|
الباعوضة
|
الباعوضة قصة قصيرة
فناء المدرسة الابتدائية على غير العادة خلال الفسحة الثانية كان خاليا، الشمس تعتلي كبد السماء ولهيب أشعتها حول الأرض إلى بساط من الجمر، التلاميذ يتقاسمون ظلال الأشجار القليلة المتفرقة وتحت الحوائط التي يتستر بها ذلك الفناء .. والقليل منهم من أبناء الحظوة يجلسون في الرواق الذي يفصل بين مكتب الناظر والوكيل ومكاتب المدرسين... دق عم عبد الله الغفير الجرس معلنا نهاية الفسحة وتوجه التلاميذ قطعانا ووحدانا نحو الفصول. الأستاذ ماء العينين معلم اللغة العربية والتربية الإسلامية شاب في مقتبل العمر لكنه كان يبدو كأنه أخطأ طريقة للدنيا وأتاها وهي في عقدها السادس من قرنها العشرين بدلا من أن يلجها في عقدها العشرين من قرنها السادس حيث ينتمي بعقله وجدانه، متوائم مع أفكاره، لم تزحزح قناعاته اكتشافات البنسلين ولا اختراع الترانزستور ولا حتى البث التلفزيوني أو امتطاء يوري جاجرين لعنان الفضاء، ففي رأيه أن الأرض ثابتة وساكنة ومنبسطة ويسخر من كل من يدعي دورانها أو كرويتها وكان يعقب على مثل ذلك القول : - آآووو ياشباب .. هل منكم من صحى ذات صباح ووجد أن باب بيتهم قد تغيرت وجهته وصار يتجه جنوبا بعد أن كان يتجه شمالا ؟ هل حصل آ آ آ ياشباب وكان يتجول بنظراته فينا ويعم الصمت ثم يعقبه بضحكة مسترسلة حتى تبان نواجزه، ضحكة تنم عن نصره المؤزر في الحوار ...والويل لمن يحاول أن يتكلم وأن يجادله في ذلك فقد كان عليه مواجهة " الأطرش " والأطرش هو سوط لا يتجاوز طوله الزراع غليظ وقوي ومتيبس أشبه بالهراوة بل أشد فتكا ، كان لا يأتي الفصل دونه ويخيل لنا بأنه لا يفارقه أينما يذهب ... كانت الحصة قبل الأخيرة في نهار ذلك الصيف القائظ في مادة التربية الإسلامية، أتانا ماء العينين بعمامته التي لولا بياضها لحسبتها حوزة شيعية وعباءته السميكة غير عابئ بالحر ويتقدمه الأطرش يخبط به على الباب وعلى التخت وعلى الطاولات الأمامية ..محدثا ضجيجا يعلو به فوق ضجيج الفصل حتى تنخلع قلوبنا من الهلع، ننهض وقوفا ويعم الصمت ثم يبادر ماء العينين بعد أن يطمأن على النظام في الفصل - السلام عليكم وورد عليه الفصل بصوت جماعي لا يخلو من نشاز - السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته يا أستاذ - تفضلوا .. أجلسوا قالها بعد أن كتب على التخت الأسود التاريخ وعنوان درس اليوم وهو من قصص القرآن الكريم ثم أخذ يروي لنا قصة إبراهيم مع الملك النمرود - كان الملك النمرود ملكا على بابل ... يصمت لحظة ويسأل - ملكا على أين؟ فيرد الفصل - ملكا على بابل فواصل ماء العينين الحكاية وهو يتقمص دور الراوي وكأنه ممثل على صهوة خشبة المسرح وكنا نحن التلاميذ جمهوره نستمع إليه وشيئا فشيئا وفي حالة إندماج صوفي ومعايشة كاملة بينه وبين القصة التي يحكيها حتى ليظن من يسمعه أنه يصف مشاهد جرت أمام ناظريه وليست أحداثا وردت في العهود القديمة، كان يشرح ويؤدي والكلمات تخرج منه في تؤدة أحيانا وفي تسارع أحيانا أخر ونبراته تعلوا وتخفت حسب الأحداث، مستخدما يدية ووعينيه وكل ما فيه حراك من جسده ليوصل لنا الفكرة.. يصيح فجأة ويصمت ويقرأ الآيات وهو يجول بنظراته ليري ويتأكد من تأثير القصة فينا ....... - أتاه إبراهيم الخليل ودعاه إلى عبادة الله وحده لا شريك له فأفترى الملك النمرود، وادعى لنفسه الألوهية والربوبية فقال له إبراهيم الخليل ( ربي الذي يحيي ويميت ) فرد النمرود الذي كان قد طغا وتجبر وأنا كذلك أحي وأميت وأتى برجلين فأمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر.. وقال لإبراهيم هل رأيت فأنا أيضا إله أحي من أشاء وأميت من أشاء وضحك النمرود ها ها ها ها ، فقال له إبراهيم (فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) وهنا يصمت ماء العينين .. ينتظر برهة ويتجول بنظراته الصقرية التي يرسلها من تحت جفنيه الضيقين فوق رؤسنا الصغيرة وتبرز أسنانه بين ابتسامته المريبة التي تجعل فرائضنا ترتعد من الخوف ..ثم يستدرك قائلا: - آه آآآه ه يا شباب .. قال له إبراهيم الخليل فإن كنت كما زعمت من أنك تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب فإن الرب الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء فإن كنت إله كما تزعم فأت بها المغرب .. غير مجراها.. فإن لم تفعله فلست إذن كما تزعم، آووو يا شباب الراجل حار وأحتار وصمت ولم يملك جوابا ..... (فبُهت الذي كفر) ( وضحك ماء العينين هي هي هي ثم واصل ) - أأووو ياشباب ماذا قال له إبراهيم الخليل بعد أن أسقطه بالضربة القاضية ؟؟ آآآآ قال له أنت لا تقدر على شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل من أن تنتصر على بعوضة.... وأخذ ماء العينين يضغط على طرف سبابته بظفره كناية على صغر حجم الباعوضة - شايفين كيف ياشباب آآووه بعوضة، ودعا إبراهيم ربه ليسلط على الملك النمرود بعوضة، فدخلت واحدة منها في منخريه ومكثت فيها أربعمائة سنة ..آآووو ياشباب أربعمأئة سنة عذبه الله تعالى بباعوضة في داخل أنفه جعلته لا يقدر أن يأكل أو يشرب وكان يضرب رأسه بالخيرزان والعصي وبالحائط ويلكمها بيديه طوال الأربعمائة سنة حتى أهلكه الله . الباعوض كان موضوع درس الطبيعة السابق، وفيه علمنا من الأستاذ كمال كيف أن أنثي بعوض الإنفوليس تنقل مرض الملاريا، وكيف تكتمل دورتها منذ طور التشرنق حتى تكتمل كحشرة ولم يدر بخلدنا أبدا أنها يمكن أن تعيش أربعمائة سنة تنخر في منخري الملك النمرود والفضل فيما تعلمنا كان لماء العينين وكله بأمره.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الباعوضة | عاطف عبدالله | 05-05-04, 07:38 AM |
Re: الباعوضة | willeim andrea | 05-05-04, 07:44 AM |
Re: الباعوضة | بت قضيم | 05-05-04, 09:49 AM |
Re: الباعوضة | المسافر | 05-05-04, 11:58 AM |
Re: الباعوضة | عاطف عبدالله | 05-05-04, 10:06 PM |
Re: الباعوضة | mustafa mudathir | 05-06-04, 05:25 AM |
Re: الباعوضة | عاطف عبدالله | 05-06-04, 08:58 PM |
Re: الباعوضة | خالد الأيوبي | 05-06-04, 06:46 AM |
Re: الباعوضة | HAMZA SULIMAN | 05-06-04, 07:38 AM |
Re: الباعوضة | عاطف عبدالله | 05-07-04, 10:50 AM |
Re: الباعوضة | عاطف عبدالله | 05-06-04, 09:15 PM |
Re: الباعوضة | almulaomar | 05-06-04, 08:28 AM |
Re: الباعوضة | عاطف عبدالله | 05-06-04, 09:48 PM |
Re: الباعوضة | sharnobi | 05-07-04, 03:45 AM |
Re: الباعوضة | عاطف عبدالله | 05-08-04, 09:52 AM |
Re: الباعوضة | Osman Hamid | 05-08-04, 10:40 AM |
Re: الباعوضة | عاطف عبدالله | 05-09-04, 05:36 PM |
|
|
|