الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 09:30 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة بهاءالدين بكري محمد الامين(بهاء بكري)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-01-2005, 03:40 PM

بهاء بكري
<aبهاء بكري
تاريخ التسجيل: 08-26-2003
مجموع المشاركات: 3518

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية (Re: بهاء بكري)

    الخواص الأكثر وضوحا للثقافة العربية الإسلامية :
    في الفصل الماضي حاولت الإجابة علي ذلك الجزء من السؤال الذي يقول : لماذا تماهى الشماليون مع العرب؟ أو بمعني آخر، ما هي دوافع انقلاب الهوية الذي حدث لهم؟ وأحاول في هذا الفصل أن أجيب علي الكيفية التي تم بها ذلك. أي بمعنى آخر، ما ا لذي يسّر للشماليين، بل لشعوب عديدة عبر العالم الإسلامي، أن تتعلق بالأصل العربي؟ اعتقد أن هناك ثلاث خواص بارزة للثقافة العربية الإسلامية جعلت من الميسور تماما، للأفراد والجماعات، إدعاء الأصول العربية دون أن تواجه بتحدٍ جدي ومعلن من قبل مركز الهوية العربية.
    الخاصية الأولي هي التركيبة الأبوية للقبائل العربية. في هذا النظام ينسب الأطفال لإبائهم، ولا تلعب المرأة دورا يذكر في النسب، وذلك لأنها "حرث" الرجل و"ماعونه". ويترتب علي هذا المفهوم الذي يجعل الزوجة مزرعة لزوجها، أنها وإن حملت بذوره، إلا أن الحصاد حصاده هو، وليس حصادها. وهكذا فإن أي اختلاط للدم العربي، بخط النسب النوبي، يضع حدا لكل الأنساب النوبية قبل هذا الاختلاط، ولا فرق إذا كان هذا الاختلاط حقيقيا، أو متخيلا أو مفتعلا. وهكذا، وبناء علي الاعتقاد الشعبي الشائع في الشمال، كان الجد الذي تحدرت منه المجموعات الجعلية الكبرى في الشمال : أي الشايقية، الرباطاب والجعليين أنفسهم، هو إبراهيم جعل. عن هذا الجد المشترك، تحولت أنساب هذه المجموعات النوبية إلي الجزيرة العربية (إلي قريش) وارتبطت بالعباس عم النبي. ولكن هذا الإدعاء، وبناء علي بحوث مؤرخ كبير ينتمي إلي نفس هذه المجموعة "يصعب إثباته" .
    الخاصية الأخرى للمجتمع العربي الأبوي، هي أن القبائل القوية تكون لها دائما مجموعات تابعة، مثل الحلفاء والمستجيرين والعبيد، وغيرها من أنواع الارتباط. النظام التراتبي للقبيلة يستوعب كل هذه المجموعات في فئات اجتماعية مصنفة تصنيفا دقيقا، ويسمح لها بالانتساب إلى القبيلة رغم أنها تعرف مكانها جيدا. ويمكن للفرد الذي ينتمي إلي هذه الفئات الدنيا، أن يصعد إلي مرتبة أعلي بناء علي فضائله، أو اعترافا بأبوته، أو كليهما، كما يوضح مثال عنترة. هذه الخاصية جعلت من السهل علي العرب قبول الانتساب الشمالي، مع وضع الشماليين في فئة أدني من نظامهم التراتبي.
    الخاصية الثانية هي مفهوم النقاء، أو الطهارة في الإسلام. فالطهارة مفهوم مركزي للإيمان، ومع أنه يمكن تحقيقه من خلال عملية محددة للتطهير ، إلا أنه أيضا هبة من الله للرسول وآل بيته. يقول القرآن : "أنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" . وهكذا، كلما كان المرء قريبا إلي قبيلة النبي كلما كان ذلك أفضل، والأفضل من كل ما عداه هو انحدار المرء مباشرة من فاطمة بنت النبي. ولكن مع ذلك فإن قطرة من الدم العربي تكفي لتطهيرك وذريتك. ويلاحظ المرء أن الثقافة الغربية تقوم علي مفهوم نقيض تماما في هذا الشأن، حيث تكفي قطرة دم واحدة من السود أن تلوثك وتجعلك أسودا، حتى ولو كان لونك غالب البياض.
    الخاصية الثالثة هي العلاقة بين الإسلام واللغة العربية. فحقيقة أن الإسلام نزل علي نبي عربي، وأن الذين نشروه هم العرب، وأن اللغة العربية هي لغة القرآن، كل هذه الحقائق جعلت العرب أفضل الأمم في عيون الشماليين، وجعلت اللغة العربية، ليس فقط أفضل اللغات، بل جعلتها لغة مقدسة. ومع أن غياب العربية لم يمنع غير المتحدثين بها في العالم العربي، مثل تركيا وإيران والباكستان وحتى في السودان، من ادعاء الأصول العربية، إلا أن تحدث العربية كلغة للأم قد ثبّت أسطورة الأصل العربي لدي بعض الشماليين، وأمدهم ببرهان يسمي "لسانُ عربيُ مبين."

    عملية مستمرة :
    ومع ذلك فإن تشكيل هوية عربية إسلامية في الشمال هو عملية مستمرة. فالأتراك دفعها إلي الأمام عملية التعريب، وجاءوا بالإسلام التقليدي المدرسي، وسيروا، مع العرب والأوربيين والشماليين، حملات الاسترقاق، في أراضي القبائل التي لم تستعرب، وخاصة في الجنوب وجبال النوبة. وجاءت الدولة المهدية، وحلت محل الدولة التركية المنهارة، عام 1885، ودفعت بدورها عمليات التعريب والأسلمة. ولم تكن الدولة المهدية مختلفة عن الأتراك فيما يتعلق بحملات الاسترقاق. وعندما أستعمر البريطانيون السودان عام 1898، وضعوا القبائل المستعربة فوق القبائل الأفريقية السوداء. وقد وصف عالم الأجناس ك. سيلجمان، الذي دعمته حكومة الخرطوم الاستعمارية لدراسة الجماعات السكانية بالسودان، وصف القبائل الجنوبية بأنها "متوحشة" وقد تعامل البريطانيون باحترام شديد مع مجموعات الشمال المستعربة، كما عبروا عن احترام عظيم لهويتهم العربية-الإسلامية، وشجعوها. وقد ركزت السياسات التعليمية، بصورة أساسية، علي المجموعات المسلمة، التي تتحدث العربية، من الشمال الأوسط النيلي وقد كان المستفيدون من هذه السياسات التعليمية، من بين هذه الجماعات، أبناء الأسر البارزة : أسرة المهدي، والخليفة، وأسر أمراء المهدية، والأسر العربية "الراقية" . وفي السنوات الأولي من القرن العشرين، بدأت النزعات الوطنية تنشأ وتزدهر وسط الأجيال الشابة المتعلمة لهذه الأسر. "وقد صاروا يفتشون عن "السودانوية" في القصائد العربية، والمقالات، والأشكال الأدبية الأخرى، وصاروا يمجدون اللغة العربية؛ والتراث العربي، والدين الإسلامي، باعتبارها القيم الجوهرية لهذه الوطنية." .
    ونسبة لوعيهم بالتاريخ الطويل لمصطلح "سوداني"، والمعاني السلبية العالقة به، فقد أعطوه معني مزدوجا. فعلي أحد المستويين بقي لفظ سوداني كما كان دائما، أي مرادفا لـ"عبد". وعلي مستوى آخر أستخدم اللفظ "كمجال للانتماء الوطني" أي أنهم تعاملوا معه كإطار خاوٍ، حاولوا أن يملئوه بصورتهم الذاتية. وهكذا أصبح مصطلح "سوداني"، علي هذا المستوى، "علامة علي الهوية الوطنية التي تخصص قيمة عظيمة للثقافة العربية الإسلامية." ولذلك ومن وجهة نظر الجماعات الاثنية الأخرى، أن تكون سودانيا علي هذا المستوي يعنى أن تكون شماليا. يعنى "محاكاة أسلوب" أكثر عروبة "للحياة" واعتناق "أسلوب للحياة ظهر تاريخيا علي ضفاف النيل" وقد اتضح فيما بعد أن هذا التعريف كان محدودا جدا، وضيق الأفق وينطوي علي كثير من المشكلات. فهو استبعادي من جهة، واستيعابي من جهة أخري. فأولئك الذين لا ينطبق عليهم التعريف الجديد للفظ "سوداني"، أما أن يبعدوا من المجال السياسي، ماديا (بالانفصال)، أو سياسيا (بالتهميش)، أو تتم إعادة صياغتهم ليلائموا اللفظ (أي يصيروا شماليين). وكما لاحظت هيذر شاركي عن حق "إذ فشل في الاعتراف بالمساهمات الثقافية للسكان غير العرب وغير المسلمين، فإن برنامجهم الوطني نفر مجموعات كثيرة، بدلا من جذبها وإغرائها، وخاصة في الجنوب. أن الحرب الأهلية، التي ظلت تشتعل علي فترات منذ 1955، هي الثمرة المرة لهذا النوع من الوطنية." والثمرة الأكثر مرارة لهذا التعريف هي الجبهة الإسلامية القومية، التي استولت علي السلطة عام 1989، وشرعت في إزاحة "الخلعاء" عن طريق القوة الغاشمة.

    الثقافة العربية واللون الأسود :
    يقول عبده بدوي في كتابه "الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي" ما يلي:
    "العرب يكرهون اللون الأسود، ويحبون اللون الأبيض. ويصفون كل شئ حسن (ماديا كان أو معنويا) بأنه أبيض. اللون الأبيض مصدر فخر للرجل، وخاصية جمالية بالنسبة للمرأة. البياض بالنسبة لهم علامة علي الشرف. ويمدح الرجل بأنه ابن امرأة بيضاء. والواقع انهم يفخرون بامتلاكهم النساء البيض كجوار لهم. ويطلقون علي الشعراء السود أغربة العرب، في تشبيه لهم بذلك الطائر البغيض الذي يعتبر سواده عادة علامة علي الشؤم."
    كراهية اللون الأسود نشأت من تجارب العرب مع الأفارقة. فالصورة النمطية للأفريقي الأسود، في الثقافة العربية أنه كريه الرائحة. ناقص جسدا وعقلا، ومنحرف عاطفيا. المثل العربي القائل : "الزنجي إذا جاع سرق، وإذا شبع زنا" يلخص هذه الصورة تلخيصا وافيا. وتمثل عبارة "يا ابن السوداء" قمة الإساءة التي يمكن أن توجه للرجل الأسود.

    قبل الإسلام :
    قبل الإسلام، لم يكن أبناء الرجل الأبيض من أم أفريقية يقبلون كأعضاء كاملي العضوية بالقبيلة، حتى ولو كانت القبيلة تعتمد عليهم في الحروب، كما توضح قصة عنترة، ويوضح بدوي كيف كان اللون الأسود عقبة كؤود أمام هؤلاء الشعراء. فدعوة أحدهم بالغراب كانت إساءة. يقول بدوي :
    "كانت هناك حساسية عالية بالألوان وسط الشعراء السود قبل الإسلام. وذلك لأنهم كانوا فئة مضطهدة وتعيسة. وكانوا يستبعدون، بقسوة أحيانا وبلطف أحيانا أخري، من دخول النسيج الاجتماعي للقبيلة. وهكذا عاشوا علي هامش المجتمع كفئة فقيرة وبائسة. ولم يكن يتم الاعتراف بهم إلا في ظروف الضرورة القصوى، كما نعرف من حياة عنترة. فبالرغم من أن هذا الشاعر كان حامي قبيلته، وكان صوتها الشعري السامق، إلا أن الطريقة التي ظلت تعامله بها قبيلته كانت تؤلمه وتثقل علي عقله. وقد علق به اسم "ابن السوداء" حتى عندما يكون عائدا من المعركة منتصرا"

    أثناء حياة النبي :
    مع أن الإسلام دعا لوحدة ومساواة بني البشر، رغم اختلاف ألسنتهم وألوانها "إن أشرفكم عند الله أتقاكم" إلا أن موقف العرب من السود لم يتغير أبدا. وقد قال النبي "لا فضل لعربي علي أعجمي أو لأبيض علي أسود، أو لأحمر علي أصفر، إلا بالتقوى". ولكن ذلك لم يمنع أباذر الغفاري، أحد صحابة النبي البارزين، من أن يدعو أخاه بلال بن رباح الصحابي الآخر الجليل ومؤذن الرسول، "بابن السوداء". وعندما سمع النبي بذلك وبّخ اباذر توبيخا شديدا حتى شعر أبوذر أن مجرد الاعتذار لبلال لا يكفي. ولذلك انطرح أبوذر أرضا، ووضع خده علي التراب، وطلب من بلال أن يطأ خده برجله، كعلامة علي التواضع والصغار .

    القرون الوسطي :
    وإذا كان ذلك هو الوضع إبان حياة النبي، الذي كان يدعو للمساواة بين المؤمنين، فمن الطبيعي أن مسلك العرب نحو السود سيسوء بعد وفاته. ويشير برنارد لويس إلى ذلك في الفقرة التالية:
    في الوقت الذي كان فيه الدعة الدينيون ينادون بالمساواة، وإن بعبارات غامضة، كانت حقائق الحياة تحكم بغير ذلك. فالتوجهات السائدة لم يكن يحددها الوعاظ ورواة التراث، بل كان يحددها المنتصرون ومالكو العبيد، الذين يمثلون النخبة الحاكمة في المجتمع الإسلامي. والاحتقار الذي كان يشعر به هؤلاء، تجاه العناصر غير العربية عموما، وتجاه السود علي وجه الخصوص، يتم التعبير عنه بآلاف الطرق، في الوثائق، والآداب والفنون التي وصلت إلينا من القرون الوسطى. هذه الآداب، وخاصة الشعبية منها، تصور (الرجل الأسود) في صور نمطية عدوانية : كشيطان في الأساطير، وكجنس متوحش في قصص الرحلات والمغامرات، أو كعبد كسول، غبي، كريه الرائحة، أبرص، في الحالات العادية. وشهادة الآداب أكدتها الفنون. ففي الرسومات واللوحات العربية والفارسية والتركية، كثيرا ما يظهر السوء، كشخصيات أسطورية شريرة في بعض الأحيان، أو كبدائيين يقومون بأعمال حقيرة، أو كمخصيين في القصور أو البيوت."
    ابن خلدون يرى أن السود معروفون بالهزل والطيش والعاطفية الزائدة وأنهم "يتصفون بالغباء أينما وجدوا". وهو يفسر هذا الغباء وحب الملذات بإرجاعه إلى "تمدد وشيوع الروح الحيوانية".
    أسطورة العهد القديم القائلة بأن السود هم أبناء حام، تبناها ووسعها بعض الكتاب العرب مثل ابن جرير . ولكن ابن خلدون لم يقبل هذه الحكمة السائدة في زمانه، بل حاول أن يتوصل إلي تفسير "علمي" لسواد الأفارقة يقوم علي حرارة الشمس .
    وفي وصفه لسكان خط الاستواء قال الدمشقي ما يلي:
    "خط الاستواء تسكنه أقوام من السود يمكن اعتبارها من الحيوانات المتوحشة. ألوان أجسادهم وشعورهم محروقة، وهم غير طبيعيين جسديا وروحيا. إن عقولهم تكاد تغلي من حرارة الشمس."
    ويسير ابن الفقيه الهمذاني على نفس المنوال. وقد اعتمد في رأيه علي نظرية يونانية جغرافية قديمة، تقسم الأرض إلى سبعة أقاليم عرضيه، حيث يمثل الإقليم الأول والسابع الحرارة الشديدة والبرودة الشديدة علي التوالي. ويفترض أن هذين النقيضين ينتجان متوحشين، بينما في الإقليم الأوسط، حيث اعتدال المناخ، يوجد الناس المتحضرون. وبالنسبة إليه فإن أهل العراق لهم "عقول راجحة، وعواطف حميدة، وطبيعة متزنة، وإنتاج غزير في كل الفنون، مع أطراف متناسبة متناسقة، ولون أسمر رقيق، هو أنسب الألوان وأصحها." ولكن الزنج الذين يسكنون الإقليم الأول وهم "مفرطون حتى درجة الاحتراق، ولذلك يجئ الطفل منهم أسودا، معتكراً، كريه الرائحة، ومفتول الشعر، بأطراف غير منسجمة، وعقول ناقصة وعواطف منحرفة." ويلاحظ جون هنويك أن تحيز الهمذاني ضد السلاف ينحصر في ألوانهم " البرصاء"، إلا أن عداءه للزنج يتخطى اللون ليصور "أجسادهم الشائهة"، "وعقولهم الضعيفة" و"روائحهم البخرة". وكان ابن خلدون يعتقد أن الأفارقة أقرب إلى الحيوانات منهم إلى البشر، وأنهم يأكلون لحوم البشر. فهو يقول : "خصائص شخصياتهم أقرب إلى الحيوانات البكماء .. أنهم يسكنون الكهوف، ويأكلون الأعشاب، ويعيشون في عزلة وحشية، ولا يجتمعون، ويأكلون بعضهم البعض."

    استجابات السود :
    في وجه هذه العداوة الصارخة، يمكن تصور نوعين من ردود الأفعال : المقاومة واستبطان الاحتقار. ففي الوقت الذي تصدي بعض السود لمواجهة هذه الآراء المتحيزة ضدهم، استسلم آخرون لمصيرهم التعيس، وصاروا يرون أنفسهم من خلال انعكاسها العربي. ولكن المقاومة نفسها أخذت طابعين : أحدهما رفض الصورة النمطية معلنا أن اللون الأسود هو اللون الجميل، والثاني قبل المرأى السائد بأنه قبيح، واعتذر عنه، وتغنى بالخصائص الإنسانية الأخلاقية. ويخبرنا عبده بدوي بما يلي :
    "نظر الشعراء إلى أنفسهم وإلى ذويهم كقوم مضطهدين، ومع أن هذا الشعور بالاضطهاد يختلف من قرن إلى قرن، ومن شاعر، إلا أن الرجل الأسود لم يتردد في أن يكون صوت احتجاج على الحياة من حوله وعلى مأساوية أوضاعه الشخصية. وسنرى فيما بعد (الشعراء السود) وهم ينفجرون في وجوه أولئك الذين يشيرون إلى سواد الوانهم، كما يشهد علي ذلك شعر "الشعراء الثلاثة الغاضبون" وهم الحيقطان، صنيج وعاكم (أوائل القرن الثامن). فبالنسبة لهؤلاء لم يكن يكفى أن يدافعوا عن أنفسهم فحسب. بل تراهم يفخرون بسواد ألوانهم، وبتاريخ قومهم السود والبلدان التي جاءوا منها، بل كانوا يهاجمون العرب بما كان هؤلاء يفخرون به.

    استبطان الاحتقار :
    المثال على استبطان الاحتقار هو نسيب الأكبر، الشاعر ذو الأصول النوبية. إن مسلكه شبيه بمسلك "أنكل توم" في الثقافة الغربية. فقد اختار ألا يواجه المجتمع بل يتواءم معه، ويقبل تحامله. وعندما تقدم ابنه لخطبة فتاة من عائلة مالكيه السابقين، والذين كانوا مستعدين للموافقة عليه، جاء نسيب وأمر بعض عبيده السود بجر ابنه من رجليه وضربه ضربا مبرحا. وقد ضرب العبيد ابنه ضربا شديدا. ثم رأى نسيب رجلا شابا من أصل نبيل، فقال لعم الفتاة "زوّج بنت أخيك لهذا الشاب وسأقوم أنا بدفع المهر." وهكذا لم يجد ابنه أهلا للزواج من فتاة نبيلة الأصل، بل ضربه ليعرف مكانه الصحيح. وتقول حكاية أخرى، أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، طلب من نسيب أن ينضم إلى ندمائه، ولكن الشاعر اعتذر بأنه أحط من أن يستحق هذا الشرف وقال للخليفة:
    "يا أمير المؤمنين، لونى اسود، وقامتي عوجاء، ووجهي دميم، ولست أهلا لهذا المكان".
    وتقول قصة أخري انه كان يلوذ بالخفاء. كان يحب أن يخفى سواده عن مستمعيه، عندما طلب منه أن يلقى شعره على بعض النساء، حتى لا يجرح شعورهن. وقال في ذلك: "دعوني أقرأ من وراء حجاب. لماذا يردن رؤيتي. لونى أسود، وشِعري أبيض. دعوهن يستمعن لي من وراء حجاب."
    ويعطينا عنترة، الشاعر الفارس، مثالا آخر على استبطان الاحتقار. فكان يظهر كراهية لأمه الأثيوبية، زبيبة، باعتبارها المسؤولة عن سواده. وكان يراها تجسيدا للقبح. وكان يدعوها الضبعة، ويشبه رجليها بساقي النعامة، وشعرها بالفلفل الأسود .

    المقاومة (1) :
    المثال علي المقاومة، على غرار المنهج الأول، نجده في أعمال الكاتب الكلاسيكي العظيم الجاحظ، الذي عاش ببغداد في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، والذي كان هو نفسه أسود اللون. كان لا يفتأ يذكر العرب أن السود خلقهم الله، وأنه لا يمكن أن يكون صحيحا أن الله قصد تشويه خلقه، كما يعتقد العرب، قال :
    "لم يشوهنا الله بخلقنا سودا. فألواننا السوداء جاءت نتيجة أحوال البلاد (البيئة). والشاهد على ذلك أننا نجد السود بين القبائل العربية، مثل بنى سليم بن منصور الذين يعيشون بالحرّة. فكل سكان الحرّة سود، وحتى دببتها، ونعامها، وذئابها، وضباعها وبغالها ومعيزها وطيورها سوداء، بل إن هواءها نفسه أسود."
    وقد كتب الجاحظ "فخر السودان علي البيضان" وهو يمجد البشرة السوداء مشبها لها بالحجر الأسود المقدس، حجر الكعبة، فضلا عن عناصر الطبيعة الداكنة اللون والقوية، مثل التمر، الأبنوس، الأسود، النوق، المسك، الليل والظل . وبعد ثلاثة قرون أخري، سينهض كاتب بغدادي آخر، هو الجوزي، الذي عاش في نهاية القرن السادس الهجري (الثالث عشر الميلادي)، للدفاع عن السود. وقد كتب الجوزي "تنوير الغبش، في فضل السودان والحبش". وكان يمجد اللون الأسود، ويمدح فضل وأخلاق ونبل ملوك وملكات السودان وأثيوبيا، إضافة إلي صحابة النبي السود.

    المقاومة 2:
    المقاومة وفق المنهج الثاني، تقبل سلبية اللون الأسود، ولكنها تركز على الخصائص الأخلاقية والعقلية. والحجة هنا تتخذ الشكل التالي : "نعم نحن سود، ولكننا ذوو فضل. " الشاعر النوبي، سحيم عبد بنى الحساس يقول :
    " إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً أو أسود اللون إني أبيض الخلق

    ويقول أيضا :
    أتيت نساء الحارثيين غـــــــدوةً بوجهٍ براه الله غير جميل
    فشبهنني كلباً ولســـت بفوقــــــه ولا دونه إذ كان غير قليل

    وقال أيضاً :
    فلو كنت ورداً لونه لعشقنني ولكن ربي شانني بسواد"

    الشاعر خفاف بن ندبة، وهو شاعر أسود أيضاً، نسج على نفس المنوال. فهو يقبل حقيقة أن سواده سُبّة، ولكنه يفخر بصفاته كمحارب صعب المراس، يصفي حساباته مع من يذمونه في ميدان المعركة. يقول :
    أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافـــــــاً أنني أنا ذلكــــــا
    ويقول :
    فجادت له يُمنى يديّ بطعنة كست متنه من أسود اللون حالكا
    سلك عنترة نفس الطريق. فهو يقول :
    ينادونني في السلم يابن زبيبة وعند صدام الخيل يابن الأطايب
    ويقول كذلك :
    فأنا الاسود والعبــــــد الذي يقصد الخيل إذا النقع إرتفع
    نسبتي سيفي ورمحي وهما يونساني كلما إشتدّ الـــفزع
    ويقول عن أمه :
    وأنا ابن سوداء الجبين كأنها ضبع ترعرع في رسوم المنزل
    الساق منها مثل ساق نعامـة والشعر منها مثل حب الفلفـــل
    ويتمنى لو أن عبلة تقبله علي "علاته"، أي سواده :
    لعل عبلة تضحى وهي راضية علي سوادي وتمحو سورة الغضب
    ولكن أعمال المقاومة الشحيحة هذه، لم يكن لها أثر أبعد من إثبات حقيقة الرفض. فالتحامل علي اللون الأسود صار أكثر حدة في الثقافة العربية الإسلامية، مع نمو الإمبراطورية، وانخراط العرب في اصطياد العبيد. وبمرور الزمن نشأ ارتباط بين العبودية والسودان، أي السود. وكما يكتب أكبر محمد، مع اتساع الإمبراطورية، "اختفت بشكل كامل تقريبا، وانهارت نزعات المساواة التي كانت سائدة علي عهد النبي، تحت ثقل التمدن، والتثاقف، والانقسامات الاثنية الداخلية، والمركزية العربية." وهذه النزعات تنعكس بصورة واضحة، وبأشكال لا حصر لها في الأدب العربي الكلاسيكي.
    لم يكن العرب، عادة، يخاطبون السود بأسمائهم، بل يخاطبونهم بكلمة "الأسود" أو "العبد الأسود". وعندما كان أحد الشعراء السود يلقى شعره أمام أمير أو خليفة فإن عبارة الإطراء عليه هي عادة: "أحسنت يا أسود". وكان الشعراء العرب يشعرون بالغضب والحسد عندما ينظم شاعر أسود شعرا جيدا. وكان رد فعلهم الطبيعي عندما يسمعون شعرا جيدا هو "وددت لو قلت هذا الشعر قبل هذا العبد الأسود." وكانت طريقتهم المفضلة في إغاظة زملائهم السود أن يقولوا لهم "قل غاغ"، أي قلّد صوت الغراب .
    وتعتبر قصائد المتنبي التي يسخر فيها من كافور الإخشيدي، حاكم مصر في العصور الوسطى، مثالا علي ذلك. فالمتنبي معروف بأنه أعظم الشعراء العرب موهبة علي مر العصور. وقد قصد كافور، العبد النوبي، الذي تحرر واستولى علي الحكم بمقدراته العسكرية والإدارية المتفوقة. وكان المتنبي يأمل في أن يتفضل عليه كافور بأمارة يحكمها. ونظم لهذا الغرض قصائد عديدة في مدح كافور. بل وصل إلى درجة مدح لونه الأسود وأعبره تجسيدا للجمال. ولما فشل في الحصول علي مبتغاه، كره كافورا، وفرّ هاربا من مصر، وبدأ حملة من التشنيع والهجاء ضد كافور. وقام بنظم قصائد في هجاء كافور، تعتبر من عيون الشعر من حيث خصائصها الفنية، وسماه "الأسود المخصي"، والزنجي الدميم. في كل هذه القصائد كان المتنبي يعيّر كافورا بلونه الأسود. ويقول في إحداها :
    وأسود مشفره نصفه يقال له أنت بدر الدجى
    وهو يسخر من المصريين أيضا، ويدعوهم مضحكة الأمم ، لأنهم يرضون بكافور حاكماً لهم. ويهجو كافوراً بسواده في أبياته المحفوظة عن ظهر قلب من قبل كثير من السودانيين ذوي الثقافة العربية:
    العبد ليس لحر صالح بـــــــأخ لو أنه في ثياب الحر مولود
    لا تشتر العبد إلا والعصا معــه إن العبيد لأنجاس مناكيـــــد
    إلي أن يقول :
    من علم الأسود المخصي مكرمةً أقومه البيض أم آباؤه الصيــــــــد
    أم أذنه في يد النخاس دامـــــــيةً أم قدره وهو بالفلسين مـــــــردود
    أولَى اللئام كويفير بمعـــــــــذرة في كل لؤم وبعض العذر تفنيـــــد
    وذاك أن الفحول البيض عاجزة عن الجميل فكيف الخصية السـود
    ومن المدهش أن الشماليين عندما يقرأون هذه القصائد، فانهم ينحازون إلى المتنبي وليس إلي كافور، رغم أن كافوراً كان رجلاً نوبياً، وبمعنى معاصر كان سودانياً شمالياً.

    المصادر الإسلامية ورمزية اللون :
    ذكرنا من قبل أن الثقافة العربية الإسلامية، في نظامها الرمزي، تجعل اللون الأبيض هو المقياس والمثال، وتذم اللون الأسود. وسواء في الشعر قبل الإسلامي، أو في القرآن، أو في الفقه الإسلامي الكلاسيكي، وفي الأدب القديم والمعاصر، يصور اللون الأبيض كرمز للجمال، والبراءة، والنقاء، والأمل .. بينما يمثل اللون الأسود نقائض هذه المعاني.
    ويحتوى القرآن نوعين من الخطاب، أحدهما واع باللون والآخر أعمى لونياً. أحدهما يمدح اللون الأبيض، ويذم الأسود، والآخر محايد لونياً حياداً كاملاً. الأمثلة على الخطاب الأول هو الآيات التالية:
    "يوم تبيضّ وجوهٌ و تسودّ وجوهٌ، فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون." (آل عمران، آيات 106و107) ." ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسوّدة.أليس في جهنّم مثوى للمتكبرين"، (الزمر،آية 60). "وإذا بُشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم" ( الزخر، آية 17) .
    نماذج على الخطاب القرآني الثاني ، في هذه الآيات.التالية:
    "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم،إن في ذلك لآياتٍ للعالمين" (الروم، آية 22) . "يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.إن الله عليم خبير." (الحجرات، آية 13) . والأحاديث النبوية كذلك لها نفس الخصائص للمستويين المتوازيين للخطاب.نموذج المستوى الأدنى للخطاب مثل"أسمعوا وأطيعوا أولي الأمر منكم وان تأمّر عليكم عبد حبشي ..............".المستوى الأعلى من الأحاديث النبوية يبشّر بوحدة وتساوي الجنس البشري رغم اختلافات اللون، اللغات،والعادات. نموذج لذلك"كل الناس سواسية كأسنان المشط"، و"كلكم لآدم وآدم من تراب".
    في التعامل مع هذين النوعين من الخطاب، تبنيت فكرة محمود محمد طه، حول ثنائية الخطاب القرآني. فطه يعتقد أن القرآن يحتوي مستويين من الخطاب، أدنى وأعلي، خاص وعام، زمني وخالد. المستوى الأدنى يعكس، بدرجة ما، القيم العربية المحددة، والأيديولوجيا والثقافة الخاصة بالقرن السابع. وهو محدود تاريخياً، ولذلك، يعكس ويستوعب بعض نقائص العرب وأهوائهم. أما النوع الأعلى، فيعكس القيم الإنسانية ويرمي، بالتالي إلي رفع العرب، وكل المسلمين، إلي مستوى هذه القيم الإنسانية الشاملة. المستوى الأدنى نسخ المستوى الأعلى . ومشكلة المسلمين هي أنهم ينظرون إلي هذا النسخ كظاهرة أبدية وغير قابلة للمراجعة. ولكن طه، من الجانب الآخر، يقول أن هذا النسخ ليس أبديا ولا نهائيا، ويحث المسلمين على الارتفاع من المستوى الأدنى إلي المستوى الأعلى، بعكس عملية النسخ، وإحداث بعث جديد على هذا الأساس .
    وكما أوضحنا بالنوع الأول من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فإن اللونين الأبيض والأسود يستخدمان كرمزين للخير والشر، للحظ السعيد والحظ السيئ، للسعادة والشقاء. هذا المستوى الانتقالي للقرآن والسنة، يعكس تحيز العرب ضد السود، ويجعل اللون الأبيض هو اللون الصحيح. وعلى أساس هذه الحجج التي سقناها، يمكن للمرء أن يقول أن هناك علامات ظاهرة توضح أن الثقافة العربية الإسلامية، في مجراها الرئيسي، تنظر إلي نفسها كثقافة بيضاء.

    الاغتراب عن الذات :
    الهوية الثقافية العربية هي انعكاس خارجي للنفس العربية. أنها تعكس تصورهم للعالم، وهو تصور لابد أن يكون مختلفا عن تصورات الآخرين للعالم، وذلك لأن الناس يفهمون العالم من خلال الثقافة وليس من خلال الطبيعة. إن اللغة العربية تعكس العالم كما تراه العيون العربية، وذلك لان هناك علاقة قوية بين الكلمة والعالم word & world))، وبين الخطاب والكون. فالكلمات هي التعبيرات اللفظية عن محتويات الكون. وفي تحليلاته النفسية للثقافات الغربية توصل لاكان إلي أن الثقافات الغربية واللغات الغربية، تتميز بالذكورة. وعندما تستخدم النساء هذه الثقافات، لا يستطعن أن يكن فاعلات كنساء. وعندما يتحدثن فإنما يتحدثن لغات مذكرة. ولا يستطعن، بالتالي، في إطار البنية القائمة لهذه اللغات، أن يحققن رغباتهن ككائنات متحدثة . ويوضح لاكان كذلك كيف يدخل الطفل إلي عالم اللغة من خلال "رمزيتها الاجتماعية" وتحدث هذه العملية بالتماهي مع الأب والاغتراب عن الأم. وككائن متكلم فإن الطفل "ينمو داخل عالم الأب ".
    يمكن إثارة نقطة مشابهة في علاقة الشماليين باللغة العربية. فعندما يدخل الطفل الشمالي عالم اللغة العربية، فهو أو هي، يدخل في عملية التماهي مع الأب العربي، والاغتراب عن الأم الأفريقية، ولكن الشماليين يشعرون بالوجود الظاهر للأم في جلودهم ووجوههم، وكما أوضح فرانسيس دينق : "ولا يحتاج الأمر إلي عالم متخصص في علم النفس الاجتماعي، لاستنتاج أن هذا الاحتقار لبعض العوامل الظاهرة في ملامح الوجه، لا بد علي مستوى ما من مستويات الوعي أن يسبب لصاحبه درجة من التوتر والتشويش" . ولكن طريقة الشماليين في التعامل مع هذا التوتر والتشويش، تعتبر متفردة نوعا ما. فبدلا من محاولة إعادة صياغة وتدجين اللغة لتناسب ملامحهم، فانهم يخترعون صورة خيالية لوجوههم لتلائم اللغة. ولذلك يتفادون استخدام كلمة "أسود" لوصف أنفسهم، ويصرون إصرارا مبالغا فيه علي أصلهم العربي". ويحدثنا أحمد الشاهي الذي درس قبيلة الشايقية قائلا : "من الوقاحة أن تصف الشايقي بأنه أزرق (أسود)، حتى ولو كان لونه كذلك، لأن هذا الوصف يساويه بالعبد."
    ومن الأمثلة الصارخة علي وجود هذا التوتر، هذا المقتطف من خطبة للشريف زين العابدين الهندي، أحد القادة السياسيين البارزين في الشمال. فقد قال :
    "أنا عربي. وأعرف أنني عربي. ولا يستطيع أحد أن يناقشني في ذلك. فأنا أملك شجرة نسب. فأنا فلان بن فلان بن محمد رسول الله. ولكن، من الجانب الآخر، يستطيع أي فرد أن يشير إلي أفريقيتي. فقد جئنا (نحن)، واختلطنا (معهم)، والنتيجة هي هذه (الخِلَقْ) القبيحة التي صرنا عليها."
    "نحن" في المقتطف تشير إلي العرب، و"هم" تشير إلي الأفارقة النوبيين، و"هذه الخلق التي صرنا عليها" تشير إلي الحاضر، إلى الشماليين الموجودين الآن. والعبارات تعبر عن التماهي مع "الأب"، والاغتراب عن الأم "هم" وكراهية الذات (هذه الخلق التي صرنا عليها). هذا هو المثال الأكثر فصاحة لمفهوم دوبوا عن الشخص الأسود الذي "يرى نفسه من خلال عيون العالم الآخر، والذي يزن روحه في ميزان يبخسها ولذلك ينظر إلى هذه العملية باستمتاع يختلط بالاحتقار والشفقة." ويعتبر تماهي الشماليين، مع المتنبي، في هجائه لكافور، النوبي، مثالا آخر علي تكوين نفسي منحرف.
    تشعر النخبة السياسية والثقافية الشمالية، بالحاجة لترداد أنها عربية. ويشعرون بالضيق من كلمة "السودان". وقد قال الطيب صالح، الروائي ذو الصيت العالمي، ما يلي :
    "تمنيت لو أن قادتنا سموا هذه البلاد سنار. ربما يكون السبب وراء عدم استقرار هذا البلد أن اسمه (السودان) لا يعنى شيئا بالنسبة لأهله. فما السودان؟ مصر هي مصر، واليمن هو اليمن، والعراق هو العراق، ولبنان هو لبنان. ولكن ما السودان؟ فالاستعماريون أطلقوا هذا الاسم علي المنطقة التي تمتد من أثيوبيا في الشرق وحتى السنغال في الغرب. الأمم الأخرى أطلقت علي أوطانها أسماء تعنى شيئا بالنسبة لها، وتركنا وحدنا نحمل هذا العبء علي أكتافنا.
    كراهية السواد تنبع من التماهي مع العرب، وتبنى منظورهم للعالم. وهذا الاقتراح بتغيير اسم البلاد ليس جديدا، فقد ظهر مباشرة بعد الاستقلال. والسبب الأساسي وراء الاقتراح هو معنى الاسم وإيحاءاته. فكلمة (سوداني) يستخدمها الشماليون كمرادف لكلمة (أسود) وكلمة (عبد). وهذه الكلمات تستخدم للدلالة علي العبودية أو الأصل العبودي، أي لأولئك الذين ينتمون لجماعات غير عربية مسلمة ، سواء من الجنوب أو جبال النوبة. بالنسبة للشمالي أن تكون سودانيا يعني أن تكون أسودا، وأن تكون أسودا يعني، بدوره، مستوي اجتماعيا أدنى، وأصلا أدنى. ويتفق أغلب الباحثين الذين درسوا السودان، مثل هيذر شاركي وأحمد شاهي، أن وصمة (السواد) متأصلة في تراث الرق، خاصة وأن كل الأسر الشمالية تقريبا، في منطقة الوسط النيلي، كانت مالكة للعبيد . ومع أن هذا صحيح، إلا أنني أعتقد أنه لا يمثل كل الحقيقة. فهناك مستوى أعمق تجد فيه وصمة (السواد) أصولها، وهو الثقافة العربية، التي تحتقر السود، كما رأينا من قبل. فالشماليين لم يدجنوا الثقافة العربية، واللغة العربية والقيم العربية، بل استبطنوها جميعا. وهذا هو السبب في كونهم يرون العالم من خلال العيون العربية، رغم المفارقات، ورغم ابتذال الذات المترتب على هذه النظرة. ومن الملاحظ بصورة عامة، أن الشمالي كلما تبحر في اللغة العربية والأدب العربي، كلما بالغ في تأكيد أصله العربي، وكلما أمعن في كراهية (السواد) وكلمة (سوداني). ويحدثنا خالد حسين أحمد عثمان أن أعضاء جمعية "أبو روف" (رفضوا بعد الاستقلال، أن يقدموا لاستخراج الجوازات، لأن الفرد منهم كان مطالبا بتسجيل أسمه كسوداني قبل أن يحصل علي الجواز) ولذلك فإن عبارة الطيب صالح تعبر عن تجديد لرغبة شمالية قديمة للتخلص من لعنة اسم (سوداني). ولو أخذناها مقروءة مع ما قاله الهندي، لوضعنا أيدينا علي الرغبة لهروب المرء من جلده، أو تبييضه، من خلال الخطاب، ليشبه جلدا عربيا. ويصيب دينق عين الحقيقة عندما يفسر نزعة السودانيين الشماليين للمبالغة في أصولهم العربية والإسلامية، ونظرتهم للسود كعبيد بأنها "عقدة نقص عميقة، أو علي العكس من ذلك، عقدة تفوق مستخدمة كأداة تعويض لهامشيتهم العربية الواضحة."

    خاتمة :
    ذكرنا أن الشماليين يؤمنون بأنهم ينحدرون من أب عربي وأم أفريقية، وأنهم يتماهون مع الأب ويرفضون الأم. وبالنسبة للشمالي المتوسط، فإن الأم تمثل الجنوب داخله، وما لم يقبل الشمالي أمه، ويتماهى معها، فإنه لن يقبل الجنوبي كند له. إن الاعتراف بالمكون الأفريقي داخل النفس الشمالية، بعد النكران الطويل، وتحرير الأم الأفريقية المقموعة داخل أنفس الشماليين، هي الشروط الضرورية لقبول الجنوبيين اجتماعيا من جانب الشماليين، والاعتراف بهم كأنداد، رغم الاختلافات القليلة القائمة.
    يمكن لمشكلة الحرب أن تحل عن طريق انفصال الجنوب عن الشمال. ربما يكون في ذلك حل لمشكلة الجنوب مع الشمال، ولكنه لن يحل أزمة الهوية الشمالية. ومن الواضح أن أزمة الهوية في الشمال قد وصلت إلى قمتها، وبدأ التوازن يختل من جديد. وقد طرحت التساؤلات حول الهوية وعلي الشماليين أن يختاروا : أما أن يتشبثوا بالهامش، أو يخلقوا مركزا خاصا بهم، أن يستمروا كعرب من الدرجة الثانية، أو سودانيين من الدرجة الأولي. وثمة انشطار بين الفَعَلة السياسيين والثقافيين، بين أولئك الذين يسعون لإنشاء هوية سودانية جديدة، تمكن الشماليين من رؤية العالم بعيونهم، وأولئك الذين يدافعون عن الوضع القائم. ولكن زعزعة الهوية القديمة هو المنطلق لإنشاء الهوية الجديدة، وفضح تناقضات هذه الهوية القديمة هام لعملية الزعزعة المقصودة. وهذه هي المهمة التي تصدت لها هذه الورقة.
                  

العنوان الكاتب Date
الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-01-05, 08:37 AM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-01-05, 08:39 AM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Elmosley11-01-05, 08:46 AM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Elmosley11-01-05, 08:47 AM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-01-05, 08:46 AM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية محمد عبدالرحمن11-01-05, 09:27 AM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Bashasha11-01-05, 10:19 AM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Murtada Gafar11-01-05, 01:24 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-01-05, 03:21 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-01-05, 03:27 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-01-05, 03:30 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-01-05, 03:40 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Mohamed Elgadi11-01-05, 05:41 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Emad Abdulla11-02-05, 00:51 AM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Bashasha11-01-05, 04:33 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Bashasha11-01-05, 07:26 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Bashasha11-01-05, 07:52 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Bashasha11-01-05, 08:18 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Mohamed Adam11-01-05, 08:48 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية محمد النعمان11-02-05, 04:21 AM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-02-05, 05:52 AM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Murtada Gafar11-02-05, 03:15 PM
      Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-03-05, 04:49 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-03-05, 04:55 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-04-05, 05:16 AM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Sabri Elshareef11-04-05, 07:01 AM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-05-05, 03:11 AM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Murtada Gafar11-07-05, 07:31 AM
      Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-07-05, 01:37 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Sabri Elshareef11-07-05, 01:14 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-07-05, 03:41 PM
      Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-07-05, 08:32 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Bashasha11-07-05, 08:53 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Bashasha11-07-05, 09:09 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-09-05, 08:35 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Omar Bob11-09-05, 11:18 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية بهاء بكري11-10-05, 01:41 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Abdulgadir Dongos11-10-05, 04:03 PM
      Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Yaho_Zato11-11-05, 10:56 AM
        Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-14-05, 09:08 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Omar Bob11-15-05, 03:07 AM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-16-05, 05:14 PM
      Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-16-05, 06:13 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية عبد الوهاب المحسى11-16-05, 06:41 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-16-05, 07:33 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية zoul"ibn"zoul11-16-05, 07:53 PM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Omar Bob11-19-05, 10:03 AM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية zoul"ibn"zoul11-17-05, 10:12 PM
  Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Omar Bob11-20-05, 02:55 AM
    Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Murtada Gafar11-20-05, 10:18 AM
      Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية mansur ali11-27-05, 01:19 AM
        Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-27-05, 03:25 PM
          Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية Omar11-28-05, 01:50 AM
            Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية الباقر العفيف11-30-05, 01:16 PM
              Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية ahmed babikir12-01-05, 09:00 PM
                Re: الدكتور الباقر العفيف ..... وحوار حول الهوية mansur ali12-16-05, 08:44 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de