّص لذلك جزءاً من مقالاته اليومية في صحيفة ”القدس العربي“.. بَيْدَ أنه نقدٌ لا يجُبُ ما قبله, إلاَّ إذا جاء مصحوباً بنقدٍ ذاتي جريء، واعتراف واضح بِفداحة المُشارَكة التي ساهَمَت -مع آخرين- في توطيد دعائم نظام شمولي مُتسلِّط, وهذا ما لم يجرُؤ قلمه على كتابته حتى الآن.

    أيضاً من المُثقفين السياسيين الذين استجابوا لمهازل نظام الإنقاذ في بداياته, وفي مُؤتمر ما سُمِّي بـ”الحِوارُ الوطني“, كان د. عبدالله علي إبراهيم, الذي لم يعترض على الدعوة، سوى أنها ”جاءت عبر المذياع“.. وبرَّرها بما هو أغرب: «فتشت أنحاء نفسي فلم أجد مثقال ذرة من عزوف أو تردد» , ولبَّى الدعوة معه أيضاً بروفيسور عبدالرحمن أبوزيد, بروفيسور عمر بليل, التيجاني الكارب المحامي, د. محمد نور الدين الطاهر, بروفيسور سيد حريز, د. عبدالله إدريس, عبدالسميع عمر.. إلخ.. وبعضهم، وتحديداً الأول، الذي أعجزت مشاركته كل متقص توقَفت عند ذلك الحدِّ, ولربَّما أن ذلك -بالمعيار النسبي- لا يرقى لدرجة التجريم الكامل، وإن ظلَّ خطأ في سيرة الرجُل, ما وجد منبراً إلأّ وحاول تبريره.. غير أن المثير للانتباه، أنه في ثنايا كتاباته المنتظمة في الصحافة السودانية، لم يعلن موقفاً واضحاً من طبيعة النظام ابتداءً, علماً بأن ممارساته انتهاءً دفعت كثيراً من الوطنيين لمناهضتها قولاً وفعلاً.. وعِوَضاً عن ذلك، فقد اتسمت كتاباته بِشيء من الضبابيَّة، واضطراب الرؤية, تمدح النظام حيناً، وتقدحه أحياناً أُخر.. ولعلَّ المدهش ما كتبه في هذا الصدد، إذ طالب بالكفِّ عن إدانة نظام الجبهة الإسلامية، فيما اقترف من جرم سياسي، فقال: «إنه لا يُسمِن ولا يُغنى من جوعٍ, بعد نحو ثلث قَرن من وقوع القدر، أن نتهمها في خلقها السياسي، ونستنزِل عليها الإدانة».

    بغضِّ النظر عن الخطأ الحسابي، الذي ربَّما ورد على غفلة من قلمه, إلاَّ أن المُحيِّر أن انقلاباً تمَّ تدبيره وتخطيطه وتنفيذه، مع سبق الإصرار والترصُّد, يُعزيه إلى كونه مسألة ”قدريَّة“, بإيحاء أن تلك العصبة كانت مُسيَّرة وليست مُخيَّرة فيما فعلت!! ثم يطلبُ من أهل السُودان، الذين سامَهُم هذا النظام سُوء العذابِ، أن يمنحوه صك براءة من تلك الفعلة الشنعاء.. يقولُ هذا، في الوقت الذي تبارى فيه أهلُ النظام أنفسهم في الاعتراف بالفعل والخطأ معاً, سيَّما وقد تقاطرت تلك الاعترافات بعد انقسامهِم إلى فريقين.. فالترابي مثلاً، قال تمهيداً، إن: «الانقلابات العسكرِية كانت ضرورة، فلم يمكن أن نصل للسلطة بدونها».. ثم حصرياً بأقوال عدة، تبعه أيضاً د. علي الحاج: «نعم نحن مُخطئون, ظننا أن تجارب الإسلاميين أفضل من غيرهم» فكيف تستقيم تبرئة من وفر على الناس مؤونة البحث عن بيِّنة؟! لكن استمرار د. عبدالله في السير في ذات الطريق يدعو للشفقة، وليس التساؤل, فهو انتقد أيضاً الذين يُحيُون ذكرى شهيدُ الفكر الحُر، ”الأستاذ محمود مُحَمَّد طه“ كلَّ عامٍ، لأنهم: «يُركزون على تحميل الحركة الإسلامية الترابية أقصى الوِزرِ في مقتل الرجل»..

    المُفارقة أيضاً في هذا الافتراض، أن المعنيُّ بالرسالَة ما زال مُتمسكاً بصواب موقفه الإجرامي, وممَّا لا يُسمِن ولا يُغني من جوع تنصيبُ الكاتب نفسه مُحامياً للدفاع عن مُذنب أقرَّ بجريمته.. والمُدهش أيضاً، أن الكاتب يقرنُ فرضيته بما هو أشدُّ مضاضة.. «والحق إن ذنب الحركة الإسلامية في القتل قليل جداً بالمُقارنة مع طبقة العُلماء الدينية في الدولة».. ذلك قولٌ مُتناقضٌ، فلو أن كاتبه قَصد أن الجبهة الإسلاميَّة لَم تقتل سوى فرد واحد، فتلك مصيبَة, ردَّ عليها القرآن الكريم بالتأكيد على أنَّ من قتل نفساً بِغير ذنب فكأنَّما قتل الناس جميعاً.. أما وأن أغفل الكاتب سلسلة جرائم القتل التي ارتكبتها الجبهة الإسلاميَّة، بعد سطوِها على مقاليد السُلطَة, فالمصيبة أعظَم حينئذ.

    دائما ما تبدي الأنظمة الديكتاتوريَّة اهتماماً كبيراً بالإعلام، وتضعه في صدر أولويَّاتها, فهو الوسيلة التي تختصر المسافات في تجميل ممارساتها البشعة، وتزييف الحقائق.. وهناك رتل من الصحفِيين مِمَّن تفانوا في خدمة تلك الأنظمة.. انبطحوا على ظهورهم، فداست عليها بأحذيتها الثقيلة, دون أن يصدُر عنهُم أنين أو شكوى.. بل على العكس من ذلك، عزفوا لها ألحاناً بأنماط مختلفة.. وقد تصدَّر قائمة الذين وزَّعوا جهودهم بِسخاء على أكثر من نظام ديكتاتوري كلٌ من: أحمَد البَلاَّل الطيِّب، مُحي الدين تيتاوي، النجيب قمر الدين، ثمَّ محمد سعيد معروف، وانضم لفتية الإنقاذ لاعبٌ جديد ”فتح الرحمن النحاس“، واستنفد أغراضه بعد فترة وجيزة، وكذلك آخرين.

    من الذين خدموا النظام الديكتاتوري الأول, السادة عبدالله رجب، محمد طه الريفي ومحمد الحسن أحمد، غير أن الأخير لم يكرِّر الخطأ مرة أخرى مع النظامين الديكتاتوريَّين التاليين، ويمكن القول أنه عمل على تصحيحه، خاصة في موقفه من النظام الديكتاتورِي الثالث.. وماثل ذلك موقف جيل آخر، خدم الديكتاتوريَّة الثانية، بتوليه مسئولية رئاسة تحرير الصحيفتينِ الوحيدتين، ”الأيام“ و”الصحافة“، وهم: السادة فضل الله محمد، حسن ساتي وإبراهيم عبدالقيوم.. واتضح أن التجربة كانت كافية للعظة والاعتبار, حيثُ أنه لا يلدغ من جُحر مرَّتين إلا المُتهوِّرون، الذين يتعمَّدون الوقوع في موارد التهلكة.. وعلى النقيض، تحدثنا تجربة أستاذ الأجيال محجوب محمد صالح, أن القلم أمانةٌ تنوء بِحملها الجبال, والانحياز لقضايا الجماهير واجبٌ وطنيٌ ومهني, ومناهضة الأنظمة الديكتاتوريَّة مسؤوليةٌ تاريخيةٌ, وهذا هو الثالوثُ الذي كان بوصلته في مضمار العمل الصحفي، لنحو نصف قرنٍ من الزمان, لم يحد عنها، ولم يساوِم عليها, ولم يفتر عزمه وهو يدفع ضريبة تمسُّكه بها, سجناً وتشريداً وتأميماً لصحيفته, وكانت بهدف تدجينه وتركيعه, لكنه ظلَّ صامداً كالطود الأشم.

    عودة مرة أخرى إلى حياض السياسيين، المُتهافتين على الأنظمة الديكتاتورية, فقد اصطحبت الإنقاذ معها أيضاً في بواكير عهدها بعد الانقلاب آخرين، لم تمهِلهم الأقدار ليكملوا المسيرة.. ومن هؤلاء، د. عبدالسميع عمر, محمد زيادة حمور, علي سحلول.. إلخ, غير أنه في خواتيم عهدها، أكمل أحد المعارضين منظومة السقوط.. والمدهش أنه اختار له توقيتاً كان النظام فيه -مشروعاً وتنظيماً- قد تآكل، من القلب والأطراف, لكن ذلك لم يكن بِذي بالٍ بالنسبة له, لأنه، بقدراته السياسيَّة المُتواضعة، أراد اختصار المسافات لتحقيقِ طموحٍ شخصي, ففي يوم 18/11/2003 غافل الشيخ عُمَر محمد طه، رئيس تنظيم مؤتمر البجا, وعضو هيئة قيادة التجمُّع الوطني الديمقراطي عيون الرقباء والمُترصدين, وقامَ بالزحف نحو مدينة كسلا, مُستتراً بالليل والجبال, ولم يقصِد المدينة مُحرِّراً، مثلما بشَّر بذلك تنظيمه والآخرين, ولا غازياً، كما يحلو لأهل النظام وصف مُعارضيهم, ولكنه عبر مُستسلماً, رافعاً ”رايةٌ بيضاء“، ومُنكساً أخرى حمراء، صبغتها دماءُ الذين وهبوا أرواحهِم فداءً لمشروع المُعارَضة.. ولأنه باع نفسه بثمنٍ بَخْس, لم يجتهِد أهلُ النظام في تلبِية طموحاته الشخصيَّة, فأهملوه بعد أن قضوا حاجتهم من عودته بضجَّة إعلامية, كانت بالطبع سانحة للتقليل من شأن المُعارِضين عموماً.. غير أنَّ المُثير في الأمر، أن الشيخ عُمر ما لبث أن عاد بخُفي حنين، بعدَ تبخُّر أحلامه وطموحاته, ولم يجد ما يثنيه عن مُواصلَة دوره المُعارض في إطار الحظيرة التي غادرها بعد تلك الهدنة المؤقتة.. ولَم يسألَه أحد من زملائه -أعضاء هيئة القيادة- حتى عن مُشاهداته في رحلَة الذهاب والإياب, فتلك من الأشياء التي لا تشغل بال أحد في أروقة التجمُّع الوطَني الديمقراطي!!

    المُفارقة، أن عقد الواسطَة في تلك ”المُبادرة“ بين الشيخ عُمَر والنظام, شيخٌ آخر، هو سُليمان بيتاي, الذي خلع عليه المُجتمعون في مؤتمر مُصَوَّع العام 2000 صفة ”شخصيَّة وطنيَّة“، وأصبح ضمن منظومة هيئة القيادة, بتزكية من رئيس التجمُّع الوطني، السيد محمد عثمان الميرغني!! وقد دللت مُمَارساته علىِ أنه لَم يكترث كثيراً لتلك المكرمة, لأنه منذ أن انتظم العمل المُعارِض في الجبهة الشرقية، ظلَّ وشقيقه ”أحمد بيتاي“ يتبادلان أدوار ”لعبة الكراسي“، بين النظام والمُعارضة, وذلك حفاظاً على مكاسبهِما الخاصة, وتكريساً لمصالحهِما الذاتيَّة في المنطقة المنكوبة ”همشكوريب“، التي رُزئت بسَيطرَتهما على تعاقب الأجيال.

    إن منطقة همشكوريب، التي سنتعرَّضُ لها في فصولٍ قادمة, تعدُّ مثالاً ناطقاً للتهميش والتخلف, وقد جعلها ”آل بيتاي“ مُستوطنة إقطاعِية تحت غطاء دعاوى دينيَّة, تقمع أي سؤال حائر يبحث عن الأسباب.. وقد استغلوا الجهل الذي أحكم ظلامه حول ساكنيها, أو بالأحرى ”التجهيل“ الذي يفرضونه عليهِم, فتمَّ عزلهم عن كلِّ ما من شأنه الارتقاء بحياتهم, وخاصَّة في مجالي التعليم والصحَّة, وحالوا بينهم وبين النزر اليسير الذي تجود به المُنظمات الطوعيَّة الأجنبيَّة, إذ ينوب آل بيتاي عنهم في الاستحواذ على مواد ”الإغاثة“، للتصرُّف فيها بالطرق التي تعزِّز من سيطرتهم، وتقوِّي نفوذهم، وتضمن لهم استمرارية التحكم في مصائر أولئك المُدقعين في فقرٍ وذل.

    تلك مجرد أمثلة.. إن الذين سكنوا أقبية الديكتاتوريَّات الثلاث، ولم يبارحوها كثر، والذين تلونوا في مبادئهم، يميناً مع تلك الأنظمة، ويساراً مع نقيضها، أكثر.. والذين انكفأوا خاسئين من مُناصرة الأنظمة الديمقراطيَّة، إلى مُعاشرة الأنظمة الديكتاتوريَّة لا عدَّ لهم.. والذين توهَّموا أنهم تطهَّروا من رجس الأنظمة الديكتاتوريَّة، وأقبلوا خلسة لأخذ ”ريعهم“ من الأنظمة الديمقراطيَّة، لا حصر لهم.. وما ذكرناه، ما هي إلاَّ نماذج جسَّدت مآلات بعض نخب ساسة أهل السُودان, الذين ارتضوا أن يضعوا في سيرتهم الذاتية ما لا يُمكنُ أن يمحى بمُرور الزمن, ولا يسقط بالتقادم.. وقطعاً، فإن نظام الإنقاذ عزف ألحانه النشاز على خلفيَّة تلك اللوحة السوداء.

    الهوامش:
                  

العنوان الكاتب Date
س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من الدخول بكرى ابوبكر08-04-06, 00:09 AM
  ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:17 AM
    Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:25 AM
      Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:27 AM
        Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:29 AM
          Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:31 AM
            Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:34 AM
              Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:36 AM
                Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:37 AM
                  Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:38 AM
                    المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة بكرى ابوبكر08-04-06, 00:40 AM
                      المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد بكرى ابوبكر08-04-06, 00:41 AM
                      المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد بكرى ابوبكر08-04-06, 00:41 AM
                        Re: المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد عاصم الطيب قرشى08-04-06, 01:33 AM
                      Re: المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة adil amin08-10-06, 02:22 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmuez08-04-06, 02:34 AM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عصام أحمد08-04-06, 03:32 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال تولوس08-04-06, 06:16 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال القلب النابض08-04-06, 06:51 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmosley08-04-06, 08:45 AM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عويس08-04-06, 09:27 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 01:28 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 02:02 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 01:46 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عبد الله محمود08-04-06, 02:54 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 03:07 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abureesh08-04-06, 03:09 PM
            Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال نادية عثمان08-04-06, 03:26 PM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 04:25 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:04 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 07:21 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال غادة عبدالعزيز خالد08-05-06, 01:04 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال على محمد على بشير08-05-06, 10:38 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عبد اللطيف عبد الحفيظ حمد08-05-06, 10:58 AM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال نادية عثمان08-05-06, 11:38 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:17 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:43 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abomihyar08-05-06, 01:33 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abomihyar08-05-06, 01:38 PM
  مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-06-06, 04:08 AM
    Re: مذبحة الديموقراطية عبدالرحمن عثمان08-06-06, 06:15 AM
      Re: مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-06-06, 06:45 AM
        Re: مذبحة الديموقراطية Adil Isaac08-06-06, 10:34 AM
          Re: مذبحة الديموقراطية رأفت ميلاد 08-06-06, 02:38 PM
            Re: مذبحة الديموقراطية سعدية عبد الرحيم الخليفة08-07-06, 01:28 AM
              Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-07-06, 04:13 AM
                Re: مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-07-06, 04:38 AM
                  Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-07-06, 10:13 AM
                    Re: مذبحة الديموقراطية saif khalil08-08-06, 06:28 AM
                      Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-09-06, 11:55 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال saadeldin abdelrahman08-08-06, 10:10 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عزالدين محمد عثمان08-08-06, 07:28 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-09-06, 08:38 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال اندرو كوات08-09-06, 12:54 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Muna Khugali08-09-06, 10:57 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-10-06, 00:22 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-10-06, 08:34 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-14-06, 10:56 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kabar08-10-06, 01:21 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-13-06, 11:28 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-14-06, 01:20 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عبد الخالق عابد08-14-06, 02:54 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Bakry Eljack08-15-06, 03:37 AM
            Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-15-06, 07:06 AM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-15-06, 09:20 PM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-16-06, 12:24 PM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-16-06, 12:59 PM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-17-06, 09:14 AM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-17-06, 09:14 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de