ناس الزقازيق ... أجدع ناس ( 3 ) ..

Quote: ما بين الصحافة و«كروسة النعناع» و«مقلاة السردين» أتيت إلى المغرب عابرا، فإذا بالمقام يمتد لعقدين من الزمان، دخلته عازبا، فإذا به يهديني نصف دماء أبنائي، أتيته بيطريا، فإذا بي اتحول إلى صحافي ومخرج فني.. حقيقة هذا المغرب لا تملك إلا أن تحبه. مررت بلحظات في القمة وأخرى وصلت فيها إلى الحافة.. لكن الأمور كانت تسير.. و«الحياة في طفولتها التي لا تنتهي..» مررت بتجارب صحفية مختلفة، من «الشرق الأوسط» إلى «مغرب اليوم» و«الصحيفة» ثم «الأيام» و«الجريدة الأخرى» و«نيشان» ثم «المساء» وأخيرا «أخبار اليوم». استمتعت بمهنة عذبة ومتعبة ومقلقة حد الجنون.. حلمت مع الكثير من الزملاء، بعض الأحلام ذهب أدراج الرياح والبعض الآخر تحقق في خجل «باين»، كنت في كل كبوة أتجاهل المستقبل وأستعير جملة «دابة ييسرها الله»، والحمد لله كانت الأمور دائما تتيسر ونتجاوز المحنة. لكن هذه المرة المحنة طالت، وخلقت علامات استفهام كثيرة حول المستقبل وحول أسرة ليس لها مصدر دخل سوى «طقطقاتي» على لوحة المفاتيح. جلست مرات عديدة في «مقهى الزجاج»، الذي شاركنا فيه عمال الموانئ ورجال الأمن وبائعي «الحرشة» و«مول الساردين». دارت بخلدي أسئلة كثيرة، «آش داني أنا لشي صحافة»، «آش بيني وبين شي ماكيت»، «كون بقيت مع البقر والبغال كون راني هاني دابة».. تناسلت الأسئلة وسط ضغط نفسي رهيب و«كوم لحم» أحمله على ظهري ولا فكاك منه. بدأت في تفنيد الخيارات الأخرى المتاحة أمامي، «آش بان ليك با طارق في كروسة ديال النعناع في جوطية (المحاريق)» وهذه حتما تحتاج نوعا معينا من البشر «موالف مع تمارة» ولا بد من صوت عذب قادر على إقناع «العيالات» بالشراء من سلعتي، ولا بد مرة تلو الأخرى من ترديد أغاني «الستاتي» ويا حبذا لو «يا ميمتي راني غريب عايش دلال» ولكن أين لي بذلك الصوت الجميل الذي يحمل دفء الشاوية معه أينما ارتحل. تركت فكرة «الكروسة»، وذهب خيالي إلى «شي حوينيت» في ركن قصي من أحياء الرباط، راقتني الفكرة لما فيها من استقلالية ومعها سأكون من عُلية القوم وبلقب «تاجر»، لكن «الحلو ما يكملش» كيف لي أن أدير «بسري» وأنا لا أملك من لغة «سواسة» غير (مانزكين وأظاليم وتخسايت وأقروم وكي يعاون ربي)، لا شك أنني سأجد مشقة مع أحبابي السواسة وأنا «براني» على المهنة والجنس معا. فكرت في «حانوت ديال التوب»، «علاش لا» وستكون كل معاملاتي مع النساء وهن أكثر فئات المجتمع مقدرة على الشراء و«لو طارت معزة»، لكن هذه المهنة تحتاج إلى الذهاب إلى فاس ومحاولة تعلم تفخيم حرف «الراء» ونطق الألف بالطريقة الفاسية يحتاج إلى جهد كبير على هذا القروي القادم من مداشر وقرى منحنى النيل في شمال السودان، وربما يظن «الفواسة» أنني قادم لمزاحمتهم في الوزارات التي في حوزتهم، لا لا لا.. «ما خصني شي صداع»، «آش داني لشي توب ولا زعتر». الخيارات الأخرى المتبقية، تراوحت بين «مقلات السردين» وعساس سيارات أو عساس ليلي في سفارة ونادل، راقتني فكرة «السردين» لكنها ستدخلني في متاهة «البحارة» ولا قبل لي بها. تبقى لي خيار وحيد، أن أضع أولادي فوق ظهري وأرجع إلى قرى النيل وأبدأ من جديد، رغم الهوية المغربية التي اكتسبتها خلال عشرين عاما مع «الماروك» الأعزاء على القلب، لكن خفت أن تتهمني حكومة بلادي بالفتنة في إرجاع من لا تريد عودتهم، وأدخل في غياهب سجون حكومة «الإنقاذ». رجعت عن «أفكاري المجنونة» وقلت في نفسي «شد اللرض با طارق ودابة ربي يفك الوحايل».