تلك الأيام في سجون نميري

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 06:25 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-28-2009, 01:20 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: محمد مكى محمد)

    الأخ محمد مكي
    الأستاذ عباس علي مدرسة متكاملة للنضال الديمقراطي والوطني وقد شارك بشكل فعال من خلال مدارس وفصول فتحها في نشر الفكر الديمقراطي وتعليم الناس البسطاء عن اسس العمل النقابي والتعاوني والخيري كما ساهم في العمل النقابي للمعلمين وقد ترجم للعربية بعض الكتابات الماركسية ومن بينها مقالة عن ديمقراطية التعليم نشرت في مجلة الماركسية اليوم البريطانية (حوالي عام 1968 او 1970) وقد إشترك في مظاهرات الجمعية التشريعية في بورتسودان ولم يحاكم لأنه أصر على أن شاهده هو مفتش المركز الإنجليزي.
    عباس علي درس في مدارس كثيرة لكنه أستقر أخيرا وحتى وفاته في الأحفاد.
    كما لاحظت فياسر الطيب وشخصي ممتنين كثيرا لأستاذنا عباس علي أنه أتاح لنا في الأيام الأولى للمعتقل أن نجلس إليه ونسمع لتجاربه وآرائه.

    (عدل بواسطة Sidgi Kaballo on 05-28-2009, 01:23 PM)
    (عدل بواسطة Sidgi Kaballo on 07-20-2009, 10:23 PM)

                  

05-29-2009, 09:21 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    صدقي كبلو
    تلك الأيام في سجون نميري (5)
    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983
    الاعتقال الأول 23 يوليو 1971 -15 مايو 1973

    ودانا لشالا وعزتنا ما شالا
    الترحيل إلى شالا وزالنجي
    عند منتصف نهار يوم من أيام يناير 1972 دخل البشاويش لوج ومعه عسكري يحمل قائمة بدأ ينادي/ وكانت دهشتنا أن القائمة تشمل دكتور خالد حسن التوم وصديق يوسف وجلال السيد المحامي وطلب منهم حمل "عفشهم" وقلنا المسألة إطلاق سراح فقمنا لوداعهم بالأناشيد كالعادة:
    السجن ليس لنا
    نحن الأباة
    السجن للمجرمين الطغاة
    ولكننا سنصمد ونصمد
    وإن لنا مستقبلا سيخلد سيخلد
    لنا الغد
    لنا الغد
    حيث حيث تنصب المشانق
    للمجرمين الطغاة
    للمجرمين الطغاة

    ثم نردد نشيد حنتقدم والذي يقول:
    حنتقدم حنتقدم
    في وجه الريح ونتقدم
    ونهدم سد
    ونرفع سد
    وإشتراكية لآخر حد
    يا أكتوبر المحمول على الأعناق
    وثيقة دم
    نحن براك ما بنسلم
    وشعبنا براك ما بيسلم
    والبناه ما بنتم
    ثم نردد الهتاف بحياة الشعب السوداني وبكفاحه وبحياة الحزب الحزب الشيوعي وبنضاله وبحياة الطبقة العاملة وكفاحها. ثم نودع الشخص مطلق السراح.
    ولكن ذلك اليوم وبمجرد فعلنا ذلك ورجعنا حتى جاءت قائمة أخرى وبعدها قائمة أخرى ولا حظ زميل كان يقف في الطابق الأول للسرايا أن المجموعات لا تخرج من السجن وإنما تحول تجاه الشرقيات. فعلمنا أن الأمر إما ترحيل داخلي أو ترحيل إلى سجن آخر وبينما نحن نتحدث هكذا جاءت القائمة التالية وإذا بإسمي ضمنها.
    وووجدت نفسي مع من سبقوني بقسم المعاملة الخاصة وهو قسم يتكون من 8 غرف ومطبخ وحمام وتواليت والقسم يجاور قسم البحريات وهي الزنازين التي ورد ذكرها من قبل من الجنوب وتجاوره من الغرب قسمي الكرنتينة أ وب وتفتح أبوابهما عليه وكان بالكرنتينة ب مجموعة من العسكريين المحاكمين، وكان للمعاملة الخاصة كورنة ملاصقة لقسم السرايا. وأحضر لنا من الزنازين الغربية الخاتم عدلان والذي أبعد لها بسببي كما أوضحت من قبل.
    وما أن أغلق السجن أبوابه حتى بدأت الرسائل والطرود تأتي عبر الحائط الذي يصل طوله إلى 5 امتار. لقد قرر المعتقلون بالسرايا أن يتنازلوا لنا عن مؤنهم وبعض ملابسم ورموها عبر الحائط.
    وفي صباح اليوم التالي، حوالي الرابعة صباحا طلب منا أن نحمل أشياءنا ونتحرك حيث كانت هناك عربتان في إنتظارنا وعدد من الجنود المسلحين، وفي طريقنا إلى الخارج بدأنا بالأناشيد والهتافات فنهض المعتقلون بالسرايا وبدأوا يرددوا الأناشيد والهتافات.
    وتحركت بنا العربات إلى القيادة العامة وعبرها إلى المطار العسكري وكنا نردد الأناشيد والهتافات وحملتنا طائرة أنتينوف إلى مطار الفاشر، ولم يخبرنا أحد إلى أين نحن متجهين وبدأ التخمين: الجنوب، شالا، بورتسودان، وبعد قليل أسقطنا بورتسودان لأن الطائرة كانت تتجه عكس شروق الشمس، وفجأة قام الزميل طه بصير وربط بشكيرا في نصه ممثلا دور المضيفة وقدم لنا حلاوة ولا يعرف أحد من أين أتى بها طه البصير، المهم أن ذلك رشح طه البصير لكي يصبح مسؤولا عن الكميون عندما أستقر بنا المطاف في زالنجي. وكنا نضحك في الطائرة ونتبادل النكات والقفشات بينما كان حراسنا من العساكر والضابط المرافق يلزمون الصمت وينظرون إلينا في حيرة.
    وعندما أصبحنا فوق الفاشر: صحت الفاشر، خزان غولو، فنظر المهندس صديق يوسف وكان قد عمل مهندسا تنفيذيا لكهربة الفاشر عند تنفيذها: نعم هذه الفاشر، فبدأنا نخمن شالا ولا الخير خنقة (والأخير هو اسم السجن القديم في داخل الفاشر بينما الأول سجن حديث بناه إبراهيم عبود جنوب مطار الفاشر وعلى بعد 10 كلم من قلب الفاشر).
    خرجت من الفاشر عام 1967 بعد أن قضيت بالفاشر الثانوية 4 سنوات من أجمل سنين عمري، فقد درست الثانوي في تلك المدرسة العظيمة التي خرجت الشهيد أحمد القرشي طه وتاج السر مكي أبوزيد وبري عبدالرحمن وعثمان محمد الخير. لقد إلتحقت برابطة الطلاب الشيوعيين بمدرسة الفاشر الثانوية وكان إسمها الحركي رطش غولو، درسني في تلك المدرسة نفر من كرام الأساتذة من أمثال الأساتذة أبو حمد حسب الله (عربي وإنجليزي ودين!) ومالك محجوب محمد خير (تاريخ) ومحجوب ماث وبدر علي (فيزياء وكيمياء) و علي ابو الزين (عربي) وكمال بشير (جغرافيا)، وزين العابدين الطيب (رياضيات)، والمصري مصطفى (جغرافيا) وديفيد روبرتسون ومستر كنج (إنجليزي)، وحسن الطاهر وأحمد عمر وعمار (فنون) وحسن قاسم وهشام هاشم الكمالي (فيزياء) و المرحوم محمد البشير الحسن (عربي)، ومحجوب الخزنة (رياضيات) والأساتذة المصريون مكرم (إنجليزي) وحليم وبسيونيي (علوم أحياء وكيمياء) . وكان ناظر المدرسة عندما ألتحقت بها أحد المربين الأفاضل العظام وهو المرحوم الأستاذ أحمد هاشم والذي ضمن طلاب السنة الرابعة جميعا عندما تظاهروا في إكتوبر وتم إعتقالهم بسجن شالا وكان الضمان هو منزله الذي لم يكتمل بنائه بعد ثم جاء بعده الأستاذ الكبير والمدهش عمر حسن مدثر المعروف بعمر ماث لتفوقه في تدريس تلك المادة.
    خرجت من الفاشر إلى جامعة الخرطوم وأنا أحمل الشهادة السودانية (Grade One) لأدخل كلية الإقتصاد وعدت للفاشر معتقلا ولم أكمل الجامعة بعد.
    الإستقبال في مطار الفاشر
    كان في إستقبالنا بمطار الفاشر قائد القيادة الغربية العميد محمد خير عمر أزرق وقاضي المديرية وعدد من ضباط البوليس والجيش والسجون، وكان العميد أزرق قد تقدم للقائنا وعندما بدأنا الهتاف تسمر للحظة في مكانه ثم تقدم نحو حسن قسم السيد وأخذه بالأحضان ثم قام الضابط المرافق بتلاوة قائمة طلب منها أن تأخذ عربة و الباقين في عربة أخرى وتو جهنا إلى شالا حيث دخلت مجموعة شالا إلى العنابر وهم:
    دكتور خالد حسن التوم، حسن قسم السيد، السر الناطق، محجوب شريف، مصطفى حامد السيد، حسن بيومي، السر شبو، مولانا الأستاذ محمد ميرغني نقد، المهندس صديق يوسف إبراهيم النور، يوسف همت، كمال كمبلاوي، احمد عبد الله هلال، الخاتم عدلان، عوض شرف الدين، عوض الصافي، السر النجيب، صالح خليل، محمد ضو البيت، بابكر سعيد،
    عبد القادر سيد احمد، فخر الدين إتحاد الشباب، السر محمد شبو،
    وبقينا نحن في الحوش وكنا مجموعة تضم:
    عبد الله علي إبراهيم، عبد المجيد النور شكاك، سعودي دراج،محمد خلف الله، أحمد المصطفى، ياسر الطيب، إبراهيم جاد الله، مبارك بشرى، نادر القاضي، السر النجيب، صدقي كبلو، محمد الشايب عبد الله مالك، فاروق كدودة، عبد الرحمن كمبلاوي، علي بخاري، عثمان يوسف، طه البصير، مكي عبد القادر، صالح عبد الله البحر، حسن قسم الله، مصطفى احمد الشيخ، جلال السيد
    وتم تقديم اٌفطار لنا ومن ثم تحركت بنا العربة إلى نيالا حيث أمضينا الليلة بسجنها وفي الصباح تحركنا إلى سجن زالنجي ووصلناه مساء. وقد قال محجوب شريف في تلك المناسبة:
    ودانا لشالا وعزتنا ما شالا
    نحن البلد خيرها ومستقبل أجيالها
    يالماشي زالنجى
    نتلاقى نتلاقى
    ما كلكم باقة
    اتفتحت طاقة
    وإتحدت إذلالها
    وكان بسجن شالا عدد من المعتقلين الذين تم إعتقالهم في الفاشر ونيالا، ومن بين هؤلاء:
    الأستاذ إدريس الصويم
    الأستاذ عبد الرحيم علي بقادي
    الأستاذ مكي الصويم
    الأستاذ عبد المنعم سلمان
    الأستاذ صديق أحمد البشير

    سجن زالنجي
    سجن زالنجي يتكون من ثلاث وحدات: المبنى الرئيسي وهو قلعة بناها الإنجليز أيام الحكم الثنائي كمقر لقواتهم بعد ثورة السحيني في نيالا ومكاتب في أفصى شمال السجن، ثم غرفتين في الجنوب خصصت للحرس، قيل كان معتقل بها محمد خير شنان أيام عبود بعد إنقلابه الشهير الثاني في مايو عام 1959 ويحكى أن اللواء حسن بشير نصر زاره هناك وسأله عن حاله فقال له شنان الغرفة تحتاج لتهوية أحسن تصلحها لأنك ستأتي فيها، وحدث فعلا أن أعتقل حسن بشير بعد أكتوبر في نفس الغرفة كما يوجد عنبر معزول بحوش في الغرب كان يطلق عليه إسم عنبر التباكو (التبغ)، لأن السجن كان يزرع التبغ ويخزنه في ذلك العنبر. ولقد كان نصيبنا مخزن التبغ هذا والذي سبقنا إليه معتقلون من زالنجي من بينهم مدير البنك الزراعي بزالنجي إسمه عوض من خريجي مصر ومساعده وهو من أحفاد الخليفة عبدالله وخبير زراعي يسمى كمال عبد الحفيط شنان وناشط محلي من حركة الشباب أصبح فيما بعد من سياسي مايو إسمه محمد عبدالله الدومة.
    عند وصولنا لم تكن هناك أي وجبة في إنتظارنا فقام طه البصير بإستخراج الطحنية والجبن من زوادة السرايا ونمنا فورا من إرهاق السفر.
    وعند الصباح عقدنا إجتماعا إخترنا فيه قيادتنا ومن يمثلنا لدى سلطات السجن وبدأنا تنظيم حياتنا. وعندما حان موعد الفطور لم يكن هناك فطور وعلمنا من المعتقلين المحليين أن إدارة السجن تصرف لهم وجبة واحدة عند منتصف النهار.
    وقام طه البصير مسؤول الكميون بتوزيع وجبة إفطار مما أحضرنا معنا من كوبر.
    وفي حوالي الواحدة بعد الظهر أحضروا لنا الطعام وكان في قطاعة (وهي نصف الصفيحة) وكان يطفح زيت الفول السوداني في أعلاها وتحته ما تعوم فيه قطع من القرع وقطع من اللحم، فقررنا فورا إرجاعه، وطلب المرحوم شكاك رئيس لجنتنا مكتبا لمقابلة الظابط، ويبدو أن النقاش قد إحتد مع الظابط فقرر حبس المرحوم شكاك في الزنزانة الملحقة بالقلعة وقرر حبسنا في العنبر لأن رفضنا للطعام يعتبر تمرد فقررنا الإضراب عن الطعام. واصيب الظابط الصغير بالرغب فأتصل برئاسة السجون التي قررت إرسال مأمور سجن نيالا النقيب موسى عيسى الذي ورد ذكره. وبمجرد حضور موسى عيسى إجتمع مع لجنتنا وحل جميع المشاكل: قرر أن يبنى لنا مطبخ من القش في طرف حوشنا الصغير، وأن يحضر لنا وابور جاز وحطب للطبيخ وأن يشتري لنا أدوات مطبخ وأن يطلب من الأشغال توسيع نوافذ العنبر حتى يصبح صالحا لسكن الإنسان بدلا من تخزين التبغ. وأذكر أن النقيب وهو خارج همس في أذني قائلا: "هذا شخص بلا خبرة ومغفل لو كنت مكانه لصادقتكم ورتبت ميزي معكم فأين سيجد صحبة مثلكم في زالنجي؟".
    وكانت زالنجي فترة غنية في حياتنا وكانت مجموعتنا مدهشة: طه البصير أصبح مسئولا عن الكميون فنظمه تنظيما رائعا وأقام علاقات واسعة في السجن حتى سمحوا له بالخروج لمقابلة ست اللبن وبائعة الدجاج في باب السجن. عبد المجيد شكاك كان قائدا حكيما ومحنكا ولاعب شطرنج ممتاز، ياسر الطيب وسعودي دراج عطروا سهراتنا بالغناء والأناشيد، عبدالله علي إبراهيم كان منظما بارعا للعمل الثقافي ومخرجا مبدعا لمجلتنا الناطقة، محمد خلف الله السنجك كان مسئولا عن الراديو الذي هربناه للسجن وكان يجمع ويلخص الأخبار لنا كل ليلة، مكي عبد القادر ومصطفى الشيخ وشخصي بدأنا تعليم اللغة الإنجليزية، مبارك بشرى كان مسئولا عن صحتنا، فاروق كدودة كان يدرسنا اللغة الروسية، إبراهيم جادالله كان يعلمنا الفلسفة وفن الطبيخ ويلعب الكوتشينة مع علي بخاري، وحسن قسم الله وصالح البحر كانوا يملأون السجن مرحا وبهجة، أما محمد الشايب فقد كان مشغولا بقضايا التأمين في المعتقل وبقصصه الممتعة وكان مرجعنا إذا أردنا أن نتذكر شخص أو نعرف عنه معلومات فقد كانت له ذاكرة مدهشة وكان يعرف خلقا كثيرا، أما جلال السيد ونادر القاضي فلم نستمتع كثيرا بوجودهما معنا فقد تم ترحيلهما إلى كوبر وأطلق سراحهما.
    كانت زالنجي رطبة وباردة وبها باعوض، وقد أصبت بالروماتيزم فقرر الطبيب لي مرتبة ولم يكن السجن يملك مرتبة ولكن الضابط قال لي أن هناك شخص في المدينة يسأل عنك وهو مهندس بمشروع جبل مرة، وكان ذلك هو المهندس أحمد فضل الله البلاع، الذي تطوع بإحضار المرتبة وسأل عن إحتياجاتي فطلبت منه كتب الأخوان المسلمين، فعكفت على دراستها وكتبت ورقة بعنوان "نظرية المعرفة عند الأخوان المسلمين" وأستطعت تهريبها للخارج وقرأها عبدالله على إبراهيم وقرر نشرها ولكن النسخة الوحيدة ضاعت عند المرحوم الخاتم عدلان بينما أنا في الإعتقال الثاني.
    وعلى ذكر االمهندس البلاع لا بد لي من ذكر أبناء النهود بنيالا، والذين عندما وصلهم البلاع وأبلغهم بوجودي بالمعتقل في زالنجي، ولي بينهم أصدقاء ومعارف من أمثال محمد آدم عبد الصمد والذي كان يعمل صائغا بالنهود قبل إنتقاله لنيالا وكان دكانه مع إدريس الصويم يمثل أحد منارات الفكر والمعرفة في النهود، وكان بين الأصدقاء مصطفى عوض التني وهو دفعتي بالمدرسة الشرقية الأولية بالنهود، جمعوا مالا وأشتروا كل ما يمكن أن يحتاجه المعتقل مثل الشاي والبن والعدس والأرز والمعجون والصابون والسجائر (مع أنني لم أكم أدخن حينها) ولم ينسوا حتى الخيط وإبرة الخياطة وحملوا كل ذلك للبلاع في كرتونة ضخمة كتبوا عليها (من أبناء النهود بنيالا) ولا تتصوروا كيف يكون أثر هذا العمل علي وعلى مجمل المعتقلين.
    وبمناسبة برد زالنجي لا بد من أذكر شيئا عن ذلك الإنسان المدهش مبارك بشرى وهو أحد المتفرغين الحزبيين وقد مات بينما كان مختفيا بعد إطلاق سراحه. كان الزميل مبارك بشرى قليل الحديث، حازم ولكنه كان ودودا ويملك قلبا كبيرا يسهر قرب المريض حتى يشفى ويجوب العنبر ليلا يغطي الرفاق كالأم الحنون التي تطوف على أطفالها بالليل، كان مبارك شيوعيا إنسانا من طراز فريد. وكنا نضحك من طبيعة صداقته مع المرحوم الأستاذ المناضل الرشيد نايل، فقد كانا أصدقاء ويقضيان الليل مع بعض يتسامران بكلمات قليلة كنا نسميها الكلمات المتقاطعة، وكانا يذكراني بتعريف روائي سوفيتي للصداقة عندما قال ما معناه أن الصديق هو الشخص الذي تستطيع أن تصمت في حضرته دون الشعور بالملل أو الحاجة للثرثرة.
    توطدت علاقتي أكثر مع الأستاذ مصطفى الشيخ
    كان مصطفى أحمد الشيخ شخصا مدهشا وقد عمل في مواقع مختلفة في الحزب وحركة الشباب وكان صحفيا متميزا، وقد لفت نظري أول مرة عبر خبر نشر بجريدة الميدان أيام معركة حل الحزب الشيوعى يقول أن مصطفى يقيم ندوة يومية حول الأخوان المسلمين بمنزله، ثم ساقني الأستاذ الشيخ عووضة لمنزله في عام 1968، فأصبحنا أصدقاء رغم فارق السن ولكن ظروف كل منا لم تسمح بلقائنا كثيرا، ثم عملت معه في هيئة تابعة لمكتب الرقابة، وأخيرا إلتقينا في كوبر، وكانت زالنجي وبعدها شالا فترة طيبة لكي أتعلم منه وأستمع إليه وأنهل من تجربته، وقد حزنت كثيرا عندما توفى في مايو 2003 وأنا يإنجلترا فكتبت الآتي في نعيه:
    "بينما أنا في مهمة خارج المدينة التي أسكن فيها، حملت الأخبار نعي صديقي ورفيقي العزيز المناضل الفارس الشجاع، "أخو" الأخوان و"أخو" البنات، حلال المشاكل، حافظ تاريخ الحزب، والعارف بقدر المناضلين والمناضلات، الوفي لأصدقائه، والصديق لأبنائه وبناته من شباب المناضلين ينقل لهم التجربة والحكمة دونما أستاذية وعن طريق الحكاية والونسة وتداعي الذكريات، دون تضخيم للذات وفي تواضع جم يتحدث في عفة لسان وموضوعية المؤرخ.
    أول ما لفت نظري لمصطفى وأنا طالب بالثانوي إعلان صغير بالميدان أن الأستاذ مصطفى الشيخ يعقد ندوة عن الاخوان المسلمين بداره أيام معركة حل الحزب الشيوعي، ثم ساقني صديق مشترك لمنزله القديم ببري المحس عام 1968، حيث كان الأصدقاء يتحلقون حوله في سهرة ذات طعم خاص لأنها ندوة صغيرة، فداومت الحضور وأصبحنا أصدقاء رغم فرق العمر والتجربة، ثم جمعنا العمل الحزبي، ثم جمعنا المعتقل في كوبر وزالنجي وشالا وكانت تلك فرصة العمر فقد تعلمت منه الكثير خاصة في مجالات تاريخ الحزب والتأمين، لدرجة أن نظام نميري الذي أعتقلني لمدة 86 شهرا خلال 6 مرات لم يقبض عندي ورقة أو مطبوعا حزبيا أو لم يقبضني في إجتماع، ولعل الفضل في ذلك جله يرجع لما تعلمته من مصطفى فترة الإعتقال من قواعد التأمين.
    مصطفى تقريبا عمل في كل مجالات الحزب والعمل العام، عمل ببري والفاشر وبالخارج حيث مثل إتحاد الشباب السوداني في وفدي، وكان سكرتيرا لإتحاد الشباب السوداني حتى ثورة أكتوبر 1964 وعمل بوكالة أنباء الخرطوم التي كان يملكها شقيقه سعد أحمد الشيخ، وعمل في مجال الرقابة الحزبية، وفي مجال النشر وكان مديرا لمؤسسة القرشي للطباعة والنشر حتى إعتقاله في 1971، ثم عمل في تنفيذ شارع الخرطوم كوستي، وبعد الديمقراطية عمل في دار الوسيلة للطباعة والنشر، وكان من كتاب الميدان العلنية والسرية، ولعل أهم ما يفتخر به أنه دائما كان عضو فرع الحزب يشارك في عمله في تواضع وينقل الخبرة والتجربة دون من أو تعال.
    ومصطفى المناضل والصديق رجل عائلة مدهش، أحببنا عائلته من خلال حبه لها، وظللنا و ما زلنا نكن حبا لصفية وشختة وحته (وهي أسماء الود لإبنيه) ولأخيه المرحوم سعد وعائلته، فلصفية وإبنيه وأبناء وبنات المرحوم سعد ولكل آل أحمد الشيخ أدريس و آل المشرف الشيخ أدريس بالبراري ، الخرطوم ، السودان ولكل أعضاء الحزب وأصدقائه التعازي الحارة"

    أيضا سمح لي معتقل زالنجي بالتعرف عن قرب على المناضل والنقابي سعودي دراج، وكنا نتناوب مكي عبد القادر ومصطفى الشيخ تدريسه الإنجليزية، وسعودي رجل ذو مواهب متعددة، فإلى جانب قدراته الفنية والمهنية كنجار، فهو ممثل ومغني، ولا عب كرة قدم وفولي، ورجل ساخر ولا يبحث عن الطرفة. وهو قارئ ممتاز وشيوعي مهموم بقضايا الوطن والطبقة العاملة ونقابي محترم وقد أدهشني عندما ألتقيته في المعتقل عام 1977 وكان قد أعيد من معتقل الأبيض لكوبر، فقد كان يقرا الروايات الإنجليزية بطلاقة.
    ولقد تعرفت عن قرب في زالنجي بالصديق فاروق كدودة وقد درست عليه مبادئ اللغة الروسية، وتناقشنا كثيرا حول الإقتصاد وقد إختلفنا حول مسألتين: الأولى كانت حول التناقض الأساسي في العالم فكان هو يتمسك بالموقف السوفيتي بأنه بين الإشتراكية والرأسمالية، وكنت أقول أنه بين حركة الطبقة العاملة (والمعسكر الإشتراكي أحد تجلياتها) وحركة التحرر الوطني من جهة والرأسمالية العالمية من جهة أخرى وكان يتهمني بالوقوع تحت تأثير الصينيين، أما المسألة الثانية فكانت حول الخطة العشرية وما حدث من تطور إقتصادي أيام عبود، فكان يقول أن ما حدث لم يكن تنمية، وكنت أقول أنها تنمية ولكنها التنمية الرأسمالية في البلدان النامية، و لايمكن لطريق التطور الرأسمالي في هذه البلدان أن ينتج شيئا مختلفا، فتلك هي التنمية الرأسمالية التي تسمح بها التبعية. ولقد فادتني تلك المناقشات المبكرة في تكوين آراء إقتصادية مستقلة وحفزتني فيما بعد على القراءة، فكم أنا ممتن لإعتقالي مع فاروق كدودة.
    كان فاروق كدودة مفاوضا ممتازا لإدارة السجون وكان يتميز دائما بالصبر وطول البال وكان يتمتع بإحترام رفاقه في المعتقل وإدارة السجون.
    وسمح لي المعتقل أيضا بالتعرف من قرب على عبدالله علي إبراهيم، الذي كان بالنسبة لنا ونحن طلاب في الثانوي والجامعة، أسطورة من خلال كتاباته في الميدان وأخبار الأسبوع والصحافة مثل مقالته الشهيرة ""إلى اللقاء بدار الحزب بالخرطوم" و "الحمدالله الذي لا يحمد على مكروه سواه" "ويا أحزان السودان إتحدي في تمام الساعة السادسة بتوقيت السودان المحلي، ومقالته الشهيرة حول التجاني الماحي، والبيان الذي صاغه عند إعتقال عبد الخالق محجوب في مارس 1970 نيابة عن أبادماك وكان عدد من رفاقنا يحفظونه عن ظهر قلب ومسرحيته الشهيرة التي مثلت في ساحة الشهداء وتلك التي عرضت بدار الثقافة عن أحداث جودة وغيرها وغيرها. وعبدالله على المستوى الشخصي إنسان ودود وصديق صدوق يأخذ مسألة الإطلاع والتثقيف والكتابة الإبداعية مأخذ الجد وقد قلت في غير هذا المكان كيف أنه من خلال نشاطه الثقافي والإبداعي جعل المعتقل أكثر إنسانية وأكثر فائدة. وأذكر كيف إحتفى عبدالله عندما عرف أنني أكتب خطابا لنفسي في عيد ميلادي كل عام أجرد فيه حصاد العام وأضع أهدافا لنفسي، وكنت قد تعلمت ذلك من أستاذي المرحوم أبو حمد حسب الله، الذي درسني بالثانوي والذي صدف أن كان نبطشيا في المدرسة فجاء يفقدنا في المذاكرة ووجدني أقرأ كتابا من مطبوعات مركز كارنجي الأمريكي عن السايكولوجي وبناء الشخصية، فدخل معي في مناقشة عن الكتاب وكيف أستفيد منه وأقترح علي أن أختار مناسبة في العام أحاسب فيها نفسي وأخطط للمستقبل، وقد داومت على ذلك لفترة من شبابي، إحتفى عبدالله بذلك وفاجأني بأن أقرا الخطاب في حفل أقامه الرفاق بعيد ميلادي وتحت إصراره قدمت تلخيصا للخطاب وكانت تلك من الليالي التي لا أنساها.
    وتعرفت أيضا عن قرب على المرحوم عبد المجيد النور شكاك، وهو شيوعي مخلص عمل في مجالات مختلفة من ضمنها العمل وسط صف الضباط والجنود الشيوعيين وكان رجلا كتوما صارما وكان في نفس الوقت شخصأ حنونا يعتني بتفاصيل حياة الرفاق كما كان لاعبا ممتازا للشطرنج وكان يقضي كثير من وقت الفراغ يلعب الشطرنج مع الرفيق حسن قسم الله الذي كان يعمل بالبنك الزراعي وهو زراعي من خريجي مصر وكان مطبوعا بحب الطبيعة ويطلق صرخة عندما تهب نسمة قائلا "الله يا نيرتيتي" وهي منطقة بها بساتين ومزارع في جبل مرة ولا تبعد كثيرا من زالنجي.
    وكان المرحوم مكي عبد القادر، وهو مريض بالقرحة من أثر إعتقالات نظام عبود، قد إختار ركنا في العنبر قصيا، يكتم آلامه عنا، ويمسك بكتابه طول الوقت، وكنت أجلس أليه في فترات مختلفة أساله عن بعض قضايا تاريخ الحزب والحركة الجماهيرية، وحدثني كثيرا عن أحداث جودة ومظاهراتها وعن محاكمته في تلك الأحداث التي حوكم فيها حسن الطاهر زروق (وكان نائبا برلمانيا وسأحدثكم عن محاكمته عندما أتحدث عن مولانا عبد الرحمن النور) ومحمد السيد سلام (وكان رئيسا لإتحاد العمال).
    ولا يمكن الحديث عن معتقل زالنجي دون الحديث عن الزميل صالح البحر، ذلك الرجل المرح اللماح وحاضر البديهة والذي يمثل جزءا من تراث الحزب بمدينة أم درمان. كان صالح ملتحيا ويلبس الجلباب ويتلفح بملفحة وعندما جاء العسكر في الصباح كانوا حريصين على السلام عليه وكاد بعضهم أن يقبل يديه فقد إعتقدوا أنه من بيت الإمام المهدي، لقد لعب صالح دورا مهما في المعتقل فهو أول من رقد بالمستشفى وفتح لنا عالم زالنجي الخفي ونظم لنا دورة لقضاء وقت بالمستشفى، وكان ساعده الأيمن في ذلك الإختراق محمد عبدالله الشايب.

    رحلتنا للعلاج
    قرر الطبيب إرسال أربع منا للعلاج بمستشفى الفاشر: عبدالله علي إبراهيم، مصطفى الشيخ، محمد الشايب وشخصي، وكان ذلك يعني ترحيلنا مؤقتا لسجن شالا، فكانت مناسبة لنا لنتعرف على وضع الرفاق هناك. وكم كانت دهشتنا أن نجد أن الرفاق هناك يعيشون في وضع سئ للغاية فقد كانت العنابر تقفل عليهم من السادسة مساء وحتى السادسة صباحا، وكان طعامهم رديئا يأتي من مطبخ السجن، فنقلنا لهم تجربتنا وقضينا في صحبتهم قرابة الشهر، قبل أن نرحل إلى زالنجي.
    كان قمندان سجن المديرية العميد مدثر رجلا معقولا ومهذبا ولكن حكمدار سجون المديرية والذي كان مسئولا عن السجن وإسمه علي كرم الله فقد كان رديئا في تعامله مع المعتقلين ولا ينجز ما يعد ويرفض معظم المطالب. وأضطر الرفاق أثناء وجودنا للدخول في الإضراب عن الطعام ليومين ورفض دخول العنابر بالمساء، مما إضطر سلطات السجن لمفاوضتهم والقبول بفتح العنابر والسماح لهم بشراء بعض الحاجيات من أماناتهم و ولكنهم رفضوا السماح لهم بإعداد طعامهم وقد قاد تلك المفاوضات الدكتور خالد حسن التوم والنقابي المتمرس حسن قسم السيد.
                  

05-31-2009, 09:20 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري (6) .. بقلم: صدقي كبلو
    الأحد, 31 مايو 2009 22:32
    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته

    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983
    الاعتقال الأول 23 يوليو 1971 -15 مايو 1973
    ولسه ولسه عبد الخالق المقدام بقود الصف
    محجوب شريف يملأ شالا شعرا
    رغم ذلك فكان الرفاق يعيشون حياة رفاقية ثرة، ينظمون عملهم الثقافي ولياليهم الترفيهية، وكان محجوب شريف يملأ السجن شعرا. نظم محجوب في هذه الفترة قصيدة ودانا لشالا التي ذكرتها سابقا ونظم قصيدة بمناسبة الذكرى الثانية ل19 يوليو قال فيها:
    ملينا الدفتر الأول حنملا الدفترالثاني بكل عزيز وإنساني
    ولسه ولسه عبد الخالق المقدام يقود الصف
    ونحن معاه كف فوق كف
    وهاشم قاطع الحدين
    لسه ولسه يملا العين
    يعيشوا ومت يا سفاح
    ومات الموت
    حسير الصوت
    ويا يابا الشفيع الساس
    وضلالة هجير الصيف
    ويا تار البلد جوزيف
    ويا يوليو القلم والسيف
    وضابط حر شديد البأس
    مشينا ونمشي
    ونتحزم بمجد الشعب
    والنبراس
    ونظم محجوب قصيدته الشهيرة عن عبد الخالق والتي يقول فيها:
    إسموعبد الخالق
    ختاي المزالق
    أب قلبا حجر
    يا أرض الوطن
    يا أمو العزيزة
    ختالك ركيزة
    دائما باقية ليك
    في الحزب الشيوعي
    طيري يا يمامة
    وغني يا حمامة
    وبلغي اليتامى
    والخائفين ظلاما
    عبد الخالق حي
    وبالسلامة
    في الحزب الشيوعي
    الفارس معلق
    ولا الموت معلق
    حيرنا البطل
    طار بحبلو حلق
    فج الموت وفات
    خلا الموت معلق
    في عيننا بات
    وسط الناس نزل
    بالحزب الشيوعي
    ونظم محجوب قصيدة عن الشفيع قال فيها:
    واحلالي أنا وا حلالي
    أريتو حالك
    يابا حالي
    أموت شهيد نجمي البلالي
    وأخلف إسما لي عيالي
    الشفيع يا فاطمة في الحي
    في المصانع وفي البلد حي
    سكتيها القالت أحي
    ما عماره الأخضر الني
    بدري بكر خضر الحي
    ومات شهيد أنا واحلالي
    يا المصانع يالسكك الحديد
    يا ورش نارها بتقيد
    يا عمال الميناء البعيد
    جروا حبل اليوم السعيد
    وشايفوا قرب أنا واحلالي
    أحمد أحمد تكبر شيل
    إسم أبوك في النجم والنيل
    خظ أبوك بالدم النبيل
    كل زهرة وزهرة إكليل
    ومات شهيد أنا واحلالي
    ونظم محجوب قصيدة "مشتاق لك كتير والله" والتي يقول فيها
    مشتاق لك كتير والله
    وللجيران والحلة
    وقام قطر النضال ولا
    وغالي علي أدلا
    محطة محطة بتذكر
    عيونك ونحن في المنفى
    بتذكر مناديلك
    خيوطها الحمرة ما صدفة
    وبتذكر سؤالك لي
    متين جرح البلد يشفى
    ومتين تضحك سما
    الخرطوم حبيبتنا
    ومتين تصفى
    سؤالك كان بعذبنا
    ويقربنا
    ويزيد ما بينا من إلفة
    وأقول يا صباح العين
    بسامحك لو في يوم
    نسيتيني
    بكيت علي
    لو في يوم
    خنت الثورة
    جيت والذل في عيني
    بس لكني
    يا ويلي ياويلي
    أقبل وين لمن أخون صباح العين
    وأخون جيلي
    وأقول لك يا قمر ليلي
    وحاة أمنا الخرطوم
    أشد حيلي
    وأشيل شيلي
    وأموت واقف علي طولي
    وأقول لك يا صباح العين
    على الوعد القديم جايين
    ما بين الثورة والسكين
    شيوعيين وحتى الموت شيوعيين
    واقول لك يا صباح العين
    بنادق وين
    بتمنعنا العديل والزين
    بنادق وين
    ونظم محجوب أغنيته المدهشة "يا بنوتنا غنن"
    يا بنوتنا غنن
    فارسا (أسدا) هاج وقرقر
    دة لموتو حقر
    أبدا ما مات محقر
    وبالرصاص منقر
    هاشم يا غناي
    وفاروق يا مناي
    ود النور حبابك
    يا سمح السجاي
    ويبدو أن الذاكرة لا تسعفني وأنا أكتب الآن بعد 33 عاما.
    محمد ميرغني نقد يتذكر أغاني الشفيع
    وكانت من أجمل اللحظات التي قضيناها في شالا قبل عودتنا لزالنجي هو سمرنا مع المرحوم الأستاذ محمد ميرغني نقد والذي حكى وحكى عن ذكريات الطلبة وعن رحلات إتحاد الجامعة لجبال النوبة وعن أصدقائه ولكني دائما أتذكر حديثه الشجي عن أغاني الشفيع وأشعار محمد عوض الكريم القرشي: في الشاطئ يا حبان ساهرتوا بينا، ورب الجمال، والحالم سبانا، والذكريات وإله فني هاك قول عني ... تعرفت عن طريقه على أروع شعر الغناء فيا له من فقد عظيم.
    والخاتم يغني لوردي
    وفي ليالي السمر كان الرفاق يحلو لهم أن ينادوا الخاتم عدلان بالطفل المعجزة ويطلبوا منه أن يفك آخره، وكان آخر الخاتم أغنية محمد وردي الخفيفة التي تقول "توعدنا وتخلف بالصورة" وكان يغنيها غناءا شجيا فيبدو أنها كانت تمس فيه وترا خفيا لم يكشف لنا سره.
    والسر الناطق شيخ الصمودي
    ولعل الرفاق الذين كانوا في شالا يذكرون جميعا المرحوم السر الناطق وشخصيته "شيخ الصمودي" التي إخترعها في كوبر وظل يقدمها من خلال المجلة الناطقة، وهي تجربة مدهشة في الكوميديا السياسية الثورية، يعلق فيها شيخ الصمودي من خلال حديثه الفكه على الأحداث السياسية والأحداث في المعتقل ويسرب من خلالها يعض المعارف والقيم الثورية، والسر الناطق إلى جانب قدرته على التمثيل وأداء الدور الكوميدي، فنان يصمم ديكور المسرح وملحن يلحن الأناشيد ويأديها مع المجموعة التي تضم حسن قسم السيد الخاتم والسر النجيب وأحمد عبدالله هلال وطه سيداحمد وعبد القادر سيدأحمد، وفوق كل ذلك كان طباخا ماهرا وإنسانا بديعا.
    وحسن قسم السيد يغني لحسن عطية وأحمد المصطفى
    وكان ضمن مبدعي شالا الزميل الأستاذ حسن قسم السيد، وهو من جيل الشيوعيين المناضلين في الحركة النقابية وسط الموظفين و كان زعيما لنقابة البريد البرق وسكرتيرا لإتحاد الموظفين. وكانت الحركة النقابية السودانية حينها تتشكل من ثلاث إتحادات رئيسية: إتحاد نقابات عمال السودان وإتحاد المعلمين والمعلمات وإتحاد الموظفين، وكانت الإتحادات الثلاث منضوية تحت المجلس العام للنقابات بينما كان المهنيون منظمين في جمعيات علمية، تمارس بعض العمل النقابي كالجمعية الطبية وهي أقدم تنظيم مهني في السودان والجمعية الهندسية، وكانت هناك أيضا روابط الجامعيين بالوزارات والتي نشأت بعد أكتوبر. ولعل أكبر جريمة إرتكبها نميري خلال حكمه هي تحطيم الحركة النقابية الديمقراطية وإخضاعها لجهاز الدولة من خلال قانون فرض عليها هيكلها وشكلها التنظيمي، وبإعدامه لقائد الطبقة العاملة الشفيع أحمد الشيخ وزجه خيرة قادة النقابات المدربين والمخلصين في السجون والمعتقلات.
    كنت أعرف حسن قسم السيد منذ عام 1967 فقد تعرفت عليه من خلال الأستاذ الأمين حامد الأمين وهو من نقابي البريد والبرق وكان احد قادة الحزب الشيوعي بحي البوستة حيث كنت ألتحق في الإجازات، وكان حسن قسم السيد كثير التردد على الأمين الذي كان منزله منارة حزبية ونادي إجتماعي، بينما كان منزل أخيه الأستاذ عبدالله حامد الأمين منارة ثقافية فقد كان مقرا للندوة الأدبية.
    حسن قسم السيد شخص ودود ورقيق وذو ثقافة وعلاقات واسعة، وكان ذا صوت جميل يحب أن يترنم بأغاني حسن عطية وأحمد المصطفى، وكان يسهم في قيادة المعتقل إسهاما فعالا مستفيدا من قدراته في العمل النقابي في التفاوض مع قيادة السجن.
    حسن بيومي ينظم الكميون
    ومثلما كان طه البصير يدير كميون المعتقل في زالنجي، كان حسن بيومي يدير كميون شالا، وحسن بيومي من قدامى العمال الشيوعيين وكانت له إسهاماته في الحركة الرياضية خاصة في مجالات تنظيم الشباب وفرق الليق وألعاب القوى وكان شخصا ودودا وحازما. والحق يقال كان حسن بيومي رجل رهيف وحساس ويعامل الرفاق بحنو واضح رغم محاولاته أن يكون حازما في إدارة الكميون.
    وسليم أبوشوشة يسألني فيدفعني لتجويد معارفي الإقتصادية
    كان من بين المعتقلين في شالا عدد من النقابيين فكان هناك عبد القادر سيدأحمد وطه سيدأحمد والسر النجيب وأحمد عبدالله هلال وسليم أبو شوشة وكان الحزب وإتحاد النقابات قبل 19 يوليو يهتمون جدا بتعليم طلائع العمال في الداخل والخارج في مدارس حزبية ونقابية.
    وذات يوم بينما نحن جلوس في ظل الظهيرة، سألني سليم أبو شوشة وهو رجل ذكي لماح، عم ماذا أدرس في جامغة الخرطوم فقلت إقتصاد، فقال لي طبعا يدرسونكم الإقتصاد البرجوازي، فقلت نعم فسألني كطالب شيوعي بكلية الإقتصاد عرف لي فائض القيمة، فتلعثمت وقلت له تعريفا لم أكن متأكدا منه. وخجلت من نفسي خجلا شديدا، وعندما رجعت لزالنجي توفرت لمراجعة الإقتصاد السياسي ولم أكن حينها رغم أنني طالب إقتصاد أهتم به قدر إهتمامي بمراجعة الفلسفة الماركسية، ورغم أن إهتمامي بالفلسفة إستمر حتى الآن، إلا أنني بدأت أدرس بإهتمام وتجويد أكثر الإقتصاد السياسي، وعندما قابلت أبوشوشة في المعتقل عام 1979 وكنت أدرس فصلا للإقتصاد السياسي كان هو أحد طلبته كنت متأكدا من كل كلمة أقولها، وكان الفضل في ذلك يرجع له. ,أذكر أنني كنت أراجع مع الأستاذ نقد عام 1986 كتابا مدرسيا للتعليم الحزبي في الإقتصاد السياسي، فسألني : إنت قرأت في جامعة الخرطوم فكيف تعلمت الإقتصاد السياسي؟ فحكيت له حكاية سليم أبوشوشة فقال لي ضاحكا طبعا سليم أعرفه ولا يمكن أن ينخدع بأي كلام.
    وبابكر سعيد يدخل زنازين الخير خنقه
    كان بابكر سعيد مهندس الطباعة، خريج ألمانيا الديمقراطية، رجل أسد، لا يخاف، وكان لابد له أن ينفجر أزاء المعاملة غير الإنسانية في شالا وخاصة عندما تكون تلك المعاملة من طبيب، يفترض وفقا لطبيعة مهنته وما أداه من قسم، أن يمارس تلك المهنة في علاج المعتقلين السياسيين، مثلما يمارسها أزاء الآخرين، ولكن دكتور المعتصم، لم يكن في رأي بابكر سعيد يفعل ذلك، فتصدى بابكر لمواجهته، وكانت النتيجة أن أرسل بابكر لزنازين "الخير حنقة"، السجن القديم بالفاشر والذي بناه علي دينار، وحافظت عليه السلطات الإنجليزية. وكنت قد زرت الخير خنقة للمرة الأولى عام 1964 لزيارة أخي محمد عوض كبلو الذي كان قد رحل من كوبر إلى الخير خنقة ليكمل عقوبة، وكان التجاني الطيب قد أكمل مدة حكم بتفس السجن في بداية عام 1964.
    وما زلت أذكر منظر بابكر سعيد وهو قادم من الخير خنقة، وقد هب الجميع لإستقباله، وهو يصيح فينا "ما في حد يقرب مني، أنا ملابسي وجسمي مليانه مرقوت"، ثم بدأ قلع ملابسه ملقيا بها في الشمس، ودخل للحمام ثم جاء لتحيتنا، والزنازين لم تطفئ حماسه ولم تأثر على صوته الداوي.
    وقد حقق لنا بابكر إنتصارا بتحسين الخدمات الصحية، وإبعاد دكتور المعتصم من عيادتنا.
    وعدنا لزالنجي
    وبمجرد إنتهاء علاجنا تم إرجاعنا لزالنجي، فعدنا لبرنامج المعتقل: تدريس الإنجليزي، دراسة وثائق المؤتمر التأسيسي للإتحاد الإشتراكي و برنامج المحاضرات العامة والذي أسهم فيه الزملاء فاروق كدودة وعبدالله علي إبراهيم وإبراهيم جادالله وعدت أنا لدراسة فكر الأخوان المسلمين وكتبت ورقتي عن نظرية المعرفة عن الأخوان والتي إستطعت تهريبها كما أسلفت وبدأت دراسة منهجية للإقتصاد السياسي مستخدما الكتاب الوحيد الذي تحصلنا عليه حينها كتاب نيكتين "أسس الإقتصاد السياسي". وأنتظمت المجلة الناطقة والتي كان يشرف على تحريرها عبدالله علي إبراهيم ويساعده ياسر الطيب وكمال شنان وشخصي، وكان يغني في لياليها النقابي والشيوعي المدهش سعودي دراج، وعضو اللجنة المركزية الزميل المرحوم شكاك. وكان المرحوم محمد خلف الله يتحفنا ببعض أغاني الشايقية وأحيانا عندما يصفو مزاجه بعض أغاني عثمان حسين.
    لقد كان كمال شنان قصاصا وروائيا من طراز فريد وكم أتمنى أن يكون قد كمل ملحمته عن جده شنان الكبير ذلك الشخص الأسطوري (او الذي جعلني من خلال حكاويه أن أعتقد في أسطوريته).
    وبدأنا نشاطنا الرياضي بإقامة ميدان فولي بول، وبرز في اللعبة عبدالله علي إبراهيم وفاروق كدودة وياسر الطيب وسعودي دراج ومحمد خلف الله، وعدت للعب الفولي كأنني لم أتوقف عنه لمدة تزيد عن العشرة سنين.
    وبينما أستقر بنا المقام وجاء عمال الأشغال ووسعوا الشبابيك وأصبح العنبر صالحا للسكن، أخبرنا ضابط السجن بأنه تقرر ترحيلنا إلى شالا.
    وتم ترحيلنا إلى شالا
    وعدنا لشالا لنجد أن الوضع لم يتحسن وما زال الرفاق يتلقون الطعام من إدارة السجن وهو ردئ، وكثيرا ما يتأخر الفطور بشكل مزعج ، وأن العلاج غير منتظم ولا توجد عربة للطوارئ، ولا توجد كتب بالمعتقل، والخطابات تخضع للقراءة من قبل الأمن والسجن معا، ولا يسمح للمعتقلين بالخروج للرياضة في ساحة السجن. فقرر الزملاء بعد مداولات وبعد الإطلاع على تجربة زالنجي الدخول في إضراب عن الطعام لمدة خمس أيام مطالبين بإطلاق سراحهم، وحتى يتم ذلك بإعطائهم سراير وإعطائهم موادهم الغذائية لطبخها والسماح لهم بالكتب والمجلات والجرائد والراديو وبتحسين العلاج وتنظيمه ووضع عربة تحت تصرف إدارة السجن للطوارئ.
    وفور إعلاننا للإضراب جاء القومندان والحكمدار ولكن المفاوضات معهم لم تصل إلى حل. وأستمر الإضراب ليومين آخرين وفوجئنا في اليوم الثالث بوصول السيد ميرغني أبو الروس نائب مدير السجون، وبدأ في مفاوضات جادة شارك فيها الدكتور خالد حسن التوم والأستاذ حسن قسم السيد والزميل فاروق كدودة، وكالعادة بدأ أبو الروس بالدعابة فقال لفاروق "أسمع يا فاروق أنا عارف إنكم لما تقوموا لصيامكم عن الطعام أجعص مسلم ما يقدر ينافسكم، أنا بعرفكم من أيام ناقشوط، لكن في حاجات أنا بقدر أعملها وفي حاجات ما بقدر لأنها من إختصاص الأمن، والبقدر عليه هو بديكم موادكم الغذائية، بديكم سراير، بسمح ليكم تشتروا ما تريدون من أماناتكم، بسمح ليكم بالرياضة في الحوش، بجهز ليكم عربية وبشوف مع ناس المستشفى إذا ممكن يعملوا عيادة هنا منتظمة"
    أما إطلاق السراح فوعد برفع الطلب للأمن، أما الترحيل للخرطوم فقال سيناقش المسألة في الخرطوم وإنشاءالله سيقنعهم.
    وعندما إجتمعنا لوحدنا وافقنا على فك الإضراب تحت إشراف طبي، فضحك أبو الروس وقال "إنتو عندكم زعيم الأطباء اللي يامر بيه ننفذه" وكان يقصد دكتور خالد الذي كان سكرتيرا للجمعية الطبية وأصبح وكيلا لوزارة الصحة، وفعلا حدد دكتور خالد قائمة من الأطعمة والمشروبات الساخنة لفك الإضراب تشمل شوربة عدس دافئة وأرز باللبن وبرتقال، وأحضرت إدارة السجن كل ذلك، زائدا السراير، وفي الصباح أحضر الشاويش مساجين شيدوا مطبخ من القش وأحضر لنا أدوات مطبخ جديدة.
    ثم إنتظمت حياتنا الثقافية والرياضية والترفيهية. وبدأت دراستنا عن الإقتصاد والفلسفة تأخذ بعدا أعمق، خاصة بعد أن هرب لنا الرفاق بالفاشر بعض الكتب الماركسية وبعد أن وصلتني كرتونة كتب من أم درمان بها كتب متنوعة في الإقتصاد والأدب، وكم أذكر إحتفائنا بكتاب "الدون الهادئ" لشولخوف وكيف أننا كنا نمرر أجزاءه الأربعة بالصف بين القراء، رغم أنه كان الطبعة الإنجليزية، وكان بين الكتب التي تحصلنا عليها وفادني كثيرا كتاب مأخوذ من المجلد الأول لرأس المال وهو يمثل الجزء الثامن ويحتوي على الفصول من السادس والعشرين وحتى الثالث والثلاثين. وكان الكتاب يعالج مسألة أصل رأس المال والتراكم البدائي لرأس المال. وقد كان لذلك الكتاب أثر كبير في كسر الرهبة من قراءة رأس المال والذي توفرت لي ظروف أفضل في المعتقل الأخير لدراسته بتأني.
    وقد قدمت ذلك الكتاب في محاضرة، أثار خلالها الأستاذ عبدالله علي إبراهيم قضية ظلت تشغلني حتى الآن وهي قضية التراكم الرأسمالي في السودان وشرائح الطبقة الرأسمالية وأقسامها، فقد أشار عبدالله إلى الجهد الذي بذل في الماركسية وقضايا الثورة السودانية لتتبع نمو تلك الطبقة ومجالات إستثمارها وقد حفزتني تلك المناقشة للإهتمام بأمر الرأسمالية السودانية، وبدأت بحثا عن التطور الرأسمالي في الإعتقال الأخير ثم نشرت مقالات بعد الإنتفاضة عن أقسامها وواصلت دراستي لها حتى الآن.
    وقدم الخاتم عدلان محاضرات في الفلسفة الماركسية، وقدم عبدالله علي إبراهيم محاضرة عن كتاب باسترناك "دكتور زيفاجو" وقدمت محاضرات في الإقتصاد السياسي والإقتصاد السوداني. وبدأ كدودة فصلا لدراسة اللغة الروسية ولكنه للأسف نقل إلى كوبر قبل أن يتمكن تلاميذه، وكنت منهم لتجاوز الفترة الحرجة في تعلمها.
    ولعل من الذكريات التي لا تنسى إحتفالنا في المجلة الناطقة التي أسميناها "غولو" على الوادي والخزان الذي تشرب منه مدينة الفاشر. فقد قمنا بإعداد عدد خاص للمجلة كانت صورة الغلاف، التي قمت بإخراجها وكان عبدالله علي إبراهيم قد سبقني في فعل ذلك في كوبر، كانت صورة الغلاف عن حادثة رويت في كتاب "عشرة أيام هزت العالم" عن جندي كان يحرس قصر الشتاء أثناء الثورة البلشفية وجاءه طالب من المنشفيك يحاول أن يناقشه، فبينما كان الطالب يطرح قضايا فكرية معقدة حول الثورة الديمقراطية والثورة الإشتراكية كان الجندي يختصره ويقول له " أنت مثقف وتعرف أشياء كثيرة أما أنا فأعلم شيئا واحدا فقط أن لينين معنا نحن الفقراء فمع من أنت؟"، وأذكر أن السر الناطق وشخصي كنا نعد لتحضير المجلة الناطقة وكنت إلى جانب عملي في تحريرها، وكان عبدالله على إبراهيم يرأس تحريرها، كنت أعمل "كصبي ديكور" مع السر الناطق وقفلنا العنبر علينا إذ أن السر لا يحب الإزعاج عندما يعمل في أي عمل فني، وبينما نحن منهمكين في تجهيز المسرح إذا بباب العنبر يفتح ويطل علينا حسن بيومي بكوبي شاي وسجارتين للسر (ولم أكن أدخن وقتها)، وكنا نعد عددا خاصا بثورة أكتوبر الإشتراكية فقال لي السر ضاحكا "طبعا صاحبنا ستاليني عريق، لذا جاد علينا بالخيرات اليوم".
    وكالعادة ما أن إستقر بنا المقام وبدأنا تنظيم حياتنا بشكل منتج حتى بدأ المعتقل في التناقص فتم ترحيل حسن قسم السيد ودكتور خالد وفاروق كدودوة، وفي يناير 1973 تقرر ترحيلنا إلى كوبر.
                  

06-01-2009, 00:22 AM

Al-Mansour Jaafar

تاريخ التسجيل: 09-06-2008
مجموع المشاركات: 4116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    حسن بيومي او حسين بيومي؟
                  

06-01-2009, 03:18 AM

عمر ادريس محمد
<aعمر ادريس محمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2005
مجموع المشاركات: 6787

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Al-Mansour Jaafar)

    Up
                  

06-01-2009, 11:56 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: عمر ادريس محمد)

    المنصور جعفر
    حسن بيومي في شالا مشئول الكميون
    حسين بيومي ضابط جيش ألتقيته في الشرقيات ثم تم العفو عنه وعمل بجهاز الأمن وظل يكتب مقالات بإعتباره خبير أمن.
    ولا قرابة بين الإثنين ولا شبه بينهما حتى في الشكل والأخلاق.
                  

06-01-2009, 12:18 PM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    خالي الحبيب صدقي
    متعك الله بالعافية
    وتحياتي
    قد لاتعلم من أكون أن وصلة القربي التي بيننا ولكن هذا ليس بالمهم الان كنت في حلقة دارسية هنا في بيروت عن أدب السجن والمعتقلات وقدمت لي الناشطة والزميلة فاطمة البيه وهي مغربية عرض جميل هو تقديم شهادة في كتابها الجديد من واقع السجن والمعتقلات في السودان من خلال تجربة حقيقية والان أقدم لك هذا العرض لكي تساهم في أضافة نص جديرة عن تجارب السجون والمعتقلات في السودان واليك سيدي العزيز
    عنوان بريدي الالكتروني للتواصل
    [email protected]
    دمت لنا مفكرا نعتزبه وقريب دم أجلاله
                  

06-01-2009, 02:30 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: زهير عثمان حمد)

    عزيزنا عمر
    شكرا للمتابعة ورفع البوست.
                  

06-01-2009, 02:40 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    عزيزي زهير عثمان حمد
    مرحب بيك وشكرا على رسالتك واللينك. هل قرأت المسجونة التي تحكي قصة مليكة أوفقير في السجون المغربية؟
    طبعا الخاص رديت علية بالإميل يا حفيد!
    سعادتي الخاصة هو وجودك هنا وإهتمامات بشئون المعتقلين والحريات لك الود
                  

06-01-2009, 04:23 PM

محسن خالد
<aمحسن خالد
تاريخ التسجيل: 01-06-2005
مجموع المشاركات: 4961

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: محمد مكى محمد)

    عوافي يا دكتور، قاعد أقرأ بأم السريع، راجيك تنتهي وبعداك نطبع على الورق ونتحكر بيهو في التيوب.
    كن بألف خير
                  

06-01-2009, 05:08 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: محسن خالد)

    أهلا محسن
    تصور لو الواحد كان يملك لغتك وقدرتك الروائية كان بدع!
                  

06-01-2009, 05:52 PM

Al-Mansour Jaafar

تاريخ التسجيل: 09-06-2008
مجموع المشاركات: 4116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    شكراً جزيلاً أستاذ صدقي على ردك

    قلت أن حسن بيومي مسئول الكميون في سجن شالا

    أما حسين بيومي ضابط جيش ألتقيته في الشرقيات ثم تم العفو عنه
    وعمل بجهاز الأمن وظل يكتب مقالات بإعتباره خبير أمن.


    طيب هل حسن بيومي هو الأستاذ السابق في جامعة أمدرمان الأهلية؟
                  

06-01-2009, 07:05 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Al-Mansour Jaafar)

    لا ليس هو المحاضر
    حسن بيومي مسئول الكميون كان عاملا.
                  

06-01-2009, 11:29 PM

Al-Mansour Jaafar

تاريخ التسجيل: 09-06-2008
مجموع المشاركات: 4116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    ألف شكر با استاذ
                  

06-02-2009, 10:15 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Al-Mansour Jaafar)

    الشكر لك أنت يا المنصور يا من تحثنا على الدقة في التوقيت!
                  

06-02-2009, 11:21 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)



    Home منبر الرأي صدقي كبلو تلك الأيام في سجون نميري (7) .. بقلم: صدقي كبلو
    تلك الأيام في سجون نميري (7) .. بقلم: صدقي كبلو
    الثلاثاء, 02 يونيو 2009 13:01
    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته
    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983
    الاعتقال الأول 23 يوليو 1971 -15 مايو 1973
    نحن جينا
    الرحلة من شالا إلى كوبر
    وكان نعتقد أن جهاز الأمن وإدارة السجون من الذكاء بحيث سيتم ترحيلنا بطائرة حربية كما حدث من قبل ولكن لسبب لا نعرفه فقد تم ترحيلنا بالعربات من شالا لنيالا ومن نيالا بالقطر إلى الخرطوم. لقد أتاحت لنا تلك الرحلة القيام بأكبر مظاهرة متحركة ومحروسة بواسطة إدارة السجون. فقد ظللنا نهتف في العربة في الطريق حتى وصولنا نيالا، بل أن الحرس لسبب غير معلوم أخذنا لحامية نيالا فهتفنا في العساكر وقلنا الأناشيد وهتفنا بذكرى العسكريين من أبطال يوليو، وأذكر أننا عندما هتفنا بإسم أبوشيبة وكان ضابطا من قبل بحامية نيالا أن بعض العسكر لوحوا لنا بالبشارة.
    وتجمع المواطنون في محطة السكك الحديدية بنيالا وصفقوا لنا ونحن نهتف، وفجأة خرج من بين الجماهير شخص نحيف طويل القامة وتقدم نحو الشاويش قيدوم الذي كان يقود حرسنا وقال له "ممكن أسلم على كبلو، دة زميلي في الثانوي والجامعة وصديقي" ووسط دهشتي أن الشاويش قال له "نعم ممكن ولكن بسرعة" وعانقت صديقي حامد عمر وهو من أصدقائي غير السياسيين، وأدخل حامد يده في جيبي واضعا بعض المال فطلبت منه ألآ يفعل فأصر فقلت سلمه للشاويش فسلم الشاويش عشرين جنيها كانت في ذلك الوقت تساوي نصف ماهية حامد تقريبا. درس حامد بالفاشر الثانوية وتخرج من شعبة الجيلوجيا وهو من أبناء أم كردوس، ذلك الجبل الذي يقف وحيدا بعيدا من جبل مرة وأصر أحد السلاطين أن "يلمه على بقية الجبال" فمات خلق كثير ولم ينقذ الناس من ظلم وجنون عظمة السلطان إلا الميرم أخت السلطان والتي خدعته حتى ربط في التيتل وأطلق التيتل في الخلاء فأنقذت الناس من شره.
    وكنا نهتف وننشد الأناشيد الثورية في كل محطة، وقد حدث في الرهد حيث يقف القطر لساعتين أن هتفنا وتجمع الناس وقرأ محجوب شريف شعرا وأنشدنا عمال السكة حديد قصيدة الشفيع، وكان من بين الحضور رجل كبير مشلخ شايقي يرتدي ملابس السكك الحديدية، رأيناه والدموع في عينيه وهو يقف يسمع "وا حلالي أنا وا حلالي"
    وفي كوستي وضغ قطرنا بين قطري بضاعة، ودخل قطارنا مدني ليلا، وفوجئنا في سوبا بعربات السجون تنتظرنا وأنزلونا من القطر وأخذونا بالعربات عبر طرق ملوية إلى كوبر حيث تم قفلنا في زنازين البحريات.
    وأخيرا عدنا إلى كوبر
    وفي كوبر بدأت الزيارات بمجرد وصولنا، وكانت أول الزائرات مريم محمود والدة محجوب شريف وكانت تلك الزيارة مسؤولة عن قصيدة محجوب العظيمة "يا والدة يا مريم"،والتي يقول فيها:
    يا والدة يامريم
    يا عامرة حنية
    أنا عندي زيك كم
    يا طيبة النية
    مشتاق وما بندم
    إصبري شوية
    يا والدة يا مريم
    ماني الوليد العاق
    لا خنت لا سراق
    والعسكري الفراق
    بين قلبك الساساق
    وبيني هو البندم
    والديرو ما بنتم
    ياوالده يا مريم
    ما بركب السرجين
    وماني زول وشين
    يا والده دينك كم
    دين الوطن كمين
    ما شفتي ود الزين
    الكان وحيد أمو
    ماليله كان العين
    قالولو ناسك كم
    ورينا ناسك ورين
    ورينا شان تسلم
    العودو خاتي الشق
    ما قال وحاتك طق
    تب ما وقف بين بين
    لموتو إتقدم
    وأنا ما بجيب الشين
    أنا ما بخت الشين
    أنا سقوني الدم
    يما السجن مليان
    رجاله ما بتنداس
    الشالو هم الناس
    والفات وليدا ليه
    ما مسكو الكراس
    ما سمعو بتكلم
    ما نحنا عود الفاس
    فرسان حمى وحراس
    في الحاره نتحرم
    عشم القدر ما كاس
    ما لاقى بيت يتلم
    عشم الطواه الجوع
    المتعب المعدم
    ما تقولي شن سويت
    ما تبكي ما سويت
    إلا البطمن ناس
    بهمهم حسيت
    حارس مع الفرسان
    حارس بلدنا البيت
    أخواني علو السور
    وأنا طوبه ما ختيت
    ديل من زمن تاتيت
    لامن كتبت قريت
    وعرفته ياما يدر
    يمه اللبن والزيت
    الكسرة والكراس
    لقشة الكبريت
    وتقولي جيدا جيت
    يا وليدي جيدا جيت
    راجع مع الفرسان
    فايت الحدود واسيت
    وتغني يا مريوم
    لينا وتجري النم
    والعسكري الفراق
    بين قلبك الساساق
    وبيني هو البندم
    والدايروا ما بنتم
    ياوالده يا مريم
    كما كتب أغنيته "غني يا خرطوم غني وشدي أوتار التمني" والتي يقول فيها:
    غني يا خرطوم وغني
    شدي أوتار التمني
    ضوي من جبهة شهيدك
    أمسياتك واطمئني
    ونحنا يا ست الحبايب
    من ثمارك
    في دروب الليل نهارك
    وقبل ما يطول انتظارك
    نحنا جينا
    وديل أنحنا
    القالوا متنا
    وقالوا فتنا
    وقالوا للناس إنتهينا
    جينا زي ما كنا
    حضنك إحتوينا
    وكانت الزيارة الثانية هي لحاجة العافية والدة المرحوم محمد خلف الله والعافية هي أحد اشهر زوار المعتقل وكانت هي وزوجة محمد (التي للأسف لا أذكر إسمها الآن) قد زارا محمد في زالنجي وأحضرا للمعتقلين الزاد والأخبار.
    وقضينا أسبوعين بالحبس الإنفرادي زارنا فيهم اللواء أحمد صالح البشير مدير السجون مرتين. وأذكر أنه عندما جاء في المرة الأولى كنت أنا في الصف الثالث من الزنازين، ولكني إستطعت إقناع شاويش سيداحمد لترحيلي للصف الأول لأن زنزنتي كان بها فار، فسألني أحمد صالح لماذا غيرت زنزناتي فقلت بها فار فقال "ديل فيران الحكومة خاتينهم مخصوص ليكم".
    ونحن بالبحريات تم إعتقال عدد من قيادات الحزب الإتحادي الديمقراطي فأحضر معنا السيد عبد الماجد أبو حسبو والسيد حسن حمد وسمعنا عن إعتقال الأميرألاي عبد الرحيم محمد خير شنان.
    سقوط سايجون
    ونحن بالزنازين سقطت سايجون معلنة بذلك إنتصار ثوار الفيتكونج على الإمبريالية الأمريكية، وليلة ذلك الإنتصار هتف عبدالله علي إبراهيم "عاشت الشيوعية" وغنيت أنا رغم صوتي القبيح وشتارتي محتفيا أغنية للسود الأمريكان تقول
    سوف ننتصر ذات يوم
    وسوف نمشي يدا في يد
    وسوف نعيش في سلام
    يوما ما سوف ننتصر
    ورغم وجودنا في الزنازين إستطعنا أن نخلق صلة ببقية السجن وقررنا الإضراب لخروجنا من الزنازين، فتم ترحيلنا للمديرية حيث بقية الزملاء.
    وجدنا في المديرية عدد من المعتقلين الذين تركناهم في كوبر عندما تم ترحيلنا في يناير 1972 ولكننا أيضا وجدنا معتقلين جدد ومن بينهم من ساهم في تجميع الحزب وتأمين قيادته بعد هزيمة 19 يوليو. وكان بين المعتقلين الجدد أصدقائي عبد الرحمن يحيى وعبد العظيم حسنين وكمال يوسف الشايقي والشيخ عووضة وكان قد تم إعتقالهم بحي الأمراء بأم درمان وذلك لإضطرار الشيخ لظروف إجتماعية (زواج) حدثت في المنزل الذي كان يختبئ به لمغادرته والسكن معهم، فتم ملاحظة وجوده من قبل عملاء جهاز الأمن ودوهم المنزل، وقطع الأرسال ليذاع نبأ إكتشاف مخبأ للشيوعيين. وفي السنين الأولى بعد هزيمة 19 يوليو، لم يفلح جهاز الأمن إلا في ثلاث ضربات: إعتقال الشيخ عووضة ورفاقه الثلاثة، وإعتقال المناضل الجزولي سعيد والمناضل خضر نصر والمناضل السر جعفر، أما الثالثة فكانت مطاردة الزميل السر المبارك وبحوزته منشورات، فأعتقلوا السر وفشلوا في الحصول على المنشورات.
    عندما أنقذنا حياة يس عمر الإمام
    وأحضر للمديرية بعد حضورنا لها بأيام السيد يس عمر الإمام أحد زعماء الأخوان المسلمين حينها، وكان يعاني من المرض وذات يوم وهو قادم من الحمام، وقع فاقد الوعي، فنهضنا جميعا لإزعافه وأخبرنا الحرس (الديدبان) على الحائط لإحضار الطبيب، وتأخر الطبيب، فقمنا بإحداث جلبة في المديرية وهتفنا وضربنا زنك الحمامات محدثين دويا هائلا حتى سمعت إدارة السجن فخفت منزعجة ونا حقيقة قد أنقذنا حياة يس عمر الإمام.
    وجاءت ساعة الإضراب الأخير
    ولم تمض سواء أسابيع على وصولنا كوبر حتى جاءت رسالة مركز الحزب تدعونا للتحضير لإضراب عن الطعام مدعوم من قبل الحزب وأسرنا بالخارج لتصفية المعتقل وإطلاق سراح المعتقلين، وتقرر مبدئيا أن يكون الإضراب لخمس أيام، تكون قابلة للزيادة أو النقصان حسب تطور الظروف، وبدأنا الإضراب، وبدأت الأسر المظاهرات ومحاصرة وزارة الداخلية والتي كان وزيرها حينها اللواء محمد الباقر أحمد، وكان نائبا أولا لنميري، وتجربة أسر المعتقلين تلك اجربة عظيمة تحتاج لمن يبحث فيها ويسجلها ويسجل بطولات نساء عظيمات من أمهات وزوجات وأخوات المعتقلين، وذاع الخبر وعم القرى والحضر وأذاعته هيئة الإذاعة البرطانية والإذاعات العالمية، وأجضرت سلطات السجون فريق من أطباء السلاح الطبي للكشف على المعتقلين وكان آستون المعتقلين يقاس يوميا. وإضطر جهاز الأمن لإرسال وفد للمفاوضات، وعرضوا علينا فك الإضراب وإيقاف التحية وهي هتاف كان المعتقلون يرددونه فبل العشاء كل يوم يحيون المعتقلين بأقسام السجن وينشدون الأناشيد وكان الناس يصطفون حارج كوبر لٌستماع لهم، ووعد الأمن أن يام إطلاق السراح بعد شهر من فك اٌضراب على دفعات حتى يصفى المغتقل، ونقلت لجنة المعتقل الإقتراح للمعتقلين في قسمي السجن: المغاملة والمستشفى وجرى التصويت عليه وفاز الإقتراح وفك الإضراب. وعدنا لحياتنا العادية بعد أعطينا سراير وتم تحسين الطعام، وعاد العمل الثقافي والمحاضرات، ولعل أهم محاضرتين في هذه الفترة هما محاضرتا العميد معاش عبدالرحيم محمد خير شنان عن فترة عبود ومحاضرة الخاتم عدلان عن محمود محمد طه.
    شنان يحكي عن إنقلابيه
    كان عبد الرحيم محمد خير شنان قد أعتقل في يناير 1973 متهما بتدبير إنقلاب لمصلحة الإتحاديين، ونقل بين أقسام مختلفة بالسجن ولكنه نقل إلى قسم المعاملة بعد أن نقلنا إليها بغد فك الإضراب. وكان عسكريو يوليو المحكومين بقسم الكرنتينة "ب" المجاور للمعاملة وأقترحوا عليه أن يقدم محاضرة عن إنقلابييه ضد نظام عبود. والعميد شنان رجل قوي البنية، حلو المعشر، ذو ذاكرة وذكاء حاديين. ومازلت أتذكر تفاصيل محاضرته. قال أنه لم يتحرك في الإنقلاب الأول كما يشاع لأسباب تخطيه هو ومحي الدين أحمد عبدالله والمقبول الأمين الحاج، بل أنه تحرك لأن المعلومات التي تجمعت لديه أن اللواء أحمد عبد الوهاب كان ينوي أن يسمح للأمريكان ببناء قاعدة عسكرية جوية قرب حلايب، وأنه قد صدرت له أوامر بإعتباره قائد القيادة الشمالية بشندي بفتح طريق صحراوي من شندي إلى حلايب، فأتصل بمحي الدين أحمد عبدالله في القيادة الشرقية وأتفقا على القيام بعمل عسكري يبعدان به أحمد عبد الوهاب وعوض عبدالرحمن من المجلس العسكري، وحددا ميعادا لتحركهما، وتوعدا للإلتقاء بقواتهم الزاحفة من الشمال ومن الشرق على الخرطوم، وتحرك شنان بقواته للخرظوم ولكنه لم يجد قوات محي الدين فأستولى على كبري النيل الأزرق وقفله ووجه مدفعا تجاه سلاح الإشارة (وكان يقوده أحمد رضا فريد) والنقل وتقدم وحاصر القوات المسلحة وأعتقل المجلس العسكري العالي وهو في إجتماع، وطلب من عبود أن يصدر مرسوما بحل المجلس العسكري ويحيل أحمد عبد الوهاب للتقاعد ففعل وطلب الإذاعة وجاءوا وسجلوا البيان وأذاعوه ثم طلب من الفريق عبود أن يكون مجلسا جديدا برئاسة عبود وعضوية الضباط حسب الأقدمية عدا أحمد عبد الوهاب، فدخل إلى المجلس شنان ومحي الدين والمقبول وأحمدعبدالله حامد وطلعت فريد وأحمد رضا فريد واحمد مجذوب البحاري ومحمد أحمد عروة وخرج منه أحمد عبد الوهاب الذي أحيل للتقاعد وعوض عبد الرحمن والفحل واحمد التجاني.
    وقال أنه خلال محاصرته للمجلس أرسل له الشيوعيون مبعوثين تذكر منهما عبدالرحمن عبد الرحيم الوسيلة ونصحاه بأن يحل كل المجلس ويرسل كبار الضباط للتقاعد ويكون حكومة قومية، وقال شنان أنه صرفهما بإعتبارهما شباب متهورين وقال أنه ندم على ذلك فيما بعد وعندما قرر أن يتحرك في مايو لتصحيح خطأه كشف إنقلابه لأن محي الدين تحدث مع المقبول وأحمد عبدالله حامد وأخبر المقبول حسن بشير نصر الذي أمر بإعتقالهم.
    وقال أن السبب الأساسي لتفكيره في الإنقلاب الثاني أنه كان وزيرا للحكومات المحلية وكانت مصلحة الأراضي تتبع لها فقرر حسم مسألة أراضي المدن غير المسجلة وأصدر أمرا بأن تسجل الأراضي خلال فترة زمنية وإلا تصبح ملكا للدولة وكان التسجيل يتطلب رسوما، وكان للسيد علي أراضي واسعة في الخرطوم بحري غير مسجلة، فأتصل بعبود لإعفائها من رسوم التسجيل، فأتصل عبود بشنان لفعل ذلك وغضب شنان بإعتبار أن الجميع ينبغي أن يخضعوا للقانون وقال أنه أدرك أن الحكومة بها محسوبية وما زالت تخضع للطائفية. وتحدث مع محي الدين حول الأمر ووافقه محي الدين على التغيير وأتصل بأبي الدهب الذي حرك قواته. ولكن حسن بشير والمقبول كانا في إنتظارهما عند مدخل الحرطوم بحري ليقنعا أبو الدهب بالعودة ويأمرا بإعتقاله ومحاكمته مع شنان ومحي الدين وعبد الحفيظ شنان وعبد الحليم شنان وعدد من الضباط وضباط الصف فيما عرف بحركة مايو 1959.
    الخاتم عدلان يحاضر عن محمود محمد طه
    وقدم الخاتم عدلان محاضرة عن محمود محمد طه، وكان الخاتم قد بدأ قبل يوليو الإهتمام بدراسة الفكر الإسلامي بمبادرة من الأستاذ عبد الخالق محجوب ولكن الحزب الشيوعي عموما كان مهتما بدراسة فكر الأخوان المسلمين ولم يهتم بفكر الجمهوريين، ورغم أن الأستاذ محمود كان من بين المتصدين لحل الحزب الشيوعي وللدكتور الترابي في مسألة الحزب الشيوعي، لم يرد الشيوعيون ذلك التضامن عندما تعرض الأستاذ محمود لمحكمة الردة الأولى في عام 1968 .
    كانت محاضرة الخاتم ذات أهمية خاصة في ذلك النطاق، ولكن يبدو أن ظلال موقف الأستاذ محمود في تأييد نظام مايو وإستمرار ذلك التأييد بعد أحداث 19 يوليو قد ألقت بظلالها على المحاضرة التي كانت نقدا حادا لأفكار الأستاذ محمود، وقد ظل ذلك موقف الزميل الخاتم من أفكار الأستاذ محمود حتى عام 1994 أو 1995 في آخر مرة تناقشنا فيها في موضوع الفكر الجمهوري، فالخاتم لا يرى أن الأستاذ محمود قد أحدث تطورا في الفكر الإسلامي وأنه يسعى لإقامة دولة دينية حتى ولو إختلفت عن الدولة الإسلامية السلفية.
    وأثارت المحاضرة مناقشة واسعة وكانت أمسية من الأمسيات الفكرية التي لا تنسى في تاريخ المعتقل.
    ومسرحت واخرجت باشكاتب إسكيل H
    وإستمر العمل الثقافي في الجبهات كافة وإستمرت المجلة الناطقة وقد قمت في أحد أعداد المجلة بمسرحة وإخراج قصة قصيرة لعبدالله علي إبراهيم عنوانها باشكاتب في إسكيل H وكانت منشورة في مختارات من القصة القصيرة، جمعها الأستاذ محتار عجوبة، ورغم بساطة موضوع القصة ومباشرته فقد إستطعنا من أن نجعل منها إسكتشا مسرحيا كوميديا ساخرا عن البيروقراطية السودانية وقد أدى السر النجيب دور الباشكاتب بقدرات مدهشة بعد أن ساعده الزميل السر الناطق في المكياج. ولم تكن تلك علاقتي الأولى بالمسرح فقد عملت مع النصيري في مسرح جمعيتي الثقافة الوطنية والفكر التقدمي من قبل كفني إضاءة بعد أن دربني أحد مساعدي التدريس بقسم الفيزياء. كما كنت أثناء التحضير للمسرحيات أقوم بالكتابة عنها في مساء الخير وقد كانت كتاباتي عن سمك عسير الهضم التي أخرجها علي عبد القيوم وطه أمير عام 1969 من الأعمال العالقة بذاكرتي حتى الآن. وقد تعلقت بالعمل في مجلات المعتقل الناطقة فعملت مع عبدالله علي إبراهيم وياسر الطيب والسر الناطق في الإعتقال الأول ومع عمر الطيب الدوش والتجاني حسن وكمال الجزولي ونادر الطيب وميرغني عطا المنان ومحمد مراد في الإعتقالات الأخرى.
    وعلى المستوى الشخصي فقد كانت فترة ما بعد الإضراب فترة نشطة فقدمت محاضرات معتمدا على كتب أرسلها لي صديقي إبراهيم النور والذي كان قد أطلق سراحه وألتحق بجامعة الخرطوم كطالب ماجستير إقتصاد وعمل بالمؤسسة العامة للإنتاج الصناعي، وقد أرسل لي كتب قيمة لعل اهمها كتاب أوسكار لانجة عن الإقتصاد السياسي وكتاب بول باران عن الإقتصاد السياسي للنمو (وكنت قد قرأت من قبل مقالته الشهيرة في أدب التنمية عن الإقتصاد السياسي للتخلف والتي ناقش مفهوم النمو الإقتصادي) وكان من بين الكتب أيضا كتاب جغرافية الجوع وقد ساعدتني تلك الكتب في بدء دراسة جادة للإقتصاد السياسي والإقتصاد السياسي للتنمية وتقديم بعض المحاضرات حول إقتصاديات التنمية، كما بدأت عملا لم أكمله وهو ترجمة كتاب الدكتور سعد الدين فوزي (وقد إنتظر ذلك الكتاب حوالي ربع قرن ليترجمه صديقي الأستاذ جادين الإقتصادي والسياسي البارز). وترجمت فصلا واحدا قبل إطلاق سراحي في 15 مايو 1973.
    إطلاق السراح وتصفية معتقل يوليو
    وبنهاية شهر إبريل بدأ الأمن تنفيذ الإتفاق بإطلاق سراح المعتقلين وبدأوا إطلاق السراح في دفعات وكان الغريب أنهم بدأوا بإطلاق سراح قياداتنا أولا وأستمرت الدفعات حتى 15 مايو عندما أعلن دستور مايو الدائم والذي وقتها لم يكن يبيح الإعتقال التحفظي.
    وتم ترحيلنا إلى منازلنا وتقاطر الأهل والأصدقاء إلى منازل المعتقلين للتهنئة وجاءوا بالحلوى والشربات والذبائح.
    ولم يكن الوضع الإقتصادي لعائلتي يدعو للإطمئنان، مما جعلني أفكر جديا في عدم الرجوع للجامعة والبحث عن عمل لمساعدة العائلة ولكن والدي وزوج خالتي (الذي نناديه جدي عمر وهو رجل فاضل قدم لي مساعدات كثيرة في حياتي) أصرا ليس فقط على إكمالي السنة الرابعة، بل أن أكمل السنة الخامسة لنيل درجة الشرف وكانت حجتهما أنني لن أجد عملا مع نظام نميري الذي شرد زملائي. وتعهد جدي عمر بالتكفل بكل منصرفاتي، وقد فعل ذلك تماما حتى تخرجي بعد ثلاث سنوات من خروجي من المعتقل كما سيأتي الحديث.
    وصدمت في الأسبوع الأول من خروجي بوفاة صديقي عبدالله إبراهيم المحسي، والذي جاءني مساء نفس اليوم الذي أطلق سراحي فيه، وكان في صحبته إبراهيم النور وكمال عووضة ولكنهم لم يمكثوا معي إلا بضعة ساعة من الزمن وقالوا أنهم مسافرين لحضور زواج صديقنا محمود عكير بالشمالية، وكانت تلك آخر مرة ألتقي صديقي عبدالله محسي. ولم يكن موته فقط هو الفجيعة، بل الطريقة التي سمعت بها الخبر، إذ أنني قررت أن أتوجه للجامعة، وفي المحطة الوسطى بأم درمان قابلت أحد الأصدقاء من طلاب الجامعة وأخذنا التاكسي من المحطة الوسطى، وفي منتصف الطريق لاحظ الصديق أنه لا تبدو علي آثار الحزن فسألني إن كنت قد سمعت بوفاة محسي، فأصابني وجوم وحزن عميق ولم أنطق بكلمة ولاحظ السائق والركاب ذلك فحولوا بطريقة السودانيين تخفيف الأمر علي ولكن حديثهم كان كالخناجر ولولا بعض صبر وتأدب لطلبت منهم الصمت، فهم لا يعرفون من فقدت، لا يعرفون عمق العلاقة، لا يعرفون عمق الود بيني ومحسي، لا يعرفون أنني قضيت إثنين وعشرين شهرا بالمعتقل في إنتظار لقاء عائلتي وأصدقائي وفي مقدمتهم عبدالله محسي، وذهبت للجامعة فتلقاني الرفاق والرفيقات بالتعازي وما زالت صرخة أحد الزميلات عندما رأتني "الليلة ووب يا صدقي محسي مات، محسي أخونا وأبونا" وبكت على كتفي زميلات لم أتشرف بمعرفتهن من قبل، وأنا في حالة وجوم بليد لم تذرف لي دمعة والحزن يقطعني. لا أحد يعرف أنني كنت أحسب الأيام للقائه، لا أحد يعرف أن إطلاق سراحي كان يعني أن ألقى عائلتي ومحسي وبعض الأصدقاء، الحرية كانت بالنسية لي أن نحمل قهوتنا معا ونجلس مع عم السر في القهوة، أو أن يقرأ لي قصيدة جديدة كتبها. كان عبدالله المحسي قد عمل مدرسا بعطبرة قبل إلتحاقه بجامعة الخرطوم منتدبا من وزارة التربية والتعليم، وكان شيوعيا ممتازا وشاعرا مدهشا وصديقا وفيا، وكنا أحيانا نجلس صامتين وفجأة أقول له هذا ما قاله أحد الأبطال في رواية "الصداقة الحقيقية ألا تحتاج للحديث في صحبة صديقك" لقد قضينا أحد أجمل الإجازات مع بعضنا قبيل يوليو، ثم سافر لعطبرة قبل أنقلاب يوليو بيومين ولكنه عاد يوم الموكب في 22 يوليو ولم نتبادل سوى كلمتين "عملوها الإنقلابيين" وكان ذلك تلخيص لمناقشة بيننا عن إستمرار تيار إنقلابي في الحزب، وكنا قد بدأنا تجميع الوثائق لتتبع الفكر الإنقلابي منذ ثورة أكتوبر في الحزب. وكنت خلال ال22 شهرا بالمعتقل أتذكر تلك المناقشات، ولقد كان موقفي من 19 يوليو دائما هو شبيه بموقف ماركس من كميونة باريس: الإعتراض عليها والإستعداد للدفاع عنها وعن أبطالها بعد حدوثها والنظرة النقدية عند تفييمها. وكان محسي قد تخرج لتوه بدرجة الشرف الثانية العليا مما يؤهله ليصبح معيدا بالجامعة، ولكنه مات بالسحائي في القرن العشرين رغم تقدم الطب!
                  

06-02-2009, 01:58 PM

مصدق مصطفى حسين


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    اخى الكريم صدقى
    تحيات عاطرات
    Quote: أهلا محسن
    تصور لو الواحد كان يملك لغتك وقدرتك الروائية كان بدع!
    نعم الاستاذ محسن خالد يمتلك نا صية الكلمه دون شك ولكنك لاتعوزك الكلمه و كل عناصر السرد و ما يغرى بالمتابعه خاصه وانت توثق لمرحله هامه و احداث جديره بمعرفتها و تمليكها لهذا الشعب الذى يجهل كثيرا من المعلومات والحقائق التاريخيه المهوله بسبب ضعف التوثيق و اهمال تاريخنا و ماضينا التليد ...
    نتابعك باهتمام و شوق , تمنياتى لك بالتوفيق .
                  

06-02-2009, 11:40 AM

Mohamed Abdelgaleel
<aMohamed Abdelgaleel
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 10415

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    Quote: كان مبارك شيوعيا إنسانا من طراز فريد. وكنا نضحك من
    طبيعة صداقته مع المرحوم الأستاذ المناضل الرشيد نايل، فقد كانا
    أصدقاء ويقضيان الليل مع بعض يتسامران بكلمات قليلة كنا نسميها
    الكلمات المتقاطعة، وكانا يذكراني بتعريف روائي سوفيتي للصداقة
    عندما قال ما معناه أن الصديق هو الشخص الذي تستطيع أن تصمت في
    حضرته دون الشعور بالملل أو الحاجة للثرثرة.


    د. صدقي - تحياتي ،

    نتابع ذكريات عاصفة تلك السنوات العجاف

    رحم الله خالي الرشيد نايل، كان فعلا قليل الكلام
    كنت أقيم معه بالمنزل بودنوباوي (شرق السوق الجديد)
    عندما أعتقل وكذلك عندما خرج من المعتقل، وأذكر عند خروجه
    من المعتقل جاءته افواج الأهل من قرى شمال أمدرمان بعربات
    كتيرة وباصات، فهم يحبون من يكاتل الحكومة (الظالمة) مهما
    اختلفوا معه جاءوا بأشواقهم لسماع قصص التجربة ولكن خالي
    الرشيد كان قليل الكلام وكانوا يسألونه:

    بالله يا الرشيد السجن كيف؟
    فيجيب بتمهمل: ما بطال

    وهكذا قضى عمره قليل الكلام ولم نعرف أنه كان يكتب الشعر إلا
    عندما ورد ذكره في كتاب ذكريات زميله في كلية غردون الراحل
    الدكتور عبدالله الطيب - يرحمه الله - عندما أورد أنه لم يحدث أن
    فاز بجائزة الأدب في كلية غردون إلا في يوم لم يحضر فيه
    الرشيد للكلية.

    كما أذكر أن والدتي -أطال الله عمرها- كانت عندما يأتي لزيارتها
    تحرص ألا تضيع الفرصة خاصة بعد عودته من السجن لتقول له:

    إنتا يا الرشيد ياخوي الشويعية دي ما تخليها .. بتدوربيها شنو؟

    وكان يضحك ويقول ليها : كويس بخليها
                  

06-02-2009, 08:00 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Mohamed Abdelgaleel)

    العزيز محمد عبدالجليل
    شكرا لمشاركتك ذكرياتك عن خالك العزيز كان رجلا فريدا.
                  

06-03-2009, 00:27 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    العزيز مصدق مصطفى حسين
    شكرا لك على تشجيعك وسعيد أن رأيك في لغتي وسردي إيجابي، المهم أن ننقل لكم بصدق ما نتذكر عن تلك الأيام.
                  

06-03-2009, 03:45 AM

عبدالعزيز حسن على

تاريخ التسجيل: 05-02-2005
مجموع المشاركات: 1078

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    يا دكتور التحايا
    وانت تكتب من اجل مستقبلاً افضل للاجيال لكي تتجاوز واحدة من تشوهات السياسة السودانية

    تجربة المعتقل وان يتم الحجر على حرية الاخر المختلف

    إتذكر فى مرحلة عمرية مبكرة كنت اسمع فى منزلنا عن فلان احد الاصدقاء الحميمين لاشقائى الكبار مسجوناً

    وكان عقلي الصغير وقتها لم يستوعب لماذا ان فلاناً مسجون وكان شخصاً محبوباً من الجميع مرحاً وكريم وبه من الصفات ما تجعله مثالاً

    وكان على المستوي الشخصى يعاملني معاملة خاصة رغم صغر عمري وقتها بالسؤال عن المدرسة والتحصيل الاكاديمي بطريقة تختلف عن اقرانه

    بالاضافة الى الهدايا

    والتساؤل الذى كان يدور بذهني وقتها لماذا يسجن فلان وربما دار بذهني وقتها ان السجن يجب ان يكون لمدرس علان الذى كان يتلذذ بضربنا

    او لصاحب المخبز المجاور لنا ولكن ليس لفلان المسجون

    كثرين وثقوا لتجربة المعتقل والسجن منهم عبداللطيف اللعيبى فى كتابه رسائل السجن (هذا الكتاب لطي مرحلة باثباتها وجعلها هماً تتوهج في بوتقته جمرة اليقظة والسؤال)

    التحية لك ولك المناضلين الذين ضحوا بحرياتهم من اجل حرية وكرامة الاخرين

    ولتجعل من هذه الكتابة جمرة لليقظة من اجل سودان حر ديمقراطي يستوعب الجميع بدون حجر
                  

06-03-2009, 10:53 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: عبدالعزيز حسن على)

    يا عبد العزيز بالله أيامك الصغير برضو كان في إعتقالات؟
    شكرا على المرور والكلمات الطيبة
    تصور حتى 30 يونيو 1989 كانت معتقلاتنا مقارنةبمعتقلات المنطقة (الجزائر، المغرب، سوريا، مصر والعراق) من أفضل المعتقلات إذا كان لنا أن نقارن بين مصادرة حرية وأخرى، ولكن بع 30 يونيو تفوقنا على معظم هذه الدول بل وتفوقنا على معتقلات الحسن الثاني بشكل نوعي: التعذيب!
    أرجو أن ينشر المعتقلون بعد 1989 مذكراتهم.
                  

06-03-2009, 04:14 PM

ماضي ابو العزائم
<aماضي ابو العزائم
تاريخ التسجيل: 09-07-2007
مجموع المشاركات: 3598

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    كتب د.صدقى
    Quote: درس حامد بالفاشر الثانوية وتخرج من شعبة الجيلوجيا وهو من أبناء أم كردوس، ذلك الجبل الذي يقف وحيدا بعيدا من جبل مرة وأصر أحد السلاطين أن "يلمه على بقية الجبال" فمات خلق كثير ولم ينقذ الناس من ظلم وجنون عظمة السلطان إلا الميرم أخت السلطان والتي خدعته حتى ربط في التيتل وأطلق التيتل في الخلاء فأنقذت الناس من شره.

    و رواية تقول أنه السلطان على دينار ... قال (الجبل ده شرد من أخوانه .. لموهو عليهم) فظل اتباعه يحفرون الصخر و ينقلونه حتى مات السلطان فى المعركة التى إنتصر فيها الانجليز سنة 1916 و بذلك ضمت دارفور للسودان و كان قد إستقل بها السلطان على دينار(سلسل ملوك دارفور) بعد هروبة سالما من موقعة كررى.

    ما نخرب التسسل يا صدقى ... تابع
                  

06-04-2009, 01:55 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: ماضي ابو العزائم)

    سلام يا ماضي ابو العزائم
    شكرا على المرور
    روايتي سمعتها في الفاشر أيام الدراسة.
    وأنت يا خي تخلي حكاية حامد عمر الدالة عل شجاعة ووفاء أبناء شعبنا وتمسك في قصة نقل الجبل الدالة على الديكتاتورية!
                  

06-04-2009, 11:28 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    اتصل بي قبل قليل الأخ نور الهدى محمد نور الهدى صاحب ومدير دار عزة للنشر، مصححا معلومة وردت عنه فقد قلت أنه دخل المعتقل في 1971 بملابس كتائب مايو والصحيح هي ملابس الحرس الوطني.
    وعد الأخ نور الهدى بنشر المذكرات بواسطة دار عازة
                  

06-04-2009, 12:15 PM

Mohamed Abdelgaleel
<aMohamed Abdelgaleel
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 10415

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    أنا ما بخت الشين
    أنا لو سقوني الدم
    يمه السجن مليان
    رجاله ما بتنداس
    الختو قبلي الساس
    الشالو هم الناس
    والفات وليدا ليه
    ما مسكو الكراس
    ما سمعو بتكلم
    ما نحنا عود الفاس
    فرسان حمى وحراس
    في الحاره نتحزم
    عشم القدر ما كاس
    ما لاقى بيت يتلم
    عشم الطواه الجوع
    المتعب المعدم
    ما تقولي شن سويت
    ما تبكي ما سويت
    إلا البطمن ناس
    بهمهم حسيت
    حارس مع الفرسان
    حارس بلدنا البيت
    أخواني علو السور
    وأنا طوبه ما ختيت
    ديل من زمن تاتيت
    لامن كتبت قريت
    وعرقنا ياما يدر
    يمه اللبن والزيت
    الكسرة والكراس
    لقشة الكبريت

    تصحيحات بسيطة تحتها خط في قصيدة
    الشاعر محجوب شريف يا والده يا مريم
    والتي وهبت التماسك لكثيرين في تلك الأيام
                  

06-04-2009, 04:11 PM

ماضي ابو العزائم
<aماضي ابو العزائم
تاريخ التسجيل: 09-07-2007
مجموع المشاركات: 3598

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Mohamed Abdelgaleel)

    Quote: وأنت يا خي تخلي حكاية حامد عمر الدالة عل شجاعة ووفاء أبناء شعبنا
    وتمسك في قصة نقل الجبل الدالة على الديكتاتورية!

    نسوى شنو با دكتور الديكتاتوريات عملت لينا حسكنه
                  

06-04-2009, 06:22 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: ماضي ابو العزائم)



    Home منبر الرأي صدقي كبلو تلك الأيام في سجون نميري (8) ... بقلم: صدقي كبلو
    تلك الأيام في سجون نميري (8) ... بقلم: صدقي كبلو
    الخميس, 04 يونيو 2009 19:29

    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983


    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


    الاعتقال الثاني ديسمبر 1973 - يونيو 1974


    العودة للجامعة


    وعدنا، الخاتم عدلان وشخصي للجامعة. الخاتم ليجلس لإمتحان بديل للإنتقال للسنة الرابعة ولتأكيد تأهيله لدرجة الشرف، وأنا للإلتحاق بالسنة الرابعة بعد أن جلست للإمتحان من داخل السجن كما ورد في الفصل السابق وأكدت تأهيلي لدرجة الشرف. وكانت جامعة الخرطوم منذ قيام إنقلاب مايو قد إتخذت سياسة عدم فصل الطلاب لأسباب إعتقالهم سياسيا، وظلت تحفظ لهم مقاعدهم الجامعية إلى حين يطلق سراحهم. وقد أستفدت أنا من تلك السياسة عدة مرات حتى تخرجي في يناير 1976 .


    وعدت لقاعات الدراسة بعد عامين من الإبتعاد وألحقت بدفعة جديدة تعرفت فيها على أصدقاء جدد بعضهم لم يكن شيوعيا والبعض الآخر لا علاقة له بالسياسة، وحرصت على حضور المحاضرات والسمنارات والقيام بالواجبات الأكاديمية وكان البروفسير محمد هاشم عوض كثيرا ما يمازحني عندما أجاوب سؤالا أوأبدي رأيا بالإشارة لفترة إعتقالي وأنها لم تضع سدىً. وقد تلقيت العلم في تلك الفترة على أساتذة أجلاء من بينهم البروفسير محمد هاشم عوض والدكتور على محمد الحسن والأستاذ خالد عفان والدكتور سيد نميري.


    ولكن الجديد كان إشتراكنا في العمل السياسي، فقد رحب بنا مكتب الجامعات والمعاهد العليا ودعانا لإجتماع خاص، حضره الزميل يوسف حسين من سكرتارية اللجنة المركزية، وتم ترتيب توصيلنا لفرع الجامعة، وكلف الخاتم للعمل بالمكتب بينما كلفت أنا بمواصلة عمل بدأته قبل ثلاث سنوات وهو العمل مع مركزية الجباه الديمقراطية بالجامعات والمعاهد العليا.


    الإحتفال ب 19 يوليو


    وبمجرد إلتحاقنا بفرع الجامعة لاحظنا أن العمل كان مقيد بأطر تأمينية عالية غير مناسبة مع جو الحرية النسبية بالجامعة، فبدأنا حوارا جادا لتغيير ذلك والإستفادة من تجربتنا قبيل يوليو حيث كنا نعمل كفرع سري ولكننا كنا الرئة التي تتنفس من خلالها الحركة الديمقراطية، وأقترحت العودة لمهرجانات الجبهة (كانت الجمعيات الفكرية قد إختفت بعد إستبدال نظام التمثيل النسبي بالإنتخاب الحر المباشر الذي سمح للأخوان بالسيطرة على الإتحاد) وأتفقنا على أن يكون أول مهرجان إحتفالا بذكرى 19 يوليو وأن يتكون ذلك المهرجان من موكب بداخل الجامعة يتحرك من تمثال القرشي أمام المكتبة العامة إلى القهوة حيث سيكون هناك معرض وليلة شعرية وليلة سياسية.


    وبدأ الموكب كما مخطط له وفي قهوة النشاط ألقيت كلمة قصيرة إفتتحت بها المعرض باسم القادة الوطنيين وباسم الشهداء وكان المعرض رائعا وقد قام الزملاء بكلية الفنون الجميلة والذين تعرفت عليهم أثناء الإعداد للمعرض وظلت تربطني صداقة وطيدة معهم ومنهم الزملاء أحمد البشير والباقر موسى وحسن موسى وغيرهم وحوى المعرض إلى جانب صور الشهداء وماكتب عنهم من شعر والكتاب الأسود عن محاكمات الشجرة وسرد للأحداث وبيانات حزبية وتدافعت جماهير الطلاب من الجامعة والجامعات الأخرى والمدارس الثانوية بالعاصمة وجماهير العاصمة بزيارة المعرض، وكانت الندوة الشعرية ناجحة، وكذلك كانت الندوة السياسية والتي تحدث فيها الزميل الخاتم عدلان حديثا رائعا عن الوضع السياسي وعن 19 يوليو وعن المعتقلات.


    وأثار المهرجان والندوة ضجة كبيرة وتعرض لها نميري في حديثه الشهري في نهاية يوليو، وحذر من إستغلال الجامعة للعمل المعارض، وأدى حديثه لإثارة الطلاب، ولم يفعل الإتحاد شيئا، فبادرنا في الجبهة الديمقراطية لقيام لجنة سياسية من كل التنظيمات عدا الأخوان وتقدمنا بمذكرة للإتحاد نطلب منه التدخل لحماية إستقلال الجامعة ولإستنكار تصريحات نميري في التلفزيون. ووزعت المذكرة على الطلاب وقرأت في قهوة النشاط.


    إنتفاضة أغسطس (شعبان) وإغلاق الجامعة

    أدت الضغوط على الإتحاد على تحركه وقرر تقديم مذكرة لمدير الجامعة في موكب داخلي، وذهب الموكب لمكتب المدير البروفسير مصطفى حسن إسحاق، وهو عالم كيمياء مبرز وأكاديمي ممتاز وإنسان شديد الإعتزاز بنفسه وعلمه، وقد حاول خلال فترة إدارته للجامعة أن يلعب الدور الذي لعبه البروفسير النذير دفع الله في فترة خكم عبود بأن يحافظ على إستقلال الجامعة ويبعدها قدر المستطاع من الإضطرابات بأن يترك للطلاب حرية العمل السياسي والثقافي داخل الحرم الجامعي، وبالطبع لم يكن نظام نميري يرضى بذلك، فأقاله وعين البروفسير عبدالله الطيب ولكنهم لم يستطيعوا تحمله هو الآخر فعينوا البروفسير عبدالله أحمد عبدالله (الذي أصبح وزيرا للزراعة وسفيرا بعد ذلك) وخلفه البروفسير على فضل الذي باعهم الجامعة بثمن رخيص (أصبح وزيرا للصحة) وهو في تقديري أسوأ مدير مر على جامعة الخرطوم فترة نميري.
    قلنا ذهب الموكب لمكتب المدير هادرا وقدم المذكرة ورغم محاولات قادة الإتحاد ضبطه، إلا أن الموكب خرج لشارع الجامعة وكانت تلك بداية ما سمي بإنتفاضة أغسطس (شعبان)، وقد برز في هذا الموكب لأول مرة شعار "لن يحكمنا البنك الدولي" وقد كنا نردده فسخر منا الأخوان حتى قال متحدثهم في ليلم سياسية "هو دولي، يبقى يحكمنا كيف؟" وكان أن رددت عليه في ندوة من ندوات الجبهة مقدما شرحا لتوزيع الأسهم والتصويت في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وعن شروطهما.


    كان رد فعل المظاهرة كبيرا، ويبدو أن قادة الجبهة الوطنية التي كان يقودها الشريف حسين الهندي قد وجدوا في تذمر الطلاب فرصة فقرروا بسرعة، أخلت بالتنظيم، أن يستغلوا إنتفاضة الطلاب فحركوا قياداتهم بالداخل للتحرك مستفدين من أن إتحاد الطلاب، الذي كان بيدهم، بقيادة أحمد عثمان مكي ، فتحدث زكريا بشير وأبراهيم أحمد عمر الأستاذ بشعبة الفلسفة في ندوة بدار الإتحاد كانت فقيرة في محتواها الفكري والثقافي والسياسي فمتلا عندما تحدث عن الأزمة الإقتصادية تحدث عن الجبن والفاكهة!


    وقرر الإتحاد أن يقدم مذكرة لرئاسة الجمهورية وسار الموكب حتى قلب الخرطوم ولم يصطدم معه البوليس وذهب نحو القصر وظهر ضباط أمن، بعضهم كنت أعرفه من الإعتقال السابق، وكنا نتقدم الموكب عباس برشم وكان سكرتيرا للإتحاد وشخصي وسمح للموكب بتقديم المذكرة لضابط بالقصر، وعرفت فيما بعد أن كل ذلك كان تدبيرا حكيما من اللواء محمد الباقر أحمد النائب الأول لرئيس الجمهورية ووزير الداخلية فهو لم يكن يريد للأمور أن تتطور، وبعد تقديم المذكرة طلب منا التفرق ثم أطلقت علينا الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع وتفرغ الموكب لمظاهرات صغيرة وعند عودتنا وجدنا قوات الأمن قد إحتلت الجامعة، وأن الجامعة قد تم إغلاقها إلى أجل غير مسمى، وبدأت الإعتقالات، ولجأت لأهل لي في الخرطوم، وبدأت في محاولة لتجميع قيادة الفرع والجبهة، ووجدت وقتا لقراءة البيان الذي وزع في المظاهرة والذي كان يمثل مطالب الجبهة الوطنية، فجلست لطاولة وكتبت تحليلا للبيان والأوضاع، وفي هذا الوقت حددنا مكانا للإجتماع بأمدرمان لقيادة فرع الجامعة، وقبيل الإجتماع أعطيت ما كتبت للزميل الخاتم وكان مسؤولنا السياسي، فقرأه وقال لي: بالضبط هذا تحليلي للأحداث والمدهش أن الحزب الشيوعي أصدر بيانا في اليوم الثاني عنوانه "للتتحد قوى المعارضة الشعبية" ولم يختلف كثيرا عما توصلنا إليه، لقد كان يجمعنا جميعا في الحزب الشيوعي منهج فكري يجعل تحليلنا للأوضاع متطابقا مهما إختلفنا في التفاصيل، هذه هي قوة المنهج الماركسي في التفكير والتي كانت هي أساس وحدتنا الفكرية بينما التنظيم كان يوحد إرادتنا، ولذا كنا رغم صغر حجم حزبنا قوة مؤثرة ورقما لا يستهان به في الحياة السياسية. كان واضحا من برنامج الجبهة الوطنية أنها لا تريد تصفية نظام مايو ولكنها تريد أن ترثه ذلك إن دستور 1973 لم يكن يمثل سوى مشروع دستور 1968، دستورا للديكتاتورية المدنية المقننة، الإختلاف أن دستور 1973 يرفع شعارات فارغة عن الإشتراكية ودستور 1968 يرفع شعارات الدستور الإسلامي.


    وإمتدت المظاهرات لتشمل مدن أخرى ودخلت بعض النقابات في إضرابات، وكان نميري غائبا في زيارة رسمية للمللكة المغربية، فأعلن نائبه الباقر حالة الطوارئ وبدأت الإعتقالات.


    أهمية إنتفاضة أغسطس شعبان


    تمثل إنتفاضة أغسطس شعبان حدا فاصلا في تاريخ نضال الشعب السوداني ضد ديكتاتورية نميري، لا لأن كل القوى المعارضة شاركت فيها من مواقعها، ولكن لأنها أول معارضة شعبية جماهيرية تتم في الشارع وتشارك فيها القوى الحديثة والتقليدية، قبلها كانت المعارضة تؤخذ شكل التآمر العسكري، داخل أو خارج القوات المسلحة، ولعله من المهم أن نقول أن الشكل الأخير إستمر أيضا بعد إنتفاضة أغسطس، غير أن السمة العامة للنضال ضد نظام نميري أخذت شكل جديد هو النضال الشعبي والجماهيري وسعي تلك القوى نحو الوحدة. ويذكرني ذلك ببيان الحزب الشيوعي الملهم "فلتتحد قوى المعارضة الشعبية" ولقد كتبت في ورقة لي عن البديل أنا قش موقف الحزب من الإنتفاضة فقلت:


    " انتفاضة اغسطس 1973 تفجر قضية البديل


    وكانت انتفاضة اغسطس (شعبان) 1973، منعرجاً هاماً في تطور الحركة الجماهيرية: فهي اول حركة جماهيرية معارضة بعد ردة 22 يوليو ، اول مظاهرات واسعة واول اضرابات عامة! لقد كسرت حاجز الصمت والترقب. ولكنها طرحت السؤال: ما البديل؟


    والسؤال كما قلنا في مقدمة هذه الورقة كان يطرح من الجماهير كما كان يطرح من السلطة واعوانها الانقساميين والأخوان الجمهوريين. ولقد تجاوز بيان الجنة المركزية للحزب الشيوعي في اغسطس 1973 "لتتحد قوى المعارضة الشعبية" ذلك السؤال بطرحه مباشرة قضية وحدة قوى المعارضة الشعبية حول شعارات اساسية:


    ضد قانون امن الدولة


    توقف التشريد وارجاع المفصولين


    ضد الغلاء والسياسة الاقتصادية


    لتحرير النقابات والاتحادات من سيطرة الدولة


    لإطلاق سراح السجناء السياسيين


    واوضح ذلك البيان ان سبيل الحركة الشعبية لتحقيق هذه المطالب هو البرقيات، المذكرات، عرائض الاحتجاج، الوفود الشعبية، المواكب والاضرابات. وتوجهت سكرتارية اللجنة المركزية بنداء إلى كل منظمات واعضاء الحزب ومؤيديه والقادة النقابيين وكل القوى في الشمال والجنوب:


    "واجب الساعة الذي لا يتقدمه واجب امام كافة الشيوعيين والتقدميين، استنفار صفوف الطبقة العاملة والجماهير الشعبية وتنظيم صفوفها والسير بجسارة واقدام الثوار في طليعتها لتوسيع حركة المواكب والمظاهرات واستمرارها تحت الشعارات والاهداف الوطنية الديمقراطية الواضحة القاطعة لتبديد جو الغموض والترقب الذي تنشره دوائر المعارضة اليمينية والمتاجرين بسخط الشعب" (بيان سكرتارية الجنة المركزية- 30 اغسطس 1973)

    وتناولت اللجنة المركزية في دورة يناير 1974 [1] انتفاضة اغسطس وقضية البديل. وبدأت بانتقاد الذين يطرحون مسالة البديل لاخافة الحركة الثورية والشيوعيين بان البديل لمايو هو الاحزاب الرجعية موضحة ان هؤلاء يريدون الحفاظ على بقاء السلطة الحالية وما حققته لهذه الجماعات من مكاسب شخصية وان "الحركة الثورية ما عاد يشغلها" ان ذهاب هذه السلطة "معناه عودة تحالف الاحزاب الرجعية التي سوف تنتقم من الحركة الثورية وتدخل البلاد في حمامات دم جديدة"( ص )4 واوضحت الجنة المركزية بحزم ان الحركة الثورية السودانية"قد وصلت مستوى من النضج والقدرة على الصمود فى وجه حمامات الدم، وفر لها تصميمها على مواجهة كل اعدائها الان وفي المستقبل، وتصميما على السير في طريق ثورتها الوطنية الديمقراطية. واقتنعت الحركة الثورية ايضا ان بقاء هذه السلطة يشكل اكبر عقبة في طريق الثورة الاجتماعية، وان ازالتها ستفتح الطريق لتطور الثورة الديمقراطية بهذا القدر أو ذاك"(نفس المرجع ، خطوط التركيز مني)
    واوضحت اللجنة المركزية قضية هامة اخرى


    " فما عاد من الممكن في ظروف توازن القوى الحالي وتجارب الحكم منذ الاستقلال، تجاهل وزن الحركة الثورية التقدمية، وعلاقتها بهذه الدرجة أو تلك بالحكم" (نفس المرجع، ص 4)

    وتناولت اللجنة المركزية مسالة البديل كما تطرحها جماهير حريصة على التمايز بين الحزب والحركة الثورية والمعارضة اليمينية الممثلة في الجبهة الوطنية حينها فاوضحت ان الحزب ليس طرفا في الجبهة الوطنية "ليس ذلك نتيجة ترفع أو انغلاق طائفي انعزالي، بل لان البرامج مختلفة، والمصلح الطبقية متباينة متعارضة، وبالتالي مختلفة ايضا التصورات عن المستقبل والاهداف البعيدة."(المرجع السابق ص 5)
    وانتقدت اللجنة المركزية برنامج الجبهة الوطنية الذي يهدف للاحتفاظ بنظام مايو مع تغيير قيادته واوردت مقارنة بين ذلك البرنامج وميثاق اكتوبر واوضحت انهم يتمسكون بالدستور الاسلامي والجمهورية الرئاسية وسياسة العداء للشيوعية والسير في طريق التطور الرأسمالي. وبالتالي لا يمكن ان تطرح المسالة كأنما هي "الخيار بين ديكتاتورية سلطة الردة الحالية أو ديكتاتورية سلطة الاحزاب اليمينية ودوائر اليمين العسكري"(ص 6).


    وامام هذا امسكت اللجنة المركزية بخيط جدل البديل:


    "البديل تبدأ صياغته اليوم قبل الغد. بديل المستقبل يتبلور في نضال الجماهير. الاهداف والشعارات والمطالب الوطنية الديمقراطية التي تطرحها الجماهير اليوم للنشاط السياسي والجماهيري اليومي هي التي تحدد البديل في المستقبل"(ص 7)


    وانتقدت اللجنة المركزية اقسام من البرجوازية الصغيرة الديمقراطية "التي تظل بعيدة وبطيئة الحركة في هذه الظروف"، وفي نفس الوقت "تميل للجدل المطول عن البديل تعويضا عن كسلها في النشاط وفي العمل، وتكاد تطلب من الحزب الشيوعي والحركة الثورية تقديم ضمانات قاطعة لنجاح كل المعارك، أو فلما تسجيليا لتفاصيل لوحة البديل"(ص6). كما أن "هناك المجموعات المسحوقة من البرجوازية الصغيرة الديمقراطية بين صغار التجار والحرفيين والموظفين وصغار المزارعين في المناطق الحديثة، وفي اوساط الجيش والمشردين وهي تريد حلا سريعا ناجزا ولا صبر لديها على"المطاولات"، تريد الخلاص والسلام! انها لا تطلب في سؤالها عن البديل سوى شكل الحكومة القادمة وكأن كل شئ قد اعد للاطاحة بالسلطة الحالية ولم يبق سوى شكل الحكومة الجديدة" (ص 8 خطوط التركيز مني) وامام كل ذلك فان اللجنة المركزية طرحت العملي والممكن في "حدود قدراتنا ومستوى تقدم الحركة الشعبية"(ص 10)


    وطرحت دورة يناير 1974 قضية قيادة الحركة الجماهيرية واوضحت ان هذه المسالة تحسم وسط الجماهير في العمل اليومي "فقضية القيادة لا تنحصر فقط في مستوى قيادة الدولة، بل تعتمد في الاساس على قيادة النضال اليومي للجماهير وتحمل مشاقه في ظروف الردة والتراجع والبطش والارهاب" (ص14). كما طرحت الدورة مجددا ان الاضراب السياسي هو الاداة للاطاحة بديكتاتورية مايو.


    ولعل اهم ما جاء في تلك الوثيقة هو محاولة استقراء احتمالات المستقبل، اذ تقول


    "قد تسقط السلطة الحالية قبل اكتمال نضج الأزمة الثورية أو خلالها، وتصل إلى الحكم هذه الفئة أو تلك من معسكر اليمين، وقد ينجح انقلاب عسكري لمغامرين أو محافظين، وقد تفرض دوائر الاستعمار والرجعية العربية الافريقية صيغة مصالحة بين دوائر اليمين في الحكومة وقسم من المعارضة كجزء من عمليات التسوية في المنطقة العربية كما فعلت في الجنوب، وقد تواصل المعارضة الشعبية انفجاراتها وتقود إلى تعديل في تركيب السلطة، أو قيام حكم مؤقت، أو غير ذلك من الاحتمالات الواردة في الافق السياسي"


    وازاء هذه الاحتمالات


    "وفي كل حالة لا يجوز للحزب الشيوعي ان يستبق الاحداث أو يلائم ويوفق، بل يبني موقفه بما يوسع من امكانيات تطور الحركة الثورية، واستعادة حقوقها الاساسية، ويحدد اساليب النضال والشعارات لمواصلة النضال الوطني الديمقراطي من اجل سلطة وطنية ديمقراطية"( ص 12).


    لقد فتحت انتفاضة اغسطس (شعبان) 1973 امكانيات جديدة لمحطات يمكن ان يمر بها النضال الوطني الديمقراطي."


    تعديل قانون الإجراءات ليسمح بالإعتقال التحفظي


    وتمت كل الإعتقالات بموجب قانون الطوارئ وقانون أمن الدولة وكان المعتقلون بقانون أمن الدولة يتطلب تقديمهم لمحاكم لأن قانون أمن الدولة لم يكن حينها يبيح الإعتقال التحفطي، وقطع نميري رحلته وفي تحدي رفع حالة الطوارئ ولكنه عدل المادة 93 (ه) في قانون الإجراءات الجنائية التي أعطت وزير الداخلية ورئيس جهاز الأمن القومي ومدير جهاز الأمن العام السلطة لإعتقال أي شخص يشك بأنه بصدد القيام بعمل معادي لأمن الدولة لمدة عشرة أيام، ويحق لمجلس الأمن القومي أن يجدد ذلك لفترتي إعتقال طول كل منهما 3 شهور على أن يطلق سراح الشحص يعد نهاية الفترة الثانية.


    ورغم إعتقال عدد كبير من الطلاب والنقابيين والسياسيين لم يستطع الأمن إعتقال قيادة فرع الجامعة، فقد إختفينا بمساعدة عائلات سودانية، بعضها لا علاقة له بالسياسة أو بالحزب الشيوعي، وبما أن عصر الديكتاتوريات لم ينته فلن يكون من الحكمة ذكر أسمائهم.


    إحتلال الجامعة


    وتقرر فتح الجامعة في نوفمبر وسبق ذلك إجراءات بفصل عدد كبير من الطلاب، وتم إعطائهم فرصة لتقديم إستئنافات، فقدمنا جميعا إستئنافات وقبلت جميعها، ولكننا إكتشفنا أن الخاتم عدلان رفض تقديم الإستئناف، فإجتمعت لجنة الفرع وقررت أن يكتب إستئناف وكلفت، لعلاقتي الحميمة بشئون الطلاب (عملت سكرتيرا للشئون الإجتماعية ورئيسا للجنة الطعام) أن أحمله وأناقش الأساتذة على مصطفى ومحمود عبدالله وكنت قد عملت معهما أيام إتحاد عبد العظيم حسنين تحت إشراف الأستاذ الكبير أروب يور، وذهبت للأستاذ محمود فطمأنني وقال المسألة مجرد إجراءات فتوجيه المدير أن تقبل كل الإستئنافات وحمل إستئناف الخاتم ودخل للمشرف الجديد الدكتور عبدالله أحمد عبدالله، الذي أصبح مديرا للجامعة فيما بعد وكاد أن يمنعني من الإمتحان النهائي لولا حصافة الأستاذ كمال خضر المسجل في ذلك الوقت ، وأندهشت عندما جاء الدكتور عبدالله لمقابلتي في مكتب محمود وكانت أول مرة أقابله فيها فهو أستاذ بكلية الزراعة وللحق كان ودودا جدا وقال لي أن أبلغ الخاتم بأن إستئنافه قد قبل وقال لي أن مكتبه مفتوح لنا في أي وقت. وقد إمتدت علاقتي بالأستاذ محمود طوال فترة عمله بشئون الطلاب وحتى بعد تخرجي وتركه هو للعمل وإلتحاقه بجامعة الجزيرة، وأذكر، كما سيرد في هذه المذكرات، أنه قال عني كلمات طيبة عند البروفسير عبدالله الطيب عندما أصبح مديرا.


    ولكن لم تكن المسألة الوحيدة هي الطلاب المفصولين وكانت هناك قضايا طلابية أخرى تتعلق بالطلاب المعتقلين ولائحة سلوك الطلاب ومسألة إستقلال الجامعة وحرية النشاط الطلابي بها، فقرر الإتحاد التصدي لتلك المسائل ولكننا في الجبهة الديمقراطية والتنظيمات الأخرى غير الأخوان طالبنا بتكوين لجنة لقوائم الإتحاد (لجنة تضم كل التنظيمات) لقيادة المعركة، لأن الفترة القانونية للجنة الإتحاد قد إنتهت، ولكن لجنة أحمد عثمان مكي لجأت لتكتيك ذكي بأن قدمت توصية للجمعية العمومية بمد فترتها حتى تحيم المسألة وتكتلنا لنصوت ضد التوصية ولكن التوصية فازت لأن الطلاب كانوا يريدون لإتحادهم أن يستمر في معالجة المسألة.


    وقرر الإتحاد الإضراب عن الدراسة وإحتلال الجامعة حتى يستجاب لمطالبه فقررنا الخضوع لرأي الطلاب والإشتراك في الإحتلال فقررت لجنة الإتحاد، وكان ذلك تكتيكا ذكيا آخرا من أحمد عثمان مكي تمثيلنا في جميع لجان الإحتلال: الحراسة والإعلام والطعام وتقرر أن أكون منسقا بين الإتحاد والجبهة الديمقراطية وممثلا للجبهة في لجنة إعلام الإحتلال، وقد أدى ذلك لتعرفي عن قرب لإثنين من قيادات الأخوان حينها: أحمد عثمان مكي و بابكر حنين الذي عملت معه في لجنة الإعلام والإذاعة. وأحمد عثمان مكي (وقد توفى بالويات المتحدة) شخص قيادي مرتب التفكير وخطيب ممتاز وهو لا يشبه الأخوان التقليديين أما بابكر حنين (والذي أصبح مذيعا بالتلفزيون أو مقدم برامج) فقد كان شخصا مرحا ومثقفا ومدخنا شرها (وهي نادرة عند الأخوان).


    ولقد كان الإحتلال ناجحا بكل المقاييس، وقد قامت لجنة الطعام فيه ببطولات مدهشة لتهريب الطعام للطلاب المعتصمين، بل أن بعضهم تنكر في شكل رعاة يسوقون خرافا لقطع الكبري وهربوها داخل الجامعة لإطعام المعتصمين.


    وعبر مفاوضات مضنية كان أحمد عثمان مكي حريصا على إبلاغي بتطوراتها وسؤالي عن راي ورأي الجبهة الديمقراطية خلالها حتى تم الإتفاق على معظم القضايا. ورفع الإحتلال وعدنا للدراسة والإستعداد لإنتخابات الإتحاد.


    لقد كان إحتلال الجامعة وما حققه من إنتصار هو أول إنتصار لحركة الجماهير الشعبية في مواجهة نظام نميري، وقد فتح ذلك الإنتصار شهية الجماهير لمزيد من المعارك والإنتصارات وكان من إنتصارات الحركة الطلابية إنتصار طلاب الثانويات في ديسمبر من نفس العام بإنتزاعم حقهم في تكوين إتحادات ديمقراطية مستقلة عن شعبة الطلاب بالإتحاد الإشتراكي.


    أختطافي من شارع الجمهورية

    وعدت لممارسة حياتي الروتينية ومن بينها مواصلة دراستي للغة الروسية بالمركز الثقافي السوفيتي الذي كان لا يبعد عن الجامعة سوى خطوات ويقع على شارع الجمهورية. وكنت قد إلتحقت بالدراسة فور خروجي من المعتقل. وكان أستاذي هو الشاعر الرقيق عبدالرحيم أبو ذكرى وكنا نتقدم بسرعة في الدراسة مستفيدا من الأساس الذي تعلمته من فاروق كدودة في المعتقل.
    وبعد حوالي أسبوع من فض الإحتلال، ذهبت للمركز الثقافي السوفيتي وحضرت حصة اللغة الروسية، وكان المركز يعرض فيلما في ذلك اليوم فحضرت الفلم وأنا خارج وجدت الصديق طالب الهندسة حينها مصطفى زكي، ومصطفى حينها كان من الجيل الجديد في الجبهة الديمقراطية وسرنا معا في طريق الرجوع للجامعة وعندما تقدمنا عدة أمتار في الشارع إذا بعربة فوالكس واجن برتقالية اللون تقف أمامنا وتفتح بابها وإذا بشخصين يحملاني من الخلف إلى العربة فحاول مصطفى التدخل فدفعهم أحدهم حتى وقع على جانب الشارع وأندفعت العربة إلى مكان أعرفه جيدا، جهاز الأمن حيث كان في إستقبالي السيد خليفة كرار وسلم علي ولم يقل شيئا ودخل مكتبه وبعد قليل جاء الشاويش المعروف لدينا بإسم الجو وقال لي لقد تقرر ترحيلي لكوبر.




    --------------------------------------------------------------------------------

    [1]عقد اجتماع اللجنة المركزية في ديسمبر 1973 وصدرت الوثيقة في يناير 1974.
                  

06-05-2009, 10:28 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    شكرا محمد عبد الجليل سأحاول مراجعة النص بالإستعانة بذاكرتك المتقدة وبالرجوع لديوان محجوب قبل الطباعة.
                  

06-05-2009, 06:41 PM

عبدالله شمس الدين مصطفى
<aعبدالله شمس الدين مصطفى
تاريخ التسجيل: 09-14-2006
مجموع المشاركات: 3253

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: محمد مكى محمد)

    عزيزى صدقى، التحية.

    يقولون أن ذاكرة الشعب السودانى ضعيفة!!!
    فإذا سلّمنا جدلاً بصحة هذه الفرضية فإن ما
    يجعلها هكذا هو غياب التوثيق والتعريف
    للتاريخ السياسى والنضالى لأفراد وكيانات
    قدمت الروح والنفس فداءً للمبادئ والقيم التى
    تصون كرامة ورِفعة الوطن ومواطنيه.

    هذا تاريخ يجب أن أن يوضع فى(ألواح)،أن ينقش
    على حجر الذات وصوّانها حتى لا يذهب أدراج
    الريح.

    برغم الآلام و وجع الذى يُروى هنا الان إلآ أن سعادة
    طاغية تعترينى لمعرفتى أنه كان هناك من يزود
    عن حياض الوطن، أنه كان هناك الكثير من(الوجعاء)
    الذين دافعوا ونافحوا عن وطنهم، وبنفس القدر،
    يوجعنى كثيراً الان غياب تلك النماذج المضيئة،
    أو قلّتها إن وُجدت، قلبى على هذا البلد الذى
    صار يباباً، والذى باتت تحلّق فى سماواته العلا بُغاث
    طير لا تعرف ولا تقوى على الطيران، فأين من حياتنا
    تلك الجوارح الكواسر الان .

    دمت يا صدقى.
                  

06-05-2009, 06:55 PM

ABU QUSAI
<aABU QUSAI
تاريخ التسجيل: 08-31-2003
مجموع المشاركات: 1863

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: عبدالله شمس الدين مصطفى)

    الصديق الصدوق دكتور صدقي

    لك التحية والاشواق ومتابع كتابتك بإعجاب شديييييييييييييييييييد


    Quote: الأستاذ عبدالرحمن سوركتي من مصلحة الضرائب،.


    Quote: كما تعرفت عن قرب بعبد الرحمن سوركتي.


    أكيد تعني عمنا هاشم سوركتي المسؤول السابق بمصلحة الضرائب أمد الله في أيامه ومتعه بالصحة والعافية فأرجو تصحيح الاسم... العم هاشم اتصل بي تلفونيا من المملكة المغربية يبلغك تحياته ويقول ليك متابعة بشغف شديد ، وسيتصل بك بعد عودته من المغرب .

    واصل ..

    أبو قصي
                  

06-05-2009, 11:20 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: ABU QUSAI)

    شكرا عبدالله شمس الدين
    كلماتك تنفذ إلى العقل والقلب معا، شكرا لك
    كل أملنا أن يستنفر ما يكتب الآخرون للكتابة.
                  

06-05-2009, 11:25 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    أبا قصي أيها الصديق العزيز
    شكرا لك للتصحيح فهو فعلا الأستاذ هاشم سوركتي وأرجو أن تنقل له إعتذاري للخطأ فكيف لي أن أفعل ذلك وأنا كل ما أتذكر حوش الطوارئ أتذكر الثلاثي العظيم دكتور حزمر، محمد عثمان طه وهتشم سوركتي!
    له العتبى حتى يرضى وسأصحح الإسم.
                  

06-05-2009, 11:42 PM

حافظ حسن ابراهيم
<aحافظ حسن ابراهيم
تاريخ التسجيل: 04-27-2009
مجموع المشاركات: 1604

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    استاذنا الجليل صدقي كبلو ... والله انا مستمتع جدا بتوثيقك لكن الليله يوم ميلادي و داير أتالم بحاجة تانية
                  

06-06-2009, 00:35 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: حافظ حسن ابراهيم)

    العزيز حافظ حسن إبراهيم
    كل عام وأنت بخير
    أيه رأيك تكتب رسالة لنفسك بعد ما ينفض سامر الأصدقاء عن عامك الذي أتقضى وعامك الذي يأتي؟ تصور تجربة طريفة عندما تكتب رسالة لا يقرأها غيرك!
    كل سنة وإنت طيب تاني وتحقق الأماني!
                  

06-06-2009, 00:43 AM

حافظ حسن ابراهيم
<aحافظ حسن ابراهيم
تاريخ التسجيل: 04-27-2009
مجموع المشاركات: 1604

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    استاذي الجليل صدقي كبلو سلامات ... و الله كتبت رسالة لكن للاسف طلعت ما طريفة بس طلعت حزينة
                  

06-06-2009, 07:25 PM

ماضي ابو العزائم
<aماضي ابو العزائم
تاريخ التسجيل: 09-07-2007
مجموع المشاركات: 3598

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: حافظ حسن ابراهيم)
                  

06-07-2009, 11:01 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: ماضي ابو العزائم)

    شكرا ماضي على الوصلةز يعني مساهمتي في البوست الأول ضاعت؟
                  

06-07-2009, 11:43 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري (9) .. بقلم: صدقي كبلو
    الأحد, 07 يونيو 2009 13:29


    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983


    الاعتقال الثاني ديسمبر 1973 - يونيو 1974


    الليلة الأولى في الغربيات الجديدة


    عندما دخلت كوبر تم إرسالي للزنازين الغربية الجديدة فوجدت هناك الدكتور خالد حسن التوم والدكتور حسين حسن موسى والأستاذ عبد القادر الرفاعي. وكنت أعرف الدكتور خالد والأستاذ عبد القادر الرفاعي منذ الإعتقال الأول، ولكني لم ألتق الدكتور حسين حسن موسى من قبل بالرغم إني قد سمعت عنه الكثير فقد أعتقل في يوليو من جبال النوبة حيث كان يدرس معسكرات الجزام ويحضر لدرجة الدكتوراه في الطب، وأعتقل بسجن الأبيض حيث كان أحد قادة المعتقل، وكانت أخته زميلتي بكلية الإقتصاد وألتقيت أخيه عثمان في الجامعة قبل إعتقالي.


    وقضينا الليلة الأولى بالغربيات الجديدة في أنس جميل ولكن في الصباح تم ترحيلنا خالد إلى المستشفى وحسين إلى الشرقيات وعبد القادر وشخصي للسرايا.


    ترحيلنا للسرايا


    وكانت السرايا مليئة بالمعتقلين من إنتفاضة أغسطس (شعبان) فوجدت الشاعر كمال عووضة والأساتذة عابدين اسماعيل وفاروق أبو عيسى وجلال السيد ومحمد عبدالله المشاوي المحامين والشاعر عمر الدوش وكان طالبا بمعهد الموسيقى والمسرح وميرغني الشايب الطالب بكلية القانون جامعة الخرطوم وعبد السلام حسن الطالب بكية القانون جامعة القاهرة وتيسير مدثر الطالب بكلية القانون جامعة القاهرة وأنور فقيري الطالب بكلية الآداب جامعة الخرطوم وضياء الدين البدوي السنوسي وابو اليسر يونس الطالب بكلية الإقتصاد جامعة الخرطوم وعباس برشم سكرتير إتحاد طلاب جامعة الخرطوم وعدد من طلاب الأخوان وعدد من النقابيين. ولكني لم أقضي غير ليلة واحدة بالسرايا قضيتها في الأنس مع كمال عووضة وتم ترحيلي للمستشفى. وكان لذلك سبب طريف جدا.


    كما قلت في الفصل الأول كنت أثناء وجودي في السرايا أحمل كتاب وأذهب لجامع السرايا حيث الجو هادئ وأقرأ نهار اليوم. وبمجرد صحوي في اليوم الثاني حملت كتابا وذهبت للجامع، وبينما أنا مستغرق في القراءة، جاءني الأستاذ مشاوي وطلب مني أن أخرج معه وقال أن قادة الأخوان قد طلبوا منه ألا أدخل الجامع فأندهشت وقلت له بالحرف "ليه حق أبوهم، ده جامع السجن وهذا السجن له إدارة وسجانين، فهل أصبحوا سجانين". فسكت مشاوي وقال لي "ما عنديش رد وعلى كيفك" ولكن بعد قليل جاء عسكري يناديني وقال "عايزينك في العيادة" فقلت له "أنا لم أبلغ مريضا" فقال لي "مش عارف عمي الصادق قال نادوا صدقي كبلو" فذهبت وأنا أفكر أن عم الصادق مساعد الحكيم الذي أعرفه من إعتقالي السابق لربما أراد السلام علي عندما عرف بوجودي وتخصيص طعام خاص لي، وهو عادة يفعل ذلك مع المعتقلين، وعندما ذهبت سلم علي سلاما حارا وسألني عن أهلي ثم فجأة نظر إلى رقبتي وقال "شايف عندك بهق" فقلت نعم "قال لي "سأعطيك برهم ولكن يجب أن تستعمله في مكان نظيف ٍسأكتب لك دخول للمستشفى". فوافقت دون أن يخطر ببالي أن تلك خطة لإبعادي من السرايا بسبب الجامع ولم أعرف ذلك إلا بعد 13 عاما عندما قابلت عثمان عوض الله الذي كان مأمورا للسجن في ذلك الوقت بمدينة الأبيض وقد ذهبت لتدشين فرع المنظمة السودانية لحقوق الإنسان، حكى لي عثمان كيف أن الأخوان إحتجوا لديه وقالوا إذا إدارة السجن لم تمنعني من دخول الجامع فهم سيمنعوني بالقوة، فقرر عثمان نقلي للمستشفى ودبر المسألة مع عم الصادق، دون أن يوضح للأخوان أنه أستجاب لطلبي. وقد ساعدني عثمان دون أن يدري فقد حماني بدخول المستشفى من الترحيل ثانية لشالا فقد تم ترحيل عدد من المعتقلين في اليوم التالي لشالا وعدد آخر لسجن كسلا .


    ترحيلي للمستشفى وإنقاذي من شالا الثانية


    وقد مكن نقلي للمستشفى من أتعرف عن قرب على شخصيات ما كان لي أن أعرفها لولا وجودي في مستشفى السجن في ذلك الوقت كما سيرد الحديث.


    لقد كان في المستشفى في ذلك الوقت مولانا عبد الرحمن النور، القاضي السابق ووزير الإعلام في حكومة الصادق المهدي الأولى عام 1966 والأخ غير الشقيق لصديقي إبراهيم النور ووالد أسامة عبدالرحمن النور صديق شقيقي الأكبر محمد عوض كبلو والدكتور مبارك الفاضل شداد عضو مجلس السيادة في حكومة أكتوبر ورئيس الجمعية التأسيسية 1965 – 1969 والأستاذ عبد الماجد أبو حسبو وزير إعلام ووزير أشغال سابق وقطب إتحادي بارز والأستاذ بشير محمد سعيد رئيس تحرير جريدة الأيام ونقيب الصحفيين السابق، والسيد زيادة أرباب وزير المعارف الأسبق (أيام عبدالله خليل وجزء من أيام عبود) الشيخ الحاج مضوي محمد احمد القطب الإتحادي المشهور والأستاذ أحمد زين العابدين المحامي، القطب الإتحادي ووزير الصحة في آخر حكومة منتخبة، والأستاذ ميرغني النصري المحامي والذي أصبح فيما بعد نقيبا للمحامين وعضوا بمجلس السيادة وزميله في الحزب الإشتراكي الإسلامي الدكتور ناصر السيد الأستاذ بكلية التربية والسيد صالح عبد الرحمن (المشهور بصالح بيرة) من النقابيين والسيد عثمان جسور من النقابيين والدكتور عثمان عبد النبي الوكيل السابق لوزارة الصحة. وكان هناك من الأخوان المسلمين الأستاذ يسين عمر الإمام والسيد توفيق عثمان صالح.


    أما المعتقلون الشيوعيون فكان هناك الأستاذ مبارك أحمد صالح المحامي والدكتور خالد حسن التوم والأستاذ محمد نور عثمان من قدامى الشيوعيين والأستاذ محمد عثمان طه.


    وقد كان سريري مجاورا للحاج مضوي من جهة ولصالح بيرا من جهة أخرى، وقد بدأت علاقة حميمة مع كليهما وتحادثنا في مواضيع كثيرة وقد حكى لي صالح بيرة جانبا من الصراع في الحركة النقابية ولكنه رغم خلافه مع الشيوعيين كان يكن حبا وإحتراما عميقا لزملائه النقابيين الشيوعيين وكان يتحدث بحب وإحترام عن الشفيع أحمد الشيخ.


    وكنت أعرف الأستاذ أبو حسبو منذ إعتقالي في البحريات عند عودتنا من شالا في الإعتقال السابق، والأستاذ أبو حسبو رجل فاضل ومثقف يحب القراءة وهو من المحبين للشريف حسين الهندي وقد حكى لي عنه حكايات كثيرة وكان يعاملني بود منذ أن أخبرته في إعتقالي السابق أن إبنته كانت زميلتي في الكلية وكان قد سألني عن الدكتور علي عبدالله عباس، الذي وقتها كان خطيب إبنته فقلت له كلاما جميلا عن الدكتور علي عبدالله عباس، وهو كلام يستحقه، فقال لي أبو حسبو "الله يطمئن قلبك يا ابني طمنت قلبي" وقد حزنت حزنا كثيرا على وفاة الأستاذ أبو حسبو بعد الإنتفاضة مباشرة إذ بوفاته خسر الإتحاديون قائدا مفكرا وحصيفا. وطوال فترة الإعتقال لم أر ألأستاذ ابو حسبو غاضبا غير مرة واحدة وكان سبب غضبه ما أعتقده عدم ثبات الأستاذ زيادة أرباب، فلقد كان الأستاذ زيادة يجري نحو الباب كلما سمع صوت المفتاح، ويبدو أن ذلك كان يضايق الأستاذ أبو حسبو فهاج مرة وقال بصوت مرتفع "زيادة دة مالو فاضحنا ما شايف الأولاد الصغار ثابتين كيف؟ عندو شنو برة؟ لا مرة لا أولاد ولا بدخن ولا بيسكر، عايز أيه برة؟ أهي الكوشتينة يقعد يلعب للصباح".


    وكان الأستاذ زيادة قد تم إعتقاله مع الدكتور عثمان عبد النبي والأستاذ بشير محمد سعيد ومبارك الفاضل شداد من نادي الخرطوم وكان يتآنسون وذكروا نميري ببعض النقد.


    وكانت علاقتي مع الدكتور عثمان عبد النبي طريفة جدا فقد سألني مرة عن إسمي فقلت له "صدقي كبلو" فقال مازحا ،يا ابني متأكد صدقي مش عبد الرحمن" مشيرا للوني الأسود بينما إسم صدقي شهير عند المصريين فقلت له مجاريا له في مزاحه "إنت يادكتور إسمك عبد النبي بينما وفقا للونك مفروض يكون إسمك عبد المسيح أو عبد الرسول" فضحك وقال أنا حناديك عبد الرحمن وكنت أناديه "دكتور رسول" وكان بشير محمد سعيد يضحك كثيرا من شغبنا بالأسماء.


    ونشأت علاقة حميمة مع الأستاذ بشير محمد سعيد، كان سببها الأساسي أنني تصديت بالرد على الأستاذ زيادة أرباب وقلت له أن الشيوعيين السودانيين يمثلون التراث الحقيقي للمهدية وناداني بشير بعدها وتناقش معي وأبدى إعجابه بوجهة نظري. وألتقينا بعد المعتقل عدة مرات داخل وخارج السودان كانت آخرها في لاهاي وكنا كل مرة نتبادل الحديث ونتذكر المعتقل.


    وكان مولانا عبد الرحمن النور يعاني من كسر في ذراعه فكنا نتبارى في خدمته وكنا نجتمع أحيانا في غرفته فينشد لنا الدكتور ناصر السيد بعض الشعر ويحكي لنا مولانا عبد الرحمن النور بعضا من ذكرياته في القضاء والحكومة، وأنا أذكر من حكاياته أنه كان قاضي المديرية عندما حكم قاضي كوستي على الأستاذ حسن الطاهر زروق وكان عضوا يالبرلمان بالسجن لقيادته مظاهرات عقب مقتل المزارعين في عنبر جودة، وتقدم ميرغني النصري وكان محامي حسن الطاهر بطلب بالمعاملة الخاصة في السجن بإعتباره نائبا وممثلا للشعب، ولكن القاضي رفض "أن ممثل الشعب يجب ألا ينتهك القانون" فأستأنف الطلب لدى مولانا عبد الرحمن النور فحكم بالمعاملة الخاصة قائلا "ممثل الشعب جدير بالإحترام حتى لو إنتهك القانون".


    وبينما كان معظم المعتقلين يتدافعون لحجز دورهم في لعب الكوتشينة، كنا مبارك أحمد صالح وأنا ننزوي في ركن ونقرأ مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية. وكنا نجلس إلى دكتور خالد حسن التوم ومحمد عثمان طه ومحمد نور عثمان ونستمع إلى أنسهم الشجي وسخرية محمد عثمان طه وضحكته المجلجلة التي تهز أركان السجن وتسخر من فكرة إعتقالنا ذاتها. وأذكر أننا أتفقنا على اللقاء في الخارج في يوم معين بمنزل محمد عثمان طه، وقلنا أننا لن نرضخ لجهاز الأمن الذي يريد أن يفرض علينا العزلة في الخارج وهم سيعتقلوننا حتى ولو لم نلتقي.


    وكان الدكتور خالد خسن التوم قد بدأ إهتماما منذ إعتقاله في شالا حيث سماء الصحراء الصافية ذات النجوم الساطعه بعلم الفلك، وتابع ذلك الإهتمام بالمستشفى وأحضر كتبا في الفلك وبدأ يتابع النجوم ومنظوماتها وجذب إهتمامه ذلك بعض المعتقلين وكان من بينهم طالبا في معهد المعلمين العالي، كان يتابع النجوم حتى في الصباح الباكر وكنا نداعبه ونقول له أن نميري "وراه نجوم النهار".


    وكان معنا في المستشفى عدد من المساجين بينهما إثنين من تجار البنقو من المحكوم عليهم بأحكام طويلة وأحدهما إسمه وردي ومغرم بتقليد سيد خليفة خاصة في أغنيته "نانا" والثاني، والغريب أنني نسيت إسمه ولعل إسمه النفراوي، رغم أنه يسكن حي البوستة وقد إلتقيته عدة مرات وهو يجلس أمام منزله وأنا أسير من منزلنا إلى منزل صديقي المرحوم سليمان هباش.


    ذات ليلة في آخر فبراير، سمعنا صوت هتافات، وبدأت التكهنات لتحديد مصدرها، وذهب البعض بأن الثورة ضد النظام قد إندلعت بينما أكد آخرون أن الصوت يأتي من دار إتحاد طلاب جامعة الخرطوم على الضفة الأخرى للنيل الأزرق، وقضينا تلك الليلة دون معرفة المصدر، وفي الصباح عرفنا الخبر أن الصوت أتى من داخل السجن وأن الطلاب المعتقلين في البحريات قد إصطدموا بالعسكر وأن عسكر السجن قد ضربوهم وقفلوهم في الزنازين. ولكن بعد أيام تم نقلهم لقسم المديرية.


    ترحيلي إلى المديرية


    وبينما أنا في المستشفى جاءت الأخبار أن الطلاب الأخوان بالمديرية قد إعتدوا على الجريدة الناطقة التي كان يصدرها الطلاب الديمقراطيون فقررت أن أسعى للخروج من المستشفى، فحدثت عم الصادق مساعد الحكيم في ذلك فرفض، فصحوت في اليوم التالي مبكرا وكانت نبطشيتي للإشراف على الطعام، فرفضت إستلام المواد بحجة أنها سيئة، وبعد ساعة تم إخراجي من المستشفى وترحيلي للمديرية فوجدت بها من طلاب شعبان عمر الطيب الدوش وابو اليسر يونس وميرغني الشايب وأنور فقيري وضياء الدين البدوي السنوسي و صلاح عباس والعماس من طلاب الجبهة الديمقراطية وتيسير مدثر وعبد السلام حسن من حزب البعث.



    وكان هناك عدد من طلاب حزب الأمة أذكر منهم مكي يوسف وعلاء الدين وكان هناك أيضا عباس برشم ومن طلاب الأخوان أذكر حافظ جمعة سهل والذي يقال أنه قتل في تشاد وكان رئيسا لإتحاد معهد المعلمين العالي قبل ضمه لجامعة الخرطوم، وسيف الدين والشيخ سيداحمد الذي أصبح فيما بعد محافظا لبنك السودان وأبو قصيصة والذي أصبح فيما بعد أحد المسئولين عن ملف السلام في حكومة الجبهة ومات في حادثة طائرة في الجنوب والزبير أحمد حسن الذي أصبح وزيرا للمالية وعدد آخر من طلابهم ممن لا أذكرهم الآن.

    وكان الطلاب الديمقراطيين يقيمون في عنبر والأخوان يقيمون في عنبرين. وكان المعسكر شبه مقسوم، فسعيت بمجرد وصولي لمحاولة إذابة الجليد فحضرت بعض ليالي سمر الأخوان وإشتركت في مسابقاتهم وكانت عبارة عن أسئلة حول مواضيع عامة وفزت في تلك المسابقات.
    وأتفقنا أن ننظم إصدار مجلتنا ونحميها وجاء عدد من الأخوان وجلسوا وأستمعوا ومرت الأمسية بسلام وكسبنا شرعية نشاطنا، وبدأ فصل لتدريس الإقتصاد السياسي. وبدأ أنور فقيري فصلا لتدريس اللغة الروسية كنت أحد طلابه.


    ومن الطرائف أن الأخوان قرروا تهديدنا وأرعابنا فأقاموا إحتفالا أمام عنبرنا بذكرى الجزيرة أبا، وتحدث متحدثوهم عن أحداث الجزيرة أبا ومسئولية الشيوعيين عنها وأنهم سيعاقبون الشيوعيين عندما يقضوا على نظام نميري، فتصديت لهم وفندت حديثهم عن مسئولية الشيوعيين وتحدثت عن مسئولية الأخوان في قسم المعارضة الشعبية ضد نظام نميري وأن الشيوعيين قدموا الشهداء والتضحيات لإسقاط نظام نميري، وقلت لقد إنتهى الزمان الذي يمكن التلويح به بإمكانية إضطهاد الشيوعيين، وأن الحركة الثورية إذا ما وصلت السلطة ستعيد الديمقراطية للسودان ولكنها لن تسمح للأخوان وحلفائهم بممارسة الوصاية والأرهاب وفي محاولة مني لرد أرهاب الأخوان قلت أننا سنصل السلطة قبلهم. والغريب أن حديثي كان له وقع مهيب لدرجة أن أحد طلاب حزب الأمة نهض مخلوعا من النوم في تلك الليلة وهو يصيح "يا كبلو دا أنا فلان" فما كان من زميلنا الحاج حمد إلا أن هب وامسك به وأعاده لفراشه داعيا له أن يقول "بسم الله"، وقد قررنا ألا نذكر تلك المسألة في المعتقل وأن نتعامل مع الشاب كأن شيئا لم يحدث وقد كان.


    ومن الأحداث المؤسفة التي حدثت في المعتقل المشاجرة التي حدثت بيني وصديقي المرحوم عباس برشم والتي أرسلنا بسببها للزنازين ومثلنا أمام حكمدار السجن حينها الراحل العقيد عبدالرحمن الصاوي، فقد جرت مناقشة بعد الغذاء ذات يوم حول أحداث الأربعاء وبما أني كنت أحد شهودها فحكيت ما حدث وسالني أحد الزملاء عن مقتل الطالب سيد، فقلت له أنني لم أحضر الحادثة لأني كنت مصابا ونقلت لقسم الحوادث، ولكني كنت أهم شاهد في محاكمة الشخص الذي أتهم بقتله وأن شهادتي كانت مهمة لبراءته، فبينما بدأ الدهشة على الجميع والسؤال كيف؟ تدخل عباس فقال لي لقد شهدت بالزور يا كبلو؟ فقلت له كيف عرفت وأنا لم أقل بعد بماذا شهدت؟ فسكت فواصلت حكايتي وقلت أن المتهم هو الذي حملني للمستشفى وأنا لم أقل غير ذلك، وكانت تلك هي أساس دفاع الأستاذ القدير المرحوم محمود حاج الشيخ لأنها أثبتت أن المتهم كان أول من حمل المرحوم لأنه حدد دوره في ذلك الصراع بإنقاذ المصابين. ولم أكن أعرف أن عباس برشم والذي كان طالبا بالتجارة الثانوية كان شاهدا وقد إستبعدت المحكمة شهادته لسبب ما. المهم إنتهى الأمر وتفرقنا بعد التمام، ولكن في اليوم التالي وكنت أقوم بإصلاح وتنظيف وابورات الجاز التي نستعملها في المطبخ ومعي السر عثمان (طاحونة)، جاء عباس فقلت له بود ياعباس مش عيب تتهمني بشهادة الزور؟ فقال لي "ما زال ذلك رأيي فأنت شهدت بالزور لتنقذه!" فقلت له يا أخي إنت بتتهمني بالكذب والزول لو أتهم بالكذب ممكن بضارب" فقال لي بإستفزاز "الزول بالضارب ما بتكلم ولكن بيضارب!" فنهضت مما كنت أقوم به وضربته حتى نزف دما من أنفه وفي تلك اللحظة دخل شاويش القسم فأخذنا للزنازين و مثلنا أمام الحكمدار فحكم علي بأسبوع زنازين وعباس بثلاثة أيام" وبعد إطلاق سراحي من الزنازين وبينما أنا ذاهب للحمام بعد صلاة المغرب إذا بعباس يقفز علي فيتدخل الزملاء ويحجزونا. ولم تمر أيام حتى أطلق سراح عباس، وألتقينا في الخارج وتصافينا، وبكيت عباس وأنا بهبيلا في منطقة جبال النوبة عندما أذيع خبر أعدامه لإشتراكه في إنقلاب 5 سبتمبر 1975 ولم أستطع إكمال كوب شاي كان بيدي حين أذيع الخبر وأستغرب الحضور لمعرفة خلافنا الفكري.


    عمر الدوش ذلك الرائع


    لعل وجود عمر الطيب الدوش، الشاعر، ذو الصوت العذب، والحس الفكاهي الساخر، والمخرج والممثل المسرحي المتمكن ولاعب الشطرنج الذكي، المحب للقراءة والإطلاع، طيب المعشر والمحدث البارع في ليالي الأنس ولحظات الفرح والدبرسة (وهي تعبير في المعتقلات للحظات الكآبة وأنخفاض الروح المعنوية) كان زادا لي ولرفاقي في المعتقل.


    كنت أعرف عمر الدوش منذ 1970 عندما ألتقيته مع صلاح العالم ومحجوب شريف، ثم ألتقينا عدة مرات بعد ذلك، ولم يتغير عمر الدوش في تعامله معنا كأصدقاء رغم أنه أصبح شاعرا مشهورا بعد أن زاعت قصيدته الساقية بين الناس.


    وألتقينا في المعتقل، حيث السجن يكشف معادن الناس والوقت يسمح بالمعايشة المستمرة فتعرف الشخص منذ أن يفتح عينيه وحتى يغمضهما للنوم، تعرف ماذا يحب وماذا يكره، ما يضحكه وما يحزنه، ما يطربه من الأغاني وما يردده من أشعار الآخرين، وإذا أقتربت من الإنسان أكثر وفتح قلبه فإنك تعرف بعيونه عائلته وعالمه في الخارج ماضيه وآماله. وكم من صداقات نشأت في المعتقل وأستمرت لما بعده، وأنا أزعم أن السجن قد عمق علاقتي مع عمر الطيب الدوش فرأيت عمر الإنسان كما لم يتاح لكثيرين غيري.


    وعمر رائع ومدهش ومرهف الإحساس، وأذكر أننا كنا نلعب الشطرنج دائما فيأتي الأخ المرحوم عباس برشم للعب معنا فكنت كل مرة أهزم عباس وكان عمر يتضايق من ذلك ويقول لي أنني "عديم الذوق" فعباس هو الوحيد من المجموعة الأخرى (التي كانت تضم الأخوان وحزب الأمة) الذي يأتي للعب الشطرنج (طبعا هذا خلافا للأخوين مكي وعلاء من طلاب حزب الأمة الذين يلعبون الكوتشينة مع الزملاء)، فكيف لي أن أهزمه كل مرة، فقلت لا مجاملة في الشطرنج فأصر هو أن يجامل وأن ينهزم لعباس وفعلها عدة مرات وكنا نضحك عليه فيقول أن تلك مرونة سياسية تتطلبها ظروف السجن. وكان عمر يحكي لنا نكاتا كل يوم تقريبا ولم نكن نعرف من أين يأتي بكل تلك النكات، وكنت معجبا بنكتة حكاها فرددتها بعد ذلك في أماكن مختلفة فلم أستطع أن أترك نفس الأثر الذي تركه عمر فينا، فعمر عندما يحكي النكتة كان يمثل و"يحاكي" بطريقة مدهشة وأنا لا أملك قدراته تلك.


    قام عمر بإخراج مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" ومثل فيها ميرغني الشايب الذي سرقه القانون من التمثيل. وقام بإخراج عدد من الإسكتشات الرائعة وغنى وقرأ شعرا فجعل المعتقل أكثر إنسانية.


    أصبح عمر عضوا بالحزب الشيوعي في المعتقل عام 1974 ولذلك قصة. فذات مساء وكان فرع الحزب بالمديرية مجتمعا، جاء عمر وأراد أن يجلس، فنهضت وسقته بعيدا وقلت له أن هذا إجتماع لفرع الحزب وهو ليس عضوا فيه وعدت وواصلت الإجتماع، وبعد الإجتماع ذهبت لعمر لأعتذر له وأوضح لماذا فعلت ذلك فوجدته غاضبا وقال لي كيف تعقدون إجتماعا بدوني وشرحت له أنه ليس عضوا في الحزب رغم أننا نعتبره من أقرب الناس لنا، فقال "ولكني شيوعي وماركسي" فسالته لماذا لاينضم للحزب فقال لم يطلب منه أحد ذلك ولم يشعر بالحاجة لذلك لأنه يشارك الشيوعيين كافة النشاطات إلا الإجتماعات، فعرضت عليه عضوية الحزب فوافق وقرر أن يكتب طلبا، وكتب طلبا رائعا، رد عليه الزميل سليمان حامد الذي كان موجودا بالكرنتينة ج ردا رأئعا آخر ونقل لنا قرار قيادة الحزب بالسجن لإرساله للنشر بالخارج ولكن للأسف حدثت أحداث في السجن أدت لوقوع كثير من الوثائق في يد إدارة السجن ومن بينها طلب عمر الدوش.


    وأطلق سراح عمر الدوش بعد إكماله الفترة المقررة في القانون (6 شهور وعشر أيام) وعاد لمعهد الموسيقى والمسرح وتخرج بمرتبة الشرف وبعث لجمهورية تشسيكسلوفاكيا فحاز على درجة الماجستير وعاد ليعمل أستاذا بمعهد الموسيفى والمسرح. وكان عمر الدوش قد تطوع لإصطحاب جثمان الزعيم العمالي العظيم قاسم أمين من براغ للخرطوم.


    اليوبيل الفضي لكلية الطب والتظاهر ضد نميري


    وفي أول مارس حل في السجن ما يقارب المائة طالب معظمهم من طلاب كلية الطب جامعة الخرطوم. وقد تم إعتقالهم إثر هتافهم ضد نميري عند حضوره اليوبيل الفضي لكلية الطب. وقد قسم الطلاب المعتقلين إلى قسمين، قسم وضع بزنازين البحريات والقسم الآخر وضع بقسم الشرقيات.


    وبعد ايام تم ترحيل الطلاب المعتقلين بالبحريات إلى المديرية حيث كان يعتقل ما تبقى من طلاب إنتفاضة شعبان وكان من معتقلي إحتفال كلية الطب أحمد قاسم والسر أبو الحسن وعمر النجيب والسر عثمان(طاحونة) وعثمان حسن موسى وأحمد علي قوي وزين العابدين صديق والحاج حمد محمد خير وحمودة فتح الرحمن وفونيكس وإسمه بالكامل عبدالله الجندي وعبد الحميد السمين وسامر سليمان حسين وفتح الرحمن التني ومعظمهم من الجبهة الديمقراطية وقوى اليسار. وكان هناك عدد آخر من طلاب كلية الطب ممن سكنوا مع الأخوان في عنابرهم ولكنهم إختلفوا معهم عند مسألة الإضراب عن الطعام وكان أشهرهم طالب في خامسة طب إسمه سليمان ولكن كنا نطلق عليه إسم مجيب الرحمن مؤسس دولة بنقلاديش.


    الثورة في البرتغال


    كنا نتابع الأحداث في المعتقل من خلال نشرة أخبارية تصدرها قيادة الفرع التي إستطاعت تأمين راديو في المعتقل. وكانت تلك النشرة وجريدة الميدان السرية وما يصلنا من بيانات ومطبوعات حزبية تمثل أهم صلاتنا بالخارج.


    وذات يوم من أيام إبريل وصلتنا أخبار الثورة في البرتغال والتي بدأت بإنقلاب عسكري ثم تحولت لثورة جماهيرية عصفت بحكم سالازار ونظام المستعمرات، وتجمعنا في ساحة المديرية ورددنا الهتافات المرحبة بثورة البرتغال وهتفنا مصير سالازار مصير نميري. والمدهش أن ذلك تحقق في إبريل بعد أحد عشر عاما.


    المعتقل بعد وصول معتقلي اليوبيل


    كان قدوم طلاب اليوبيل الفضي إضافة نوعية للمعتقل فنشطت الحركة الثقافية والترفيهية بالمعتقل. كان من بين الطلاب المعتقلين من كلية الطب حمودة فتح الرحمن والذي كنت أعرفه منذ عام 1970 وعشت معه أيام قليلة في قسم الشرقيات عندما نقل إليها من كوستي ولكنه أعيد عندما أكتشفت السلطات أنه قد أدى إمتحاناته قبل إغلاق الجامعة في مارس 1971. وحمودة شخص مرح وصبور وقد لعب حمودة الذي أصبح شيوعيا في السجن دورا كبيرا فيما بعد في الحركة النقابية للأطباء في الخرطوم بحري وكوستي وفي الحركة الجماهيرية وفي حركة حقوق الإنسان. وكان هناك أحمد قاسم والذي أصبح فيما بعد نقيبا للأطباء السودانيين بالمملكة المتحدة، وكان أحمد شخصا صبورا وكان باسما في كل الظروف وكنا نداعبه بقولنا "أحمد قاسم دائما باسم عيد ميلاده عجور وطماطم" . وكان من بينهم السر أبو الحسن الذي أصبح طبيبا شهيرا في مجال الخصوبة والإخصاب وأطفال الأنابيب وكان عند إعتقاله بعيش قصة حب يعرفها كل المعتقلين وكانت حبيبته (والتي تزوجها فيما بعد) تزوره في المعتقل فكان يغني ( يا ناس وينو هلالكم أنا هلالي يا داك ظهر). وكان هناك الثلاثي المدهش عثمان حسن موسى وعمر النجيب والسر عثمان المشهور بالسر طاحونة وثلاثتهم أصبحوا من الأطباء المتميزين. وقد تعلمت من السر حب غناء الشايقية خاصة تلك الأغنية الرائعة التي تقول
    "لاشوفتا تبل الشوق ولا ردا يطمن
    اريتك تبقي طيب انت انا البي كلو هين"
    ومخاطبة الطير المرسال بأنه "إنخمل في طل التمر" ولقد أصبح السر شيوعيا في المعتقل في إحدى ليالي الإضراب عن الطعام وكنا أنا وهو ننقل المضربين للمستشفى عندما فاتحته في الإنضمام لعضوية الحزب.


    عابدين صديق ذلك القائد الفذ


    وكان من بين الطلاب الذين أعتقلوا مع طلاب كلية الطب الزميل المدهش عابدين صديق الذي فقدته الحركة الثورية في عام 2007. وعابدين كان أميز مسئول تنظيمي لفرع الحزب بالجامعة وقد درس الإقتصاد بجامعة الخرطوم، وكان مثقفا فريدا ومرجعا في قضايا فكرية عديدة، وقد قضينا فترات طويلة تناقش في المعتقلات حول الثورة الصناعية والتراك الرأسمالي.


    أضراب طلاب كلية الطب


    ولكن من البداية كان طلاب الطب مشغولين بإطلاق سراحهم فكونوا لجنة للمعتقل وكنت بإعتباري ذو خبرة بالمعتقل وأعرف ضباط السجن أساعدهم في أمور تحسين المعتقل فأتفقت مع الطبيب على كتابة الغذاء الخاص وفي إنشاء الصلة بقسم الشرقيات حيث يوجد القسم الثاني من طلاب اليوبيل، وتناقش الطلاب حول إضراب الطعام وكان الطلاب الأخوان معترضين فأصر بقية الطلاب على الإضراب، فأعلنوا الإضراب عن الطعام، في القسمين المديرية والشرقيات، ولكن الطلاب الأخوان رفضوا الإشتراك فقررت إدارة السجن جمع الطلاب المضربين في المديرية وتحويل غير المضربين للشرقيات، وبعد يومين من الإضراب زار السجن نائب مدير السجون العميد ميرغني أبو الروس، ويبدو أن إدارة السجن قد أخبرته أنني في المديرية وأوحت له بأنني أقود الإضراب وللحقيقة والتاريخ لم يكن ذلك صحيحا، فالإضراب كانت تقوده لجنة من معتقلي اليوبيل الفضي. ولكن أبو الروس جاء متأثرا بما قالته له إدارة السجن، فنادى علي فلم أتحرك من فراشي فجاءني وجلس بجانبي على النمرة (برش وبطانيتين) وقال لي ما هي مطالبكم فقلت له بإلتزام الشيوعيين المعهود "هناك لجنة فتحدث معها فأنا لست عضوا بها" فقال لي "يا أخي أدخل واسطة بيننا" فقلت "هؤلاء الطلاب لن يقبلوا بغير إطلاق السراح" فقال "طبعا إنت عارف أنا ممكن أعمل أية حاجة إلا إطلاق السراح فهو مسؤولية الأمن" فقلت له ماذا ستفعل لهم إذن؟ فقال أي حاجة تطلبوها فقدمت مطالب المعتقلين التقليدية من سرائر ومواد طعام نطبخها لوحدنا فوافق على الفور وأصدر أوامره بالتنفيذ وعند خروجه هاج في الطلاب وقالوا أنني تحدثت بإسمهم فوضح الطلاب الحاضرون للمناقشة موقفي وقالوا لهم الزول ده قال لنائب المدير ما هو مطلبكم الأساسي وأبلغه أنه لا يمثلكم وأن لكم لجنة" ووعد نائب المدير بنقل مطلب إطلاق السلااح للأمن، ولم تمض نصف ساعة حتى حضر للقسم المساجين وهم يحملون السراير والمراتب.


    أول وفد مدني يدخل السجن للتفاوض


    وأستمر الإضراب، وجاء الدكتور الطيب زروق وكان مساعد المحافظ للشئون الصحية، وأمر ب‘جراء الفحوصات الطبية وتحويل المرضى لمستشفى السجن، وفي عصر نفس اليوم حدثت المعجزة حيث دخل المديرية أول وفد مدني منذ دخول أحمد يوسف هاشم نقيب الصحفيين لمقابلة زعماء العمال في الخمسينات، وكان الوفد مكون من آباء بعض الطلاب المعتقلين ويصحبهم ضابط أمن إسمه المصباح وكنت أعرفه من أيام دراسته بالجامعة وهو من كادوقلي ولي معه قصة سيأتي ذكرها.


    وتفاوض الوفد مع اللجنة التي أصرت على إطلاق سراح الطلاب بدون شرط. وأصر المصباح أنهم لن يطلقوا سراح الطلاب وهم مضربون عن الطعام وبعد مداولات وعد بإطلاق السراح بعد أسبوع من فك الإضراب، ووافق الطلاب.


    إطلاق سراح طلاب الطب وبقائي وقوي ومطرف نميري


    وكعادة جهاز الأمن فقد تم إطلاق سراح الطلاب غير الضربين فورا وإنتظر الطلاب المضربون أسبوعا عندما تم إطلاق سراحهم جميعا عدا أربعة طلاب: أحمد التجاني علي قوي وعارف عفان ومطرف نميري وشخصي (ولم أكن مهتما لأن فترة إعتقالي قد تبقى عليها أيام).


    إطلاق سراحي وخليفة كرار يأمر توصيلي بعربته الخاصة


    وفي اليوم المحدد تم أخذي لجهاز الأمن وهناك قيل لي يمكن أن أذهب فطالبت بعربة لتوصيلي لأني لا أملك نقودا فقالوا لي أن أنتظر حتى يجدوا عربة وفي هذه اللحظة جاء السيد خليفة كرار نائب مدير الجهاز وقال ليهم بالحرف "المصيبة دة قاعد يعمل شنو مش أطلقتوا سراحه فقال الصول خليفة (وهو من أم درمان وكان متحصصا في إعتقال الشيوعيين من أيام عبود) : قال ما عنده قروش ولا زم نوصله ومنتظرين عربية، فأخرج خليفة مفتاح عربيته وقال شوف فلان يوصلوا لغاية بيته ما عايزين مشاكل.


    وفعلا تم توصيلي للمنزل ولم أدرك سبب ذلك الحرص إلا في المساء.


    الإذاعة تذيع أمرا بإعتقالي ضمن طلاب آخرين


    ذهبت للمنزل وتوافد الأهل والأصدقاء للتحية وفي المساء حوالي السادسة زارني عدد من الزملاء فيهم ميرغني الشائب وضياء البدوي السنوسي ومحمد برشم وأبو اليسر يونس وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي ألتقي فيها أبو اليسر فقد إغتاله الأمن بعد أسبوعين. وبينما ضيوفي يشربون "الشربات" والراديو يذيع نشرة الأخبار المحلية، وفجأة أذاع خبر بأمر إعتقال طلاب فأرخينا السمع فإذا أسماءنا جميعا تذاع وطلب منا تسليم أنفسنا وأمر بالقبض علينا وتحويلنا للمباحث المركزية. وقررنا ألا نسلم أنفسنا وخرج الزملاء وخرجت بعدهم لأختفي وذهبت للثورة حيث قضيت أسبوعا مع بعض أقربائي. وخلال هذا الأسبوع كانت والدتي،يرحمها الله، تخرج كل يوم تحمل كيسا وتذهب إلى السوق وتشتري خضارها وتركب البص لزيارتي تحمل لي الجرائد والكتب. ثم جاءتني برسالة من صديقي إبراهيم النور يطلب مقابلتي وأنه جهز لي مكانا آمنا. فأنتقلت للمكان الجديد والذي كان منزل الدكتور فاروق محمد إبراهيم الموجود حينها باليمن. ولكني أضطرت للخروج منه بعد أيام لأنه كان سيكون مكان "لفراش" فتم نقلي لمنزل مولانا شيخ يوسف إبراهيم النور والد صديقي صديق وعثمان، وكنت ضيفا على عثمان حتى صباح 22 يوليو 1974 عندما أعلن نميري عفوه عن "أبنائه الطلاب!!"


    شيخ يوسف إبراهيم النور يسأل إبنه عثمان

    وعندما لم أظهر ذلك اليوم على مائدة الغذاء سأل شيخ يوسف إبنه عثمان "وين ضيفك؟ ولا شملوا العفو وخرج!" يرحم الله شيخ يوسف فقد كان رجلا عالما تقيا ووطنيا ديمقراطيا من طراز فريد.

    (عدل بواسطة Sidgi Kaballo on 06-08-2009, 00:14 AM)
    (عدل بواسطة Sidgi Kaballo on 06-08-2009, 00:21 AM)

                  

06-07-2009, 01:55 PM

dardiri satti

تاريخ التسجيل: 01-14-2008
مجموع المشاركات: 3060

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: محمد مكى محمد)

    صدقي ،
    لم أعتقل !
    إلا لساعات للإستجواب.
    ظننتني محظوظاً ،
    وها أنت تجعلني أستشعر بؤس حظي
    أني لم ألتق بكل أولئك
    الأشاوس من عظماء شعبنا.
    في آخر لقاء بيني وبين
    عبدالله علي ابراهيم
    في أوائل عام 1971م،
    سألته:
    إنت وين ياخي؟
    أجابني : في حتات إنت ما بتجيها !!
    تحياتي له.
    خليل أحمد علي ؟
    ماذات تقصد؟
    هل هو زميلي شديد البأس
    المهندس خريج المعهد الفني
    الذي زاملني في ثانوية الأحفاد؟

    عزيزي ،
    أرجو أن تكتب وتجعل الآخرين يكتبون.

    تحياتي


                  

06-07-2009, 02:03 PM

ماضي ابو العزائم
<aماضي ابو العزائم
تاريخ التسجيل: 09-07-2007
مجموع المشاركات: 3598

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: dardiri satti)

    Quote: يعني مساهمتي في البوست الأول ضاعت؟


    ؟ ؟ ؟ ! ! ! ؟ ؟ ؟
                  

06-07-2009, 03:28 PM

احمد الامين احمد
<aاحمد الامين احمد
تاريخ التسجيل: 08-06-2006
مجموع المشاركات: 4782

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: ماضي ابو العزائم)

    Quote: وكان قد سألني عن الدكتور عبدالله عباس،

    الاسم الصحيح على عبدالله عباس وهو علم فوق راسه نار لمن جلس فى مجالس درسه بقسم الانجليزيه باداب جامعه الخرطوم واعترف الطيب صالح ان نقده بالانجليزيه لروايه موسم الهجره الى الشمال هو الاقرب لتلمس مقاصد ومفاتيح هذه الروايه الكبيره ...
                  

06-08-2009, 00:01 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: احمد الامين احمد)

    أهلا الدرديري
    سنين ولم نسمع منك!
    نعم خليل هو خليل أحمد علي خريج المعهد الفني والأحفاد.
    توفى خليل في حادث حركة بأمدرمان في عام 1998.
                  

06-08-2009, 00:07 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    مراحب أحمد الأمين
    ما قلته صحيحا الاسم الكامل البروفسير الدكتور علي عبدالله عباس وطبعا لم أدرس في كلية الآداب ولكني أعرفه في العمل العام وهو رجل ذو أخلاق عالية وحميدة، شديد التهذيب واسع وغني الثقافة وشجاع.
    شكرا لك وسأصحح المخطوطة قبل أرسالها للمطبعة.
                  

06-08-2009, 00:13 AM

عمر ادريس محمد
<aعمر ادريس محمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2005
مجموع المشاركات: 6787

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: احمد الامين احمد)

    Quote: "لا شوفة تبل الشوق ولا خبرا يطمئن أريت تبقى طيب إنت أنا البي كل هين"

    عن اذنك يادكتور تعديل طفيف .....
    لاشوفتا تبل الشوق ولا ردا يطمن
    اريتك تبقي طيب انت انا البي كلو هين

    قبل ماعمنا وزميلنا العزيز على عبد الحميد ( امبدة ) يقراها
    يقوم يرجعك السرايا بى ليلك دا ... تذكروا ؟؟
    البقول .. حزب الطبقة العاملة وغنا الشايقية الباقى دا كلو فيهو قولان
    خالص الود ...ومتعة ما بعدها
    لك الصحة لك العافية
    واصل ..واصل
                  

06-08-2009, 00:23 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: عمر ادريس محمد)

    عمر إدريس الرائع
    صلحناها كل شئ ولا السرايا وزعل علي عبدالحميد
                  

06-08-2009, 01:58 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    يا ماضي ما فهمت
    لكن على أي حال شهادتي عن أنتفاضة أغسطس شعبان أوردتها في هذه المذكؤات وسأبحث عن بتقي المساهمات في بوستك الأول.
                  

06-09-2009, 10:41 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري (10) ... بقلم: صدقي كبلو
    الثلاثاء, 09 يونيو 2009 09:40

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983


    الاعتقال الثالث مايو 1975 - يوليو 1975


    العودة للدراسة و البروفسيرعبدالله الطيب يستدعيني


    وعدنا للدراسة بالجامعة وكان علينا اكمال الكورسات والجلوس للإمتحانات. وابتدأت الدراسة في جو متوتر فرغم قرار نميري بالعفو عن الطلاب المعتقلين وردت أنباء عن طلاب معتقلين في الجنوب ومن بينهم صديقي والتر كوني جوك الطالب بقسم العلوم السياسية. وكانت التنظيمات السياسية تخاطب الطلاب حول ضرورورة إطلاق سراح كل الطلاب وتطلب من الإتحاد التدخل. وكانت معظم المخاطبات تتم في قهوة النشاط في مركز الجامعة الأساسي وكانت تلك ظاهرة جديدة لم تعرفها الجامعة قبل يوليو، حيث كان معظم النشاط الطلابي يتم في النادي والداخليات. وكانت هذه الظاهرة من ظواهر التوتر الدراسي التي شكا منها الأساتذة وناقشها مجلس الأساتذة. وكان نميري قد عين البروفسير عبدالله الطيب مديرا للجامعة. ولم تمض أيام قليلة على إنتظام الدراسة وبينما أنا أحضر محاضرة عن الإقتصاد الرياضي، إذا بساعي من مكتب المدير بحمل رسالة تطلب حضوري فورا لمقابلة السيد المدير. وخرجت منزعجا لأن مثل هذه الإستدعاءات لم تكن معروفة في الجامعة، فالمدير لا يستدعي طالبا، بل أن ذلك يتم عن طريق العمداء إذا كان الشأن أكاديمي، أو عن طريق المشرف على الطلاب أو أحد مساعديه إذا كان متعلقا بالسلوك، السكن، المصروفات أو حتى أمور الإتحاد أو السياسة.


    ولكني وجدت أن البروفسير عبدالله الطيب قد أرسل لي للإجتماع به ليحدثني عن النشاطات الطلابية خلال ساعات الدراسة وإستعمال الميكرفونات وعن رأيه في نقل النشاط الطلابي لدار الإتحاد، وتناقشنا طويلا موضحا وجهة نظر الطلاب، رغم أنني لم أكن في لجنة الإتحاد حينها، وأتفقنا على حلول وسط، وعد هو بمناقشتها مع الإتحاد، وقال لي في نهاية الإجتماع أنه سعد بلقائي وأن رأي الأستاذ محمود عبدالله في كان صحيحا. وأنتهزت الفرصة وأثرت مع البروفسير عبدالله الطيب مسألة إعتقال صديقي كوني جوك، وكان وقتها يستعمل إسم وولتر، وقد كان كوني رئيسا للجبهة الوطنية الأفريقية وقد أعتقل بواسطة أجهزة الأمن في ملكال ولم يعد للدراسة فوعد البروفسير عبدالله ببذل كل الجهود لإطلاق سراحه لأنه تلقى وعدا عند قبول تعيينه بإطلاق سراح كل الطلاب والعفو عن المطلوبين منهم. وسعدت لوعد البروفسير وقررت أن أذهب لأحدث أصدقائه، ولكني فوجئت في قهوة النشاط بكوني جوك يحمل حقيبة سفر من نوع Traveling Bag وعانقته وحكيت له ما فعلت لتوي فقال أنه وضع في طائرة عسكرية بحقيبته تلك التي كانت معه في المعتقل ولم يعط فرصة للرجوع لأهله وأنه أطلق سراحه في المطار العسكري في الخرطوم، وأنه جاء يرجليه من القيادة العامة لأنه لا يملك نقود، وضحكنا لذلك الموقف الطريف وتركته يذهب لشئون الطلاب لحسم مسألة سكنه وتسجيله وعدت أنا لمكتب المدير لأخبره بما حدث.


    الأمتحانات بعد 3 سنوات في رابعة


    وبينما أن أحضر للإمتحانات أصابتني الملاريا[1] وكأن الملاريا لم تكن كافية لوحدها إذ أن الحقن قد أدت إلى إحتقان مما أدى إلى إجراء عملية لإستئصال الخراج وقال لي طبيب الجامعة، يمكنه إستخراج شهادة مرضية بتاجيل الإمتحانات، فرفضت رفضا باتا فضحك الطبيب قائلا الطلاب يأتوا بدون مرض ويطالبون بشهادات وأنت الذي لا تستطيع الجلوس تطالب بالإمتحانات، فحكيت له كيف أنني إنتظرت هذه الإمتحانات ثلاث سنوات ولا يوجد أي ضمان إذا لم أجلس للإمتحانات في تلك الدورة أن أجد فرصة أخرى. فتضامن معي الطبيب وكتب لي خطاب للكلية لتجهيز كرسي خاص ومسند في قاعة الإمتحانات.


    وجاء اليوم للإمتحان وكانت أول ورقة لي عن الإقتصاد السوداني التي يدرسها الدكتور علي محمد الحسن، وفوجئت عندما دخلت القاعة أنه لا يوجد كرسي خاص ولا مسند بل كرسي عادي من الكراسي الصلبة المشهورة بها قاعة الإمتحانات، فهجت وأرتفع صوتي إحتجاجا، فحاءني دكتور علي مستفسرا فشرحت له كيف أنني سلمت إدارة الكلية خطابا من الطبيب، فهدأني دكتور علي وطلب من أحد الفراشين أن يذهب لنادي الأساتذة لإحضار كرسي بلاستيك ومسند، وعندما أستقريت وبدأت الإجابة على الأسئلة جاء دكتور علي وأخذ رقم جلوسي وسألني كيف أجد الإمتحان فقلت له "كويس". وفعلا كان الأمتحان به أسئلة كنت قد حضرتها جيدا ورغم أنني بعد مضي ساعتين شعرت بالجرح قد إنفتح وبدأت أنزف فقد كملت الإمتحان وخرجت قبل نصف ساعة، وتوالت الأوراق، وكان النزيف يتكرر كلما طالت الجلسة. ولكني كملت الإمتحانات جميعها.


    وقد حدثت مسألة طريفة، فقد قابلني دكتور علي في الكلية فبادرني "أهلا أخونا الشاطر" وقال لي "غايتو في السؤالين الجاوبتهم أخذت A وأنا أخذت رقم جلوسك أفتكرت عيان قلت أساعدك تمر" فبدلا من أضحك قلت ليه "أنا جاوبت ليك ثلاث أسئلة وسؤال واحد لبروفسير محمد هاشم، فقال لا سؤالين فذكرت له الأسئلة وكان من بينها سؤال عن علاقات الإنتاج في المشاريع المروية فقال لي هذا السؤال جاوبه طالب واحد فقط في الدفعة، فقلت عارف هو عمر شمعون فقال لي عرفت كيف؟ فقلت ليه لأننا ذاكرناه معا فضحك وقال سيرجع ويطلب الورق ليراجع كيف أنه لم يصحح ذلك السؤال.


    وحكاية عمر شمعون هي الأخرى حكاية طريفة، فقد جاء عمر للسكن في داخليتنا قبل الإمتحان بأيام فلاحظ أني أمشي ببطء فسألني فقلت له عن عملية الخراج فأصر على إحضار الطعام لي في الغرقة، ونمت علاقة بيننا وتحدثنا عن الإستعداد للإمتحان فشكى لي أنه مستعد لكل المواد إلا مادة الإقتصاد السوداني فهو لا يعرف ماذا يقرأ، فأتفقنا أن نذاكرها سويا وكان مصرا أن علاقات الإنتاج ستكون موضوع سؤال. والطريف أن عمر شمعون كان من قادة الإتحاد الإشتراكي، أي أننا كنا أعداء سياسيين، ولكن هكذا كانت العلاقات الطلابية، وقد إستمرت علاقتي مع عمر لسنوات بعد ذلك رغم الخلاف السياسي.


    المهم إنتهت الإمتحانات ونجحنا فواصلت أنا لخامسة لنيل درجة الشرف وسافر عمر لليبيا.


    الرحلة إلى القضارف


    بينما نحن في إنتظار إستئناف الدراسة في العام الجديد، بدأت علاقتي مع مجلس الأبحاث الإقتصادية والإجتماعية الذي كان مديره الدكتور على محمد الحسن والذي وافق على تمويل بحث لي عن علاقات إنتاج الصمغ العربي في منطقة قلع النحل والقضارف. وسافرت وقضيت شهرا أنقب في الفايلات في المجالس وأقابل مستأجري غابات الهشاب في المنطقة المحجوزة. وقد قضيت وقتا جميلا وسط كرم وحفاوة الأساتذة عبدالرحمن عثمان خالد (شلخ) الضابط الإداري والأستاذ عزالدين حمد المحامي.


    السنة الخامسة


    وعدت للجامعة حيث بدأت درجة الشرف وحيث قضيت عاما دراسيا كاملا عدا الإمتحانات والذي سيأتي سبب تعطيلها ولكني أريد هنا أن أتحدث عن أساتذتي في السنة الخامسة، والذين تعلمت منهم في هذه السنة ما لم أتعلمه خلال السنوات الأربع الأخرى وفي مقدمة هؤلاء الدكتور علي عبد القادر والدكتور خالد عفان والدكتور سيد نميري والبروفسير نسيم وعموما كان العام مليئا بالمعارف الإقتصادية الجديدة وبتنظيم معارف قديمة كانت مبعثرة. وقد كان للدكتور علي عبد القادر فضل كبير في فهمي للفكر الإقتصادي الكلاسيكي الجديد، بينما قدم لي الدكتور خالد عفان الإقتصاد القياسي بشكل ممتاز وقدم الدكتور سيد نميري الفكر الكينزي، وكان وجود البروفسير نسيم فرصة نادرة لدراسة التخطيط الإقتصادي والفكر التنموي.


    ولعل دراستي للفلسفة والإقتصاد السياسي (خاصة كتاب أوسكار لآنجة) وتعرفي على تيارات جديدة في إقتصاديات التنمية (بول باران ومدرسة التبعية) ودراستي لتاريخ الفكر الإقتصادي الذي ساهم فيه كتاب أريك رول في المعتقلات لعبوا دورا كبيرا في قدرتي لإستيعاب وتنظيم ما درسته بالسنة الخامسة. وكتبت خلال هذه الفترة أولى مساهماتي عن مفهوم الفائض الإقتصادي في كتيب عبد الخالق "حول البرنامج" وحاولت أن أربط بين مفهوم عبدالخالق وباران، ولكن ورقتي تلك لم تلق ترحيبا فقد ارسل أحد الزملاء في الحزب تعليقا ينتقد فيه ربطي لفكر عبد الخالق بباران. ولكنني ظللت مهتما بقضية الفائض الإقتصادي منذ ذلك الوقت بإعتبارها قضية هامة في التخطيط الإقتصادي والسياسات الإقتصادية، رغم محدودية المفهوم وعدم تعرضه للمسألة الأساسية وهي إنتاج الفائض الإقتصادي والإستغلال الممارس وفقا لعلاقات الإنتاج السائدة. لقد فتح باران في مقالته عن الإقتصاد السياسي للتخلف وكتابه عن الإقتصاد السياسي للنمو آفاقا رحبة بصياغته لمفهوم الفائض الإقتصادي الحقيقي والفائض الإقتصادي الكامن. وما زلت أرى أن عبد الخالق قد إستوحى مفهوم الفائض الإقتصادي الكامن من عند باران وأنه وظفه بصورة خلاقة في مشروعه "حول البرنامج".


    وتوطدت علاقتي خلال هذه الفترة بالدكتور محمد العوض جلال الدين وكان يقرأ بعض ما أكتب، وكنت أعرف محمد العوض منذ كان طالبا وقد كنا أعضاء في جمعية تطوير الريف وكان صديقا لصديقي عبد الماجد أحمد موسى الحدربي وتعرفت عن طريقه على جي أوبراين الأستاذ بقسم الأنثربولوجيا الإجتماعية، وكنا نتلاقى كثيرا للنقاش حول القضايا العامة وبدأنا عن طريقه التعرف أكثر على مجموعة المنثلي ريفيو وبدأنا قراءة كتبهم ومجلاتهم فتوسع أفقنا المعرفي وتطور موقفي المستقل عن الماركسية السوفيتية والذي بدأ في الستينات بقراءة غارودي وفي بداية السبعينات بقراءة أوسكار لانجة وتوطد بالإنفتاح على المنثلي ريفيو ومطبوعاتها، ثم تعرفت على كتابات سمير أمين و أندرية غوندار فرانك وغيرهم وساعد في ذلك الوقت وجود الصديق نور الهدى محمد نور الهدى، صاحب دار نشر عازة الآن، في مكتبة دار النشر، حيث طلب لنا ما نحتاج من كتب من مختلف دور النشر العالمية، وأذكر أنه طلب لي كتاب أريقي حول التبادل غير المتكافئ وبينما أنا أهم بشرائه، تصادف وجود البروفسير محمد أمين التوم في المكتبة، فقال لي هذا كتاب غالي وأنا أستطيع أن أهديك نسختي فأنت كطالب إقتصاد تحتاج لها أكثر مني، وفعل وأشترط علي أن أحضره لتقديمه لعدد من الأصدقاء ولكن ظروف إعتقالي لم تسمح.

    وخلال هذه الفترة نشط مجلس الأبحاث الإقتصادية في تقديم سمناراته الأسبوعية فواظبت على حضورها وتعرفت على عدد كبير من المهتمين بالإقتصاد والعلوم الإجتماعية، وكان أنشط الكاديمين تقديما لسمنارات بالمجلس هو الدكتور علي عبد القادر والدكتور عبد الغفار محمد أحمد، ثم قدم الدكتور عبد المحسن مصطفى ورقة عن التركيب غير السوي للإ قتصاد السوداني والتي فتحت لي أبوابا جديدة للمعرفة والبحث.وقد تعرفت خلال هذا العام على أبناء دفعة جديدة وتوطدت علاقتي بهم ومن بينهم معتز الحاج عبد اللطبف والذي سيرد ذكره فيما بعد والأخت محاسن أيوب القدال والأخت بتول البشير والأخت بتول والأخ حامد عثمان حامد، والأخت ليلى سمساعة والأخت ليلى المقبول وغيرهم.
    ولكن رغم إنشغالي بالتحصيل الأكاديمي واصلت نشاطي السياسي، خاصة في مجال العمل الديمقراطي ومركزية الجبهات الديمقراطية. وشاركت في النشاط الطلابي العام بما في ذلك مظاهرات السكر في سبمتبر 1974. وكانت المظاهرة قد خرجت من الجامعة لتلتحم بالخارجين من العرض الأول بسينما كولزيوم، وكان المتظاهرون معظمعم من الجبهة الديمقراطية وكانوا إلى جانب الهتافات المعادية للحكومة وصندوق النقد الدولي يرددون الأناشيد الثورية خاصة ذلك المقطع من الملحمة الذي يقول:


    ولسة بنقسم يا أكتوبر


    لما يطل في عهدنا ظالم


    نحمي شعار الثورة نقاوم


    وقد شاهدني الناس وأنا أخطب في المظاهرة قرب السينما، وعندما هاجم الإحتياطي المركزي المظاهرة ظن الجميع أنني أعتقلت، وعند عودتي للجامعة كنت أتصنت على بعض الطلاب يتحدثون في القهوة عن إعتقالي، ففاجأتهم بالحديث معهم فكان هناك من سعد برؤيتي ولكن الأخوان المسلمين أصيبوا بخيبة أمل فهم لم يشاركوا في المظاهرة وتمنوا إعتقالنا.


    مقاطعة الإنتخابات القرار الخاطئ


    وأرتكبنا في ذلك العام أحد أكبر الأخطاء السياسية عندما قررنا مقاطعة إنتخابات الإتحاد بهدف عدم تحقيقها للنصاب القانوني، ولم يكن الخطأ سياسيا فقط بل كان تنظيميا أيضا لأنه لم يتخذ وفقا للقنوات التنظيمية سواء في صعيد فرع الحزب او الجبهة، فقد تم عقد إجتماع موسع لعضوية الجبهة، كان من المقرر له أن يعد قائمة المرشحين، فتحول لمناقشة المشاركة في الإنتخابات أو مقاطعتها، ولقد شاركت في ذلك الخطأ السياسي والتنظيمي بفعالية، ولقد كان القرار بالمقاطعة خطأ سياسيا لأنه كان ببساطة سيترك الطلاب بدون جهاز نقابي، وهذا في الحقيقة خيار خاطئ ولا يقود بالضرورة لإجبار الأخوان للجلوس لمائدة المفاوضات لتبني دستور جديد، وقد تأثرنا بضغوط تنظيمات أخرى من حلفائنا وحاولنا تقدير المسألة بشكل حسابي بسيط، بينما المسائل السياسية هي مسائل كلية تقيم بالموقف السياسي وما يخلقه من تفاعلات، وبالنسبة للطلاب فكان موقفهم واضحا فهم لا يمكن أن يفرطوا في العصفور الذي بيدهم (إتحاد المباشر) في سبيل عصفور طائرغير مضمون (التمثيل النسبي)، والمنطق الحسابي نفسه يقول لو بمقدورنا نحقق أغلبية في المقاطعة فبمقدورنا تحقيق أغلبية في الإنتخابات. أم الخطأ التنظيمي فقد كان واضحا مخالفتنا لطرق إتخاذ القرارات وفقا للهيئات الحزبية وهيئات الجبهة وتغييرنا لأجندة الإجتماع.


    وبالطبع كانت النتيجة واضحة، هو فوز الأخوان من خلال شرعية الجمعية العمومية التي حققت الكورم.


    إغلاق الجامعة والإضراب غير المبرر


    وأنتهت الإنتخابات لنعود للدراسة حتى مارس 1975 عندما بدأنا الإستعداد للإمتحانات. ولكن فجأة برزت دعوة لتأجيل الإمتحانات لأن العام الدراسي كان قصيرا والمقررات لم تكتمل في بعض الكليات. وكنت أحد الرافضين لتلك الدعوة وكنت أعتقد أنها دعوة غير مسئولة وتهدف لتعطيل الإمتحانات لأسباب شخصية، ولكن وجهة نظري هزمت في الحزب والجبهة وكا يقود الحملة لتأجيل الإمتحانات الزميل الخاتم عدلان. وقرر الإتحاد تحت ضغط الطلاب المطالبة بتأجيل الإمتحانات أو الدخول في إضراب، مما إضطر إدارة الجامعة لإغلاقها.


    الأختفاء في أم درمان والسفر لرفاعة


    ولم يكن من الممكن بالنسبة لي العودة لمنزلنا خوفا من الإعتقال، فأتفقت مع صديقي المعتز الحاج عبد اللطيف أن أذهب معه إلى رفاعة، وتركت له أمر تدبير مواعيد وطريقة السفر وذهبت أنا لأمكث مع أصدقاء لي بمدينة أم درمان، حيث مكثت قرابة الأسبوع حتى إتصل بي معتز وسافرنا إلى رفاعة، وأستقبلتنا والدته الحاجة سكينة إستقبالا حارا ومهدت لنا كل سبل الراحة وبدأنا سويا الإستعداد للإمتحان وقد أنجزنا الكثير خلال فترة قصيرة فالتهمنا كتاب الإقتصاد القياسي ألتهاما، ثم إنتقلنا للإقتصاد الكلي، وقبل أن ندخل في الإقتصاد الجزئي أصبت بقلق غير مبرر وقررت العودة لأم درمان، وحاول المعتز إثنائي وكذلك والدته التي قالت لي أنها لم تر معتز مهتما "بالمذاكرة" إلا في وجودي، ولكني لا أدري ما دهاني فقررت العودة للمنزل.


    خطأ العودة من رفاعة والإعتقال من المنزل


    عدت للمنزل وواصلت إستعداداتي للإمتحانات بجدية وكنت لا أكاد أخرج من المنزل وذات صباح سمعت طرقا على الباب، ففتحت الباب فإذا بي أمام مجموعة من جهاز الأمن ممن أعرفهم جيدا، فطلبوا مني أن يفتشوا المنزل، ففتشوه بدقة ولم يجدوا شيئا ولم يأخذوا شيئ، وطلبوا مني أن أصحبهم، فأخذت حقيبة ملابسي وكتبي وأخذوني للجهاز. وصادف دخولنا، حضور السيد خليفة كرار نائب مدير الجهاز فطلب من الشاويش إحضاري للمكتب، فطلب لي قهوة حسب رغبتي، وبادرني "أيه الحاصل عندكم؟" فقلت له "نحن مين؟" فقال وهو يضحك "يبدو إنك مدرب كويس ... يا صدقي أنا كنت عارف إنك في بيتكم ولم أكن أريد إعتقالك ولكن قبضنا على واحد مهم جدا عندكم، وجدنا عنده ورق وأسماء، في أسماء لزباين قدام زيك ما كنا عايزينهم وعارفين هم فين لو عزناهم، لكن أهتمينا بالأسماء غير المعروفة، لكن أي واحد نقبضه نلقى عنده ورق، مش لي حق أسأل أيه الحاصل عندكم؟" ورغم أن ما قاله كان مثل السكين في قلبي، تظاهرت بعدم الإهتمام وقلت "طيب أنا ما لقيتو عندي حاجة، ما سكيني ليه؟" فقال لي "والله المسألة بسيطة نحن قررنا نعتقل كل القوائم، وحتشرف كوبر شوية وبعدين نشوف". وأنتهت المقابلة بأن رفع السماعة وطلب تجهيز عربة لنقلي لكوبر.




    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] وهي المرض الثاني الذي أصابني في المعتقلات وظل يتكرر دائما حتى عالجني الدكتور حسين حسن موسى بعد أن أخذني إلى معمل الملاريا بوزارة الصحة حيث قام فحيص قال أنه متخصص في فحص الملاريا وأنواعها لعشرات السنين، فحدد نوع ملاريتي بنوع نادر في السودان ولكنه منتشر في غرب أفريقيا وحكيت لهم كيف أننا في زالنجي كنا نشارك حجاجا دخلوا السودان بشكل غير شرعي من نيجريا الحوش(في الحقيقة كانوا في الحوش الخلفي لعنبرنا وتفتح شبابيكنا عليهم)،

    (عدل بواسطة Sidgi Kaballo on 06-10-2009, 00:37 AM)

                  

06-09-2009, 11:49 PM

ماضي ابو العزائم
<aماضي ابو العزائم
تاريخ التسجيل: 09-07-2007
مجموع المشاركات: 3598

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    Quote: يا ماضي ما فهمت
    لكن على أي حال شهادتي عن أنتفاضة أغسطس شعبان أوردتها في هذه المذكؤات
    وسأبحث عن بتقي المساهمات في بوستك الأول.


    بكل أسف لن تجد شئ فقد اختفى البوست مع النسخة الاولى من بوست أعلام و أماكن صور نادرة
    وعندما أعدت انزالة تزامن ذلك مع دخول حركة العدل و المساواة لامدرمان فكان حظه ضئلا
                  

06-10-2009, 10:32 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: ماضي ابو العزائم)

    يمكننا يا ماضي أن نؤلف قولا ليصير مأثورا "الجاتك في بوستك سامحكتك"
    ٍسأنظر في أرشيفي علي أكون قد إحتفظت ببعض مساهماتي.
    المهم يا صديقي ألا نيأسمن التوثسق.
                  

06-10-2009, 01:16 PM

أحمد أمين
<aأحمد أمين
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 3370

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    الاستاذ صدقى

    استمتعت جدا بهذ التوثيق المتميز
    انشاء الله نشوفه فى كتاب قريبا

    ومانسحرك ذاكرتك حديديه

    اتمنى لك المواصله فى هذا العمل المهم
                  

06-10-2009, 02:14 PM

dardiri satti

تاريخ التسجيل: 01-14-2008
مجموع المشاركات: 3060

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: أحمد أمين)

    Quote: Quote: يعني مساهمتي في البوست الأول ضاعت؟



    ؟ ؟ ؟ ! ! ! ؟ ؟ ؟



    إنت معاي أنا يا ماضي؟؟


    تحياتي
                  

06-11-2009, 02:07 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: dardiri satti)

    مراحب أحمد أمين
    شكرا ليك ولمتابعتك
    ذاكرتي خربة ولكني أحاول!
                  

06-11-2009, 02:15 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    درديري ساتي
    سلام
    كنت قد كتبت لك على عجل:
    Quote: أهلا الدرديري
    سنين ولم نسمع منك!
    نعم خليل هو خليل أحمد علي خريج المعهد الفني والأحفاد.
    توفى خليل في حادث حركة بأمدرمان في عام 1998.


    خليل أحمد علي أعتقل في يوليو 1971
    ثم أعتقل عدة مرات تحت نظام الجبهة وظل هو وعائلته صامدين
    ولكن إنقلبت عربته في شارع الوادي وتوفي عام 1998
    تخرج حتى الآن ثلثة من أبنائه وبنت وبقي في التعليم ولد وبنت.
    أحد أولاده تزوج في مايو 2009.
    خليل كان حبيب كل من عرفه، رجل ولا كل الرجال، أعتز بأنه كان صديقي قبل أن يصبح نسيبي، وستظل ذكراه ترفرف دائما في عالمي!
                  

06-11-2009, 06:22 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري (11) .. بقلم: صدقي كبلو
    الخميس, 11 يونيو 2009 16:33

    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983


    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


    الاعتقال الثالث مايو 1975 - يوليو 1975


    الشرقيات

    وفي العربة لكوبر كنت أفكر: ماذا حدث؟ من هو الشخص الذي أعتقل؟ وكم شخص أعتقل ومن هم الأشخاص غير المعروفين؟ووصلت العربة لكوبر ولأول مرة كنت متلهفا للدخول حتى أعرف الإجابة على الأسئلة التي تشغلني. وتمت إجراءات التسجيل والتفتيش وأخذت للشرقيات، وأستقبلني أمباشي سيدأحمد وقادني للزنازين وفتح الباب، وكان بالداخل عدد من الطلاب الذين أعرفهم: منصور إسحاق إسرائيلي، عبدالرحمن سالنتوت، عزيز أحمد الكامل ومحمد الحسن عبدالرحمن لوممبا. وقبل أن أستقر إذا بقادم جديد يصيح بالباب "صدقي كبلو يا إبن الكلب جيتك تاني" ثم أطلق ضحكة مجللة فنهضت صائحا "حاج حمد إزيك يا ود الداية" وضحكت أنا أيضا وأتجهت لعناقه، وجلسنا نحكي ما حدث فقال لي الحاج أنهم جاءوا وفتشوا البيت ولم يجدوا شيئا وأعتقلوه وحاولوا إستفزازه في الأمن وقال له أحدهم "عامل شنبك كوليقة وعايشاك مرة!" فرد عليه الحاج قائلا "مرة لكن أرجل منك!" فرحلوه لكوبر. وبدأ عدد يزيد وظهر طلاب آخرون من كادر الطلبة السري وكل هذا ونحن لا نعرف ماذا حدث؟ ولكننا توصلنا أن هذه ضربة توصيلات الجامعة لفروع الأحياء والمدن. ولكن وجود خريجين جدد من شرق أوربا جعلنا نتوقع أن الضربة لتوصيلات القادمين من الخارج أيضا، وكان السؤال كيف حدث هذا؟ وبدا العدد في التزايد فتم ترحيلنا للمديرية.
    وعرفنا فيما بعد أن الضربة كانت من مسئولية المرحوم خضر نصر، فقد أرتكب الرفيق خضر ثلاث أخطاء تنظيمية أولها أنه جعل من منزل زميل موظف بجهاز الأمن مكانا لمقابلاته، ومحطة لتسليم المطبوعات ومكانا يؤمن فيه وثائقه مثل طلبات ورسائل التوصيلات وتقارير الفروع المسئول عنها بالمديرية، وكان الزميل يقوم ببعض أعمال الطباعة الحزبية لأنه يملك مكانه طباعة، وقد ضربت جميع هذه الأشياء إلا الزميل خضر الذي نجا بدقائق من المداهمة، رغم أن رصد جهاز الأمن قد تم لحركته بالذات. وهكذا عرفت هذه الضربة وسط الشيوعيين بضربة جابر وخضر، بينما في الحقيقة جابر كان أحد ضحاياها وأصبح الرفيق ضحية لها فيما بعد.


    المديرية


    تجمعنا في المديرية وكان العدد كبير يتكون أساسا من معتقلين من مدينة أمدرمان ومدينة الخرطوم وخريجي شرق أوربا وطلاب جامعة الخرطوم وطلاب معهد الموسيقى وضابط قوات مسلحة ومجموعة من الإتحاديين من الجزيرة معظمهم معلمين وهذه بعض الأسماء التي تذكرتها وليعذرني من نسيت أسماءهم.


    صلاح العالم، محمد عثمان مكي، حسن وداعة الحسن، محمد عبد الغفار، صلاح عبدالله، محمد الحسن عبد الرحمن لومببا، الحاج حمد محمد خير، عبد الرحمن سالنتوت، عزيز أحمد الكامل، منصور إسحاق إسرائيلي، صلاح التجاني، محمد هارون، صدقي كبلو، مزاحم عبد الوهاب الضوي، عبدالغفار الضوي، دكتور فيصل عبدالوهاب الضوي، دكتور السر محمد الحسن، السرحسن يوسف، الشفيع إبراهيم الضو، السر فضل، حسن إبراهيم توتي، عوض الصافي، جعفر حسن عباس، العقيد معاش تاج السر الصافي وآخرين لا تسفني الذاكرة فلهم العتبى حتى يرضواكان تشكيل المعتقل عجيبا فكان معظمه من عناصر المهنيين والطلاب، وكنت أكثر المعتقلين خبرة، فتحملت بتكليف من مكتب الحزب بالسجن مسئولية تنظيم الشيوعيين، وكانت ثمة صراع خفي بين شيوعيي مدينة أم درمان والخرطوم، كما كانت هناك مقاومة لما إعتدنا عليه في المعتقلات من تنظيم يوم المعتقل: الصباح حتى الثانية عشر للقراءة والإطلاع أو الراحة، بقية اليوم مفتوح للنشاطات، وكانت هناك مقاومة غير معلنة للعمل الثقافي إما بحجة أن المادة مكررة أو أن بعض الزملاء يستعرضون معارفهم، ولكن رغم ذلك كانت هناك إشراقات كثيرة ومرح كثير، فالأستاذ محمد عبد الغفار وهو من قدامى الشيوعيين ومن النقابيين في الخطوط الجوية أشاع جوا من المرح في المنافسات الرياضية وبين الأتيام المختلفة، كان الأستاذ محمد عثمان مكي شعلة من النشاط الثقافي، يدرس الفلسفة ويقدم المحاضرات العامة وينظم ليالي السمر ويحكي أفلام الرعب، وينظم المسابقات. وكان صلاح العالم يملأ المعتقل بظله الخفيف وحكاياته الطريفة ومناقشاته الثقافية وحفظه الشعر الجميل ولا أبالغ إن قلت أن صلاح كان يحفظ دواوين كاملة لشعراء مثل الأبنودي وأمل دنقل.


    وعلى المستوى الشخصي تعرفت على شخصيات جديدة، لعل في مقدمتهم الأستاذ السر فضل وهو معلم إبتدائي من المثقفين المهتمين يالمسرح وقضايا الثقافة وقضايا المزارعين (إلتحق فيما بعد بمعهد الموسيقى والمسرح) والزميل حسن إبراهيم (والذي توفى في حادثة مركب توتي الشهيرة) وهو ترزي ببيت المال وشيوعي بقيادة مديرية الخرطوم وكان مسئولا عن الكميون، وكان يتميز بروح شفافة يعرف كيف يخرج المعتقلين من لحظات "الدبرسة" وكيف يفاجئ المدخنين بسجارة بونص أو كوب شاي فوق المقرر، وكان صبورا في ترتيب حاجيات الكميون وتجهيز الطلبيات قبيل الزيارة وحثني لمقابلة الطبيب لمناقشة دعم الغذاء أو مطاردة التفريدة.


    وتعرفت على الصيدلي سعيد خلف الله، ذلك الشخص الرقيق والمهذب، وكانت تلك أطول فترة تجمعني بالمخرج المعروف الشفيع إبراهيم الضو والذي كنت أعرفه من أيام المدرسة الوسطى ثم تفرقت بنا السبل، فاستعدنا بعض ذكريات الصبا وتبادلنا المعلومات عن أصدقاء ومعارف مشتركين. وتعرفت عن قرب على محمد الحسن عبدالرحمن الملقب بلوممبا وكان طالبا بكلية الهندسة وهو شخص متعدد المواهب وذكي وحكى لنا عن مشروعه للتخرج عن إستعمال (الليف) بدلا عن القش المستورد في المكيفات وحكى لنا عن زميلتهم ذات النشأة والثقافة المختلفة لدرجة أنه سألوها في رحلة أن تعرف الراعي فقالت "الراعي هو الزول البيسوق الغنم بفسحها" وقد إستعملنا ذلك نمودجا لبعض التعريفات مثل "الديدبان هو الزول البتفسح فوق سور السجن".


    وكان هناك عزيز أحمد الكامل وهو طالب هندسة آخر، كنت قد تعرفت عليه في عام 1970 وهو طالب بمدرسة الخرطوم بحري الثانوية، عندما كنت أذهب للحديث في الندوات التي تنظمها الجبهة الديمقراطية بتلك المدرسة.


    وكان من بين المعتقلين أشقاء من عائلة واحدة، هي عائلة مزاحم عبد الوهاب الضوي وهو عضو جبهة ديمقراطية ورد إسمه في التوصيلات فذهبت قوات الأمن لإعتقاله فوجدت في منزله متفرجات ضوئية تستعمل للإنارة تحت الماء تخص أحد أخوانه، ولم يكن ذلك الأح موجودا فأعتقلوا كل من بالبيت بما في ذلك أخيه الطبيب دكتور فيصل الضوي وأخيه عبدالغفار الضوي، وقد أطلق سراح الأشقاء بعد حضور الأخ المسؤول عن المتفرجات ولإثباته ملكيتها وطبيعتها.


    وكان بالسجن معتقلين آخرين من بينهم الأساتذة سليمان حامد والراحل عبد المجيد النور شكاك ومختار عبدالله وأحمد عبدالله هلال والتوم إبراهيم وعدد آخر من المعتقلين موزعين بين المستشفى واللكرنتينة ج، بينما كان العسكريون المحاكمون موجودين بالكرنتينة "أ" وقد كنا كمعتقلين نتبادل التحايا مساءا عبر الهتاف والأناشيد.


    كانت الهتافات والأناشيد تلفت نظر سكان كوبر والعابرين لكبري كوبر (كبري القوات المسلحة). ولقد كان وقفها هو أحد شروط تصفية المعتقل بعد إضراب الطعام في مارس 1973 ولكني للأسف لم أعرف ذلك إلا بعد الأحداث التي سأوردها هنا وأظن أن موقفي، ولربما موقف قيادة المعتقل كلها كان سيتغير لو عرفنا تلك المعلومة.


    ذات صباح أستدعيت لجهاز الأمن وقد شيعني المعتقلون بأماني إطلاق السراح، ولكني عندما وصلت، تم التحقيق معي حول الهتاقات والأناشيد، وكعادة المعتقلين نفيت معرفتي بمن ينظمها وقلت أنها تقليد يحي به المعتقلون بعضهم البعض، وحولت للمرحوم خليفة كرار، والذي يبدو أنه كان يود إطلاق سراحي حتى ألحق بالإمتحانات، ولكن ردي عليه أثناء مناقشة مسألة الهتافات جعله يغير رأيه، فقد استفزاه ردي عندما سألني يعني إنتو جو السجن وبتقوموا بعمل معادي للدولة، فقلت له يمكن الحريات المتوفرة في السجن ما متوفرة برة أو شئ من ذلك القبيل. لقد كان ذلك الرد خطأ وإستفزازا لرجل في يده سلطة واسعة يمكن أن يستعملها، وقد إستعملها فعلا، لتضييق الحريات في السجن وجعل المعتقل صعبا لكل المعتقلين. وقد حدث فعلا بعد إعادتي لكوبر بيومين أن جاء حكمدار السجن يبلغنا إنذارا من القمندان بأن لا نردد الهتافات والأناشيد، وكان قد مر على جميع الأقسام التي بها معتقلين وبلغهم نفس الإنذار، وكنا مثل بقية المعتقلين لم نرد على الإنذار، وتشاورنا بعده وقررنا ألا نستجيب له وكان ذلك أيضا قرارا خاطئا فليس عيبا أن تستجيب للوائح السجن في مثل تلك الأمور لأن النتيجة كانت إرسالنا للزنازين وإبعاد عدد من المعتقلين لشالا كان من بينهم سليمان حامد وعبد المجيد شكاك وأحمد عبد الله هلال ومختار عبدالله والسر النجيب وعباس علي وعبد القادر الرفاعي.


    البحريات والتعذيب


    أما نحن من بقينا في كوبر فقد تم حبسنا لأسبوعين في البحريات تمت معاملتنا فيها بوحشية من قبل سلطات السجن وفقا لأوامر الكومندان المرحوم عبد الرحمن الصاوي والذي يسجل التاريخ أنه أول من وضع سجن كوبر تحت أمرة جهاز الأمن. لقد وضعنا في الحبس الإنفرادي ومنعنا من الخروج وكان الأكل والشراب يوضع خارج الزنازين وعلينا أن نأكل من خلف القضبان ونشرب من خلال الكفتيرة، وقد قضينا أسبوعا دون فرش أوغطاء أوغيار، ثم سمح لنا بالنمرة وهي عبارة عن برش وبطانيتين، وكان النمرة تؤخذ منا في الصباح ويسمح لنا بها بعد التمام، ولم يسمح لنا بالسواك والغيار إلا بعد اليوم العاشر تقريبا. وعندما أخرجنا من الزنازين عدت للمديرية لساعات فقط وتم تحويلي لمستشفى السجن.


    ومن طرائف وجودنا في الزنازين أن الراحل خالد الكد أعتقل في اليوم الثاني لدخولنا الزنازين وعندما عرف بوجودنا في الزنازين طالب بأن يؤخذ للزنازين فلما رفض طلبه هتف وحيا المعتقلين مثلما كنا نعمل فأخذ للزنازين.


    ليلة مع الأمير نقدالله


    قضيت ليلة واحدة بالمستشفى، ولكنها ليلة لا تنسى فقد إلتقيت في تلك الليلة بشخصين من قيادات حزب الأمة، الدكتور عبد الحميد صالح والأمير عبدالله عبد الرحمن نقدالله. وجلست مع الأمير نقدالله جل تلك الليلة نتحدث في أمور كثيرة، وقد بادرته أنا بالتحية وسألته "هل رايتني من قبل؟" فنظر لي مليا وقال " نعم ولكني لا أذكر أين؟"، فقلت له "هل تذكر في عام 1966 وقد كنت أنت وزيرا للداخلية وأن تمبل باي الرئيس التشادي قد إعتدى على الحدود الغربية... وقبل أن أكمل قاطعني بدهشة "الجنا الطالب بالفاشر الثانوية الخطب فينا في المطار!"وقام وعانقني وقال لي "صحي يا ولدي الحي بيلاقي" وتحدثنا عن تلك الحادثة وضحكنا كثيرا وقال لي "إنت لسه ورانا" فقلت مازحا "لا أنا ورا ناس نميري" فضحك كثيرا وبدأنا حديثا حول الأهل فعرف أهلي وحكى لي عن صديق لي قريبه يسمى الدكتور محمد سعيد الأسد وكيف أنه ساعده في الخروج من قبل للدراسة في المعسكر الإشتراكي وحكى لي ضمن ما حكى لي عن تاريخ فبركة تقارير الأمن وكيف أنه وهو وزير للداخلية أتوه بتقرير أمن عن نشاط شيوعي للأسد وكيف أنه كان يعلم أن ذلك خطأ لأن الأسد كان معهم في تلك الليلة في مناسبة عائلية وكيف أن أستدعا من كتب التقرير بحضور مدير المباحث ليثبت لهم خطأ التقرير. وتحدثنا في السياسة وعن أخطائهم في الحكم، ووعدني بمزيد من الحكايات والإجابة على أسئلتي في الأيام القادمة ولكن أطلق سراحي في اليوم الثاني وعند وداعي في الباب قال لي "يا إبني نحن كبرنا وعايزين نسلمكم الراية فدحين لما تسمع بي مرقت تجيني نتم كلامنا فأنا عندي ليك لسة كلام داير أقوله". وللأسف الشديد سمعت بخروجه ولكني كنت أنتظر الوقت المناسب ولكنه توفى قبل أن ألاقيه ولم أندم على شئ مثل عدم ذهابي للقياه بمجرد إطلاق سراحه.


    وفاة الوالد


    قادوني من المعتقل الى الأمن حيث أنفرد بي العم الصول خليفة وهو من حي العمدة بأمدرمان وقال لي "يا صدقي أنا عارف إنك رجل شجاع وأنا عندي ليك خبر بس شد حيلك" فقلت له "منو المات؟"" فقال لي الوالد يرحمه الله" ورفع يده بالفاتحة. وقال لي "العميد معاوية عايز يقابلك وفي عربية في إنتظارك" وأخذوني لمكتب معاوية حمو، فعندما دخلت، قام ورفع يديه بالفاتحة، ثم قال لي "بهذه بالمناسبة قررنا إطلاق سراحك، وارجو إنك ما تدخل معانا في مشاكل" فقاطعته ،ليس هذا وقت الكلام ده" وأستدرت وخرجت من مكتبه دون إستئذان. ووجدت عربة في إنتظاري فأخذتني لبيتنا في حي العرب.


    وطوال الطريق كانت ذكرياتي مع أبي تختلط مع إشكالات المستفبل، كانت صورته وهو مستلق على ظهره بعد تناول الغذاء وأنا أقرأ له الجرائد لا تفارقني، لقد كنت أفعل ذلك مرتين في الأسبوع منذ كنت في الثاتية أولية وحتى الرابعة وسطى حينما غادرت المنزل لأصبح طالبا داخليا في الثانوي، كنت أفعل ذلك في كل الإجازات. كنت وأنا صغير أقرأ الجريدة كلها وكان يسمع في صبر غريب وكان يعلق أحيانا تعليقات مقتطبة، بعضها علق برأسي حتى الآن، فمرة قرأت له خبرا أن وفدا تجاريا سودانيا يقوده الأمير الاي المقبول الأمين الحاج وزير التجارة وصل القاهرة لإجراء مفاوضات مع المصريين وأن الوفد المصري يقوده وزير الإقتصاد المصري الدكتور القيسوني، فضحك أبي قائلا "المقبول يفاوض القيسوني، القيسوني غشى بتلر" فسالته "مين بتلر يا أبوي فقال "وزير التجارة البريطاني"".


    وفي الحقيقة إن إهتمامي بالسياسة والعمل العام زرعه في أبي وأصدقاءه الذين كانوا يتجمعون مساء في دكانه بعد أن "يخلصوا"، أي بعد أن يدفعوا ثمن الأبقار والضأن الذي أشتروه في الصباح في سوق الماشية بالنهود، وكان من بين أصدقائه هؤلاء الخليفة يوسف الحسن (والد لاعب الكرة الشهير أبو العائلة) وهو من أنصار حزب الشعب وحلفاء السيد علي، والمرحوم العبيد ود عجبين والذي توفى مبكرا ولكننا ظللننا نذكره لكرمه ولحماسه وحبه للزعيم إسماعيل الأزهري، والسيد الأمين المغواري وكان أول من جلب الأقمشة اليابانية لسوق النهود، وكان إتحاديا ولكنه أنحاز لجبهة الميثاق الإسلامي بعد ثورة أكتوبر، وكنا، حتى ونحن صغار ، نمزح بمناداته بحاج اليابان.


    ولد أبي في نهاية العقد الأول من القرن الماضي بمدينة أم درمان وكان ضمن ثلاث أبناء وثلاثة بنات، وترعرع في أم درمان وعمل مع أبيه في الجزارة وتجارة المواشي، وسافر للنهود وكيلا لمعظم تجار الماشية: محمد أحمد البرير وعبد الحميد المهدي وأبناء الحاج كردمان وعاش في النهود منذ عام 1939 حتى عام 1969 عندما قرر العودة لأنه حسب قوله "يريد أن يموت وسط أهله"، وتزوج عام 1938 من بنت عمه نفيسة محمد أحمد كبلو، وبعد أن ولدت شقيقتنا الكبرى بالخرطوم بحري، جاءت لتعيش معه بالنهود حيث ولدت بقيتنا، وكنا في مجملنا عشرة، خمسة بنات وخمس أولاد، توفى بنت وولد منهم في عمر مبكر ويعيش الثمانية الباقون حتى الآن


    كنت قريبا من والدي، فقد كنت أعمل معه في الإجازات ككاتب ومحاسب خاصة بعد تدهور صحة كاتبه عمنا عبدالرحمن الترابي، ذلك الرجل المثقف، كما كنت أقرأ له الجرائد كما ذكرت من قبل وتوطدت تلك العلاقة خلال فترة عصيبة مر بها والدي عندما كسرت يده ووضعت في الجبص وكنت أمارضه.


    عندما وصلت للمنزل كان والدي قد شيع لمثواه الأخير وكان دخولي المنزل فتح لجرح لم ينته الطبيب من تطبيبه بعد، فبكى الجميع حتى عمي محجوب الذي كان صابرا حتى حضوري حضننني وبكى بكاء حارا وكان الناس يقولون لمن يحاول أن يجرني منه، دعوا المحجوب يبكي أخيه فهو لم يبك أبدا. وكان عمي يبكي ويقول كان يريد أن يراك، يقصد أبي.


    وعرفت أن إطلاق سراحي تم بعد تدخل إبن اختي بنت عمي فيصل محمد عبد الرحمن الكبيدة، وزير شئون الرئاسة لدى اللواء محمد الباقر احمد النائب الأول لرئيس الجمهورية، فأستغرب الباقر، وهو بحكم منصبه رئيس مجلس الأمن القومي، وجود طلاب بالمعتقل بينما الامتحانات ماضية في الجامعة، فأمر بإطلاق سراح جميع الطلاب.

    وأستغليت أول فرصة للإنفراد بأخوي محمد وصفوت لأعرف ما هو الموقف المالي، فقال محمد أنه صرف مرتبه على التشييع وأن صفوت صرف مرتبه على شراء الطعام اليوم الأول، قلت ماذا عن الايام التالية، قالوا لا يعرفون، وكانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أطلب فيها مساعده مالية من الحزب فأرسلت رسالة شفهية مع أحد الرفاق وظللت الليل كله أفكر كيف أحل المشكلة حتى تأتيني النجدة الحزبية، فنهضت مبكرا وذهبت لصديقي الأستاذ الأمين حامد الأمين فطلبت منه دينا فلم يتردد ودفع لي مبلغا أكبر مما طلبت، وعندما أعدته له بعد الفراش رفض أن يأخذه، رحم الله الأمين لقد كان رفيقا فاضلا وكريما، وعدت للمنزل فوجدت أن نسيبي المرحوم الحاج أبو الوفا قد ذهب السوق وأشترى كل حاجيات اليوم، ولم يمضي النهار حتى أتى مندوب الحزب بتعازي قيادة الحزب ومساعدتهم، وبرسالة شفهية أنهم عندما سمعوا الخبر أرسلوا الرفيق صلاح مازري الذي حضر الدفن ويبدو أنه سأل شخصا عن الإحتياجات فقالوا أنها مستورة دون مشاورة أبناء المرحوم.
    جمع فراش أبي بين الجلاد والضحية، فبينما جاء قادة النظام معزين، جاء الرفاق وأعضاء الحزب، فكنت تجد عبد الكريم ميرغني يرحمه الله وزين العابدين محمد أحمد عبد القادر غفرالله له، جاء المناضل جعفر أبوجبل وسليمان هباش، بينما جاءنا أحمد عبد الحليم وخالد حسن عباس! والطريف أنني في اليوم الأول شاهدت ضابط أمن أعرفه جيدا لأنه خطفني من شارع الجمهورية في عربته الفولكسواجن، ولم أصدق عيني فخرجت للشارع فاذا بالعربة الفولكسواجن، أمام المنزل، فعدت لفيصل كبلو سائلا "من ذلك الشخص؟" فقال لي "آه أنت لا تعرفه فهو خطيب أختي"، وضحكت وقلت لنفسي وأنت تسأل عن الجلاد والضحية؟ وكنت أتذكر تلك الأحداث كلما تناقشت مع أصدقائي من المناطق المهمشة وأقول أنكم فقط ترون الجلاد مننا ولكنكم لا ترون الضحية، وكان بعضهم يرد بحصافة أن جلادكم لا يعاملكم كما يعاملنا! صحيح أنه لا يأتي للعزاء في بيوت قتلاه كما يفعل عندنا، بل أنه عندنا يقتل قتلاه ويمشي في جنازتهم، بينما في المناطق المهمشة فهو إما أنكر قتلهم أو أذاعه في المذياع كإنتصار.


    وكالعادة تحول مكان الفراش لمنتدى للنقاش والحكاوي والأكل والشاي، وكنت أجد نفسي في إستقبال المعزين ووداعهم، ولا أنام عندما يخلد المكان للنوم وأستعيد ذكرياتي مع أبي، والغريب أنني لم أبكي قط، وكان ذلك يعذبني. وكانت الساعات تمضي بطيئا، وكنت أجد في مجالسة أصدقاء أبي عزاءا كبيرا، وكثير منهم كنت أعرف لسنين طويلة هي عمري،وكان الخليفة يوسف الحسن يأتي صباحا ولا يبرحنا إلا بعد صلاة العشاء وكذلك كان يفعل محمد خير درميس وغيرهما من أصدقاء أبي.


    وعرفت عدد من أهل أم درمان ممن لم أعرف من قبل، وقابلت بعض من كنت أعرف بالإسم فقط مثل ود نفاش، بل أنني سمعت منه في بيت الفراش قصته مع السيدين علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي وكنت أحسبها حتى سمعتها منه أنها من نسج الخيال الشعبي في أمدرمان. قال أحدهم "بالله يا ود نفاش أحكي لينا حكايتك مع السيد عبد الرحمن" فأبدى الرجل حرجا أنه في بيت البكا فقال له عمي محجوب يرحمه الله "معليش يا ود نفاش أحكي" فقال" الدنيا كانت صعبة والرزق جف، وضربتني فلسة، وأنا ختمي صاحب عقيدة قلت أمشي للسيد علي يمكن يحل لي مشكلتي، فمشيت للسيد علي وبعد السلام والكلام حكيت ليه حالي فأداني الفاتحة، فلما مرقت منه قلت بالله أنا السيد علي أنا قاطع ليه كبريين (لم يكن كبري شمبات قد أنشئ)، يديني الفاتحة والله أمشي للسيد عبد الرحمن من دربي، ومشيت للسيد عبد الرحمن وبعد أن أكرمني قال لي يا ود نفاش الليلة أيه الذكرك لينا، فشكيت ليه حالي، فنادى على باب الله وقال ليه أدي ود نفاش خمسة جنيه، وقتها الخمس جنيه مبلغ كبير خلاص، ففرحت وخرجت شاكر، لكن أول ما طلعت الباب عقيدتي الختمية غلبتني فقلت "شوف بالله فاتحة أبو علوة دي قوية كيف تتصرف طوالي عند أبو عبدة’.


    العودة للجامعة وإنقلاب حسن حسين


    بعد أيام العزاء ذهبت للجامعة فقررت الكلية أن أجلس إمتحانا بديلا في سبتمبر 1975 فبدأت التحضير بجدية ولكن قبل يومين من بداية الإمتحان وقع إنقلاب حسن حسين وجاءني شعور قوي بعد إستماعي للبيان الأول ودون أن أعرف التفاصيل أن هذا إنقلاب فطير ولن يستمر طويلا فقد كان بيانه الأول باهتا، وبالفعل لم يستمر الإنقلاب إلا ساعات فليلة وتمت هزيمته. ولكن الإنقلاب الذي استمر لساعات ترك آثارا عميقة في البلاد، فلقد تمت تعديلات في الدستور والقوانين حاصة قانون أمن الدولة وقد ركزت تعديلات الدستور السلطات في يد نميري وقننت دستورية الإعتقال التحفظي غير المحدود الزمن والذي يمكن أن يمتد لفترات طول كل منها ثلاث شهور بشكل لا نهائي.


    وكانت نتيجة الإنقلاب أن أغلقت الجامعة وأجلت الإمتحانات.


    العمل كمساعد باحث


    ووجهت بمشكلة البحث عن عمل، وهنا قام صديقي الدكتور محمد عوض جلال الدين بتعييني مساعد باحث له وكان يريد القيام ببحث في جبال النوبة يشمل مؤسسة جبال النوبة الزراعية والزراعة الآلية في منطقة هبيلا، وبدأت بتحضير عرض لما كتب عن الزراعة الآلية خاصة فيما يتعلق بالعمالة. ولكني بطبيعتي في الدراسة والبحث أحاول دائما أن ألم بكل جوانب الموضوع حتى تلك التي تقع خارج نطاق تحصصي، فأستلفت بعض الكتب حول الهندسة الزراعية ودرست عمليات المكننة الزراعية وخلال هذه الفترة توطدت علاقتي مع الأستاذ جي أوبراين، وهو يساري أمريكي، ينتمي فكريا لجماعة المنثلي ريفيو برس، التي كانت تضم بول سويزي وماكدوف، وتعتبر بول باران من روادها، وكنت كما أوضحت من فبل قد بدأت أقرا لبول باران وسمير أمين وأندرية غوندار فرانك، وقد ساعدني جي أوبراين في الحصول على الكتب وكنا نتناقش لفترات طويلة في مكتبته ومنزله، وأصبحنا أصدقاء، وكان جي أوبراين مهتما بالعمالة الزراعية الموسمية وهكذا أصبح هناك تنسيق بحثي بينه ومحمد العوض جلال الدين وأصبحنا كفريق بحثي واحد.


    وزير شئون الرئاسة يسال إذا كنت ما زلت شيوعي


    وبينما أنا مستغرق في عرض وتلخيص ما كتب عن الزراعة الآلية والثورة الخضراء وغير ذلك من مواضيع متعرضة للبحث ونحن نعد العدة للسفر للرحلة البحثية الاستكشافية والتي سنحدد على أساسعا أي بحوث ميدانية بما في ذلك كيف سنجمع معلوماتنا وهل سنصمم إستبيان وماذا يحوي ... إلخ، أطل علينا عيد الفطر، وكالعادة تقاطر الأهل إلى منزلنا كأول عيد بعد وفاة الوالد، وكان من بين الزوار فيصل محمد عبد الرحمن الذي تحدثت من قبل أنه تحدث مع الباقر ليطلق سراحي لوفاة والدي. وفيصل محمد عبد الرحمن الذي كان يشغل منصب وزير شئون الرئاسة بمجلس الوزراء، تخرج من كلية القانون جامعة الخرطوم وعمل بالسلك القضائي بالخرطوم وبورتسودان قبل أن يلتحق بمنظمة العمل الدولية والتي جاء منها وزيرا. سألني فيصل ماذا أفعل فقلت له مساعد باحث مع أحد الأساتذة في إنتظار إمتحانات درجة الشرف، فقال لي "أنا عايزك تجيني في المكتب"، فقلت "خير إنشاء الله ما في عوجة؟" فقال "حتعرف لما تجي"، فقلت "أنا لا أذهب لأقف على أبواب الوزراء" قال "لن تقف وبمجرد حضورك في المواعيد ستجد إسمك في الإستقبال" ودارت تلك المناقشة أمام عمي محجوب كبلو عميد أسرتنا والذي يكن له الجميع الإحترام والذي تدخل وقال "أمشي يا صدقي وما حتخسر حاجة"


    وفي اليوم المحدد، أصر الدكتور محمد العوض جلال الدين لأخذي بنفسه لمجلس الوزراء، ولم أكن أتوقع شيئا كثيرا، لربما عرض وظيفة، وسيكون ردي على العرض حسب طبيعة العرض فأنا لن أقبل وظيفة سياسية مع نظام نميري. وكما وعد فيصل، بمجرد أن ذكرت أسمي، قيل لي أن السيد وزير شئون الرئاسة في إنتظاري وأخذني موظف الإستقبال إلى المكتب. إستقبلني الوزير بحرارة وطلب لي ليمونا باردا ثم سألني "ما زلت تدخن البايب (الغليون او الكدوس)" فقلت نعم وأشرت لغليوني في يدي، فأستدار وفتح درجا جانبيا وأخرج كمية من منظفات البايب والتبغ وأعطاني لهم فشكرته، ونظر لي نظرة حادة وقال "أريد أن أسالك سؤال واحد وأريد إجابة صادقة" قلت "أسأل" واندهشت عندما سألني "هل أنت ما زلت شيوعي؟" قلت بدون تردد " نعم وعضو في الحزب الشيوعي اللي كان سكرتيره عبد الخالق محجوب" فقال لي "شكرا على صراحتك، أنا كنت عايز أشوف ليك وظيفة كويسة معانا هنا لكن ولإنك عضو في ذلك الحزب ما حأقدر" فقلت له بأدب "شكرا جزيلا" ونهضت فقدمني حتى الباب وظللنا أصدقاء وزرته في أثيوبيا وسويسرا عنما عاد لمنظمة العمل الدولية.


    السفر لجبال النوبة في المرة الأولى


    عدت للجامعة وحكيت ذلك لمحمد العوض جلال الدين وضحكنا مليا وباشرنا عملنا البحثي. وسافرنا ثلاثتنا، جي أوبراين ومحمد العوض وشخصي بالقطار للأبيض ثم بالبص للدلنج حيث قابلنا مدير مؤسسة الزراعة الآلية وسافرنا لهبيلا حيث قابلنا مدير منطقة هبيلا وذهبنا لمزرعة الدولة وقابلنا بعض العمال الزراعيين الذين كانوا يقومون بعمليات "الكديب" (وهو الإسم المحلي لعملية نظافة مزارع الذرة من الحشائش). وتم تدريبي بواسطة الدكتور محمد العوض جلال الدين على كيفية إستخلاص المعلومات من العمال الزراعيين وملأ الإستبيان. وجمعنا بعض المعلومات ثم سافرنا لكادوقلي.


    وصلنا كادوقلي مساء، فتوجهنا للإستراحة مؤسسة جبال التوبة الزراعية التابعة للهيئة العامة للإنتاج الزراعي، حيث قضينا الليلة ونمنا نوما عميقا بعد إرهاق الرحلة فنحن لم ننم في الدلنج لاحتفاء الأخوة في الزراعة الآلية بنا.


    صحوت على شقشقة عصافير، ففتحت عيوني في بطء وتكاسل، فإذا بي أجد شخصا يقف أمامي مادا لي ورقة، فأخذت الورقة وقرأت الورقة مندهشا "بما أن جريمة قد أرتكبت أو قد ترتكب، فبهذا فأنت مطلوب للحضور لمكتب جهاز الأمن في الثانية عشر ...ألخ"، ووسط دهشتي طلب مني الشخص أن أوقع، فوقعت وأعطاني نسختي وذهب.


    وتجمع حولي الدكتور محمد العوض وجي اوبراين، وشرحت لهما ما حدث، وأصابهما غضب لتصرف ضابط الأمن وكان التساؤل كيف عرفوا أني في كادوقلي وفي الإستراحة، هناك شخص واحد يمكن أن يكون قد أخبر جهاز الأمن، ولكننا لا نستطيع أن نرمي الناس بالشبهات فلم نتأكد أبدا من الشخص وما زال الظن هو الظن.


    المهم نهضنا وذهبنا للإجتماع مع إدارة مؤسسة جبال النوبة الزراعية، وحدثونا عن برنامج التحديث الزراعي، وقررنا القيام ببعض الزيارات وتقرر أن أبقى أنا في كادوقلي لزيارة بهض المناطق واهمها البرداب. وعندما حانت الساعة الثانية عشر توجهنا لمكتب الأمن فوجدنا الرائد مصباح عبدالله وهو من خريجي كلية الإقتصاد وكان الدفعة التي أمامي (وفقا لدفعتي الأصلية)، فبعد أن رحب بي وبالدكتور محمد العوض وجي أوبراين وطلب لنا الشاي، سألني: لماذا أنت في كادوقلي؟ فلم أرد عليه ومددت له جوابا من مجلس الأبحاث الإقتصادية بإمضاء الدكتور عبدالغفار محمد أحمد يحدد فيه مهمتي البحثية كمساعد باحث للدكتور محمد العوض جلال الدين في بحثه عن الآثار الإقتصادية والإجتماعية للزراعة الآلية بجبال النوبة. فقال في برود وهو يعيد الخطاب الذي لم يسع للإحنفاظ بصورة منه "علم"، فرددت عليه "لا لم يعلم لأني عايز أعرف هل أنا إقامتي محددة وهل هناك مناطق محظور علي زيارتها؟" فقال لي في برود أيضا "والله نحن بنفذ تعاليم الخرطوم." (وقد تأكدت فيما بعد من خليفة كرار أنه لم يصدر أي تعليمات مثل هذه)، ثم غير الموضوع وسأل جي أوبراين هل لديه تصديق لزيارة المنطقة، والقانون السوداني كان يمنع الأجانب من التجول في السودان بدون تصديق من وزارة الداخلية. فأخرج جي أوبراين تصريحه فقرأه المصباح واعاده له متمنيا لنا التوفيق فعدنا للإستراحة. وسافر محمد العوض وجي راجعين للخرطوم ومكثت أنا أدرس نموذح تحديث الزراعة االتقليدية بجبال النوبة.


    وهكذا إنتهت رحلتي الطلابية الجامعية.


    وعدت للخرطوم وبينما أنا مشغول باعداد تقارير رحلتي وتصنيف المعلومات التي حصلت عليها، أعلنت الجامعة عن أن الإمتحانات ستكون في يناير، فعدت من جديد للتحضير للإمتحانات.


    وأمتحنا في جو مشحون بتواجد عناصر الأمن في شارع الجامعة وداخلها، وقد كنت حريصا على عدم خروجي من الحرم الجامعي حتى نهاية الإمتحانات، وبعد نهاية الإمتحانات وحصولي على مرتبة الشرف الثانية العليا ( Two Upper)، قابلني مسجل الكلية واسمه كمال خضر وقال لي بالحرف: يا أخي حمدالله على السلامة، وحافظ على نفسك، لأنه أثناء الإمتحانات إتصل المدير بروفسير عبدالله أحمد عبدالله يسأل منك وأنا قلت ليه إنت تخرجت حتى لا تمنع من الإمتحان" فشكرته وعرفت فيما بعد أن البروفسير عبدالله قد إلتقى كمال خضر بعد إجتماع السنيت الذي أقر النتيجة والتي عرف فيها أنني من المتحنين ولامه ولكن كمال قال له في شجاعة "تفتكر أحسن شنو، تخليه يمتحن ويتخرج ولا يكون مربوط بالجامعة وهو معتقل، كدة الجامعة أرتاحت وهو أرتاح".


    وهكذا إنتهت رحلتي الطلابية الجامعية.


    العودة لجبال النوبة


    وكان أول عرض للعمل جاءني من الأستاذ (حينها) خالد عفان، للعمل كمساعد باحث في بحثه للدكتوراة عن العمالة الموسمية في الزراعة الآلية في جبال النوبة، فسافرت للجبال على رأس تيم من شباب بعضهم تخرج لتوه من الجامعة وآخرون كانوا طلاب في إجازات، وقمنا بعمل مسح لمشاريع هبيلا الزراعية بشقيها هبيلا القديمة (مساحة المشروع ألف فدان) وهبيلا الجديدة (مساحة المشروع 1500 فدان) وملأنا إستبيانات مع أصحاب المشاريع والعمال الزراعيين في القطاع الخاص ومزرعة الدولة وقد أتاحت لي هذه الرحلة مقابلة شخصيات مهمة سواء في مجال الزراعيين الجامعيين، المهندسين الزراعيين والعاملين في الإدارة في الزراعة الآلية وبعض المستثمرين من القطاع الخاص، بعضهم من رجالات الإدارة الأهلية مثل التاظر المرحوم بابو نمر والذي سافرت معه من هبيلا إلى الأبيض وتحدثنا في مواضيع شتى، والناظر عبد الجبار زاكي الدين والذي إستضافني بمشروعه وكشف لي حساب المشروع الحقيقي وفقا لسجل دفاتره مما أسهم في إعطائي (وبالتالي إعطاء أستاذي خالد عفان) صورة حقيقية لحساب التكاليف والأرباح. وبعض هؤلاء المستثمرين كانوا تجارا من مدينة الدلنج اكرموا وفادتنا. وكان ترحاب العمال الزراعيين بنا في معسكراتهم يفوق تصورنا ويعكس طبيعة الكرم السوداني حتى في الظروف الصعبة التي كانوا يعيشونها.


    زيارتي لخليفة كرار والعمل بالتخطيط


    عدت من جبال النوبة لأقدم لوظيفة في وزارة التخطيط ولمعرفتي أو الوظيفة تحتاج تقريرا من الأمن، قررت الذهاب للسيد خليفة كرار، نائب مدير جهاز الأمن، وعندما طلبت مقابلته في إستقبال الأمن، لم أنتظر طويلا، وبعد السلام والتعازي في وفاة والدي، شكوت له ما فعل معي المصباح في كادوقلي، ونفى أن تكون هناك أوامر من الخرطوم ووعد بمساءلة المصباح، وقلت له "أهو أنا أتخرجت!" فقال لي "مبروك" فقلت "وعايز أشتغل" فقال نحن ما بنشغل الناس" قلت "ما تكتبوه بيشغل أو ما بشغل" قاطعني "نحن بنكتب البنعرفوا" قلت "حتى ده ممكن تكتبوا بطريقة تشغل او ما بتشغل" فشعر انه لن ينجح في إيقافي إلا بوعد فقال "يا صدقي زيارتك دي لينا مشكور عليها وإنشاء الله نعمل الفيه الخير" وعرفت فيما بعد أنهم كتبوا تقرير رصدوا فيه كل نشاطاتي وإعتقالاتي حتى إطلاق سراحي الأخير ولكنهم ختموا الخطاب بجملة مفيدة "ولكنه لم يرصد له نشاط منذ ذلك الوقت" وقد أستند السيد كمال شمينة وكان سكرتير لجنة تعيين الخريجين على تلك الجملة في تعييني. وهكذا عينت في وزارة التخطيط مساعد مفتش وتم ألحاقي بالقطاع الزراعي مسؤولا عن المؤسسات الزراعية والثروة الحيوانية والسمكية، وكان مفتش قسمي اسمه رشاد، ومفتشي الأول أبراهيم محمد إبراهيم الذي انتقل فيما بعد للعمل بالقبول للجامعات والمعاهد العليا، ثم أنتقل لجامعة أم درمان الأهلية، وكان مساعد الوكيل للقطاع الزراعي هو الدكتور الداروتي ويساعده الدكتور الفاتح التجاني.

    وكانت مهمتي في التخطيط أن أكتب خطابات التصديق وأن أعد المذكرات لرؤسائي حول طلبات المؤسسات العامة الزراعية او مصالح الثروة الحيوانية ولكن الصدفة جعلتني أنضم لبعض فرق إعداد الخطة الستية، فقد وزع الدكتور عبدالحميد التجاني ورقة، وكان مقرر اللجنة الفنية لإعداد الخطة الستية، حول نموذج الخطة فأعطاني لها السيد يس عبدالرحمن وكان مفتشا أول ترقى في أسبوع تعييني لمساعد وكيل ونقل مسئولا عن الإدارة، رغم أنه مفتش التخطيط الوحيد الذي كانت لديه معرفة عن الزراعة في الجنوب وكان وزير الزراعة الإقليمي بالحنوب يثق فيه. قرأت الورقة وعلقت عليها وأرسلت تعليقي للدكتور عبدالحميد التجاني، وكان التعليق الوحيد الذي وصله، فاستدعاني وتناقش معي، وكنت قد إقترحت نموذجا بديلا لم يكن من تصميمي، بل كان من تصميم اللجنة الإقتصادية لجنوب شرقي آسيا، وقد بذلت مجهودا ليلائم ظروفنا، وهو قائم على أساس قطاعين: عام وخاص. المهم أدى ذلك لأن يكلفني الدكتور عبدالحميد التجاني بعضوية لجنتين، أحدهما لمراجعة تنبؤات الإنتاج الزراعي وكانت مشكلة من التخطيط والزراعة، وكان ممثلا التخطيط شخصي ومساعد مفتش آخر هو الفاتح علي صديق. أما اللجنة الثانية والتي كنت مقررا لها فهي لجنة الأداء المالي للمؤسسات العامة وكان رئيسها الدكتور صادق الرشيد من جامعة الخرطوم وكنت مقررا لها.ولقد ظللت بالتخطيط حتى يناير 1977 عندما أتقلت لمجلس الأبحاث الإقتصادية والإجتماعية وأعتقلت بعد ثلاثة أيام كما سيرد في الفصل القادم.
                  

06-14-2009, 10:35 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)


    تلك الأيام في سجون نميري (12) ... بقلم: صدقي كبلو
    الأحد, 14 يونيو 2009 11:01

    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983


    الاعتقال الرابع يناير 1977 - مايو 1978


    تقديم


    عندما أغلقت الجامعة في سبنمبر 1975 عقب إنقلاب حسن حسين، عدت للمنزل وبدأت حياة عادية، كما سلف أن فصلت في الفصل السابق، ولكن شيئا مختلف حدث على المستوى الحزبي فقد جاءني في المنزل الصديق عبد الرحمن يحي الخليفة عبدالله، وكنت أعرفه جيدا من أيام الجامعة فقد سكنا معا لمدة عام كامل وكان هو في السنة الثالثة آداب وأنا في الثانية إقتصاد، وكان هو يدرس الفلسفة والعلوم السياسية وكان المسؤول السياسي لفرع الجامعة في عام 1968/1969، كما ألتقيته بالمعتقل عندما عدت من شالا لكوبر، وكان قد أعتقل، هو والمرحوم عبد العظيم حسنين والشيخ عووضة وكمال يوسف الشايقي. وقد أطلق سراحنا معا بعد تصفية المعتقل في مايو 1973 بعد صدور دستور نميري المسمى دائما. ورغم أننا كنا نلتقي في المناسبات والأماكن العامة ولكنه بالنسبة لي كان ضمن صنف "من تريده وتشتهيه" ولكن ظروف التأمين تمنع اللقاء الدائم. لهذا كانت زيارته لي موضوعا للدهشة، وعرفت أن الحزب وراءها، و بعد السلام والمطايبات دخل مباشرة في الموضوع وقال لي أنني مرشح لعضوية لجنة مدينة أم درمان، وسألني إن كان لدي مانعا، فأجبت بالنفي، فطلب أن أكتب طلبا للتوصيل وتقديم نبذة عن نشاطي بالحزب، وحدد مواعيد لإستلامها. ولم تمض أسابيع حتى كنت أحضر إجتماعا للجنة المدينة، وبالطبع لن أذكر أسماء اللجنة، ووضح لي من البداية الوضع السئ في مدينة أم درمان وأن المهمة الأساسيبة لنا هي إعادة تجميع الفروع وقيام مدرسة حزبية نبدأ بإعداد كوادر التدريس بها، فتوزعنا المهام والتكاليف وبدأنا عملنا. وفي خلال عام بدأت نهضة حقيقية بمدينة أم درمان، أعدنا بناء فروع مثل الموردة، الفتيحاب، العمدة، الملازمين وحي الإسبتالية، وبيت المال، وكانت هناك فروع بالبوستة، أم بدة وأبوروف، فأصبح عدد الفروع 9 بعد أن كانت ثلاثة، وأستقرت إجتماعات المدينة وفروعها التسع وكانت تدفع الإشتراكات وتستلم وتوزع المطبوعات والميدان وبعض الفروع لها قراء منتظمين في حلقات، كما أنشأنا مدرسة حزبية أخترنا لها كادرا لإعداده كمعلمين.


    وقد قدمت لنا أسر كثيرة عونا سواء في منازل الإجتماعات أو في توصيل الزملاء المختفين من قيادة الحزب الذين حضروا إجتماعات المدينة، وكان المرحوم خضر نصر يحضر معظم إجتماعاتنا مندوبا من المديرية، وكنت قد تعرفت على خضر نصر بالصدفة بالمحطة الوسطى بالخرطوم عم 1971 وكان هو قد جاء من رحلة لبلغاريا (أظنها علاجية) وكنت أسير في صحبة المرحوم عبدالله محمد إبراهيم المحسي، وفجأة وجدت محسي يعانق شخصا عناقا حارا وقدمه لي "حضر نصر عضو اللجنة المركزية ومن عطبرة".


    كان خضر شخصية منظمة ودقيقة في المواعيد، ورغم أننا تنازعنا معه كثيرا بإعتباره ممثلا للمديرية ونحن في المدينة كنا نعتقد أن المديرية تنتهج خطا لن يساعد على بناء الحزب ولا الحركة الجماهيرية، لأنها فصلت بين المهمتين وكانوا يقولون لنا الأولية لبناء الحزب، وكنا نقول: البناء يتم وسط الجماهير وتحت حمايتها ورعايتها وأننا نؤمن الحزب من الأمن والسلطة بواسطة الجماهير وقد دفع زميلنا إبراهيم حامد حمدوك السكرتير التنظيمي للمدينة ثمنا عاليا لهذه الأفكار، وقد أتهم المرحوم خضر نصر بأنه كان يحرضنا وذلك ليس صحيحا بل هو كان يدافع عن رأي المديرية التي يمثلها، ونحن لا ندري ماذا كان يقول في المديرية، ولربما كان يدافع عن وجهة نظرنا وذلك حق من حقوقه، ولكن للحقيقة والتاريخ فهو لم يتكتل معنا ولم يغذينا بأي أفكار معادية للمديرية.


    "وأذكر ونحن في سكرتارية أمدرمان وكنت سكرتير المدينة أن جاءني الراحل الرفيق إبراهيم حامد حمدوك وكان سكرتيرا تنظيميا للمديرية، وقال أن الراحل الزميل الجزولي أتصل به عن طريق أحد الرفاق وطلب مقابلتنا ولكنه لم يجدني وذهب، فأعطاه الزميل الجزولي عددا من المنظم، كان يحتوي على نتائج التحقيق مع الزميل خضر في الحادثة التي تسببت في ضربة جابر وخضر وكشف عدد كبير من الكوادر، وعندما أحتج إبراهيم أن طريقة الزميل الجزولي غير تنظيمية فنحن لدينا صلتنا بالمديرية، قال له الجزولي أن صلتكم يحاول عزلتكم وهو رفض توزيع المنظم.


    ونحن بالمعتقل سمعنا بقرار إعفاء الرفيق خضر نصر من عضوية اللجنة المركزية وإعفاءه من التفرغ، ثم سمعنا عن ذهابه للأمن وتسليمه لنفسه، وكيف أن جهاز الأمن حاول الضغط عليه ولكنه رفض، فنقل للسجن حيث مكث فترة بسيطة بالزنازين ثم أطلق سراحه وأعتكف بعد إطلاق سراحه في منزل في السجانة أو الديم لا أذكر، وأمتنع عن العلاج ومقابلة الناس، ووجد ميتا بعد عدة أيام من وفاته."


    أول لقاء مع نقد وهو مختفي


    وأثناء عملنا في سكرتارية أم درمان، بلغنا بأن هناك طواف من المركز لتقديم وثيقة يونيو 1975 للجان المدن والمناطق، وقرأنا الوثيقة إستعدادا للمناقشة، وذهبنا للمكان المعد، وكانت المفاجأة أن الدراسة سيقدمها السكرتير العام، الرفيق محمد إبراهيم نقد، وكنت آخر مرة إلتقيته فيها عصر يوم 22 يوليو 1972 أثناء الإنقلاب المضاد ل 19 يوليو. ولم ألتقيه بعد ذلك إلا في عام 1984 عندما أصبحت عضوا باللجنة الإقتصادية التابعة للجنة المركزية.


    دورة اللجنة المركزية يونيو 1975 "قضايا ومشاكل العمل القيادي"


    تمثل وثيقة دورة اللجنة المركزية يونيو 1975 حول قضايا ومشاكل العمل القيادي أحد أهم الوثائق الحزبية وفي تقديري هي في أهميتها تماثل وثيقة "إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير" والتي كتبها الأستاذ عبد الخالق وصدرت أيام حكم عبود وأصبحت جزءأ من كورس المرشحين والتعليم الحزبي.

    كانت وثيقة يونيو تطرح قضايا عديدة ولكن ثمة قضيتين علقتا بذهني منها: الأولى أن فرع الحزب هو ممثل الحزب في مجاله وبالتالي لا بد أن ينتزع زمام المبادرة في رسم خطه في مجاله وفقا لخط الحزب العام ويخلق صلة مباشرة مع جماهيره ويخاطبها في كل القضايا ولا يعتمد فقط على البيانات الجماهيرية الصادرة من المركز او ينتظر التوجيهات من المركز. أما القضية الثانية فهي كيف يضطر الشيوعيون في ظروف العمل السري للتراجع وإستعمال أدوات عمل قديمة تخطاه الزمن بإعتبارها الأدوات الوحيدة المتاحة أو الأدوات المناسبة لظروف التراجع. وقد علق نقد في تقديمه مقترحا ألا تنتظر مدينة أم درمان مثلا أن يكون لها ماكينة رونيو فيمكنها أن تصدر منشوراتها بإستعمال الدرداقة. وسألنا نقد وكيف نغتني الدرداقة فألتفت نقد للمرحوم خضر نصر أن ترسل لنا المديرية زميل قديم يعلمنا كيف نعمل درداقة وكيف نستعملها.
    وأنا أقرأ تلك الدورة الآن بعد 31 عاما منذ كتابتها أجد أن اللجنة المركزية قد صاغت بشكل صحيح مشاكل العمل القيادي وأن صياغتها تلك تتعدى الفترة الزمنية لتصبح أساسا لمعالجة تلك القضايا رغم ضرورة مراعاة ضرورات المتغيرات الزمنية.

    لقد أوضحت اللجنة المركزية أن قضايا ومشاكل العمل القيادي لا تعالج وتحل بمعزل عن تكتيكات الحزب“ و”لا تعالج ولا تحل بمعزل عن واجبات العمل اليومي لفرع الحزب والحالة السياسية والجماهيرية المعينة التي يعيشها“ و”أن العمل القيادي كل لا يتجزأ لأنه في فهم الطبقة العاملة وفكرها الماركسي، يتناول الحزب بأسره، بكل حلقات كادره في مختلف المستويات والمسؤوليات والتخصصات، لا ينحصر في مجموعة بعينها، ولا يستهدف خلق صفوة قيادية مميزة“ وأن تأهيل فرع الحزب يأتي في قلب معالجة قضايا العمل القيادي فتقول: ”وليس من باب الصدفة أن أصبحت الصيغة السائدة في حزبنا حول قضايا ومشاكل العمل القيادي هي صيغة: تأهيل فرع الحزب – كمقياس في حزبنا لنجاح اللجنة المركزية وحلقات الكادر في معالجة العمل القيادي في هذه الفترة أوتلك.“ ذلك أن صياغة اللجنة المركزية وتحليلها للوضع السياسي وتحديدها البديل، القيادة، الأداة ”يبقى عموميات نظرية مجردة، ما لم يمسك فرع الحزب، ويحوله ويصيغه بوعي في برنامج وخطة نشاط في مجاله المعين، هذه العملية طويلة ومعقدة وهي محتوى العمل القيادي، ومنها تتفرغ مشاكله وقضاياه في الفترة الحالية“
    وقد ناقشت اللجنة المركزية في تلك الدورة الوضع في الجنوب والمتغيرات في الريف والقطاع التقليدي وقد توصلت إلى إستنتاج ما زالت صحته تثبتها الأحداث الجارية في البلاد:


    إن تدرك القوى الثورية في المدن انه مهما علا شأنها، ووجدت من الدعم النشط من المزارعين في القطاع الحديث، لن تكتمل مسيرتها نحو النصر في الثورة الاجتماعية الديمقراطية إلا بمشاركة نشطة وثورية من جماهير القطاع التقليدي - حيث أغلبية سكان السودان، أي لا يكفي التأييد والتعاطف كما كان الحال في ثورة أكتوبر. إن السلطة الوطنية الديمقراطية مهما توفرت لها مقومات الذكاء ووضوح الرؤية والقدرات القيادية الفذة، لا تستطيع إنجاز الإصلاح الزراعي والتحرر الاجتماعي - والتحرر الإداري من نير الإدارة الأهلية - بدون النشاط الثوري المستقل لجماهير القطاع التقليدي، ومشاركتها بالفعل والرأي وبالتصور... فمحنة محاولات تطبيق الإصلاح الاجتماعي والزراعي والإداري من أعلى ماثلة إمامنا في تجارب أنظمة البرجوازية الصغيرة العسكرية في المنطقة العربية والأفريقية و في السودان" (دورة اللجنة المركزية يونيو 1975 ص 36 )


    وقد لاحظت التطور في الحركة الجماهيرية في إستعدادها للإضراب السياسي راصدة ظاهرة إضراب المدن:


    "قدمت مدينتا سنار وسنجة على التوالي شواهد جديدة مفيدة للحركة الثورية التي تتجه نحو الانتفاضة. فلم يحدث خلال سنوات الديكتاتورية الاولى وخلال فترة التحضير للاضراب السياسي، ان تطورت المعارك الجماهيرية إلى اضراب سياسي عام وصدام عنيف في قطاع كامل من الجماهير، أو مدينة تضم مختلف القطاعات، حتى تفجر في اكتوبر على النطاق الوطني. استمدت مدينة سنجة الهامها من تجربة اكتوبر، هذا واضح. ولكن تتميز وتنفرد بأنها طرحت امكانية بان يتفجر اضراب سياسي عام تحت ظل هذه السلطة في مدينة من المدن أو قطاع شامل من الجماهير أو حتى مديرية من المديريات.


    " وهذا شكل ارقى في التحضير للانتفاضة الشعبية ... "(دورة يونيو 1975 "قضايا ومشاكل العمل القيادي" ص 27(


    الحزب الشيوعي السوداني كان محظورا في رومانيا الإشتراكية


    ولقد أثرت فينا الدراسة كلجنة مدينة فقررنا خاصة بعد أن أستقرت فروعنا، أن نبدأ مخاطبة جماهير أم درمان مباشرة في القضايا التي تهمها. ولكننا كنا في إنتظار زميل من المديرية ليعلمنا كيف نطبع منشوراتنا بإستعمال الدرداقة ولم يأت الزميل. وقد ذكرنا ذلك في إجتماع موسع مع المسئولين السياسين للفروع، فضحك علينا أحد الزملاء من خريجي رومانيا (وهو يحمل دكتوراه في إقتصاديات النقل) قائلا أنه سيعلمنا ذلك وكان، فسألناه مندهشين أين تعلم ذلك، فقال في رومانيا لأن فرع الحزب الشيوعي السوداني في رومانيا شاشيسكو كان سريا ومطاردا من قبل البوليس السري الروماني! والدرداقة هي طريقة للرونيو بدائية، حيث تكتب على الشمعة وتستعمل سطح أملس (الزجاج هو المفضل) ورول يمر على الشمع المدهون بالحبر بعض وضعه على الورقة، وهي عملية بدائية وتعمل بالورقة الواحدة.


    بيانات ضد الرياضة الجماهيرية وإعتقالات النساء


    وأذكر أننا أخرجنا عدد من البيانات حول قضية الرياضة الجماهيرية، وإعتقال القيادات النسائية من أمام فندق المريديان. وكنا قررنا أن نوزع منشوراتنا في أماكن تجمعات المواطنين عند الخروج من السينما مثلا.


    ثم جاء الإستفتاء على رئاسة الجمهورية في مطلع 1977 فقررنا أن نصدر بيانا بالمقاطعة وأن نملأ جدران أم درمان بالكتابة المنادية بمقاطعة الإستفتاء. وكنت أعرف أنني سأعتقل بعد ظهور الشعارات، ذلك أن المرحوم خليفة كرار قد أرسل لي تحذيرا غير مباشر إذ قال لأحد أقربائي العاملين بجهاز الأمن "شايف قريبك حركته كثيرة هذه الأيام" وأرسل لي قريبي ابن عمي فيصل كبلو لينقل لي التحذير، لكن لم يكن هناك وقت فقد وصل التحذير قبل أيام من تنفيذ قرار الكتابة والذي كنت معفيا من الإشتراك فيه.


    رفض تعييني بالجامعة رغم قرار الشعبة بتعييني


    وكنت قد إنتقلت في بداية الأسبوع الذي ظهرت فيه الكتابة على جدران أم درمان من عملي السابق بوزارة التخطيط الى مجلس الأبحاث الإقتصادية والإجتماعية بالمجلس القومي للبحوث. وقد كان موضوع إنتقالي للمجلس موضوع لصراع بين رئيس شعبة الإقتصاد بجامعة الخرطوم في ذلك الوقت الدكتور سيد نميري والسيد مدير الجامعة البروفسير علي فضل، فقد أختارتني شعبة الإقتصاد مساعدا بهيئة التدريس بها ولكن الإدارة رفضت تعييني، فذهب رئيس الشعبة للمدير موسطا نائب المدير المرحوم البروفسير حسن هابش الذي كان صديقا له مطالبا المدير برفع توصية لإلغاء قائمة بأسماء طلاب كان المرحوم جعفر بخيت قد أصدرها يحظر الواردة أسماءهم من التعيين في أي وظائف جامعية، وكان إسمي ضمن تلك القائمة، كانت حجة الدكتور سيد نميري أن الحكومة سمحت لي بالعمل في وزارة التخطيط، و أن لدي عرضا بالعمل بالمجلس القومي وهو يريدني للعمل بالشعبة، ولكن البروفسير علي فضل رفض رفضا باتا وقال للبروفسير هابش بالإنجليزية (I am not interested). وكان الزميل الخاتم عدلان قد رفض تعيينه بشعبة الفلسفة قبل ذلك ولنفس الأسباب رغم أن شعبته كانت تريد تعيينه. وهكذا عينت مساعد باحث بمجلس الأبحاث الإقتصادية للبحوث والذي لم يتردد الدكتور عبدالرحمن عبدالوهاب وكان وكيل التخطيط ورأس لجنة معاينتي والدكتور عبدالغفار محمدأحمد مدير مجلس الإقتصادية والبروفسير إبراهيم حسن عبد الجليل الذي حل مديرا بدلا لعبدالغفار الذي إنتقل لجامعة جوبا من تعييني دون أن ترمش عيونهم أو يضعوا إعتبارا لرأي السلطة وحتى يستشيروها ،


    الإعتقال قبل الأخير


    وفي اليوم التالي لهذا الصراع تم إعتقالي من منزلنا بأم درمان بعد ساعات العمل وكان ذلك ثالث يوم عمل لي بمجلس الأبحاث الإقتصادية ولم أكن أعرف لماذا أعتقلت هل لمنع تعييني بالجامعة أم لشعارات أمدرمان. وأخذت للقسم الشمالي في أم درمان حيث وجدت الأستاذ محمد عبدالله المشاوي والأستاذ المرحوم صديق شريف، المعلم السابق، وتم نقلنا فورا لجهاز الأمن ونقلنا للزنازين حيث وجدنا عددا من أبناء الفتيحاب: محمد نور وكان طالبا بالمعهد الفني (جامعة السودان الآن)، عوض الرشيد وكان عاملا وأخيه هارون الرشيد وقد كان موظفا، أما حمدالنيل محمد إدريس فهو معلم مدرسة وسطي قتل بعد إطلاق سراحه بفترة قصيرة، عمار وكان طالبا ثانويا، وصديق نورين وكان صياد سمك. وبينما نحن هناك إذا بكمال الجزولي يضاف لنا.

    لقد كنت أعرف عوض الرشيد ومحمد نور من خلال صلتي بفرع أبوسعد وقد سمعت بحمد النيل محمد إدريس منهم. أما كمال الجزولي فتعود معرفتي له لعام 1968 قبيل سفره للإتحاد السوفيتي، فقد قرأت له شعرا جميلا قبل أن ألقاه في جريدة السودان الجديد بصحبة محمود محمد مدني وصديق محيسي، ثم جاء للجامعة ذات يوم يبحث عن الشاعر محمد تاج السر الطالب حينها بكلية الهندسة، وقابلته بالصدفة أمام مدخل البركس، وبحثنا معا عن محمد فلم نجده وحزن كمال كثيرا لأنه كان سيسافر بعد يوم فترك لمحمد وصيه معي وذهب، ولم ألقاه إلا بعد عودته من موسكو وكنت حينها خارج لتوي من المعتقل. ولقد إندهشت كثيرا عندما أشترك كمال في الندوة الشعرية التي أقامتها الجبهة الديمقراطية ضمن برنامجها للإحتفال بذكرى 19 يوليو عام 1973 ، ذلك الإحتفال الذي أدى بشكل غير مباشر لتفجير إنتفاضة أغسطس (شعبان) 1973 . وقد قرأ كمال شعرا جميلا عن 19 يوليو وشهدائها. ولم أكن مرتاحا لإشتراك كمال في الندوة، رغم حبي لشعره وإعجابي بطريقة قراءته، وقلت معلقا لأحدهم "أن كمال يدعو الأمن لإعتقاله" وفعلا تم إعتقال كمال و أخيه حسن، ويبدو أن من قلت له تعليقي إنتظر حتى إطلاق سراح كمال وأبلغه بتعليقي الذي أغضب كمال كثيرا، وتناقشنا حوله فيما بعد، وكانت لدينا وجهات نظر مختلفة. ولكني قدرت له موقفه الشجاع ورأيه الذي دافع عنه هو أن قراءة الشعر عمل نضالي يمكن أن يقدم في سبيله التضحيات ولعلي بعد كل تلك السنوات أرى أن كمالا كان على حق، فالشعر أدى دورا قتاليا ضد كل الديكتاتوريات ورفع الوعي وشحذ الهمم النضالية وساهم في صمود المعتقلين وحمس المتظاهرين وأثرى وجدان الشعب.
    ورغم أنني كنت أعرف الأستاذ محمد عبدالله المشاوي من قبل إذ إلتقيته في الإعتقال الأول في يوليو، وفي السرايا في الإعتقال الثاني كما ورد عاليه ولكن علاقتنا توطدت خلال هذا الإعتقال.


    أما الأستاذ صديق شريف فقد تعرفت عليه خلال إنتخابات 1968 البرلمانية في منزل المرحوم الأمين حامد الأمين بحي البوستة حيث كان مركزا لنشاطنا لمرشح الحزب حينها فاروق أبو عيسى، ثم ألتقيته مرة أخرى في السرايا خلال إعتقالات يوليو 1971.



    ولم نمكث بالأمن كثيرا وتم نقلنا لسجن كوبر لقسم الشرقيات.


    الشرقيات في يناير 1977


    كان هناك عدد من المعتقلين ممن تبقوا من معتقلي 2 يوليو، وكان معظمهم من الأنصار العاديين وكان هناك من بينهم صف ضابط سابق بالقوات المسلحة، وكان عدد منهم قد تعرض للتعذيب. وقد وجدنا وضع المعتقلين ردئ، كان لائحة السجن الجديدة لا تطبق على معتقلي 2 يوليو، فقد كانوا يعاملون كمساجين درجة ثالثة، يصرف لهم وجبتي طعام: فطور وغذاء، مطبوختين في مطبخ السجن العمومي، يرقدون على الأرض فوق برش وبطانيتين، يعانون في العلاج وليست لديهم زيارات منتظمة.


    بدأنا فورا في طرح مطالب المعتقلين بتحسين أوضاعهم المعيشية والصحية وقد كلفت من قبل قيادة الحزب بالسجن أن أتولى مسئولية تنظيم المعتقل، فكونا فرعا للحزب بالشرقيات وبدأنا خلق صلة دائمة بقيادة الحزب بالسجن وإخترنا مولانا المشاوي رئيسا للجنة المعتقل ومتحدثا باسمها.


    وبدأنا نشاطات المعتقل التعليمية، بأن فتحنا فصلا لمحو الأمية يدرس فيه الأستاذ صديق شريف والأستاذ حمدالنيل وبدأنا نخطط لمحاضراتنا العامة.


    عرفنا أن هناك زملاء بالبحريات وهم الزملاء يوسف حسين، الدكتور محمد مراد الحاج، الزميل عبدالرؤوف علي أبنعوف، الزميل أحمد خليل، الزميل السر الناطق و الزميل سيدأحمد سمعريت، والزميل يوسف حوار من عمال المطابع وكانوا قد إعتقلوا في إجتماع قبل إعتقالنا بفترة قصيرة. وبعد وصولنا للشرقيات بأسابيع تم ترحيلهم لنا في الشرقيات. كنت أعرف ثلاثة من الزملاء: يوسف حسين، أحمد خليل والسر الناطق. أما الدكتور محمد مراد والزميل سيدأحمد سمعريت فقد كنت أسمع عنهما ولم ألتقيهما من قبل، ولم أكن قد التقيت عبدالرؤوف علي أبنعوف من قبل.

    كان الزميل يوسف حسين والذي ينتمي لأسرة عمالية ببحري حيث كان والده يعمل بالوابورات من أوائل خريجي قسم الجيلوجيا بكلية العلوم جامعة الخرطوم وكان عضوا باللجنة التنفيذية لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم أثناء ثورة أكتوبر ، وعمل عند تخرجه لفترة بسيطة بمصلحة الجيلوجيا ثم تفرغ للعمل الحزبي التنظيمي، وعمل بمواقع حزبية مختلفة، وقد تعرفت عليه عام 1968 عندما كان مسئولا عن فروع الجامعات والمعاهد، وكان هو أول مسئول حزبي ألتقيه بعد أطلاقي سراحي في مايو 1973. والزميل يوسف رجل منظم، وقارئ جيد، قليل الحديث، يجيد تفاصيل العمل التنظيمي: تلخيص الواجبات، تقييم التجارب، أصدار النشرات الداخلية وقد تعلمت منه شخصيا أشياء كثيرة في هذا الصدد.
    أما الدكتور محمد مراد الحاج فهو الآخر من أصول عمالية وتربى بودمدني ودرس بألمانيا الديمقراطية وعاد للسودان حيث عمل أستاذا للتاريخ بمعهد المعلمين العالي (كلية التربية جامعة الخرطوم حاليا) ثم عاد لألمانيا لتحضير الدكتوراة وعاد من ألمانيا ليختفي وينضم للكادر الأساسي للحزب وقد تعلمت على يديه مبادئ اللغة الألمانية وتاريخ السودان القديم.


    تعرفت على السر الناطق وهو موظف بالبريد والبرق بالخرطوم، وكان يعمل في أحد لجان المكتب التنظيمي وقد عرفني به الزميل عبد الجليل عثمان (أبو الرجال) حوالي عام 1970، ثم التقيت السر في كوبر في 1971 وفي شالا في عام 1972 والسر شخصية موهوبة، يستطيع أن يخلق من مواد عادية جدا موادا فنية ويستعملها للديكور والمكياج، وقد أبدع شخصيته شيخ الصمودي في الإعتقال الأول وظلت تتابعه بين كوبر وشالا وبالعكس، وكان زميلا صبورا و"بالو طويل " كما يقولون، وكان طباخا ماهرا وقد عملنا دائما في لجنة المجلة الناطقة. كان مدخنا نهما يبحث دائما عن تخميسة أو عن سيجارة بونص وكان دائما مبادر بتقديم إقتراح بكباية شاي وسيجارة بونص عند كل حدث مثير: إطلاق سراح زميل، وصول خبر من الخارج عن مظاهرة او منشور أو وصول مطبوع حزبي وكان مبادرا بتنظيم الإحتفالات وإعداد المجلة الناطقة وتلحين الأناشيد الجديدة.


    أما الزميل أحمد خليل، فذلك شخص عجيب، كنا نطلق عليه اسم "شخصية وطنية" إذ ان تلك هي الصفة التي كانت تصفه بها الميدان السرية عندما تذكر قائمة المعتقلين، وأحمد خليل من الشيوعيين الذيت يعطون في صمت ودون من، وله تجارب كثيرة كنا نحاول دائما جره ليحكي عنها، وقد ساهم مساهمة حقيقية في تحسين علاقتنا مع عساكر السجن وصف الضباط.


    وألتقيت في هذا المعتقل لأول مرة بسيداحمد سمعريت، وهو من سنار، رغم أن أهله أساسا من شايقية الشمالية، وسيد احمد كان شابا ودودا وكان يحفظ كثيرا من أدب وغناء الشايقية وحكاويهم وهو يجيد الطبخ.


    وكان عبدالرؤوف علي أبنعوف أيضا من شايقية الشمالية وهو خريج الكلية المهنية العليا وكان يعمل بوزارة الشباب والرياضة وكان ذلك أول إعتقال له وكان صامدا وكأنه قد تعود على المعتقل، وكان الشخص الوحيد القادر على إنتزاع إبتسامة من يوسف حسين في الأيام الأولى قبل أن يتعود من جديد على الحياة الإجتماعية.


    كمال الجزولي يظهر جوانب إبداعية غير الشعر:


    قلت أنني تعرفت على كمال قبل سفره لأوكرانيا للدراسة، وكنت أعرف عنه أنه شاعر وكانت قصيدته "أم درمان تأتي في قطار الثامنه" من قصائد جيلنا المحببة ثم عرفنا قصائده عن يوليو وخاصة قصيدته عن جوزيف قرنق. لقد إحتل كمال مكانه في ثقافتنا كشاعر مجيد، ولكن في أول إعتقال لنا مع بعضنا بدأ كمال يكشف عن قدرات فنية أخرى، وكانت أولاها ما فعله في الشرقيات بمشاركة شاويش من معتقلي 2 يوليو، عندما تحدث عن الخليل وعازة والمارشات العسكرية فاوضح معرفة بتاريخ الموسيقى السودانية ومعرفة عميقة بخليل فرح، وفوق ذلك قدرة مخرج مبدع إستفاد مما هو موجود في المعتقل لإخراج حلقة مدهشة فعلا نالت إعجاب الجميع. وكانت تلك البداية فقط، فقد تكررت إبداعات كمال الجزولي في ذلك المعتقل وفي المعتقلات الأخرى، وسيأتي حديثا آخر عنه في الفصل القادم.


    وعرفت كمال أيضا كقارئ وباحث مهتم بمختلف قضايا المعرفة وسأحكي عن ذلك أيضا عند حديثي عن الإعتقال الأخير.


    محمد عبدالله المشاوي عقلية قانونية مدهشة:


    قلت أنني ألتقيت محمد عبدالله المشاوي المحامي من قبل في معتقل يوليو 1971 وفي إعتقالي في ديسمبر 1973 وكان هو معتقلا منذ اغسطس 1973 عقفب إنتفاضة أعسطس شعبان.


    وأتاح لي الإعتقال معه هذه المرة والذي إمتد لحوالي 9 او 10 شهور أن اتعرف علي الأستاذ مولانا (كنا نخاطبه بمولانا أحتراما) المشاوي عن قرب، فتجلت لي قدراته القيادية وحكمته وعقليته القانونية المدهشة وقدرته على الحكي ومخزونه من الحكاوي والذكريات. ومولانا المشاوي درس بالقاهرة وكان من المفترض أن يدرس هندسة ولكنه رفضها وبمساعدة الأستاذ الكبير الدرديري أحمد إسماعيل ألتحق بدراسة القانون وتخرج بليسانس قانون من جامعة القاهرة وعاد للسودان ليعمل بالمحاماة. وسكن بأمدرمان واحبها وأحب الموردة وبانت وبنى علاقات صداقة حميمة مع أهلها وصار واحدا منهم لدرجة أنه يحكي نكتة عن أنه أراد أن يبحث عن منزل له بعد أن طلب صاحب المنزل إخلائه وقد رفض أن يستعمل قدراته القانونية للبقاء في البيت رغم نصيحة أصدقائه بذلك، وجند أصدقاءه للبحث وكان شرطه أن يكون المنزل بأمدرمان وتأتي بانت والموردة في المقدمة ثم الأحياء الأقرب لهما. ولم يجد له أصحابه منزلا مناسبا بتلك المواصفات، فداعبه أحدهم قائلا "ما تخلينا نفتش ليك في الخرطوم" فرد مولانا مشاوي بسرعة ساخرا "يعني أبقى جار جلاتلي هانكي ولا متشل كوتس" دلالة على الطابع الأفرنجي الأجنبي للخرطوم في ذلك الوقت.


    كنا نطلب من المشاوي أن يحكي لنا عن القضايا التي ترافع فيها، وكان يتمتع بذاكرة مرتبة ويحكي لنا عن قضايا جنائية ومدنية ترافع فيها وكانت تلك الحكاوي تكشف عن عقلية قانةنية مدهشة، كان من الممكن أن تكون من بين كبار المحامين الذين أثروا من المهنة لولا تعرضه الدائم للإعتقال وعدم إستقرار مكتبه. وقد تعرفت من خلال أحاديث مولانا المشاوي في القانون على اللورد ديننغ وأسهاماته في قانون الإثبات وحقوق الإنسان وقد ظلت تلك المعلومات عالقة بذهني حتى دراستي للقانون بجامعة سنترال إنقلاند بعد ربع قرن من ذلك الإعتقال، حيث عرفت حينها بشكل أعمق كنه إعجاب مولانا المشاوي باللورد ديننغ.

    لقد كان اللورد ديننغ فعلا شخصا يستحق الإحترام رغم خروجه الداوي من القضاء الإنجليزي بتهمة العنصرية. لقد ولد ديننغ بويتشجيرج بهامشير بانجلترا في 23 يناير 1899 وعاش مائة عام ليموت في 5 مارس 1999. وقد استدعي للبار عام 1923 وعين قاضي محكمة عليا 1944 وأصبح لوردا قاضيا بمحكمة الإستئناف عام 1957 ونزل المعاش وهو عمره 83 سنة في عام 1982.
    إخترنا مولانا المشاوي متحدثا بإسمنا، وكان المرحوم عبدالرحمن الصاوي مديرا للسجن، وذات مرة، قبل إعلان المصالحة بيوم أوشئ من ذلك القبيل جاءت زيارة لمولانا الميشاوي في مكتب الصاوي، فوجد أن زائره هو صديقنا وزميلنا صالح البحر وهو شخص ذو قدرة عجيبة على إلتقاط الأخبار وتحري مصادرها وأنا أعجب دائما لم تجذب الصحافة صالح البحر أو لم تكتشفه، المهم جاء صالح يحمل السجائر لمولانا المشاوي، فجاء الميشاوي وهو يضحك ويقول أن ثمة تغيير سيحدث في البلاد، فقلنا كيف عرفت فقال زارني صالح البحر وأحضر لي سجاير وهذا بكل المقاييس لا يمكن أن يحدث ألا إذا عرف صالح البحر أن تغييرا سيحدث. تذكرنا ذلك بعد أيام فقط عندما سمعنا بحديث نميري في برنامجه الشهري وقد أعلن عن لقائه الصادق المهدي في بورتسودان وعن المصالحة الوطنية.


    وذات مرة أثناء المرور تعامل الصاوي مع مولانا الميشاوي بتعالي مما أغضبني وجعلني أتدخل في المناقشة وأحتد مع الصاوي حتى وصلت أننا تشاتمنا فقلت له أنه قليل أدب، فأرسلني لزنازين البحريات وجردت من ممتلكاتي الشخصية: غليوني وتبغي وولاعتي، ولم أعطى فرش وتركت هناك لمدة أسبوع وأطلقت من الزنازين رغم رفضي الإعتذار للصاوي وإصراري على أن يعتذر لي.


    الملازم حسن محمود أبوبكر


    وعلمت عند عودتي للشرقيات مع المجموعة عن إطلاق سراح كل منسوبي حزب الأمة والأخوان المسلمين. وعلمت أيضا أن الملازم حسن محمود أبوبكر (إبن الشاعر المبدع الصاغ محمود أبوبكر الذي كان ضابطا بالجيش) قد وصلته إشاعة أن الصاوي أمر بضربي فجاء مسرعا وجمع عساكر القسم الشرقي (وهو كان ضابط القسم) وأقسم لهم بأن من يمسني بسوء فهو سيفرغ فيه طبنجته وهو لا يعرف القمندان فهو شخصيا مسئول عن القسم وعليهم طاعته.


    والملازم حسن محمود أبوبكر، رجل شاعر لا يحب السياسة، وكنت قد تعرفت عليه في إعتقال سابق إذ لاحظ ضمن الكتب التي أدخلتها في الزيارة دواوين شعر، ثم صار يناديني ويقرأ لي بعضا من شعره وأظن أنه تعرف على كمال الجزولي بشكل مشابه وعموما فحسن محمود ضابط سجن محترم يقوم بواجباته بشكل جعله محبوبا من عساكره ومن المساجين والمعتقلين.


    السر أحمد البشير: مناضل فريد وقائد فذ


    وألتقيت في هذا الإعتقال بالمناضل الفريد والقائد العمالي الفذ السر أحمد البشير وهو من مناضلي عمال الوابورات بكوستي الذي تعرض في حياته للتشريد والإعتقال عدة مرات، وكان قد نقل لنا من كوستي ومعه أحد المناضلين الشباب وإسمه لو لم تخني الذاكرة محمد نور.


    لقد كان السر أحمد البشير كتابا متحركا لتاريخ الحركة النقابية والحزب، وخاصة تاريخ عمال السكك الحديد والوابورات، وحكى عن الملاحم البطولية أيام الحكم العسكري الأول، عن إضرابات عمال السكك الجديدية والنقل النهري في الستينات.


    وحكى لنا السر كيف حاولت إدارة الوابورات حينها لشرائه عندما أستدعي ووضعت أمامه بدلة القبطان إذا قبل أن يكسر الإضراب ويقود باخرة للجنوب، ولكنه رفض وبدلا عن الترقية فصل من العمل وظل مشردا حتى أعادته ثورة أكتوبر.


    وكانت من أجمل اللحظات تلك التي يجلس السر أحمد البشير والسر الناطق ليحكيا عن ذكريات كوستي، ومن نوادر السر الناطق أنه أعتقل في مظاهرة وقدم لمحاكمة وكان القاضي عبد العزيز شدو الذي كان يعرف السر ويلعب معه الكوشتينة في نادي الموظفين، وكان يبحث عن طريقة لإخراج السر فسأل السر من إسمه والسر كان تمتاما فأجاب بتمته


    "إس .. ميي... ال.. سس رر،" وقبل أن يكمل قال القاضي شدو للبوليس "ده ما قادر يتكلم يكون هتف كيف .. أطلق سراحه فورا". والطريف أن السر الناطق يتمتم في الكلام فقط ولكنه لا يتمتم في الهتاف والغناء.


    كلفنا السر أحمد البشير بأن يكون مسئولا عن الكميون، ولقد كان بارعا في إدارته ولا أذكر أننا عانينا في فترة مسئوليته أي نقص في المواد التموينية، فقد كان حريصا أن يعد تكليف لكل زميل قبل الزيارة لطلب شئ معين من عائلته.


    يوسف حوار يعلمنا تجليد الكتب


    كان معنا في المعتقل أحد الشيوعيين الصامدين وهو عامل طباعة متميز، وهو المناضل يوسف حوار وكان شخصا متواضعا صبورا وباسما طول الوقت، وقد تتلمذنا على يده: سيداحمد سمعريت، السر الناطق، عبدالرؤوف أبنعوف وشخصي في كيفية تجليد الكتب وصناعة أغلفة مقوية من الكرتون والقماش، وقد قمت بتجليد عدد من كتبي للحفاظ عليها.


    كيف قضيت فترة الإعتقال:


    تميز هذا الإعتقال عن الإعتقالات السابقة بتوفر الكتب والمراجع فعكفت على القراءة والكتابة فقرأت كتاب سويزي عن الإقتصاد السياسي للرأسمالية وكتاب موريس دوب في نفس الموضوع ومجموعة مقالات سويزي الماضي كحاضر، وكتابي باران الإقتصاد السياسي للنمو ومجموعة مقالاته الرأي البعيد، والكتاب المشترك لباران وسويزي عن الرأسمالية الإحتكارية وعكفت على دراسة الإقتصاد السوداني من مجموعة المقالات التي جمعها الدكتور علي محمد الحسن بعنوان مقدمة لدراسة الإقتصاد السوداني ومقالات في المجتمع والإقتصاد السوداني ودرست بتمعن كتاب أريك روول عن تاريخ الفكر الإقتصادي، ودرست الصناعة التحويلية السودانية من خلال المسح الإقتصادي لسنة 1970 وأستخدمت تلك الوثائق لكتابة ورقتي عن فائض القيمة في الصناعة التحويلية السودانية والتي ترجمتها للإنجليزية ونشرت بمجلس الأبحاث الإقتصادية كدورية. وكتبت ورقة عن القطاع التقليدي وترجمت مقالا لسويزي من كتابه الماضي كحاضر عن مرور 100 عام للبيان الشيوعي وترجمت فصلا من كتاب لا أذكره الآن عن قصة أول مايو وإضراب العمال في شيكاغو وللأسف فإن الترجمتين لم يخرجا من المعتقل بينما أخرجت الورقتين عن فائض القيمة وعن القطاع التقليدي.

    وحاولت تعلم الألمانية، وكان أستاذي الدكتور محمد مراد ولكن فصلنا لم يكن مستقرا ولم نستفد من تلك الفرصة العظيمة
                  

06-15-2009, 11:41 AM

راشد فضل

تاريخ التسجيل: 05-18-2009
مجموع المشاركات: 363

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    Quote: وألتقيت في هذا الإعتقال بالمناضل الفريد والقائد العمالي الفذ السر أحمد البشير وهو من مناضلي عمال الوابورات بكوستي الذي تعرض في حياته للتشريد والإعتقال عدة مرات، وكان قد نقل لنا من كوستي ومعه أحد المناضلين الشباب وإسمه لو لم تخني الذاكرة محمد نور.


    كان يعمل مع والدي عليه وعلى السر رحمة الله الواسعة .. ويخبرني والدي عن بطولاته ومواقفه كلما جاء

    هذا الرجل الطويل الضخم ( المشلخ) الانيق ليمر في اواسط الثمانية من امام منزلنا في مربع 28

    بكوستي في طريقه الى منزل جارنا وشقيقه الاكبر عثمان احمد البشير .. لعل من اسهاماته البارزة كانت

    الجمعية التعاونية لموظفي وعمال النقل النهري التي قاتل من اجلها ووهبها كل وقته وجهده وكنامثل

    غيرنا من الاسر ننعم بما توفره لنا من سلع خاصة السكر.

    تحياتي لصديق صديقي ابن المناضل السر (معاوية) اينما كان .. وتحياتي وتقديري لجهدك الجيار دكتور

    كبلو فقد استطعت ان تمنحنا توثيقا نادرا لرجال صنعوا لانفسهم امجادا ستظل تضئ الطريق للآخرين
                  

06-15-2009, 09:11 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: راشد فضل)

    شكرا راشد فضل
    السر أحمد البشير أحد أبطال كوستي تلك المدينة عرين الأبطال: حمودة فتح الرحمن، عبد الرحيم بقادي، حسن العبيد وقد عمل بها السر الناطق والدكتور فيصل فضل.
    السر احمد البشير شخص نادر وهو أشبه من قابلت من النقابيين بعم قاسم أمين والشفيع أحمد الشيخ في سعة الأفق والثقافة وألتزام قضايا الشعب والطبقة العاملة، وستظل ذكراه محفورة في وجداني دائما.
                  

06-16-2009, 10:41 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري (13) .. بقلم: صدقي كبلو
    الثلاثاء, 16 يونيو 2009 23:21

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983


    الاعتقال الرابع يناير 1977 - مايو 1978


    المصالحة الوطنية


    أعلن نميري في لقائه الشهري في يونيو 1977 عن المصالحة الوطنية بين نظامه والجبهة الوطنية للمعارضة وكيف أنه إلتقى الصادق المهدي في بورتسودان. وتقرر على أساسها:


    إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين وإعلان العفو العام عن كل الذين أتهموا في قضايا سياسية.


    إلغاء كل الإجراءات التي أتخذت ضد أفراد بسبب نشاطهم السياسي مثل مصادرة الممتلكات والفصل من الخدمة المدنية.


    مراجعة هيكل الإتحاد الإشتراكي بقصد فتح كل تنظيماته للإنتخاب على كل المستويات والسماح بمناقشة كل سياسات الحكومة بحرية وإتخاذ القرارات بالأغلبية.


    مراجعة الدستور لكفالة حماية أكبر للحريات الشخصية.


    إعطاء مزيد من التركيز على حياد سياسة السودان الخارجية.


    إلغاء القوانين التي تقيد الحرية الشخصية (خاصة قانون أمن الدولة).


    مراجعة هيكل الحكم المحلي لإزالة جوانبه السلبية وخاصة بهدف تقليل المنصرفات في هذه الجبهة.


    مراجعة التوجه غير القانوني تجاه طائفة الأنصار وبالأخص إصدار إعلان يعبر عن الأسف لموت الإمام الهادي إمام الأنصار في 1970.


    وقد تبع إعلان نميري، إطلاق سراح معتقلي الجبهة الوطنية ومن بينهم حسن الترابي. وكان من بين قيادات حزب الأمة المعتقلين السيد فاروق البرير والذي إلتقيته بالصدفة في باب الشرقيات عتد إطلاق سراحه فأهداني كتاب الطبقات لود ضيف الله.


    أطلق سراح بعض الزملاء بعد المصالحة ولكن مجموعتنا بقي منها:


    يوسف حسين، الدكتور محمد مراد، سيدأحمد سمعريت، عبد الرؤوف أبنعوف، السر الناطق، أحمد خليل، وصدقي كبلو


    زيارة وزير الداخلية


    وزارنا وزير الداخلية الجديد بعد المصالحة الوطنية السيد أحمد عبد الرحمن القيادي البارز في حركة الأخوان المسلمين حينها والجبهة القومية الإسلامية فيما بعد، وأذكر أننا تحدثنا معه حول إطلاق سراحنا فقال لنا حرفيا أنه لا علاقة له بإعتقالنا ولا سلطة له لكي يطلق سراحنا ولكنه مسئول عن السجون، فطالبناه بتنفيذ لائحة السجون ومعاملتنا معاملة معتقلين سياسيين، فسألنا في براءة لماذا لاتنفذ اللائحة عليكم، فتصديت له قائلا "كما تذكر فإن المعاملة كانت وفقا لللائحة أيام المرحوم فاروق حمدالله ولكن أبو القاسم سحبها عندما أصبح وزيرا للداخلية، وناضل المعتقلون حتى إستعادوها أيام مزمل غندور ولكنها سحبت بعد إنقلاب حسن حسين، وهي تنفذ في كل أمور السجن إلا المعتقلين السياسيين" فوعد الوزير أن ينظر إلى الأمر وقال أنه لا يعرف كل ذلك لأنه لم يعتقل إطلاقا وقضى معظم حكم نميري في الخارج.


    وأوفى الوزير وعده وبدأ تطبيق اللا ئحة بعد فترة قصيرة من زيارته فقد نقلنا من قسم الشرقيات إلى قسم الكرنتينة ب والتي كان يعيش فيهاعسكريو 19 يوليو قبل إطلاق سراحهم.


    وثيقتان مهمتان للجنة المركزية:



    قبل إنتقالنا إلى الكرنتينات وصلتنا وثيقتان صادرتان عن إجتماعين للجنة المركزية عقد الأول لمناقشة قضايا السياسة الخارجية والوضع الدولي في يوليو 1977 والثاني بعد شهر واحد لمناقشة المصالحة بين نظام نميري وأحزاب الجبهة الوطنية.

    رغم أن الوثيقة الأولى كانت تناقش قضايا الوضع الدولي والسياسة الخارجية، إلا أن أهميتها في نظري انها قد حاولت وفي ظروف عصيبة من تاريخ السودان والحزب الشيوعي استخلاص تعميم نظري حول القضايا المشار اليها من تجربة السودان والمنطقة العربية والافريقية وبعض بلدان العالم، انها قدمت اسسا نظرية للثورة الوطنية الديمقراطية مختلفة ومتطورة عن الطرح الذي كان يوجد في الادب الثوري العالمي والاقليمي سواء من وجهة نظر سوفيتية أو صينية أو كوبية أو عربية أو افريقية[1]. وفي هذا الصدد يمكن أن نلخص أهم ما توصلت إليه في:
    اولا: الدورة تمثل قطيعة كاملة مع التغيير من اعلى، وبدون ان يكون ذلك التغيير نابعا من حركة منظمة لجماهير تتمتع بحقوقها الاساسية وتمارس كل حقوقها الديمقراطية، تقول الوثيقة الصادرة عن الدورة:


    "ان التجربة في العديد من البلدان تثبت ان الاصلاح الزراعي وتأميم المصارف والمصالح الاجنبية وبناء قطاع عام والاجراءات المماثلة تبقى مجرد تدابير فوقية بدون الديمقراطية - أي بدون ان تشارك الجماهير في الصراع من اجلها وانتزاعها وتثبيتها في صميم التركيب الجديد للمجتمع - ومن ثم يصبح سهلا سحبها من الجماهير بعد أي انقلاب مضاد، ولا تكون اساسا متينا لتمسك الجماهير بالثورة ودفاعها عنها وعن حياتها الجديدة""(أعمال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، دورة يوليو 1977، الجزء الاول ص 66).


    وقد كان ذلك استخلاصا لدروس عدة ولعل اكثرها اهمية بالنسبة لنا في السودان وحركة اتحرر الوطني الافريقية والعربية هي تجربة الناصرية التي تمثلت اهم جوانب ضعفها في مصادرة الديمقراطية وفرض "دكتاتورية بعض شرائح البرجوازية الوطنية باسم تحالف قوى الشعب العامل" (ص 34) والذي ادى إلى ان يتحول


    "ما حققه حكم عبد الناصر على صعيد الحرية الوطنية والاستقلال الاقتصادي والتطور الصناعي والإصلاح الزراعي - وهو إنجاز ليس بالهين - يتحول أمام أعيننا، أو هو بسبيل التحول، إلى "مجرد إصلاحات للجماهير"، بينما يلعب قطاع الدولة وغيره من الإنجازات التقدمية "دورا مساعدا" في عملية "تحويل فترة الانتقال في اتجاه خلق مجتمع رأسمال""( ص ص 48-49).


    ثانيا:اوضحت الدورة دون أي لبس موقف الشيوعيين من قضية التحالف الوطني الديمقراطي وارتباط ذلك بقضية الديمقراطية نفسها. تقول الوثيقة


    "اولا ان التحالف داخل كل بلد وعلى النطاق العربي العام ينبغي ان يقوم على اساس برنامج محدد وملزم لكل اطرافه.


    "ثانيا ان التحالف يتعزز و يتطور عندما يقوم على الاستقلال الكامل لاطرافه والتشاور الديمقراطي بينها وتساويها في الحقوق والاعباء.


    "ثالثا ان التحالف ينبغي ان يقوم على التمسك الحازم بالحقوق والحريات الديمقراطية الاساسية للجماهير ورفض تبرير مصادرتها باسم الدفاع عن الثورة.


    "رابعا ان التحالف ينبغي الا ينحصر في الطلائع أو يقتصر عليها مهما كان وزنها الجماهيري وقوتها العددية، بل يقوم على اساس طبقي وجماهيري، ركيزته المكينة تحالف العمال والمزارعين مجتذبا اليه صفوفه جماهير الجنود." (ص ص 45-46).


    وذهبت اللجنة المركزية إلى اقتراح ان يكون ضمن برنامج وحدة القوى الوطنية والتقدمية " النضال من اجل الحقوق والحريات الديمقراطية - حرية التنظيم والعمل الحزبي والنقابي، وحرية التعبير بالمقالة والخطابة وغيرهما وحق الاضراب - والتضامن الفعال لمقاومة اضطهاد القوى الوطنية والتقدمية في أي قطر عربي"( ص 52). ووضع نفس الاقتراح امام حركة الطبقة العاملة الافريقية لكي "تناضل من اجل الحقوق والحريات الديمقراطية الاساسية وضد اضطهاد وقمع الوطنيين والديمقراطيين في بلدها واي بلد افريقي آخر" (ص 68). واقترح على قادة الثورة الاثيوبية حينها:


    "بناء تحالف القوى الوطنية الديمقراطية حسبما تعبر تلك القوى عن نفسها في تنظيمات سياسية أو نقابية أو اجتماعية أو قومية على اساس احترام استقلال تلك التنظيمات وتكافؤها والتشاور في ما بينها؛ وقيام سلطة ذلك التحالف من القمة إلى القاعدة.


    "توفير الديمقراطية لكل القوى الثورية الاثيوبية، والتي تشمل في رأينا الحزب الثوري لشعوب اثيوبيا، ووقف اقتتالها وانهاكها لبعضها وتشاورها من اجل التعاون والتلاحم ضد العدو المشترك.


    "الاعتراف بحق شعب إرتريا - والقوميات الاخرى - في تقرير مصيرها بحرية، ووقف القتال ضد الثورة الإرترية وعقد مؤتمر تحضره كل منظماتها مع السلطة الاثيوبية دون شروط مسبقة"(صص 66-67)


    ثالثا: اكدت الدورة من جديد رفض الشيوعيين للتكتيكات الانقلابية باعتبارها "تمثل بين القوى الوطنية الديمقراطية - مصالح البرجوازية الصغيرة لا مصالح الطبقة العاملة" وانه ليس امام الشيوعيين بديل للنشاط الجماهيري (ص 25) وانه في حالة حدوث أي انقلاب تقوده فصيلة ثورية فلا بد من نشر الديمقراطية لكي يتطور ذلك الانقلاب لعملية ثورية باعتبار ذلك شرطا اولا ورئيسيا (ص 27)


    رابعا: طرحت من جديد على أسس ديمقراطية مسالة قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية بأنها عملية تتم بالنشاط وسط الجماهير وبإقناع الجماهير، و أوضحت إن البرجوازية الوطنية والصغيرة عندما تستولي على السلطة "تبقي على جهاز الدولة القديم وتسخره لإقامة دكتاتوريتها على الأغلبية الساحقة من الشعب، وتفرض وصايتها بالقوانين المصادرة للديمقراطية والتنظيمات السياسية الفوقية على الحركة الشعبية وتجمد خطواتها وتعوق نهوضها"(ص 17)


    أما الوثيقة الثانية فقد عالجت موقف الحزب الشيوعي من المصالحة الوطنية ودعوته لجبهة للديمقراطية وإنقاذ الوطن تطويرا لشعاره في أغسطس 1973 حول وحدة قوى المعارضة الشعبية.

    كانت الوثيقة تحمل عنوان " الديمقراطية مفتاح الحل للازمة السياسية: جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن". ولقد بني انتقاد الشيوعيين للمصالحة على موقف المصالحة من الديمقراطية والقوانين والمؤسسات الدستورية التي تصادرها والتي لم يتعرض اتفاق المصالحة لإلغائها و تصفيتها، موضحة إن أي مصالحة جادة وحقيقية لابد إن تبدأ من الاعتراف بالحقوق الأساسية والديمقراطية الكاملة للجماهير و أوضحت الوثيقة:"لن يكتب للسودان الاستقرار والتطور والازدهار الا بتطوير واستكمال الحقوق والحريات التي تحققت مع الاستقلال، وتبوء كل محاولة للارتداد على تلك الحقوق والحريات والمكتسبات تحت شعار دستور اسلامي أو دستور اشتراكي" (الديمقراطية مفتاح الحل: ص 22)
    وبعد تحليل عميق لازمة السلطة وازمة المعارضة اليمينية توجهت اللجنة المركزية


    "من هذا المنعطف الجديد، وعلى طريق بناء الجبهة الوطنية الديمقراطية من خلال العمل اليومي وعلى المدى البعيد والصبور، يدعو الحزب الشيوعي السوداني لمواصلة نشاط حركة المعارضة الشعبية لتتبلور في هذه الفترة ووفق متطلباتها في جبهة واسعة للديمقراطية وانقاذ الوطن، توحد الاحزاب والمنظمات والتيارات السياسية والاتجاهات الفكرية والشخصيات الوطنية في مواصلة النضال من اجل الديمقراطية والسيادة الوطنية والتقدم الاجتماعي والمصممة على متابعة النضال الجماهيري اليومي وتحمل مشاقه - بعيدا عن المؤامرات الانقلابية... لاستعادة الحقوق والحريات الديمقراطية، وحشد القوى بمسئولية وطول نفس لمعركة الانتفاضة الشعبية للاطاحة بالديكتاتورية العسكرية، واستعادة ارادة الشعب مقننة في دستور ديمقراطي علماني، يؤمن حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحق الاضراب، وحرية التعبير والعقيدة والضمير، وحرية النشر والصحافة، ويصون حقوق المواطن الاساسية من أي تغول من جانب الدولة"

    وبهذا انتقل الحزب خطوة اخرى نحو المحدد، ودون فقدان رؤية ما هو استراتيجي وعام: النضال من اجل بناء وطني ديمقراطي، يرى الممكن موضوعيا: جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن "مفتوحة لكل الاحزاب والتنظيمات والشخصيات"، ولكن بين هذا وذاك يمتد خيط العلاقة الجدلية:
    "الحزب الشيوعي لا يطرح مبدأ الديمقراطية لمكاسب تكتيكية مؤقتة. فهو في نضاله من اجل بناء وطني ديمقراطي يفتح الطريق للانتقال إلى الاشتراكية، ينطلق اولا من تجربة الحياة السياسية في السودان بتقاليدها ومنجزاتها وعثراتها، وتطابق تلك التجربة مع المنطلق النظري والفلسفي الذي يهتدي به الحزب الشيوعي وهو ان النضال من اجل الاشتراكية مستحيل من غير النضال من اجل الديمقراطية"(الديمقراطية مفتاح الحل ص 25)


    واقتطفت اللجنة المركزية من برنامج الحزب المقر في المؤتمر الرابع 1967 فقرة تقول "قيادة الحزب الماركسي للنظام الاشتراكي لا تعني وجوب نظام الحزب الواحد" (راجع ص 12 من برنامج الحزب1967).


    واوضحت اللجنة المركزية ان الموقف المبدئي من مسالة الديمقراطية كان وراء "طرح الحزب الشيوعي شعارات استعادة الحقوق الاساسية والحريات الديمقراطية، وتوسيع النضال الجماهيري، منهجا لوحدة المعارضة الشعبية" منذ اغسطس 1973، وان الحزب "ظل يتوجه ومازال لقيادة واحزاب الجبهة الوطنية لتنسيق نشاط المعارضة في هذا الحد الادنى..."(ص26) وان الحزب في اعتراضه على تكتيكات الاحزاب اليمينية التي تؤدي إلى تجميد نشاط الجماهير السياسي الديمقراطي كان يرتكز على ان الضمان الوحيد للديمقراطية في المستقبل، هو النضال من اجلها تحت ظل الديكتاتورية" أي نضال الجماهير من اجلها (ص 27)


    ولفد أثارت الوثيقتان نقاشا عميقا، ولقد كنت من بين المعترضين على وثيقة الديمقراطية مفتاح الحل، ذلك أنني كنت مشبعا بتراث الثورة الصينية وكان فهمي لقضية الديمقراطية والصراع الطبقي مشوها، وكنت من المدافعين عن الديمقراطية الجديدة والديمقراطية للشعب والديكتاتورية لأعداء الشعب وغير ذلك من شعارات. ورغم تسجيل إعتراضاتي في محضر الإجتماع، ظللت لما يقارب العام بعد الوثيقة دائم القراءة للوثيقة ومنقبا في الكتب الماركسية وكتب العلوم السياسية ومناقشة الأصدقاء والرفاق. وقد ساعدني ذلك كثيرا في تطوير أفكاري حول الديمقراطية ومنهجي في البحث فيما يخص مقولات مثل المجرد والمحدد والعام والخاص والتفريق بين مفهوم الديكتاتورية السياسية وديكتاتورية الطبقة. وفي الحقيقة تعود الفكرة الأساسية في مقالتي عن الشيوعيين وقضية الديمقراطية إلى تلك الفترة، رغم أنني لم أكتبها إلا في عام 1993.


    معتقلون من بورتسودان


    ولم يمض وقت طويل حتى وصل كوبر فوج من معتقلي بورتسودان وحلوا بالكرنتينة "ج" التي يفصلها عن الكرنتينة "ب" باب كبير وكنا نجتمع حول الباب للتعرف على الرفاق من بورتسودان والذين كان بينهم إثنين من أعضاء اللجنة المركزية للحزب: المناضل العمالي عبد العاطي وهو عضو منتخب من المؤتمر الرابع والزميل عبد الجليل عثمان وكنا نلقبه ب "أبو الرجال" وهو من الذين إحترفوا العمل الحزبي وهم شبابا وعملوا بمواقع حزبية مختلفة حتى أختير عضوا باللجنة المركزية بعد 19 يوليو. وكان بين الزملاء زملاء جدد دخلوا الحزب بعد 19 يوليو ونظموا في وحدات كفاحية تحمل إسمي الشهيدين قاسم والشفيع ومعظمهم من هيئة الموانئ البحرية.


    عودة المعتقلين المبعدين لشالا والأبيض


    ودونما إنذار دخل علينا معتقلو الأبيض أو بالأحرى المعتقلون المبعدون للأبيض وكان من في مقدمتهم المناضل قاسم أمين والدكتور محمد سليمان والصحفي مكي عبدالقادر والأستاذ عبدالرحيم علي بقادي والمناضل العمالي سعودي دراج وأحد الزملاء من صف الضباط لا أذكر إسمه رغم أنه كان كثير الهظار مع العم قاسم أمين.


    وجاءنا أيضا معتقلو شالا وكان في مقدمتهم سليمان حامد وعبدالقادر الرفاعي والخاتم عدلان وحسن قسم الله وخليل ألياس وأحمد عبدالله هلال والسر النجيب


    وكان لوصول هؤلاء الزملاء أثر كبير في تجديد الحياة بالمعتقل، فعادت المجلة والمحاضرات


    ومما أذكره هنا أن أحد فقرات المجلة كانت عن إستعراض كتاب فاستعرض يوسف حسين كتاب المؤرخ المصري اليساري رفعت السعيد عن اليسار المصري والذي ذكر فيه بعض فقرات عن تكوين منظمة الشيوعيين السودانيين بمصر وأعتمد في روايته على المناضل النوبي عبده دهب، والملفت للنظر أن يوسف رجع لقاسم أمين لتأكيد بعض معلومات عبده دهب فأكدها قاسم.


    وقدم الخاتم في نفس الباب إستعراضا لكتاب هام كنا نتداوله في تلك الفترة وعنوانه "الفكر الإسلامي في العهد الوسيط" للدكتور الطيب تزيني وقال الخاتم أنه تشاور مع الدكتور محمد سليمان الذي أنتقد الكاتب الذي درس في ألمانيا لاعتماده على دراسة لأستاذه الألماني المستشرق دون أن يشير لذلك، وكان رأيي أن كتاب الطيب تزييني يعد أهم ما كتب عن الفكر الإسلامي في ذلك العصر وفي تاريخ الإسلام بشكل عام منذ طه حسين وقد فتح بابا جديدا في الكتابة ولجه بإقتدار فيما بعد الأستاذ الكبير حسين مروة والذي سنأتي لكتابه في حينه وكنت قد إغتنيت نسخة من كتاب الطيب تزيني قبل دخولي المعتقل وتابعني في ذلك المعتقل والإعتقال الأخير وساعدني في تقديم محاضرتي في سجن بورتسودان عن كتاب أبي الحسن الندوي، الذي أعاد لي إهتمامي القديم بدراسة ونقد الفكر الإسلامي المعاصر والذي يمثله تيار الأخوان المسلمين.


    وكانت عودة هؤلاء الزملاء فرصة لي للتعرف عن قرب بالمناضل قاسم أمين فقد كنت أعرف جميع المعتقلين عدا العم قاسم أمين، الذي ألتقيته من قبل مرة واحدة في آخر عام 1970 او أول عام 1971 في مكاتب الحزب المسمى المديرية والتي كانت دارا للميدان بعد أكتوبر وهي منزل بالقرب من مطبعة التمدن، وقد قدمني له الرفيق الجزولي سعيد، فحاولت أنتهاز الفرصة ودعوته لندوة بالجامعة، فشكرني وأعتذر في تواضع قائلا أنه جاء في زيارة قصيرة وسيعود لبراغ لعودته بشكل نهائي وحينها يمكن أن أدعوه للحديث. وعرفت فيما بعد أنه جاء بناء على قرار المؤتمر التداولي بنكليفه برئاسة لجنة فحص الكادر.


    كان العم قاسم أمين طويل ومتين البنية وذو ملامح سودانية واضحة وأسود اللون وكان يتحدث الإنجليزية بطلاقة وكان يدرس الزميل سعودي الإنجليزية، وكان مرتب التفكير وواسع الثقافة وكان يحب غناء محمد وردي حتى أني أذكر أن وردي غنى "أقول أرحل" ونحن في المعتقل فتحلق الزملاء حول الراديو وكانوا يهمسون أن العم قاسم لا يحب الإزعاج عندما يغني وردي. وقد حدثت وردي بذلك وكان سعيدا ووعدني بزيارة عم قاسم في المنزل وأظنه فعل.


    وكان عم قاسم يأتي لعنبرنا كل صباح ويجلس على سرير عبدالرحيم علي بقادي بالقرب مني ويسألني: ما الجديد في العالم فقد كانت واحدة من عاداته أنه يتابع الإذاعات العالمية طوال الليل، وكنت أفعل نفس الشئ. وأذكر ذات مرة ونحن نتحدث عن أخبار العالم أن صاح زميل من الذين كانوا مع عم قاسم في الأبيض مداعبا عم قاسم "يا كبلو أرفع صوتك عمك قاسم أذنه تقيلة" فأبتسم عم قاسم وقال : ما تاخد بالك عمك قاسم أذنه selective تسمع ما تريد أن تسمعه" فضحكنا وواصلنا حديثنا.

    .
    الإجتماع مع أبي القاسم محمد إبراهيم


    ذات صباح أخبرتنا سلطات المعتقل بأننا كلنا مطلوبين لدى جهاز الأمن وأن علينا الإستعداد وستحضر عربات الأمن لحملنا إلى مباني الجهاز. وبدأ الزملاء الإستعداد بينما إنشغلت أنا والزميل احمد خليل في تأمين ما لدينا من ورق ومطبوعات، وكان أن تركت ورائي ترجمتي لمقال سويزي عن مرور مائة عام للبيان الشيوعي وترجمتي لقصة تاريخ أول مايو.


    وجاءت العربات وحملتنا لجهاز الأمن فأخذنا لقاعة الإجتماعات في المبنى الثاني، كان جهاز الأمن الداخلي خلف البنك العربي الأفريقي يتكون من منزلين مفتوحين على بعضهما وكان مكتب خليفة كرار ومكتب الأرشيف في المبنى الشرقي بينما مكتب معاوية وكمال حسن أحمد والزنازين وقاعة الإجتماعات في المبنى الغربي.


    دخلنا القاعة وجلسنا ولا حظنا حركة غير عادية وتشديد في الحراسة ووجود بعض أفراد القوات المسلحة، وفجأة دخل علينا أبو القاسم محمد لإبراهيم وكان حينها النائب الأول لرئيس الجمهورية والأمين العام للإتحاد الإشتراكي. وسلم علينا وبدأ يخطب فينا عن ثورة مايو الإشتراكية التي لا تخون أهدافها وإنما تسعى لجمع الصف الوطني ولا يمكن تجاوز اليسار في ذلك. ثم قال أنه يريد أن يسمع وجهة نظرنا. فرفع العم قاسم أمين يده وتحدث حديثا مختصرا مرتبا كأنما أعده فقال نحن نشكر النائب الأول لإجتماعه بنا ولكننا معتقلين ولا نعرف ما يدور بالخارج ولا نملك أي صلاحية للتحدث نيابة عن الذين بالخارج وهنا قاطعه أبو القاسم قائلا لقد صدر قرار بإطلاق سراحكم جميعا وبإعادة المفصولين منكم والقرار قد صدر مني ولا علاقة له بالحوار، فرد العم قاسم مرة أخرى قائلا في هذه الحالة سنخرج ونتشاور ونوصل رأينا لكم. وأنتهى الإجتماع وعدنا لكوبر لحمل أشياءنا ولكن وجود عساكر السجن المكثف معنا في القسم منعنا من إسترداد أوراقنا التي أمناها.


    حملنا أشياءنا وحملتنا عربات الأمن لبيوتنا وبهذا أنتهى إعتقال وعدنا مرة أخرى للحياة المدنية.




    --------------------------------------------------------------------------------

    [1]أني لاقترح على الرفاق في الحزب الشيوعي السوداني إعادة نشر تلك الوثيقة دون ما تغيير
                  

06-17-2009, 10:49 AM

محمد صلاح

تاريخ التسجيل: 12-07-2004
مجموع المشاركات: 1276

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    الرفيق الدكتور صدقي كبلو
    تحياتي لك على مشوار النضال الباسل الطويل
    والتحية لكل الرفاق الذين تعرضوا لتجارب الاعتقال
    في سجون مايو والانقاذ وغيرهم والتحية ايضا لمن مروا بالتجربة
    من احزاب اخرى والرحمة على من غادر منهم الدنيا الفانية
    التحية لك مرة اخرى على مبادرتك بالتوثيق واامل
    من كل من مر بمثل هذه التجارب ان يدون للتاريخ ذلك
                  

06-17-2009, 09:42 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: محمد صلاح)

    الرفيق العزيز محد صلاح
    شكرا لكأضم صوتي لصوتك بدعوة الآخرين بمختلف تجاربهم أن يسجلوا التاريخ لفائدتنا جميعا ولفائدة الباحثين والأجيال الجديدة.
                  

06-18-2009, 11:09 AM

Mohamed Abdelgaleel
<aMohamed Abdelgaleel
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 10415

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    متابعة

    وصلني صدى هذا الخيط من العديد من المتابعين
    في الرياض - السعودية
                  

06-18-2009, 08:15 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Mohamed Abdelgaleel)

    شكرا محمد
    ماذا يقول أهل الرياض؟
                  

06-19-2009, 00:03 AM

ماضي ابو العزائم
<aماضي ابو العزائم
تاريخ التسجيل: 09-07-2007
مجموع المشاركات: 3598

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)
                  

06-29-2009, 08:24 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: ماضي ابو العزائم)

    يا جماعة آسف للغياب كنت مسافر ومشغول.
    ٍأعود حالا للتكملةز
                  

06-30-2009, 05:51 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    صدقي كبلو
    تلك الأيام في سجون نميري (14)
    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983

    الاعتقال الخامس والأخير
    يوليو 1979-نوفمبر 1983
    العودة للعمل
    بعد أيام من إطلاق سراحي قررت الذهاب لمجلس الأبحاث الإقتصادية والإجتماعية حيث ألتحقت بالعمل قبل إعتقالي بأيام لأحي الزملاء بالمجلس ودخلت فوجدت الدكتور إبراهيم حسن عبد الجليل وبعد أن رحب بي وطلب لي شايا، قال لي متى تنوي الرجوع للعمل، فسألته هل جاءكم أي إخطار بإرجاعي للعمل فأجاب بدون تردد: نحن لانحتاج لإخطار فقرار إرجاعكم للعمل قد أذيع في التلفزيون والراديو ونشر بالصحف ثم نادى على سكرتيرته فوزية زيدان: يا فوزية شوفي لي أي جريدة فيها قرار النائب الأول بإطلاق سراح ناس صدقي وعودتهم للعمل، وكان أن جاءت فوزية بالجريدة فقال لها، ضعيها في فايل صدقي وأكتبي للأمانة العامة للمجلس (يقصد المجلس القومي للبحوث) وأخطريهم أن صدقي قد رجع للعمل منذ اليوم. ثم ألتفت لي هل تريد بعض أيام لترتيب أمورك فقلت أبدأ يوم السبت. فكان أن عدت للعمل. ولم يكتف البروفسير إبراهيم بذلك بل ساعد في أن أصرف متأخرات مرتبي كاملة مما ساعد في زواجي بعد شهرين فقط من إطلاق سراحي.
    وكان بالمجلس وقتها فريقا من الباحثين ومساعدي الباحثين يتكون من الدكتور صديق التجاني المرضي، والأستاذ عبد الرحيم الريح وهو من الجمهوريين وقد كان له فضل أن ألتقي بالأستاذ محمود محمد طه وجها لوجه أمام منزله بالثورة حيث كنا نأتي بعربة أستاجرناه لإجراء بحث ميداني عن مصانع الفطاع العام لنأخذ عبدالرحيم من منزل الأستاذ في الصباح وذات مرة خرج الأستاذ مع عبدالرحيم لتحيتنا وأن يدعونا لمجلسه ولكن إعتقالي الأخير حال دون تلبية تلك الدعوة الكريمة وقد حدث بعد أيام قليلة منها.
    وكان من بين الباحثين الأستاذ محمد عبد العال والأستاذ مصطفى عبدالرحمن والأستاذ حسين ميرغني والأستاذ حيدر العوض والأستاذ محمد هارون والأستاذ محمد أدهم علي والأستاذ عباس يونس والأستاذ ميرغني كدفور والأستاذة سامية الهادي النقر والأستاذ صلاح حاج الصافي و كانت الأخت مديحة أمينة للمكتبة والأخت فوزية زيدان سكرتيرة والأخوات محاسن وآمال وزينب في الطباعة. كان تيما منسجما وتسود بينه علاقات عمل ودية وتعاون أكاديمي وإجتماعي. وكان هناك أيضا عدد من مبعوثي المجلس بالخارج من بينهم الأساتذة محمد ميرغني عبدالسلام وحسن جاد كريم وعاطف صغيرون.
    وشاركت عبد الرحيم الريح ومحمد عبد العال وحيدر العوض المكتب. وسرعان ما كلفت بواجبات بحثية من بينها مساعدة عبدالرحيم الريح في بحث عن القطاع العام كانت تموله مؤسسة كندية، وكلفت بمتابعة طباعة كتاب بدار النشر كان قد حرره الدكتور علي عبد القادر وكيدمان (من منظمة العمل الدولية) وقد أدى ذلك لتعرفي عن قرب على الراحل البروفسير علي المك الذي كان مديرا لدار نشر جامعة الخرطوم التي كانت تطبع الكتاب. وشاركت مصطفى عبدالرحمن في التحضير للسمنار الأسبوعي. وتقدمت بمشروع بحثي لدراسة ردود فعل المزارعين التقليديين في كردفان للتغيرات في أسعار الحبوب الزيتية وقد أستعملت نتائج ذلك البحث لكتابة رسالتي للماجستير كما سيرد لاحقا، كما قدمت ورقة بحثية عن "فائض القيمة في الصناعة التحويلية السودانية" أثارت مناقشة ثرة في سمنار المجلس الأسبوعي. وكانت فترة عملي بالمجلس والتي امتدت لأربعة عشرة شهرا من الفترات الغنية في حياتي الأكاديمية فإلى جانب عملي البحثي فقد شاركت في التدريس في جامعة الخرطوم وهي أحد متطلبات المجلس الذي يطلب من باحثيه ومساعدي الباحثين الحفاظ على علاقة مع المؤسسات الأكاديمية للحفاظ على وتطوير معارفهم الأكاديمية ونقلهم بعض نتائج بحوثهم وبحوث زملائهم للطلاب وتلك من السياسات الحصيفة وكان المجلس أيضا يوكل لبعض أساتذة الجامعة قيادة بعض الفرق البحثية بالمجلس أو الإشتراك في فرق البحوث القائمة وكان يحدد عدد من المنح لطلاب الماجستير والدكتوراة بشرط أن يكون في تحضيرهم مكون بحثي يوافق عليه المجلس.
    لقد بدأ البحث العلمي الحديث في السودان (وهذا لتفرقته عن البحث العلمي التقليدي الذي عرفه المجتمع السوداني منذ قديم العصور مثل تجارب العطارين) في عام 1900 عندما أنشأت الإدارة الإستعمارية وحدة الكرنتينة البيطرية وأتبعتها لمصلحة البيطرة العسكرية والتي كانت تقوم بدراسة أمراض الحيوانات وأوبئتها خاصة الطاعون البقري. وفي 1902 تم إنشاء معمل ويلكم للأبحاث والذي كان يبحث في الأوبئة والحشرات التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات وكانت تهتم بأبحاث البلهارسيا بشكل خاص. وفي عام 1904 أنشأت أول وحدة للأبحاث الزراعية وألحقت بمصلحة المعارف في عام 1912 وفي عام 1919 تحولت وحدة الأبحاث الزراعية لتصبح مصلحة للزراعة وكانت مهامها محصورة في الحفاظ على جودة المحاصيل وحمايتها من الآفات الزراعية. وكان إنشاء مدرسة كتشنر الطبية (التي أصبحت كلية الطب فيما بعد) في عام 1924 وإنشاء مدرستي الزراعة والطب البيطري عام 1938 يشكل قفزة نوعية في مجال البحث العلمي، وقد ظلت بحوث هذه المدارس التي أصبحت جزءا من كلية الخرطوم الجامعية وجامعة الخرطوم فيما بعد تمثل إنجازا علميا حتى على المستوى العالمي (مثل أبحاث البروفسير النذير دفع الله في مجال البيطرة). ولقد ادى التطور اللاحق للجامعة مثل إنشاء شعبة الجيلوجيا وشعبة أبحاث السودان (التي تحولت لمعهد الدراسات الأفروآسيوية ) وإنشاء كلية الدراسات العليا ومركز أبحاث التربة والمباني والطرق ألخ. وفي الحقيقة ظلت جامعة الخرطوم تنهض بمهام البحث العلمي إلى جانب الأبحاث الزراعية والأبحاث البيطرية (اللتين كانتا يتبعان لوزارة الزراعة والثروة الحيوانية) ومصلحة المساحة والجيلوجيا وقسم الأبحاث بوزارة المالية وقسم البحوث ببنك السودان حتى قيام المجلس القومي للبحوث. أنشأ المجلس القومي للبحوث كجهاز مستقل في يونيو عام 1970 رغم أن قانونه كان قد نشر في الغازيتة الرسمية عام 1968. ولعب المرحوم البروفسير السماني عبدالله يعقوب دورا كبيرا في تأسيسه. وفي أكتوبر سنة 1971 عدل قانون المجلس ليتم ضمه لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وعندما حلت الوزارة، عدل القانون وصدر قانون المجلس القومي للبحوث ولوائحه عام 1973 يرأسه رئبس في درجة وزير ويتبع مباشرة لرئيس الجمهورية وأمانة عامة تدير العمل اليومي، وكان أول رئيس للمجلس هو البروفسير النذير دفع الله وخلفه السيد وديع حبشي ثم البروفسير أحمد عبد الرحمن العاقب، وتولى الأمانة البروفسير السماني عبدالله يعقوب ثم خلفه البروفسير عبد الرحمن أحمد العاقب (وهو خلاف أحمد عبد الرحمن)، ثم البروفسير عبدالرحمن الخضر ثم البروفسير سعد عبادي الذي أصبح رئيسا للمجلس وخلفه البروفسير مهدي أمين التوم. كان المجلس يتكون من معهد دراسات طب المناطق الحارة وتتبعه مستشفى خاص بطب المناطق الحارة تديره وزارة الصحة ومعهد لعلوم البحار ببورتسودان ومجلس للأبحاث الإقتصادية والإجتماعية ومعهد للطاقة الشمسية ومعهد للأعشاب الطبية والعطرية، ثم اضيف لهم مجلس لأبحاث العلوم والتكنلوجيا.
    ويمكن القول دون مجاملة أن المجلس القومي للبحوث قد أنشأه في الواقع الراحل البروفسير السماني عبدالله يعقوب، وكان مؤسسة ممتازة وكانت تتطور باستمرار حتى إعتدى عليها نظام الجبهة الإسلامية فحجمها وتخلص من خيرة الباحثين فيها وهجرها الآخرون لأن البحث العلمي لا يتطور في ظل مصادرة الحرية الأكاديمية، وتلك صفة حافظ عليها المجلس خلال حكم نميري بفضل أناس عظام مثل الراحل وديع حبشي والراحل البروفسيرالنذير دفع الله والراحل البروفسيرالسماني عبدالله يعقوب والبروفسيرعلي محمد الحسن والبروفسير إبراهيم حسن عبدالجليل والبروفسير سعد عبادي والبروفسيرعبدالرحمن أحمد العاقب والبروفسيرأحمد عبدالرحمن العاقب والبروفسير عبدالغفار محمد أحمد.
    وخلال تلك الفترة أديت الإمتحان الكتابي للماجستير ونجحت فيه، رغم أنه كان بعد شهور قليلة من خروجي للمعتقل وكنت قد تسجلت للماجستير قبل دخولي المعتقل، مما جعلني أهتم إلى جانب مهامي البحثية الأخرى بأن أبدأ في الإستعداد لتكملة الجزء الثاني وهو تقديم بحث عن"ردود فعل المزارعين في كردفان للمتغيرات في أسعار الحبوب الزيتية" وقد مول مجلس الأبحاث الإقتصادية دراستي الميدانية التي شملت أسواق المحاصيل الزيتية في الأبيض، النهود، الرهد، وأم روابة. وكان يشرف على رسالتي البروفسير علي عبدالقادر، رغم أنتقاله حينها لجامعة الجزيرة. وقد واصل البروفسير علي إشرافه حتى بعد إعتقالي وكنت عندما تم إعتقالي في يوليو 1979 قد عدت من العمل الميداني وبدأت تحليل المعلومات بكمبيوتر الجامعة، وقد أكملت كتابة بحثي بالمعتقل وكنت أرسل فصلا بعد فصل للبروفسير علي الذي كان يصححها ويرسل تعليقاته لي في المعتقل وكان الصديق العزيز عبدالله عباس بجامعة الخرطوم يقوم بطباعتها والصديق عباس شريف مدير الإدارة بمجلس الأبحاث الإقتصادية يتابع الطباعة.
    أما على المستوى الشخصي فقد تزوجت للمرة الأولى من السيدة إعتماد بابكر الرشيد وقد أعتقلت من مستشفى الخرطوم بحري عندما كنت أزورها نهار الجمعة بعد مضاعفات حدثت لها بعد ولادتها لطفلتنا فدوى وقد تم طلاقنا بطلب منها أثناء وجودي بسجن بورتسودان.
    أما على المستوى الحزبي فكانت هذه الفترة من أفقر فترات حياتي الحزبية وأذكر أنني وقد كنت أستعد للسفر لكردفان أن جاءتني رسالة بأن الزميل الراحل الجزولي سعيد يريد لقائي في نفس اليوم، ولعل الصدفة وحدها هي التي جعلتني ألقاه إذ أنني لم ألحق الطائرة فقد جاءتني عربة المجلس متأخرة. وكان لقاءاً عاصفا فقد جاء الراحل الجزولي ومعه الأخ مختار عبدالله وناقشوا معي قضية علاقتنا مع الراحل خضر نصر وعلاقة الزميل إبراهيم حامد معه، فقلت له ما أعتقد أنه صحيح، بأننا في سكرتارية أم درمان حتى إعتقالي في يناير 1977 لم نكن نتصرف بوحي من الراحل خضر نصر، بل أننا كنا دائما ننتقد المديرية وطريقة عملها السلحفائية وأن ما أتخذناه من قرارات حول إصدار بيانات وكتابة شعارات كان مستمدا من فهمنا لدورة يونيو 1975 حول دور فرع الحزب كما قدمها لنا الزميل نقد، ولكن حديثي لم يعجب الزميل الجزولي فقال لي أنني متضامن مع إبراهيم حامد وأنهم لن يتركوه.
    ولكني رغم بعدي الحزبي قد ساهمت مع آخرين في مكان سكني، أمبدة شمال التي رحلت لها بعد زواجي، في إنشاء جمعية خيرية وفي دعم الجمعية التعاونية وفي مناهضة فرع الإتحاد الإشتراكي والمجلس الشعبي وخلق رأي عام ضدهم، وفتحنا منزلنا لإجتماعات فرع المعلمين الذي كانت زوجتي حينها عضوا به مما أدخلني في أول صدام أسري مع أحد أخوان زوجتي الأولى.
    الإعتقال:
    قلت لقد أعتقلت أثناء زيارتي لزوجتي السابقة في المستشفى بعد مضاعفات حدثت لها بعد الولادة، وكانت قد ولدت بمستشفى سوبا الجامعي وخرجت بالمنزل، ثم حدثت لها بعض المضاعفات، فبدلا من أخذها لمستشفى أم درمان أخذتها لمستشفى بحري حيث كان اصدقائي الأطباء عمر النجيب وعثمان حسن موسى والسر عثمان (الشهير بالسر طاحونة) وحمودة فتح الرحمن يعملون بذلك المستشفى، وأثناء وجودها هناك أضرب الأطباء وأعتقلت السلطات بعض الأطباء ومن بينهم الدكتور حمودة فتح الرحمن والدكتور عمر النجيب، وكنت أحضر من العمل لمنزلنا في أم درمان حيث أحمل الطعام للمستشفى وأذهب لميز الأطباء لأخذ نومة قصيرة ثم أعود للمستشفى وأرجع لأمبدة لأعتني بفدوى التي تكون طوال النهار تحت رعاية خالتيها إلهام (سوزوكي) وصديقة بابكر الرشيد، وهكذا. وفي يوم الخميس السابق للإعتقال تمت مداهمة الميز بواسطة الأمن وتعرف علي أحد ضباط الأمن وتركني أذهب وفي اليوم التالي أعتقلت من داخل غرفة المريضة وكنت أحمل فدوى التي أتينا بها لأمها لتراها وترضعها.
    وأخذت لجهاز الأمن حيث سألت عن سبب وجودي بالمستشفى فحدثتهم عن السبب فسألوني لماذا أتيت بزوجتك لبحري، فقلت لهم السبب ولكنهم قالوا أن وجود زوجتي كان تغطية لتنظيم إضراب الأطباء فقلت له أن الجمعية الطبية أسست في العام الذي ولدت فيه فهل يحتاج الأطباء لمثلي لتنظيمهم وقرروا ارسالي لكوبر وعندما طلب مني صعود العربة طلبت الذهاب للحمام حيث أخفيت (أمنت بلغة المعتقلين) قلما في ملابسي الداخلية لأن عهدي بكوبر أن الأقلام كانت ممنوعة.
    وكان هذا هو الإعتقال الوحيد الذي كنت أشعر دائما بأنه تم لوجودي في المكان الخطأ في الزمان الخطأ والذي أعتمد على تاريخي السابق وليس على حقيقة ما كنت أقوم به.
    النصف الثاني من 1979 والوضع السياسي في السودان والمنطقة الأفريقية والعربية
    شهد النصف الثاني من عام 1979 نهوضا في الحركة الجماهيرية في السودان، لربما كان إجتماع مجالس النقابات في 16/6/1979 أحد أهم سمات تجلياته وتبع ذلك نهوض في حركة المعلمين خاصة وسط معلمي الأوليات وتحركت قواعد السكة حديد وحاصرت قيادة النقابة التي كان على رأسها عباس الخضر حتى أعلنت الإضراب في 11/8/1979 وإضراب مزارعي الجزيرة وشهد شهر أغسطس مظاهرات طلاب ثانويات وجامعات.
    وكان نميري قد نفذ في نفس الشهر (17 أغسطس 1979) أحد إنقلابات القصر وأقصى نائبه الأول أبو القاسم محمد إبراهيم وعين عبد الماجد حامد خليل في مكانه وعين بدرالدين سليمان وزيرا للمالية وحسن عبدالله الترابي نائبا عاما.
    وفي المنطقة العربية قام صدام حسين بإنقلاب قصر في 16 يوليو أطاح فيه بأحمد حسن البكر عندما أجبره على الإستقالة وكان الأخير يجري مفاوضات لتوحيد البعث العراقي والسوري وتوحيد القطرين العراقي والسوري، وكان مشروع البكر يلقى تأييدا واسعا لدى القيادة القطرية العراقية، وقام صدام بعد الإطاحة بالبكر بإعتقال أكثر من ستين عضوا من القيادة القطرية العراقية وتم إعدام 22 منهم فيما بعد.
    أما في المنطقة الأفريقية فقد شهد النصف الثاني من 1979 بداية النهاية للنظام العنصري في روديسيا الجنوبية بتوقيع إتفاقية لا نكستر هاوس والتي قررت إنتخابات عامة تجرى في فبراير 1980 تؤدي لحكم الأعلبية.
    وكما سيرد فقد سلم الجنرال أوبسانقو الحكم للمدنيين في أكتوبر 1979. وفقدت أفريقيا أحد أهم قيادات حركة التحرر الوطني، لرئيس أوغستينو نيتو. ولد انطونيو أغستينو نيتو في 17 سبمتمبر 1922 في قرية كاتيتي بمقاطعة بينغو ودرس بالعاصمة لواندا ثم أصبح قسيسا، ثم رحل للبرتغال حيث درس الطب وفي جامعتي كنيمبرا وليشبونة واعتقله البوليس السري البرتغالي في عام 1951 لنشاطه من أجل إستقلال أنجولا وأطلق سراحه في عام 1958 حيث كمل دراسته وتزوج ماريا أيقونيا دي سليفيا وعاد لأنجولا عام 1959 عندما قام بتأسيس الحركة الشعبية لتحرير أنقولا بإندماج الحزب الشيوعي الأنجولي وحزب النضال الأفريقي الأنجولي. وقد أعادت السلطات البرتغالية إعتقال الدكتور نيتو في يونيو 1960 مما قاد لمظاهرات عارمة ضد السلطات االبرتغالية مما أدى لنفي أوغستينو نيتو لجزر الرأس الأخضر ومن ثم نقله للسجن في البرتغال حيث أشتدت الحملة العالمية لإطلاق سراحه فوضع في الحبس المنزلي في لشبونة وهرب إلى المغرب ثم الكونغو حيث بدأ حرب التحرير والتي أنتصرت بإنهيار نظام سالازار في عام 1975 . وأصبح رئيسا لأنجولا عند إستقلالها في 1975 وظل رئيسا حتى وفاته في 10 سبتمبر 1979.

    الشرقيات يوليو 1979
    أستقبلت في سجن كوبر بحفاوة من قبل الضباط وصف الضباط والجنود باعتباري زبون قديم، واخذت على الفور لقسم الشرقيات حيث وجدت عدد من المعتقلين من قيادات العمال وفي مقدمتهم علي الماحي السخي (رئيس نقابة عمال المسبك المركزي) ومختار عبدالله (نقابي سابق بمصنع النسيج السوداني) والفاتح الرشيد (الشهير بالفاتح المواطن، من النسيج السوداني)) وميرغني عطا المنان (حلويات ريا) وعبد الفتاح الرفاعي (سكرتيرنقابة عمال كوبتريد الهندسية) وسليم أبو شوشة (مصنع النسيج الياباني)، وعلي إدريس (الأشغال)، وجون دوك (باتا) وعلي محمد أحمد العسيلات (اسكة حديد الخرطوم) ومحمد السيد ( نقابة عمال الحكومات المحلية) وأحمد محمد الأمين (نائب رئيس وقابة المنتوجات الغذائية) . وكان هؤلاء القادة النقابيون قد حضروا إجتماعا لمجالس الإدارات لإتحاد نقابات عمال السودان وتحدوا المجموعة المايوية الإنتهازية، وكان ذلك احد تعابير نهوض حركة جماهيرية بعد المصالحة الوطنية، وتصدى جهاز الأمن بالقمع والإعتقال للشيوعيين والديمقراطيين الذين كانوا في قيادة الحركة الجماهيرية الناهضة.
    وكانت دهشتي كبيرة عندما وجدت أن المعتقل ملئ بالورق والأقلام مما يعني أن جهدي لتأمين قلم كان دون جدوى وعرفت لحظتها أن هذا إعتقال سيطول، وبدأت إستعدادا نفسيا وعمليا لأعتقال طويل.
    وكان أول ما فعلت أن أستلقيت على سريري بمجرد تحيتي للزملاء ونمت نوما عميقا ولم أصح إلا بعد أن ايقظني الرفاق للغذاء وكان بعض الرفاق يضحكون علي ويقولون أنني جئت في بعثة نوم، وفي الحقيقة كنت مرهقا فقد كانت الأيام الأخيرة قبل الإعتقال جد مرهقة فقد كنت أذهب للعمل بالمجلس وأقوم بالعمل الروتيني وعملي البحثي في دراسة القطاع العام وعملي البحثي الخاص بالماجستير والذي كنت قد أنهيت عمله الميداني بكردفان يرحلة طويلة مضنية شملت النهود والأبيض والرهد وأم روابة، ثم عدت لتلزم زوجتي السابقة مستشفى سوبا وأذهب لزيارتها يوميا وأعود لأمبدة ثم التحضير للسماية بعد الخروج من المستشفى ثم الدخول للمستشفى مرة أخرى في بحري والرحلة من أمبدة للعمل ثم لأمدرمان لإحضار الطعام ثم العودة لأمدرمان للسهر مع طفلتي فدوى مع محاولة بدء الكتابة في المسح النظري لبحث الماجستير وهكذا حتى إعتقالي.
    وسعدت في الأيام الأولى بمشاركة زميلين الزنزانة وهما الدكتور الراحل بشير ألياس أخصائي الأنف والأذن والحنجرة والقيادي حينها بنقابة الأطباء وكان رجلا مرحا وظريفا وشجاعا وقد تعرفت عليه قبل الإعتقال بوقت قليل في منزل آل تابر نسابة الدكتور حمودة فتح الرحمن الذي أقام حفلا جميلا للمعتقلين الذين أطلق سراحهم في مايو 1978 بعد ما سمي بالمصالحة الوطنية، وكان الراحل بشير ألياس طبيبا إنسانا يفتح عيادته للرفاق والفقراء وكان نقابيا فذا ومثقفا وطنيا يهتم بقضايا التحول الديمقراطي وتطوير الخدمات الصحية.
    أما الشخص الثاني الذي زاملني في الزنزانة فكان صديقي الدكتور عمر النجيب والذي تعرفت عليه للمرة الأولى في جامعة الخرطوم عام 1973 ثم قضينا فترة في المعتقل بعد إعتقاله في مظاهرة يوبيل كلية الطب في يناير 1974، ثم صحبني لجبال النوبة ضمن فريق البحث الذي جمع المعلومات لبحث الدكتور خالد عفان للتحضير لرسالته عن العمالة والدخول في الزراعة الآلية وكان وقتها موقوفا عن الدراسة بكلية الطب لأسباب سياسية وكان أحد الأطباء المسئولين عن علاج زوجتي السابقة.
    ولم يبق رفيقاي في المعتقل كثيرا فنقابة الأطباء مارست ضغوطا على السلطة لإطلاق سراحهما. ومات الرفيق الطبيب الإنسان الدكتور بشير ألياس دون أن التقيه مرة أخرى فجأة عندما كان في زيارة لصديقه الشيخ كنيش!
    حملة إعتقال واسعة
    قلنا أن حملة الإعتقال قد بدأت بعد إجتماع مجالس إدارات النقابات العمالية في 16/6/1979 وتوالت الإعتقالات خلال شهر يويو 1979 وأعتقل سليمان هباش والشيخ البلولة من المعلمين ونادر محمدالأمين (مهندس بسركيس أزمريليان).
    ولكن المعتقل بدأ في النمو منذ الثاني من أغسطس 1979 فكان لا يمر يوم إلا ويأتي وافد جديد حتى إمتلأت الشرقيات والمديرية والكرنتينات والمعاملة وشملت الإعتقالات الشيوعيين والديمقراطين في كل السودان بتوجيه مباشر من جعفر نميري وكانت الإعتقالات واسعة بحيث شملت أكثر من 500 معتقل في كل السودان وكان نصيب الخرطوم منهم 120 معتقل
    وكان من بين المعتقلين في الشرقيات سليمان حامد، يوسف حسين، محجوب عثمان ومحجوب داؤود والدكتور محمد مراد وعبدالمنعم سلمان وكمال الجزولي وعلي العسيلات وسليمان هباش والتجاني حسن إدريس وإسماعيل راسخ ومحمد أحمد طه وبدرالدين عبدالتام ومحمد سليمان كرور ومحمد الحسن شالنتوت و محمد احمد جادين ويوسف همت وعمر مهاجر وأحمد حمزة وأحمد الطيب وعزالدين الطيب.
    وكانت ترد لنا اسماء معتقلين في اقسام الكرنتينة ب ، ج والمديرية وكان بين المعتقلين سعودي دراج، محجوب سيدأحمد، محمد خلف الله، عبدالقادر الرفاعي، ابن إدريس تابر، حسن قسم الله، عبد القادر شبر، عبدالجليل كرومة، حسن بيومي، ابراهيم بصيلي، أحمد حبيب، عوض عبد المجيد، عبدالرحمن سالنتود، أحمد علي دليل، محمد عثمان فوكس، عباس محمد إدريس، سيداحمد سمعريت وعثمان الخضر.
    آمنستي إنترناشونال ترسل لي رسالة في المعتقل
    يفتح السجن في السادسة صباحا بتمام ويقفل في الرابعة ظهرا بتمام آخر وفي أحد الأيام عند مواعيد قفل السجن حمل لي أحد الضباط رسالة من فرع منظمة العفو الدولية ببروكسل في بلجيكا. وكانت الرسالة بسيطة وواضحة المضمون تقول أنهم عرفوا بإعتقالي من بعض الأصدقاء وتسأل الرسالة عن حالي ومن هم المعتقلون معي وكيف يمكن للمجموعة مساعدتي. كانت الرسالة مفاجأة لي فأبلغت لجنة المعتقل وقام صديقي الأستاذ يوسف حسين بترجمتها وكتابتها على سبورة مبنية على حائط الزنازين الشرقية، واحتفلنا يومها ووزع مسئول الكميون سيجارة إضافية للمدخنين من المعتقلين وكويا من الشاي لكل معتقل فقد كان الشعور العام للمعتقلين سعادة فائقة بالتضامن. إن كل شخص مهما كان شجاعا ومقتنعا بما يفعل يحتاج للتضامن ولمن يمسك بيده في ظروف محنته. وقد ولدت تلك الرسالة في شعور عميق بالإعجاب بنشطاء حقوق الإنسان، أولئك الناس الذين أولوا على أنفسهم الدفاع عن حقوق إنسان لا يعرفونه وقد يكون مختلفا معهم في الرأي والهوية. وعاهدت نفسي حينذاك أن أتحمل مسئوليتي الشخصية في الدفاع عن حقوق الإنسان.
    إستشهاد قاسم أمين
    وكان من بين المعتقلين في أعسطس 1979 العم قاسم أمين العائد لتوه من الخارج بعد رحلة علاج بعد إعتقاله السابق الذي أمتد من عام 1974 إلى مايو 1978. ,اعتقل قاسم أمين في أغسطس ولكنه أصيب بالشلل في 1/9/1979 ولم يتم نقله للمستشفى العسكري إلا في يوم 3/9/1979 ومن ثم سمح له بالسفر للخارج للعلاج ولكنه توفى في براغ ونقل جسمانه للخرطوم بحري وقد صحب الجثمان الاحل عم الدوش ودفن بمقابر حلة خوجلي في موكب رهيب خاطبه الأستاذ محجوب عثمان وصلى عليه المرحوم الخليفة أحمد خليفة الشيخ خوجلي ابو الجاز.
                  

07-01-2009, 06:32 AM

Mohamed Abdelgaleel
<aMohamed Abdelgaleel
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 10415

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    Quote: ماذا يقول أهل الرياض؟


    الاخ - د. صدقي - تحياتي .. كنت أمر على هذا الخيط
    لآقرأ مداخلة أو فقرة أو أبحث عن إسم قريب أو صديق
    حتى أبلغني بعض الأصدقاء بأنهم يعكفون على دراسة مذكرات
    صدقي كبلو (تلك الأيام في سجون نميري) .. أنتهزت أول
    سانحة وعملت برنت أوت من (1) - (11) وقرأته بنفس واحد
    في ليلة واحدة، وينبغي أن أقول لك شكرا يا دكتور فهذا
    التوثيق الذي أنجزته مفيد على مستويات كثيرة وسيشكل
    جزءاً مهما من ذاكرة القادمين عن فترة نميري .. شخصيا
    استعاد لي توازن الذكريات وصور الاصدقاء ومواقف بعض
    الرجال الذين قدموا أثمانا غالية بحثا عن وطن مختلف
    ولا زالوا يمشون بين الناس لائذين بالصمت النبيل وكأنهم
    لم يفعلوا شيئاً لهم التحية .
                  

07-01-2009, 04:54 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Mohamed Abdelgaleel)

    شكرا لك يا محمد ولأهل الرياض فقد أكدتم لي أن ما أفعله هنا له جدوى، الشكر مرة أخرى
                  

07-01-2009, 06:23 PM

احمد الامين احمد
<aاحمد الامين احمد
تاريخ التسجيل: 08-06-2006
مجموع المشاركات: 4782

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    السجون والمعتقلات التى زارها الدكتور كبلو عزيزا كسيدنا يوسف عليه السلام كشالا وكوبر هى ذات السجون التى زارها الشاعر فضيلى جماع فى منتصف سعين القرن الماضى عهد نميرى....وشكلت تجربه وجدانيه رغم قبحها ونهرا عميقا فى الفضاء الجمالى للشاعر فضيلى جماع انعكس تحديدا " شالا" فى اجواء القصائد الاولى بديوانه" الغناء زمن الخوف" الى جانب روايه لم تكتمل بعد رغم تقادم الزمن عبر راوى كان بذات السجون ...
    هل التقى الدكتور صدقى بالشاعر فضيلى جماع باحد هذين السجنين " شالا وكوبر" فى احد فترات سجنه الطويل؟؟؟؟؟
                  

07-02-2009, 10:19 AM

Mohamed Abdelgaleel
<aMohamed Abdelgaleel
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 10415

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: احمد الامين احمد)

    Quote: إن تدرك القوى الثورية في المدن انه مهما علا شأنها، ووجدت من الدعم النشط من المزارعين في القطاع الحديث، لن تكتمل مسيرتها نحو النصر في الثورة الاجتماعية الديمقراطية إلا بمشاركة نشطة وثورية من جماهير القطاع التقليدي - حيث أغلبية سكان السودان، أي لا يكفي التأييد والتعاطف كما كان الحال في ثورة أكتوبر. إن السلطة الوطنية الديمقراطية مهما توفرت لها مقومات الذكاء ووضوح الرؤية والقدرات القيادية الفذة، لا تستطيع إنجاز الإصلاح الزراعي والتحرر الاجتماعي - والتحرر الإداري من نير الإدارة الأهلية - بدون النشاط الثوري المستقل لجماهير القطاع التقليدي، ومشاركتها بالفعل والرأي وبالتصور... فمحنة محاولات تطبيق الإصلاح الاجتماعي والزراعي والإداري من أعلى ماثلة إمامنا في تجارب أنظمة البرجوازية الصغيرة العسكرية في المنطقة العربية والأفريقية و في السودان" (دورة اللجنة المركزية يونيو 1975 ص 36 )
                  

07-02-2009, 07:17 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Mohamed Abdelgaleel)

    تصور يا أحمد الأمين لم نلتقي أنا وصديقي الشاعر فضيلي جماع في السجن فهو قد أرسل لشالا في إعتقال لم أعتقل فيه من البداية وكان فضيلي ضمن مجموعة أرسلت لشالا بعد أحداث أغسطس 1973 أو سبتمبر 1975 لا أذكر والشاع فضيلي يستطيع أن يذكرنا. ويستطيع أيضا أن يحكي كيف أن حقيبته تسببت في إعتقاله في أحدى المرات.
    طبعا الأستاذ فضيلي تشرف بالإعتقال بعد إنقلاب 1989 ولكني لم أتشرف بذلك!
                  

07-02-2009, 08:45 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    أخونا محمد عبد الجليل
    لا أقول أكثر من أنك تدهشني
    إختيارك للمقتطف تعبير عن دقة المتابعة.
    وبيني وبينك هذا المقتطف ينبغي أن يعلق في مركز الحزب ودوره وينشر بشكل دائما في صحيفته وهو يعبر عن خط سياسي وفكري واضح وصحيح.
                  

07-03-2009, 07:59 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري "15" .. بقلم: صدقي كبلو
    الجمعة, 03 يوليو 2009 20:24
    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983



    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته



    الاعتقال الخامس والأخير



    يوليو 1979-نوفمبر 1983



    تنظيم المعتقل



    وكالعادة وبسرعة أنتظم المعتقل وتكونت لجنة المعتقل ولجان تموينه وثقافته، وقد كلفت ضمن لجنة التموين باستلام الطعام وخلال هذه الفترة إستطعنا أن ننال حق أن نطبخ طعامنا ونسبة لأن نميري كان قد فرض عدم ذبح اللحوم وبيعها يومين في الإسبوع فقد إستطعنا أن نقنع إدارة السجن أن تذبح في اليومين للمعتقلين وكنت أخرج لحضور الذبيحة في باحة السجن أمام المطبخ، وأستطعت أن أقيم علاقات طيبة مع العساكر والمساجين والعاملين بالمطبخ ووفقا للائحة السجن فكنا كمعتقلين نستحق ثلاث وجبات (في كل المعتقلات التي لم تطبق فيها لائحة السجن كان نصيبنا وجبتين)، فرتبنا وجبة فول عشاء تأتي مع قفل السجن. وقد طلبت إعفائي من مسؤلية الطعام نسبة لزحمة وقتي فقد كنت عضوا في اللجنة الثقافية وأسرة تحرير المجلة ومحاضرا للإقتصاد السياسي في المدرسة الحزبية وطالب ماجستير يحضر من داخل السجن كما ياتي السرد، وتم تكليف الزميل محجوب داؤد بالمهمة والتي قام بها على أحسن وجه حتى إطلاق سراحه في عام 1980 عندما كلف بها الزميل عبدالرؤوف على أبنعوف.



    العمل الثقافي بالمعتقل




    وبدأت اللجنة الثقافية التي كان يقودها الزميل الدكتور مراد تقديم المحاضرات العامة وإصدار المجلة وبدأنا الإستعداد لذكرى مرور مائة عام على إندلاع الثورة المهدية منذ ذلك الوقت رغم أن السمنار لم يعقد إلا بعد سنة.



    وكان أول إسهام لي في العمل الثقافي العام قد بدأ بمحاضرة لي عن إجراءات 15 سبتمبرالإقتصادية والمالية التي أعلنها بدر الدين سليمان وزير المالية لجديد، وقد أدت المحاضرة لمناقشة واسعة وسط المعتقلين.



    وبدأت المجلة أعدادها بمستوى رفيع وإني لأتذكر حتى الان بعض صور الغلاف المدهشة خلال عام 1979. والصورة الأولى التي أتذكرها جيدا من إعدادي وإخراج كمال الجزولي، وهي عن أوغستينو نيتو الرئيس الأنجولي السابق. وكانت المادة الأساسية منشورة في مجلة أفريقيا الجديدة في عدد أكتوبر 1979 بمناسبة وفاته وانت مكونة من سيرة حياته بعض أشعاره وقد قمت بترجمتها منالإنجليزية للعربية وقام كمال الجزولي بإخراجها بشكل مدهش مستعملا الإمكانيات البسيطة في السجن بما في ذلك الزنازين نفسها، حيث جعل النقابي ميرغني عطا المنان يقرأ قصائد أغستينو نيتو من خلف الغضبان التي تغطيها عمة ويسطع النور من خلفها مما يجعل طل ميرغني يظه على العمة خلف الغضبان. وقدم حياة أوغستينو نيو من خلال توزيعها على عدد من الرفاق ينهضون بين المشاهدين.



    أما الصورة الثانية فكانت صورة تضم الجنرال أوبسانقو والرئيس شيخو عثمان شقاري بمناسبة إنتخابه رئيسا بعد الإنتخابات التي نظمها الأول في عام 1979 وكان من المفترض أن يتم تنصيبه في أول أكتوبر 1979. وقام بتقديم هذه الصورة الثلاثي المدهش التجاني حسن إدريس وعلي عسيلات وميرعني عطا المنان وكتبت السناريو لها. وبعد أن أداروا حوارا حول شخصيتي أوبسانقو وشقاري وما أنجزته السلطة العسكرية في نيجريا تساءلوا عما إذا كانت البرجوازية النيجرية تستطيع الحفاظ على تلك المنجزات، وكانت الإجابة بلهجة عربية نيجيرية "اللهو تألم" أي (الله يعلم) ولم تكن الإجابة في السيناريو ولكن من إبداع الثلاثي المدهش.وعقد سمنار مئوية الثورة المهدية فقدم ألياس صعيل ورقة عن أصول فكرة المهدية وأيدولوجية الثورة وقدمت أنا ورقة عن إقتصاديات الدولة والثورة المهدية (نشرت فيما بعد بواسطة مجلس الأبحاث الإقتصادية وصدرت ككتيب من دار عازة في 2007) وقدم الدكتور محمد مراد ورقة عن أسباب الثورة المهدية.



    المناقشة مع البعثيين




    وكانت من نشاطات العمل الثقافي الحوار المفتوح بين الشيوعيين والبعثيين حول قضايا التحالفات والديمقراطية والمركز القومي وأشترك في المناقشة كل البعثيين الموجودين في الشرقيات: عمر مهاجر ويوسف همت ومحمد أحمد جادين وعزالدين الطيب وأحمد حمزة وأحمد الطيب وكان النقاش مثمرا أدى لتفهم الجانبين بعضهما البعض ووضح لهما نقاظ إتفاقهما وإختلافهما.



    تنظيم فرع الحزب




    وتم تنظيم فرع الحزب وكان التقليد أن يتولى التجميع والفحص مكتب قائد يتكون من أعضاء اللجنة المركزية بالمعتقل، وإن لم يوجدوا فأعضاء المكاتب المركزية أو قيادة المناطق (بما في ذلك مديرية الخرطوم التي كانت تشكل منطقة)، ولقد كان في المعتقل وقتها من أعضاء اللجنة المركزية: سليمان حامد (والذي أطلق سراحه بعد حوالي ستة شهور لوفاة والده) ومحجوب عثمان (الذي أطلق سراحه بعد حوالي 4 شهور) ويوسف حسين (الذي أستمر في المعتقل حتى تصفيته في إنتفاضة مارس أبريل 1985، أي أنه مكث حوالي خمسة سنين وثمانية شهور) وكان من بين أعضاء المكاتب المركزية: الدكتور محمد مراد، النقابي مختار عبدالله.



    وبدأت فورا المدرسة الحزبية التي كلفت فيها بتدريس الإقتصاد السياسي وكلف الزميل الزميل سليمان هباش بإدارتها، وقد أبدى الزميل هباش حماسا وقدرة تنظيمية فائقتين ساعدتا في نجاح المدرسة والتي كان من بين طلبتها صديقي الزميل النقابي سليم أبوشوشة والذي كان له الفضل في أن يدفعني لتجويد معرفتي بالإقتصاد السياسي عندما ألتقيته في شالا كما ورد في هذه الذكريات من قبل. وكان من بين الطلاب المنتظمين النقابيين علي الماحي (أو عم علي كما كنت أدعوه) و مختار عبدالله و ميرغني عطا المنان وعلي العسيلات والفاتح الرشيد (الفاتح المواطن) وجون لوك (النقابي الجنوبي من باتا والذي لم يكن شيوعيا) عبد الفتاح الرفاعي.



    وخلال هذه الفترة كانت صلتنا بالحزب منتظمة وتصلنا المطبوعات الحزبية بإنتظام وكنا نقرأها ونناقشها في إجتماعاتنا ونرسل مناقشاتنا للحزب بالخارج.



    طلاب يمتحنون الشهادة من السجن:




    أبدى عدد من المعتقلين رغبتهم في الجلوس لإمتحان الشهادة السودانية فبدأنا فصلا لتدريسهم قام فيه سليمان حامد بتدريس اللغة الإنجليزية ويوسف حسين بتدريس اللغة العربية والشيخ الجيلاني بتدريس الكيمياء، وقمت أنا بتدريس الرياضيات والفيزياء.



    وكان الفصل يضم بدرالدين عبدالتام، أحمد حمزة، احمد الطيب وميرغني عطا المنان.



    العائلات تقاوم الإعتقال التحفظي




    خلال هذه الفترة نشطت حركة لعائلات المعتقلين تناهض الإعتقال وتدعمها حملة عالمية تقودها آمنستي إنترناشونال ونظمت العائلات مظاهرات وأعتصامات أمام وزارة الداخلية وقدمت مذكرات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين وكان شعار الحملة بسيطا "أطلقوا سراحهم أو قدموهم لمحاكمة عادلة", واعتقلت سلطات الأمن بعض زوجات المعتقلين وحققت مع عدد كبير منهن.



    ونتيجة لتلك الحملة تم إطلاق عدد كبير من المعتقلين وتم تجميع الباقين في المعاملة والكرنتينات والمديرية. وكان نصيبنا أن ننقل للمعاملة.


    إعتقال التجاني الطيب




    ووصلتنا الأخبار الحزينة بإعتقال التجاني الطيب والزميل عبده هاشم والزميل فوزي أمين، ولم نكن نملك أي تفاصيل حول كيفية الإعتقال. ولم يتم تحويل المعتقلين إلى السجن بل تم حفظهم في عمارات الأمن وكنت آخر مرة ألتقيت فيها الأستاذ التجاني الطيب ليلة 21 يوليو ونحن نستعد لموكب 22 يوليو 1971 وقد بعثت إليه بطلب من قيادة فرع الجامعة بأن يقوم هاشم بإلغاء قرارات نميري التي أعلنها في حنتوب عن الجتمعة وأدت لأحداث الجامعة في مارس 1971 وأبلغني التجاني بعد مناقشة قصيرة لحيثيات طلبنا بأنه سينقله لهاشم وفعلا أعلن هاشم في خطابه في الموكب إلغاء القارات وإخضاع تقري وتوصيات لجنة تطوي الجامعة والتعليم العالي لمناقشة حرة وسط الأساتذة والطلاب وإدارات الجامعات.


    تعفت على التجاني في الفاشر وهو خارج من شجن الخير خنقا أيام عبود في عام 1963 وألتقيته بعد ذلك عدة مرات في الميدان وفي إجتماعات وأذكر مناقشة طريفة دارت بيننا في عام 1971 قبل إنقلاب 19 يوليو وكان قادمين من إجتماع في الصحافة وكان هو سائق وأنا راكب بجانبه وكان محمد عوض كبلو الأستاذ بقسم الفلسفة حينها بجامعة الخركوم قد كتب مقالا عن البنائية (وأظنه أول مقال عنها في الصحف السودانية) فسألني التجاني عن المقال فقلت له أنا لا أعف كثيرا عن البنائية فقال لي "يا بختكم الآن لديكم فلاسفة وإقتصاديين مختصين في زمننا كنا نفعل كل ذلك لوحدنا بدون مساعدة متخصصة".



    قدم التجاني لمحكمة أمن دولة فيما بعد وكان قد طعن أمام المحكمة العليا حول أمر تشكيل المحكمة ولا ئحتها بأنها تتعارض مع دستور نميري المسمى الدائم ولكن المحكمة رفضت الطعن محتمية بححج ثقنية.



    الإنتقال لقسم المعاملة



    قسم المعاملة أطلق عليه ذلك الإسم لأنه كان مخصصا للمعاملة الخاصة والتي إما تقررها المحكمة أو تقررها السلطات الصحية، ثم أصبح قسما لكبار المعتقلين مثل السيد إسماعيل



    الأزهري رئيس مجلس السيادة الذي أطاحت به مايو.



    كانت المعاملة تتكون من سبعة غرف ومخزن ومطبخ وحمام ودورة مياه واحدة بالجردل مثل باقي سجن كوبر وتبدو المباني كثلاثة مجموعات ست غرف في صف في الجانب الشمالي والغرفة السابعة والمطبخ وبرندة صغيرة والمخزن في الجانب الجنوب ويبدون في شكل الأل الإنجليزية المنكفئة وتوجد فسحة بين الصفين بها نجيلة، بينما يوجد الحمام ودورة المياه في الركن الغربي الجنوبي من القسم.



    نقلنا للمعاملة في نفس الوقت الذي نقل فيه زملاء آخرين في الكرنتينة ب والكرنتينة ج.



    وكنا في المعاملة: سليمان حامد،عبد المنعم سلمان، علي الماحي، مختار عبدالله، ميرغني عطا المنان، نادرمحمد الأمين، أحمد محمد الأمين، علي العسيلات، الفاتح المواطن، كمال الجزولي، محمد السيد، التجاني حسن، إسماعيل راسخ، محجوب داؤد، يوسف حسين، محمد أحمد طه، وألياس صعيل وشخصي.


    وكان في الكرنتينة ب و وفي الكرنتينة ج : سعودي دراجو محجوب شريف وسيدأحمد سمعريت وعبد العزيز التوم و وبخيت مساعد وآخرين
    وكانت إدارة السجن قد سمحت لنا بفتح الأقسام الثلاثة بالنهار وقفلها عند التمام.



    وكنا محمد أحمد طه والتجاني حسن وشخصي نشترك في غرفة واحدة. وكان كمال الجزولي وإسماعيل راسخ ومحجوب داؤد في غرفة الزعيم أزهري.


    وقد سارت الحياة بشكل معقول في الثلاثة أقسام وأطلق سراح بعض المعتقلين لظروف خاصة كسليمان حامد ومحجوب شريف وكمال الجزولي. ولكن في نفس الوقت تمت إعتقالات جديدة وأرسلوا للمديرية كصلاح قرينات، الفنان التشكيلي الراحل أحمد البشير، والمهندس أبراهيم بشار، والفنان التشكيلي حسن حسين، والمهندس الباقر حسن موسى، كمال حسين، والمهندس علي الكنين، عبالرؤوف أبنعوف و وعوض الصافي،.
    وتواصل العمل الثقافي في المعاملة وكان البرنامج يشمل كثير من المحاضرات في الإقتصاد والفلسفة والتاريخ وكانت هناك مناقشات ثرة وأذكر أن كمال الجزولي أتى لغرفتي ذات يوم وقال أنه بصدد بحث مسأل العلاقة بين البنية الفوقية والقاعدة، وأخذ مني كتبا تساعده في البحث من بينها كتاب أوسكار لانجة في الإقتصاد السياسي والمجلد الأول لرأس المال ومساهمة لنقد الإقتصاد السياسي لماركس وبعض المختارات لأنجلز وماركس، وانكفأ على تلك الكتب وكتب أخرى طلبها من الخارج وكان يأتي من حين إلى آخر ليتناقش معي، وذات يوم أتى يحمل بع وريقات في يده وأشار إليها قائلا "بالنسبة لي فقد حسمت هذه المسألة"، وأستعرض معي إستنتاجاته، فشكرته ولكنه طلب مني أن أنظم سمنارا ليشرك باقي الزملاء في إستنتاجاته. وكان أن نظمنا له السمنار وهو من أرقى السمنارات التي عقدت في المعتقلات التي حضرتها.



    كتابة الماجستير وعلي عبدالقادر يشرف علي في السجن




    تقدمت أول ما أستقر بي المقام بطلب لسلطات الأمن بالسماح لي بالذهاب للجامعة لأعداد وأدخال المادة التي جمعتها للكمبيوتر لأني كنت أستعمل نموذجا رياضيا لتحليل متغيرات الوارد من الحبوب الزيتية كمتغير مستغل يعتمد على أسعار العام السابق. وكنت قد جمعت الوارد والأسعار للسمسم والفول من أسواق النهود والأبيض والرهد وأم روابة وتندلتي. ولم أكن أتوقع إستجابة جهاز الأمن ولكن يبدو أن وجود السيد كمال حسن أحمد كنائ لمدير الجهاز وهو إبن عم امرحوم خالدالكد قد أثر في القرار، وهذا مجرد تخمين مني، وكان أن سمح الجهاز بذهابي مرة في الأسبوع للجامعة وكان الأستاذ محمد الحسن المشرف على الكمبيوتر متعاونا بشكل مدهش. وأذكر أنه أثناء ذهابي للكمبيوتر كنت أذهب لشعبة الإقتصاد فألقى الأستاذين الجليلين المرحوم محمد صفي الدين عوض والبروفسير محمد هاشم عوض وكانا يكرما وفادتي، كما أني أذكر أحد طلابي الأستاذ أحمد علي عبدالله والذي كان يندفع لملاقاتي ويطلب من حرسي من الأمن أن يسمحوا له بإكرامي لأنني أستاذه وكان الحرس يعجب بشجاعته ويقول لي أن الأستاذ أحمد رجل يستحق الإحترام.



    وكنت إلى جانب تحليل المادة التي جمعتها أقوم بالكتابة وأرسل فصل أكتبه للأخ المحترم الأستاذ عباس شريف مدير الإدارة بمجلس الأبحاث الإقتصادية وكان هو يقوم مشكورا بإعطائها للأستاذ عبدالله عباس موظف الطباعة بمركزالدراسات الإنمائية الذي يطبعها ومن ثم ترسل للدكتور علي بدالقادر بجامعة الجزيرة حيث يقرأها ويعلق عليها وتعاد لي لأجري التعديلات وهكذا حتى فوجئت ذات يوم بالدكتور علي عبد القادر يأتي لزيارتي في السجن ويعقد معي إجتماع إشراف في مكتب حكمدار السجن. ويزودني بنصائحه الأخيرة.



    لم يكن من واجب اي واحد من هؤلاء أن يفعل ما فعل، فلا الأستاذ عباس شريف كان من ضمن مهام وظيفته أن يقوم بما قام به، وليس من مهام عبدالله عباس أن يقوم ما قام به. وبالطبع لم يكن من واجب الدكتور علي عبدالقادرعلي أن يشرف على طالب دراسات عليا وهو معتقل ويزوره في السجن. لهذا أنا ممتن لكل م عباس شريف وعبدالله عباس والدكتور علي عبدالقادر علي. ومهما أكتب او اقول فلن أعبر عن شكري وامتناني لما فعلوا.



    إضراب القضاء فبراير 1981






    دخل القضاء في إضراب عن العمل إحتجاجا على تطبيق التقويم والترتيب الوظيفي الذي أدى لإلغاء بعض مكاسب شروط خدمة القضاة وقد أخذ الإضراب شكل إستقالة 350 قاضيا بما فيهم 3 من قضاة محكمة الإستئناف العليا، وكان رد نميري هو إعتقال قادة الإضراب حوالي 12 من القضاة وتم إحضارهم لقسم الشرقيات في سجن كوبر. وجاءنا العساكر بالخبر بل أن بعضهم سمح لنا بزيارتهم وكان في مقدمة القضاة المعتقلين مولانا عمر الصديق البشير ومولانا أنور.



    موجة جديدة من الفصل التعسفي في أبريل 1981




    إنطلقت في أبريل 1981 حملة جديدة من الفصل التعسفي شملت حوالي 1000 موظف ورغم أن الحملة قد شنت بإعتبار أنها ضد المفسدين وغير الأكفاء ولكنها تركزت على المعارضين خاصة الشيوعيين والديمقراطيين واليساريين.



    ووجهت الحملة خلافا لحملات الفصل التعسفي السابق بمقاومة شديدة في مواقع متعددة كالسكة حديد وكانت سببا في الإضراب الذي سنتحدث عنه بعد قليل، ووسط الأطباء وفي الإدارة المركزية للكهرباء. وقد تلقى بعض المعتقلين خطابات فصلهم ف السجن.



    الإضراب عن الطعام



    لقد كان الملفت في هذا الإعتقال منذ بدايته إدارة السجن المختلفة، فكان القومندان الجديد العميد مدثر يدير السجن من خلال طاقم من الضباط منسجم فيه العقيد عبدالقوي حكمدار السجن و المأمور (المقدم) عبد الحميد بروزة وهو من شندي لأنني وجدته مع دكتور علي عبدالقادر عندما زارني وقال لي الدكتور علي أنه من شندي. وكان ضمن الطاقم النقيب حسن محمود والملازم عماد والملازم عثمان وآخرين لا تزعفني الذاكرة
    منذ البداية قررت الإدارة الجديدة التعامل معنا وفقا للائحة السجن وبالتالي سمح لنا بالسراير والأقلام واورق والكتب والجرائد والمجلات والتلفزيون والراديو، وسمح لنا بلإستلام موادنا الغذائية طازجة ونقوم بطبخها، بل كا قلت سمح لنا بالخروج لإستلامها من الميزان قرب مكتب الصول.



    بدأت مشاكلنا عندما ذهب العميد مدثر في إجازته السنوية وأخذ العقيد عبدالقوي مكانه كقمندان بالإنابة، فأكتشف عبد القوي بعض التلاعب في توريدات السجن، وخاصة فيما يخص الألبان فطب من المتعهد أن يقوم بسد النقص فيتوريده وتوريد ما تأخر عليه، ولن يبدو أن المتعهد كان نافذا وذا حظوة لدى إدارة السجون، فقرروا أن يرسلوا العميد الصاوي ليغطي لفرة إجازة العميد مدثر، ولكن عبد القوي أصر على موقفه من المتعهد فدخل في صدام مع عبدالرحمن الصاوي، وأنتصر الصاوي للمتعهد وابعد عبد القوي وجاء في مكانه العقيد محي الدين وهوشخص عسكري يجيد تنفيذ التعليمات وقرر الصاوي عدم إستلام المعتقلين موادهم التموينية من الميزان وأن ترسل لهم في أقسامهم وأحتج المعتقلون عى ذلك فرفض القومندان الاستماع لهم فرفضوا المواد وأعلنوا الإضراب عن الطعام، فأرسل الصاوي قواته لأقسام المتقلين لأخذهم للزنازين وتجريدهم من كافة مكتسباتهم. وقد بدأ الإضراب يوم السبت وكانت الزيارة الأسبوعية يوم الأحد، فمنعت الزيارة عن المعتقلين مما دفع الأسر للتظاهر.



    ولم يحقق الإضراب أي مكاسب بل أدى لخسارة المعتقلين لعدد من المكاسب التي نالوها وبدأوا من جديد النضال للعودة لظروف ما قبل الإضراب. وكانت اهم هذه المكاسب التي صودرت منعنا من طبخ طعامنا لفترة، ومصادرة كتبنا وأوراقنا مما أدى لضياع بعض الأورق الهامة التي كتبناها، وكاد مشروع رسالتي للماجستير أن يضيع لولا حسن الحظ.



    إضراب السكة الحديد يونيو 1981




    بدأ التحضير الفعلي للإضراب في إجتماع ابريل للهيئة النقابية لعمال السكة الحديد بالخرطوم حيث ناقش العمال الفصل التعسفي الذي لحق ببعض اعضاء الهيئة وأصدروا توصية بمقاومته وأرسلوا مناديبهم لعطبرة يحملون مذكرة للنقابة المركزية حول ذلك الموضوع. وكان الجو في عكبرة يتجه نحو التصعيد ولإضراب ذلك أن الحكومة تجاهلت مذكرة النقابة ومذكرة نقابات موظفي السكة حديد والنقل النهرسي ومهندسي خريجي الجامعات ومهندسي المعهد الفني وألاداريين العمومين ولتي قدمت في 30 لإبريل. ووصل التصعيد مداه عندما لم يرد على المذكرة خلال ال3 أسابيع التي حددتها القيادات النقابية فقررت نقابة عمال السكة حديد الاضراب لمدة 5 أيام إبتداء من 30 مايو معطية بذلك إنذارا لمدة 9 أيام (صد القرار في 21 ماو 1981).



    وفي اليوم المحدد نفذ الإضراب فأعتقلت السلطات قيادات النقابة في كل أنحاء السودان وكان نصيبنا في الشرقيات كل من عبيد إدريس، مصطفى قمر الدين،عبد الغفار عبد المجيد، الصادق زكريا، حسن كنترول ومحمد عبدالله صالح.



    إعتقال الخاتم عدلان




    اعتقل الخاتم عدلان يوم الثلاثاء 28 إبريل 1981 من جامعة الخرطوم حيث كان يحضر لدرجة الماجستير بمنحة من شعبة الفلسفة بعد أن رفضت إدارة الجامعة قرار تعيينه كمعيد بعد تخرجه.


    نقل الخاتم فورا للشرقيات وألتحق بالمكتب القائد وفقا للتؤتيبات في المعتقلات في ذلك الوقت حيث يتولى القيادة أعضاء الهيئات العليا في الخارج وكان في قيادة مكتبنا حينها: يوسف حسين، عضو اللجنة المركزية ومحمد مراد ومختار عبدالله من أعضاء المكاتب المركزية.
    بداية الكشات في سبتمبر 1981


    وبدأت السلطات على نطاق واسع ما عرف في السودان بالكشات والمقصود بها قيام السلطات في الخرطوم إستهداف القادمين من مناطق الهامش وإعتقالهم وترحيلهم خارج الخرطوم، وكان ذلك يتم على أساس الشكل والسحنة واللون واللبس، مما يعني إستهداف الفقراء من غير أبناء الشمال أو الوسط، وكانت الأخبار تصلنا في المعتقل عى ذلك فكنا نرى في ما يحدث توسيع لشرخ يتعمق في المجتمع السوداني بفضل عمى المصالح الطبقية فوق المصلحة الوطنية ووحدة البلاد.

                  

07-08-2009, 09:07 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري "16" ... بقلم: صدقي كبلو
    الأربعاء, 08 يوليو 2009 10:03


    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983


    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


    الاعتقال الخامس والأخير


    يوليو 1979-نوفمبر 1983


    النقل لبورتسودان


    وكانت أحد النتائج السلبية للإضراب عن الطعام أن تم تحويل عدد منا لسجن بورتسودان. وتم تحويل كل من يوسف حسين (عضو للجنة المركزية للحزب الشيوعي)، الدكتور محمد مراد، الخاتم عدلان (ناشط شيوعي وطالب دراسات عليا –ماجستير الفلسفة)، التوم إبراهيم (نقابي)، ميرغني عطا المنان ( نقابي حلويات ريا)، الأستاذ عمر علي محمد (معلم) ، النقابي حسن العبيد، العقيد معاش جريس (ضابط قوات مسلحة محال للمعاش)، إسماعيل محي الدين راسخ (معلم سابق وموظف ببنك الخرطوم) ، صدقي كبلو (ناشط شيوعي، وباحث إقتصادي بالمجلس القومي للبحوث وطالب ماجستير)، الشيخ الجيلاني (مهندس بترول)، كمال حسين مبروك (محاسب ونقابي بالسكة حديد)، الفنان التشكيلي أحمد البشير الماحي (رئيس سابق لإتحاد كلاب كلية الفنون الجميلة والتطبيقية) ، عبد الرؤوف علي أبنعوف (خريج الكلية المهنية العليا و موظف بالشباب) ، التجاني حسن (خريج قانون)، عباس وهبة(الإدارة المركزية للكهرباء)، مصطفى نصر (التصوير الملون)، المهندس إبراهيم بشار (خريج معهد الكليات التكنلوجية)، المهندس الفاتح كنونة، الأستاذ محمد سيد احمد عتيق (متفرغ سياسي بحزب البعث)، الأستاذ ألياس صعيل (معلم)، الأستاذ مدني علي مدني والنقابي الفاتح الرشيد.


    وقد نقلنا لبورتسودان بواسطة طائرة هوركليز حربية، ولكن بعد وصولها مشارف بورتسودان عادت لإكتشاف عطل بها (عجلاتها لا تنزل أتومتيكيا) وعندما بلغنا بعطب الطائرة كنا المرحوم أحمد البشير الماحي وشخصي نلعب الشطرنج ونضحك وكان العساكر والضابط الذي يصحبهم ينظرون لنا بدهشة وكأنهم يقولون "كيف يقال لهم أن الطائرة فيها عطب وم يلعبون الشطرنج ويضحكون" وكنا نضحك لأني كنت أقول لأحمد " تصور يا احمد لو وقعت الطيارة أنا عندي بت حتشيل إسمي وإنت تروح ساكت" وكنا نضحك على ذلك! وكان بعض الزملاء يساعدون في محاولة إنزال العجلات بشكل يدوي بإستخدام منفلة خاصة، والطريف أننا عندما اصبحنا فوق مطار الخرطوم والذي أستعد لإنزالنا إضطراريا وأمتلأ المطار بعربات المطافي والإسعاف، نزلت العجلات ونزلت الطائرة بسلام وجاء الجميع يهنئوننا بسلامة الوصول فرجعنا لكوبر حيث أمضينا ليلتنا وتم ترحيلنا في اليوم الثاني.


    عند وصولنا لبورتسودان وجدنا أننا نعرف بعض طاقم الضباط ومن بينهم الحكمدار موسى عيسى الذي ورد اسمه في الإعتقال الأول في سجني نيالا وزالنجي، ومقدم لا أتذكر اسمه الان ولكن أتذكر أن صديقي التجاني حسن كان يغتاظ عندما قلت عنه مرة أنه صاحبنا وكنت أقصد أنه مر علينا في كوبر من قبل. وكان قمندان السجن اللواء البشير مالك غائبا في إجازته السنوية. وكان هناك رائد لم نره من قبل اسمه مصطفى محمد صالح قد لعب دورا كبيرا في تحسين معتقل بورتسودان بالنسبة لنا.




    بمجرد وصولنا طلب منا الوقوف في صف وبدأو ينادون علينا فنادوا يوسف حسين، محمد مراد ثم شخصي وجردنا من ممتلكاتنا عدا حقيبة ملابسنا فظننا أننا سنعزل عن الباقين وبينما نحن وقوف إذا بالرائد مصطفى محمد صالح يقترب مني ويسألني "هل تقرب لفيصل كبلو؟" قلت له "نعم هو إبن عمي" قال "فيصل رجل محترم كان معنا هنا" ثم أردف "لكن يبدو أنك بتاع مشاكل !" فقلت "ليس صحيحا" فقال "التوصية من الخرطوم أنكم بتاعين مشاكل" قلت "سنعيش معك هنا وسترى إذا كنا بتاعين مشاكل ولا لا " قال "حنشوف وأبتعد" ثم قادنا حرس إلى قسم المديرية بالسجن وهو مكون من عنبرين كانا مجهزين بسراير بعددنا فأطمانينا أننا لن نعزل وأن الباقين قادمين. وبالفعل بدأ باقي الرفاق بالوصول ولكن بدون كتب وبدون راديو وبدون أدوات تسلية، بل حتى وابورات الجاز التي أحضرناها معنا لم يسمح لنا بإدخالها. وكان اليوم خميس فقضينا خميسا بائسا، وتأخر وصول الطعام وكان رديئا. وفي يوم الجمعة، كان الرائد مصطفى نبطشيا فارسل للأخ مدني لأن هناك قريب له يريد زيارته فقلت لمدني أن يقول لمصطفى أن يحضر لنا، وجاء مصطفى وجلس في سرير مدني الذي كان يجاورني، فتحدثت معه عن منعنا أشياءنا وعدم وجود حتى وابور جاز لعمل الشاي، فما كان منه إلا أن أمر الشاويش النبطشي بأن نعطى وابوراتنا وأن نمد بالجاز وقال أنه سيتحدث مع الحكمدار حول بقية أشيائنا.


    لعلنا أول من إلتقط إغتيال السادات


    وفي يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1981 سمح لنا بأخذ باقي أشيائنا من كتب وراديو الخ، وكنت أملك جهاز راديو كاسيت ناشونال بانوسونيك قوي الإلتقاط وبمجرد إحضاره جلسنا إسماعيل راسخ وشخصي نقلب في محطاته فكانت أول محطة عربية إلتقطناها وتوقفنا لديها هي إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية من عمان في لحظة قطع إرسالها وإذاعتها لنبأ تعرض منصة السادات في إحتفال أكتوبر لإطلاق الرصاص وأن الإرسال الإذاعي المصري الذي كان ينقل الإحتفال قد قطع فجأة وأذاعت الإذاعة الأردنية تسجيلا لرصدها للحدث!


    وصحنا منادين بقية الزملاء وتحلقوا حول الراديو بدأنا السياحة في الإذاعات الدولية نلتقط الأخبار حتى تأكد وفاة السادات بعد أن أطلق عليه خالد الإسمبولي رصاصات قاتلة. لا أنكر أن المعتقلين جميعا أبدوا إرتياحا لموت السادات فهو لم يكن محبوبا ولا محترما وسطنا، وكنا قد سمعنا قبل ترحيلنا بفترة قصيرة خطابه الشهير الذي توعد فيه المعارضة المصرية بعد إعتقاله عشرات المثقفين المصريين أنه "سيفرمهم إنما بالقانون" كما ظللنا نحمله التآمر على 19 يوليو والدور الذي لعبه في الضغط على نميري في إعدام الشفيع وعبد الخالق وجوزيف! وكنا في سجن زالنجي عندما رأينا ما قاله لأحد المجلات أو الصحف عن ميلاد الإتحاد الثلاثي بأسنانه وأنها بانت في السودان! ثم جاء كتاب الصحفي مطر ليكشف مزيد من الحقائق وأنا أكتب الآن تكشفت لي مزيد من الحقائق بعد أن رأيت جزءا من مذكرات وزير الدفاع المصرفي حينها محمد أحمد صادق الذي كشف فيها دور مصر وليبيا في هزيمة 19 يوليو وكيف وضع محمد أحمد صادق خطة إعتراض الطائرة البريطانية التي كانت تقل بابكر النور وفاروق حمدنالله.


    البشير مالك يستجيب لكل مطالبنا


    واصطففنا في أول سبت عند حضور اللواء البشير مالك من إجازته في مروره على السجن، فحيانا وتوجه لي بالكلام : "إزيك يا كبلو إنشاءالله يكونوا الجماعة ديل مريحنكم" فقلت له " أهلا سيادتك حمدالله على السلامة، والله ما قصروا ولكن عندنا شوية قضايا ممكن تطرحها عليك لجنة المعتقل وأشرت ليوسف حسين ومحمد مراد". وكم كانت دهشة الجميع عندما أستجاب لكل المطالب فأمر بإعطائنا موادنا الغذائية لطبخها، وبناء مطبخ لنا في الكورنة وإعطائنا تلفزيون والسماح لنا بالرياضة في حوش الورشة مرتين في الأسبوع، والسماح بشراء ما نريد من أماناتنا وتحويل مرضانا للمستشفى.


    وأسع الرائد مصطفى كأنه خاف أن يرجع المدير من أوامره إذ أنه مسئول من الورشة فأتى بمن أقام كشك مطبخنا في الكورنة في نفس اليوم وبدأ الإستقرار في المعتقل.


    وخلف البشير المالك اللواء عمر خيال الذي لم يغير من وضعنا بل ساهم في تزليل كثير من الصعاب.


    الملاريا أول مشكلة تواجهنا


    وكانت أول مشكلة تواجهنا في بورتسودان هي الملاريا، وقد يستغرب القارئ عن كيف تكون الملاريا في بورتسودان أول مشاكلنا، ولقد كنت أنا أكثر إستغرابا خاصة عندما خرجت المرة الأولى من السجن للمستشفى مشيا على الأقدام: هل هذه بورتسودان التي رأيتها قبل عامين فقط؟ ماذا دهاها لماذا تدهورت نظافتها وكانت من أشهر مدن العالم نظافة وأناقة؟


    بدأت الملاريا بإصابة الدكتور المؤرخ محمد مراد حتى ظننا أننا فقدناه ثم لم تستثنى أحدا، فأقترح علينا حسن العبيد أن نجلب ناموسيات، فبدأنا في شراء الناموسيات حتى أصبح على كل سرير ناموسية وسخرنا لذلك المال الخاص والمشترك بيننا وكان عبدالرؤوف علي أبنعوف مدير كميوننا هو العقل المدبر للمال ومعرفة القدرات المالية لكل زميل ومساهمته . وكانت فترة من أعصب فترات المعتقل وظللنا نمارض بعضنا البعض ونسهر بقرب سرير المريض منا وكان ذلك رمزا خالدا من رموز التضامن الرفاقي الخلاق.


    العمل الثقافي في معتقل بورتسودان


    كانت فترةإعتقال بورتسودان من أكثر فترات العمل الثقافي ثراءا في كل المعتقلات التي دخلتها وذلك لأننا من البداية كنا قد قررنا أن نرتقي بمعارفنا من أسس ومبادئ الماركسية لدرجات أعلا في كل الجوانب الإقتصادية والفلسفية وفي دراسة التاريخ وفي دراسة الأدب وفي قضايا السياسة. وما ميز هذه الفترة أن كل المحاضرات تقريبا كانت تعد مكتوبةً قبل وقتٍ كافٍ من تقديمها ويتم تمريرها على الزملاء قبل تقديم المحاضرة لتحضير ملاحظاتهم وأسألتهم ومساهماتهم. وقد جعل ذلك المناقشات ثريةً والمحاضرات مفيدةً وكان عددُ كبيرٌ من الزملاء ينسخون تلك المحاضرات ويحتفظون بها ومن بينهم الزملاء عمر علي وعبدالرؤوف على أبنعوف وعباس وهبة.


    بدأت نشاطي الثقافي بإكمال كورس في الإٌقتصاد السياسي كنت بدأت تدريسه لمعتقلين انضموا لمجموعتنا في الشرقيات من قسم المديرية أثناء الإضراب ثم تعددت المساهمات فقدمت الآتي:


    سلسة محاضرات عن الإقتصاد السياسي للإشتراكية ( المدرسة الحزبية بورتسودان)


    سلسلة من أربع محاضرات بعنوان "مقدمة لدراسة التطور الرأسمالي في السودان" (نشرت إثنين منها كدوريات بمحلس الأبحاث الإقتصادية) وتناولت هذه المحاضرات البنية الإقتصادية التي أنشاها الحكم الثنائي وفترة الإستقلال والخطة العشرية والخطة الخمسية المعدلة ووثيقة الخطة السداسية، مما يمكن النظر أليه كمشروع لتاريخ الإقتصاد السوداني منذ الحكم الثنائي.


    محاضرة عن الإجراءات المالية التي أعلنها نميري في 9 نوفمبر 1981 (المخطوطة موجودة رغم فقدان بعض الصفحات من مقدمتها) وهذه إجراءات أعلنها نميري بنفسه في 9 نوفمبر 1981 وأحتوت على 18 إجراء إقتصادي شملت كل روشتة صندوق النقد الدولي وكان اهمها التخفيض الثالث والأكبر للجنيه خلال ثلاث سنوات والذي بلغ 45% من قيمةالجنيه معادلة بالدولار الأمريكي و فرض نميري رسوماً جمركيةً جديدةً على كل الواردات بلغت 10% مما أدى لزيادة عامة في أسعار السلع المستوردة ووعد نميري برسوم اعلى على الواردات بهدف حماية الصناعة المحلية وسحب الدعم فورا من البترول ومشتقاته وقرر تخفيض الإنفاق الحكومي بإغلاق بعض البعثات الدبلوماسية السودانية وألغى وخفض الرسوم الجمركية على الصادرات وزاد بدل الترحيل للموظفين والعمال ورفع الحد الأدنى المعفى من ضريبة الدخل الشخصي وتحدث عن تشجيع الإدخار ووجه البنوك لتنفيذ ذلك، وفي نفس الوقت حث البنوك على إسترداد مديونيتها لدى القطاع الخاص حتى ولو أدى ذلك لبيع الأصول المرهونة وقرر إجراء لإصلاح كامل للمؤسسات العامة وفي نفس الوقت قرر أن تورد المؤسسات أرباحها كاملة لوزارة المالية التي ستقرر الإحتياطي اللازم للتجديد والاحلال، وكانت أخطر قرارته هي التنفيذ الفوري لمقترحات البنك الدولي حول الحساب الفردي في مشروع الجزيرة وهو ما فشل البنك الدولي في جعل كل الحكومات منذ حكومة عبود تنفذه. وقرر نميري إلغاء مؤسسة العقارات التي كانت تدير عقارات الدولة وقرر جرد مخازن الدولة لبيع الفائض من مخزونها وأعلن عن برنامج لحصر مديونية الحكومة والقروض التي تم التعاقد عليها (تصور حكومة بم تكن تعرف وترصد مديونيتها ولا القوض المتعاقدة عليها لدرجة إستئجار بيت خبة أجنبي ليفعل ذلك!) وكان ثاني اخطر قرارته هو إيقاف أي مشروعات جديدة مما يعني إيقاف تنفيذ الخطة السداسية التي كانت تهدف لتطوير الزراعة في السودان وتعتمد على ما سمي بالبنامج الأساسي لتطوير الزاعة في السودان أول برنامج كان يفترض أن تنفذه الهيئة العربية للإنماء والإستثما الزاعي بهدف جعل السودان سلة غذاء العالم! وإستبدالها ببرنامج لثلاث سنوات لإعادة الاستثمار والتجديد وأتخذ قرارت حول الإنضاط المالي وعدم التصرف في إستقطاعات المعاشات وصندوق التوفير وإستقطاعات الضرائب والرسوم الحكومية لغير الجهة المخول لها قانونا ذلك. وفي النهاية أصدر أمرا للجهات المختصة بتنفيذ قرارته. وقد تعرضت المحاضرة لتلك القضايا الواحدة تلو الأخرى


    محاضرة التوازن في نظام ماركس الإقتصادي (القطاع الأول والثاني). وهذه محاضرة كانت مغامرة في إتجاه الإنتقال من المعارف العامة في الإقتصاد السياسي الماركسي لمعرفة أكثر تخصصا، ولأول مرة في محاضرة غير أكاديمية (بمعنى غي موجهة لطلبة أكاديميين أو متخصصين في الإقتصاد) حاولت إستعمال المعادلات، والمدهش أن الزملاء كانوا منتبهين ومتابعين ووجدوا المحاضرة مفيدة ومفهومة، وقد حفزني ذلك لتقديم محاضرة عن فكر الكينزية.


    محاضرة عن الإقتصاد الكينزي (مخطوطتها موجودة)، وهي المحاضرةالتي نبعت فكرتها من المحاضرة السابقة وقد حاولت فيها أن اضع النظرية الكينزية في محتواها التاريخي وناقشت مفهوم الأزمة عند ماركس وعند كينز وأهمية السياسات الإقتصادية الكينزية في الإقتراب من التوظيف الكامل للموارد وفي تفادي الأزمات قصيرة المدى وعدم إهتمام كينز أساسا بمفهوم طول المدى! والآثار الكينزية في توليف وتأسيس نماذج النمو الإقتصادية خاصة نموذج هارو دومار الشهير وقارنت في المناقشات بين كينز وأوشكار لانجة وبول باران وأستمرت مناقشة المحاضة أكثر من جلسة.


    محاضرة عن كتاب الندوي "ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين" (نشرت في الميدان العلنية خلال الديمقراطية الثالثة) والمحاضرة عبارة لنقد نظرية التاريخ في الفكر الإسلامي الأصولي، تلك النظرية التي ترى التاريخ البشري بأنه أما قرب او إبتعاد من الدين وأوضحت كيف أن الندوي هو الذي صاغ مفهوم جاهليةالقرن العشرين وما العلاقة بين الندوي والأخوين سيد ومحمد قطب.


    محاضرة عن مسرح نعمان عاشور (المخطوطة مع دكتور عمرو محمد عباس الذي قرأها في عام 1986 وأصر أن يحتفظ بها وأرجو ألا يكون قد أضاعها) ولهذه المحاضرة قصة وقد أثارت كثير من المناقشة، فكنت قد أقترحت على زميل يقرأ الأدب ويتذوقه أن يقدم تلك المحاضرة عن الأعمال الكاملة لنعمان عاشور التي كانت متوفرة لنا ولكنه أعتذر بحجة أنه غير متخصص وحاولت إقناعه بأنه لا يوجد لدينا متخصص في النقد الأدبي في المعتقل، وأنه كقارئ متذوق للأدب يستطيع أن يبدأ السير في ذلك الطريق والمسألة لا تتعلق بالشهادات رقم أهميتها، إنما بالدراسة والتجريب والمناقشة مع الآخرين وأن في المعتقل الوقت لكل ذلك، فرفض بحسم، فقلت له أنا سأقوم بذلك، وعندما قدمت تلك المحاضرة كانت بعض وجهة المناقشة تسير في وجهة ذلك الزميل لإثبات عدم تخصصي، ولكن يبدو أن إهتماماتي الأدبية في صباي وأيام الثانوي وقراءاتي لكتاب اليسار في مصر مثل المقالة أو قل الدراسة الشهيرة لمحمود أمين العالم حول "البناء المعماري لثلاثية نجب محفوظ، وأهتمامي بكتابات الدكتور محمد مندور حول المسرح وجابر عصفور وغالي شكري وغيرهم وقراءتي لبريخت وتأثري بعثمان النصيري في الجامعة قد انقذوني وأبانوا أن لي بعض معرفة بقضايا المسرح. وكانت من أطرف المناقشات أن علق أحد الرفاق على قول لي أن نعمان عاشور قد تنبأ بالنكسة (هزيمة 1967 في مصر كما كنا نسميها وقتها) في بعض مسرحياته قبل حدوثها، قائلا "يا أخي الإتحاد السوفيتي ما تنبأ بالنكسة" فعلقت ساخرا "أن حاسة الأديب أصدق من حاسة المخابرات وأحيانا من حاسة السياسي".


    وقد أحتل الأستاذ الدكتور محمد مراد مقعده كل أسبوعين من وصولنا وحتى إطلاق سراحي من بورتسودان في نوفمبر 1983 يحاضرنا عن تاريخ السودان القديم، معتمدا على مراجع لا تتوفر بالعربية ولا يتوفر معظمها بالإنجليزية وكانت تلك المراجع قد إستفادت من حفريات حديثة منذ حملة إنقاذ آثار النوبة الأولى عند بناء السد العالي. وأني لأعجب كيف ولماذا يحرمنا الصديق دكتور مراد من نشر تلك المحاضرات القيمة حتى ولو بدون تنقيح فهي بلا شك ستكون ذات فائدة عظيمة في حوارنا الوطني الحالي حول الهوية وستساعد الأجيال الجديدة في تلمس جذورهم التاريخية وتطوي معارفهم بالحضارات السودانية القديمة.


    قدم الخاتم محاضرة عن حياة ماركس وهي كانت في نسختها التي تم تداولها بيننا قبل المحاضرة ذات لغة شاعرية بديعة ولا أظنني قرأت في حياتي شيئا جميلا كتب عن ماركس كمحاضرة خاتم تلك.



    وقدم الخاتم محاضرات عن الفلسفة الماركسية أثارت مناقشة ثرية وكنت قد أثرت معه قبل المحاضرة نقاط حول محاضرته حول مصادر الماركسية وكانت تلك النقاط مرتكزة على موقفي من كتيب لينين " مصادر الماركسية الثلاث وأسسها المكونة الثلاثة" والتي في رأي كتاب تبسيطي قصد به تعريف الماركسية وأننا كنا أتفقنا في العمل الثقافي للأرتقاء بمعارفنا فوق المتعارف عليه وذكرت له أنني أفضل طرح أنجلز للمسألة في "فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" وما أورده عن إسهام الإنجليز في تطور المادية في "لإشتراكية علمية وأشتراكية طوبوية" وقد أستقبل الخاتم ملاحظاتي تلك بروح طيبة، ولحسن حظنا أنه بعد يومين من مناقشتنا تلك وصلنا في المعتقل من زملائنا ببورتسودان عدد من الكتب من بينها كتاب أنجلز عن فورباخ، ولكن لم يكن هناك وقت ليعدل الخاتم ما كتب فقد كانت المحاضرة المكتوبة قد إكتملت دورتها وسط الزملاء ولكنه عدل كثيرا في طرحه عند تقديمه للمحاضرة وقدم في تقديري محاضرة جيدة. والمدهش أن الزميل يوسف حسين في مناقشته والتي أعد نقاطها بشكل مسبق على أساس الورقة أنتقد الخاتم مستندا على موقف انجلز ولم يضع في الإعتبار التغييرات التي أحدثها الخاتم أثناء التقديم.


    وإلى جانب المحاضرات فكانت وحدات الفرع الثلاث تناقش بعض الكتب السوفيتية، وكنا الخاتم وشخصي في وحدة واحدة ولكن لنا آراء متباينة حول الأطروحات السوفيتية حول العالم الثالث وقد تبينت خلافاتنا تلك في مناقشاتنا لكتاب "العالم الثالث قضايا وآفاق" وكتاب آخر أظن أن اسمه "البلدان ذات التوجه الإشتراكي" و يناقش الكتابان قضايا الثورة والتحرر والتحول الإقتصادي والإجتماعي في بلدان العالم الثالث من وجهة نظر سوفيتية. لقد ظللت منذ بدأ الصراع في الحزب الشيوعي السوداني حول إنقلاب مايو 1969 وحول مقولة الديمقراطيين الثوريين أطور موقفا نقديا منها أصبح رفضا كاملا منذ ان أكتمل تصور الحزب من الأنظمة التي كانت تسمى تقدمية في دورة اللجنة المركزية حول العلاقات الخارجية يوليو 1977 التي ورد ذكرها في الفصل السابق ووثيقة الديمقراطية مفتاح الحل والتي فتحت لي مجال بحث ودراسة أكثر عمقا حول الديمقراطية. ولكن للأ سف كان صديقي المرحوم الخاتم عدلان يتبنى وجهة النظر السوفيتية وكانت حجتي الأساسية أن هذه الأنظمة المسمى تقدمية وذات توجه إشتراكي لن تسمح بتطور حركة مستقلة للجماهير عموما وللطبقة العاملة على وجه الخصوص بحجة حماية الثورة بينما هي تسعى لحماية نفسها، ولا يمكن لحرك الطبقة العاملة أن تعمل بشكل مستقل وتبشر لبرنامجها بما في ذلك البرنامج الإشتراكي دون أن تصطدم بها، والبديل هو التسليم بقيادة البرجوازية الصغيرة وديكتاتوريتها وإحداثها بعض التغييرات نيابة عن الجماهير ودون مشاركتها. واحيانا أخذ النقاش بيننا طبعا فلسفيا حول مقولات العلوم الإجتماعية هل يتم الإتفاق حولها في مؤتمرات أو مناقشات مثل مناقشتنا حيث يطرح كاتب مقولة ويعرفها أو لا يعرفها فتصبح موضوعا للنقد والمناقشة. وكانت المناقشة ثرة وتتم كتابةً ويتم تبادل ما نكتب في وحدتنا ولكن للأسف لم أحتفظ بصور منها وفقدت. وظل بعض الزملاء من تلك الفترة يتذكرون تلك المناقشة بعد إستقالة الخاتم المسببة فكريا من الحزب ويعبرون عن دهشتهم كيف يبقى في الحزب من كان ينتقد السوفيت وكيف يستقيل من كان يدافع عنهم! وفي الحقيقة أنا عندما أتذكر كل تلك المناقشات يزداد إعجابي بالخاتم إذ أنه كان دائما مدافعا شرسا عما يعتقد أنه صحيح. ولا أشك مطلقا أنه كان يعتقد في صحة موقفه في ذلك الوقت ولم يتردد عندما تغيرت وجهة نظره بأن يتخذ موقفا مغايرا حتى لو كان ذلك مناقضا لكل تاريخه النضالي السابق.


    وأستمرت المجلة الناطقة والسهرات والإحتفالات بالمناسبات القومية والدينية والتي كانت تجري فيها المنافسات بين الفق والعنابر و أظه رفاق مثل ميرغني عطا المنان وعبدالرؤوف علي أبنعوف ومصطفى نصر مواهب متعددة في هذا المجال.


    ومارسنا هوايات وأعاب كثيرة من بينها لعب الشطرنج وكان الخاتم بطلنا في تلك اللعبة عدة مرات.


    الصحة في المعتقل:


    كان الإهتمام بالصحة في معتقل بورتسودان عال جدا من قبل لجنة تم تكوينها من الزملاء التوم النتيفة واسماعيل راسخ وكانت تهتم بنظافة المعتقل وخاصة العنابر والمطبخ والحمامات وكنا نقوم بنفير لغسل العنابر كل أسبوعين، وكانت لجنة الصحة مسئولة عن تسجيل المرضى للعيادة وتحويلهم للمستشفى ومتابعة الأدوية. وكانت نتيجة ذلك أن الزملاء بالمعتقل كانوا بشكل عام في صحة جيدة ويتلقى المرضى منها العناية الضرورية وكان الأطباء في مستشفى بورتسودان متعاونين ويعتنون بالحالات المحولة لهم وأذكر من هؤلاء الأطباء الدكتور أسامة الفيل والدكتور محجوب الخليفة أخصائي الباطنية ودكتور آخر أخصائي الأنف والأذن والحنجرة أشعر بالخجل أنني لا أتذكر اسمه خاصة أنه قدم لنا مساعدات كثيرة والدكتور الإنسان أسامة سيد الفيل. ولا بد أن أذكر الرفاق ببورتسودان وفي مقدمتهم المرحوم علي دهب والمرحوم معتصم صيام والزميل عبدالرحمن الأمين.


    الرياضة في المعتقل:


    كان من بين المكاسب التي حققها لنا اللواء البشير مالك وحافظ عليها اللواء عمر خيال هو خروجنا مرتين في الأسبوع للرياضة بحوش الورشة في السجن حيث كنا نلعب الكرة ونمارس رياضة المشي. وكنا نقيم المباريات التي يتحمس فيها الرفاق. وواصل الزميل الراحل الفاتح الرشيد (المواطن) تدريبنا في اليوغا وتتلمذنا على يده إسماعيل راسخ وشخصي.


    الموت المفاجئ للشريف الهندي


    فوجئنا في يناير 1982 بموت الشريف حسين الهندي الزعيم الإتحادي المعروف آخر وزير مالية في الديمقراطية الثانية والعقل المدبر للجبهة الوطنية التي ضمت الأمة والإتحادي والأخوان في معارضتها السلمية والعسكرية لنظام نميري. كان الشريف قد إستطاع تفادي لإعتقال صباح 25 مايو 1969 وأستطاع أن يصل الجزيرة أبا حيث كان الإمام الهادي مقيما ولحق بهما محمد صالح عمر من قادة الأخوان المسلمين فتعاهدوا على قيام الجبهة الوطنية ومقاومة نظام مايو وأستطاع الشريف أن يعبر الحدود إلى أثيوبيا ثم إلى السعودية حيث كسب تأييد ملك السعودية الملك فيصل ثم عاد لأثيوبيا لتتظيم معسكرات تدريب الأنصار ونقل السلاح إلى الجزيرة أبا وبعد فشل عملية الجزيرة أبا ومقتل الإمام الهادي أنتقل الشريف لإنجلترا حيث جعل منها المحطة الأساسية لحركته وتحالف خلال وجوده في قيادة المعارضة مع دول مختلفة كالعراق وليبيا إلى جانب السعودية. وكان تحالفه مع ليبيا قد مهد لقيام معسكرات تدرب فيها الأنصار المهاجرين والأخوان المسلين ليشكلوا القوة الأساسية لعملية 2 يوليو بقيادة محمد نور سعد والتي أدت قوتها ومفاجأتها لنظام نميري رغم هزيمتها لإعادة حسابات نميري وقبوله لإقتراح المصالحة الوطنية والذي كان قد تقدم به الملك فيصل منذ عام 1973 ولكن نميري المنتصر على 19 يوليو حينها والموقع على إتفاقية أديس أبابا كان يشعر بالزهو والقوة ورفض شروط الشريف للصلح.

    بوفاة الشريف إنتقل ثقل المعارضة للداخل حتى قيام الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان في 1983
                  

07-10-2009, 00:22 AM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    ذكرني الدكتور عبد المنعم الشفيع من منظمة الصحة الدولية اسم أخصائي الأنف والأذن والحنجرة ببورتسودان وهو الدكتور المرحوم الباقر الخواض شقيق الفريق المحمد احمد الخواض القائد العام للقوات المسلحة بعد ثورة أكتوبر.
                  

07-10-2009, 01:24 AM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 10818

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    سيرة عطرة
    وحياة حافلة بما يستحق أن يكتب عنه

    ماذا لو نشرت هنا أو في أي مكان آخر بعض من تلك المحاضرات ؟؟؟؟
                  

07-10-2009, 09:38 AM

Magdi Is'hag

تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1986

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Nasr)

    العزيز صدقي
    أحييك علي هذا الجهد الرائع.
    جميل أن تدخل إلي ساحة أدب المذكرات الشائك الذي يتحاشاه السودانيون تخوفا من تضخيم الذات و تقليلا لأهمية دورهم في صنع أو معايشة الأحداث وكل له أهميته في المعرفة والتوثيق.وهم لايدرون أي خسارة يرتكبونها في حق ذاكرة التاريخ.عندما سمعت بوفاة حاج مضوي أول ما خطر بذهني بعد عبور سحابة الحزن هو التنمي آن يكون قد كتب مذكراته.
    حقيقة لقد إنبهرت بذاكرتك ومقدرتك في إستحضار الأحداث وترتيبها.
    أعلم أن نهذه المذكرات ستصبح كتاب قريبا و أستميحك أن أتقدم بإقتراح وهو أن لا تنشر بهذه الصورة بل أتمني أن يستمر جهدك لتصبح هذ المذكرات شاهدا علي تاريخ تلك المرحلة وإن تسترسل قليلا عن خلفية الأحداث. مثلا عند ذكرك لأي إعتقال أوـإطلاق سراح لو أعطيت مساحة أكبر في رسم الواقع السياسي والإجتماعي والحزبي ستكون وجبة دسمة للمتابعين من أمثالي و خلفية مفيدة للأجيال التي لم تعاصر الأحداث.
    لم أسمع بوفاة د.الخواض فقد قابلته السنة الفاتت في الخرطوم وهو له عيادة في شارع السيد عبدالرحمن أرجو التوثق من المعلومة وأعتفد د.إحسان فقيري أود.أسامة الفيل يمكنهم التأكد.
    العزيز صدقي
    أتمني أن يكون جهدك حافزا للكثيرين لتفريغ ذكرياتهم و حكاياتهم لكلمات مقرؤة للتاريخ وتعميما لفائدة ويخطر في ذهني صديقي عدنان زاهر فقد تنقل بين بيوت الأشباح كوبر وشالا وهو يمتلك الذاكرة والقلم الذي يستطيع التوثيق و التعبير الجميل عن تلك الفترة.
    العزيز صدقي
    وأنت كادرا قياديا في الحزب أتمني أن تتبني إقتراحا لإستكتاب أو التسجيل الصوتي ثم التفريغ بعد ذلك لمن لابتحمس للكتابة وأتمني أن نري قريبا مذكرات عمنا كمرات و عمك التجاني وخالتك فاطمة غيرهم
    لك الود

    (عدل بواسطة Magdi Is'hag on 07-10-2009, 09:46 AM)

                  

07-10-2009, 10:47 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Magdi Is'hag)

    العزيز نصر
    شكرا لك
    أفكر جادا في إقتراحك بنشر محاضرات السجن التي أحتفظ بها، حاولت في رحلتي للخرطوم أن أحاول أن أحصل على البعض الذي نقله بعض الزملاء. ولكن المشروع ضمن إهتماماتي.
                  

07-10-2009, 11:04 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    عزيزي الدكتور مجدي إسحاق
    شكرا لكلماتك الطيبة وسأحاول أن أراجع الفصول التي لا تتحدث عن الظروف، الفصل الأخير ملئ بالأحداث السياسية، لأننا كنا نشاهد التلفزيون ونقرأ الجرائد ونستكع للإذاعات خاصة لندن ومونتكارلو.
    أضم صوتي لصوتك لكل الذين كانوا في المعتقلات وبيوت الأشباح أن يكتبوا تجاربهم: زعدنان زاهر أحدهم ولكن هناك كثيرون أمثال كمال الجزولي، يوسف حسين، حمودة فتح الرحمن وصلاح العالم. وأرجو أن يواصل الرفيق علي العسيلات ما بدأه في الميدان بعنوان بص الجريف وهي مذكرات بلغة رفيعة وأدب زاخر.
    أما الأستاذة فاطمة فأظنها سجلت أو تسجل مذكرات، الكلام في تجاني ونقد وآخرين يحملون تاريخ الحزب في صدورهم. سأعمل برأيك وأقدم الإقتراح مكتوبا.
                  

07-20-2009, 12:00 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري 17 ... بقلم: صدقي كبلو
    الاثنين, 20 يوليو 2009 09:30

    صدقي كبلو


    ذكريات معتقل سياسي 1971-1983


    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


    طلبنا نقل محمد علي سعيد لنا


    كان النقابي محمد علي سعيد من نقابيي السكة حديد معتقل بقسم مختلف في بورتسودان وكنا نمر عليه خروجا أو دخولاً لقسمنا وكان يؤلمنا وجوده لوحده وكنا نعرف عنه أنه حينها كان من أنصار الشريف حسين الهندي، وعندما توفى الشريف طلبنا من إدارة السجن أن ينقلوه لقسمنا موضحين لهم خطورة وجوده لوحده وكان كبيرا في العمر في ظروف حزنه على الشريف حسين، وأستجابت سلطات السجن مشكورة. وعند حضوره أقمنا تأبينا للشريف حسين مما خفف عليه كثيراً.


    التركين والقراصة في السجن


    ولعل من ذكريات فترة المعتقل البارزة تلك، الزيارة التي قامت بها عائلة عباس وهبة والعقيد جريس للسجن يوم جمعة في الصباح الباكر عندما جاءوا بالتركين وبدأوا تجهيز القراصة الحارة في منزل الأستاذ عبيدي ناظر بورتسودان الثانوية القريب من السجن، ويتم مواصلة ارسال القراصة الحارة السخنة على دفعات ونحن في العنابر نتناول التركين بالبصل والشطة والليمون. وبالنسبة لي كانت تجربة فريدة، فلم أكل التركين من قبل، ولكني أحببته منذ تلك التجربة وأصبحت دائما أسأل أصدقائي من أهل الشمال (محس وسكوت ودناقلة وحلفاويين) ما عندكم تركين؟


    إنقلاب القصر الأخير 1982


    تميز نظام نميري منذ أكتوبر 1969 بتدبير إنقلابات داخلية تغير ميزان القوى في تركيب سلطته بإستبعاد كل من يتحدى سلطته الشخصية أو يهدد إستقرار تلك السلطة من داخلها. كان إنقلاب القصر الأول عندما أبعد بابكر عوض الله العقل المدبر لإنقلاب 25 مايو مع فاروق حمدالله في أكتوبر 1969 من رئاسة مجلس الوزراء. ثم إنقلاب 16 نوفمبر 1970 الذي أبعد فيه الثلاثي اليساري بابكر النور، هاشم العطا وفاروق حمدالله. ثم إنقلاب القصر ضد أبوالقسم محمد إبراهيم في أغسطس 1979 بعد أن قدم أبو القاسم بعض التنازلات لإضرابي السكة الحديد ومزارعي الجزيرة في يوليو 1979.


    ولكن إنقلاب القصر الأخير الذي قاده نميري كان في يناير 1982 بعد أن قبل نميري مزيد من شروط الصندوق وأعلن بنفسه 18 إجراءا فيما سماه الإصلاح المالي والإقتصادي في نوفمبر 1981 مما أدى لمظاهرات طلابية بدأت في الخرطوم ثم أنتشرت في المدن والأقاليم الأخرى. وأستمرت الإضطرابات غرابة الشهرين، مما دفع نميري لدعوة كل قيادات الإتحاد الإشتراكي والسلطة التنفيذية معلنا حل الإتحاد الاٌشتراكي واصراره على قرارات نوفمبر الإقتصادية عارضا إستقالته عند عدم قبول قراراته. ودعى الحاضرين لتداول الأمر في حرية. والغريب أن أركان نظام نميري صدقوه وبدأوا يتداولون بصراحة، وخاصة كبار قادة الجيش الذين أجتمعوا بنميري ثم أجتمعوا لوحدهم للتداول بصراحة وهم لا يعلمون أن الرئيس يراقب مداولاتهم. وفاجأ نميري قياداته جميعا بطرد عبدالماجد حامد خليل من وزارة الدفاع والجيش وفصل 22 من كبار قادة الجيش. وهكذا دبر نميري آخر إنقلاباته.


    كنا نتابع تلك المسرحية من خلال الراديو ولكننا على الدوام كنا نعتقد ان التغيير سيحدثه الشعب.


    ترحيلي للطلاق


    كانت فترة بورتسودان من أصعب فترات إعتقالي على المستوى الشخصي، فقد كانت علاقتي مع زوجتي الأولى قد بدأت في التدهور عبر الخطابات التي كانت تصلني منها، صحيح أن التدهور قد بدأ في الأيام الأخيرة في كوبر، ولكنه وصل مداه بعد ترحيلنا وقد كان المعتقلون يتبادلون فيما بينهم الخطابات العائلية، وكنت لا أفعل نفس الشئ في محاولة مني لإخفاء مشكلتي العائلية حرا مني على اروح المعنوية بين الرفاق، ولكني تحت الضغط النفسي أضطرت أن أشرك صديقي وقتها إسماعيل راسخ. ثم جاءت زوجتي لزيارتي في المعتقل ومهد لنا الرائد مصطفى محمد صالح أن نلتقي لقاءا طويلا على إنفراد رأيت فيه طفلتي بع غياب حوالي عامين. وفي الزيارة طلبت زوجتي الطلاق، فرجوتها أن تؤجل المسألة بعض الوقت بحيث أعمل على تحقيق رغبتها دون الإضرار بالمعتقلين أو سمعتهم أو إضعاف موقفهم في نظر الأمن، وبعد إلحاح مني وافقت على أن تعطيني مهلة 6 شهور. ولم أنقل مادار في الزيارة لبقية المعتقلين. وبدأت في التفكير في كيفية ترتيب المسألة، ولكن بعد أسبوعين من الزيارة أستدعتني إدارة السجن لتبلغني بخبر ترحيلي للخرطوم لأنني مطلوب للمحكمة الشرعية بأمدرمان، ولم يكن ممكنا الصمت على المسألة فبلغت المسئول السياسي لفرع السجن، وأستمريت في أداء مهامي اليومية فقمت بتدريس حصتي في الإقتصاد السياسي، وأشتركت في منافسة شطرنج هزمت فيها أمام الخاتم بعد أن تعادلنا أولا.


    وتم الترحيل إلى كوبر وفي يوم الجلسة ألتقينا خارج المحكمة الشرعية أمدرمان حيث جاء الأستاذ جلال السيد للمثول معي فقلت له أنا لا أحتاج لدخول المحكمة لأنني لا يمكن أن أظل متزوجا غصبا عن إرادة شريكتي التي تزوجتها برضاها، فنصحنا جلال بأن سيدخل لإعلام القاضي بإتفاقنا على الطلاق خارج المحكمة وذهبنا لمأذون منطقة أمدرمان الوسطى حيث تم الطلاق في سلام. وأحتفظنا بعلاقات طيبة بعد ذلك وتزوج كلانا.


    لقائي التجاني الطيب وصموئيل أرو في كوبر


    أثناء وجودي في سجن كوبر الذي أمتد لحوالي أسبوع، سمح لي الشاويش سيدأحمد بلقاء الأستاذ التجاني الطيب في قسم الشرقيات التي نقل أليها من الأمن بعد سفرنا لبورتسودان. وكان لقائي مع الأستاذ التجاني قصيرا ولم نتبادل فيه أكث من التحايا والسؤال عن الصحة والفاق ببورتسودان.


    وكنت أثناء خروجي أو دخولي الكرنتينة أمر بقسم المعاملة حيث كان الأستاذ صموئيل أرو معتقلا. وكان صموئيل أرو قد أعتقل لإعتراضه ضمن آخرين تقسيم الإقليم الجنوبي وتدخل نميري في العمل السياسي في الجنوب وحله للمجلس التشريعي عدة مرات وقد أتهم بتكوين حزب غير شرعي وهو مجلس وحدة جنوب السودان الذي كان بنده الأساسي هو الإعتراض على إقتراح تقسيم الجنوب لثلاثة أقاليم. ولقد كان السيد صموئيل أرو إلى جانب ذلك رئيسا لحزب سانو.


    وكنت أجد السيد أرو يلعب الشطرنج مع نفسه، فسألته لماذا يفعل ذلك فقال أنه لوحده وهذه هي الطريقة لتسلية نفسه فعضت عليه أن ألعب معه ووافق الشاويش على السماح لي بالعب معه يوميا وكان يهزمني رغم أنني أعد نفسي من لا عبي الشطرنج الحريفين وللحقيقة لم ألعب حتى تاريخه مع أي لاعب سوداني أن أجنبي أحرف من السيد صموئيل أرو. وأصبحنا أصدقاء وأمتدت صداقتنا بعد المعتقل حتى أنه ساعدني أثناء الديمقراطية الثالثة في التحضير لحفل وموكب إعلان المنظمة السودانية لحقوق الإنسان، وكان السياسي الجنوبي جات كوث بسأله من أين تعرف هذا الجلابي فيقول "My prison mate أي رفيق سحني (أو ود سجنتي كما نقول).


    رجوعي لبورتسودان


    ولم تطل إقامتي بكوب أكث من أسبوع، فعندما جاء مدير السجن في المرور وسألني "كيف الأوضاع في سجن بورتسودان" لم أتردد في أن أقول له "أحسن من هنا" فقال لي "يعني عايز ترجع" قلت له "نعم" فتمت إعادتي لبوتسودان.


    تقسيم الجنوب لثلاثة أقاليم


    أجريت إنتخابات مجلس تشريعي الجنوب في أبريل 1983 بينما صموئيل أرو ما زال في المعتقل مما أدى لتفتيت الجبهة المعادية لتقسيم الجنوب وأدى لإنتخاب السيد جوزيف جيمس طمبرة رئيسا للمجلس التنفيذي لجنوب السودان بتأييد من نواب الإستوائية والنوير والشلك والقبائل الصغيرة في بحر الغزال بينما كان قادة الدينكا الكبا يتنافسون فيما بينهم: بونا ملوال، بيت جاتكوث، هيلري باولو لوقالي والعم كلمنت أمبورو. وقد ساعد ذلك الإنقسام في إطلاق يد نميري لتقسيم الإقليم والذي مهد له بإعفاء أبيل ألير من منصب نائب رئيس الجمهورية وتعيين جزويف لاقو المؤيد والداعي للتقسيم. وهكذا قرر نميري في 5 يونيو 1983 تقسيم الجنوب وتعيين حكام للأقاليم يحمون بدون مجالس تشريعية لمدة 18 شهرا.


    كنا نستمع لهذه الأخبار من الإذاعة السودانية والإذاعات الأجنبية وتأتي لنا بها الجرائد فتتفتت همومنا الشخصية وتتعلق قلوبنا بمصير البلد وكنا نستغرب أن ينسف نميري الإنجاز الوحيد له في حكمه بهذه القراات الطائشة.


    الحرب تشتعل في الجنوب


    ثم جاءت الأخبا لتؤكد ما كنا نخافه الجوع للحرب الأهلية من جديد، بدأت الإرهاصات بقيام أنيانا تو ثم ظهرت الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيش تحرير السودان وتوترت العلاقات المتردية مع أثيوبيا، وأصبحنا نلاحق الأخبار وكانت إذاعتا أثيوبيا وليبيا تذيعان برامج خاصة بالسودان.


    إضراب القضاة الثاني

    في هذه الظروف بدأت الحركة الجماهيرية في الصعود وتمت مواجهة بين نميري والقضاء ادى لتقديم القضاة لإستقالات جماعية وشن نميري هجوما فاجرا على القضاة وأتمهم بالفساد وتوعدهم بقبول إستقالاتهم مما أدى لقيام حركة تضامن معهم قادها أساتذة الجامعات والمحامين.
    قوانين سبتمبر ورقة التوت الأخيرة

    وفاجأ نميري الجميع بأن أعلن في 8 سبتمبر 1983 قانونا جنائيا جديدا وعدد من القوانين الأخرى كقانون الإجراءات الجنائية وقانون المعاملات المدنية وغيرها متبنيا تطبيق الشريعة الإسلامية وإطلاق سراح جميع المساجين الذين حوكموا بقوانين وضعية وإعطاء كل واحد منهم 100 جنيه واعلن عن إحتفال للتخلص من مخزون الخمور في البلاد بتحطيمها ودلقها في نهر النيل. كما عين محاكم للعدالة الناجزة وعين دفع الله الحاج يوسف رئسا للقضاء وكانت تلك أول مرة في تاريخ السودان الحديث يتم فيه تعيين رئيس للقضاء من خارج الهيئة القضائية.
    لم يكن إعلان الشريعة وتطبيقها في ذلك الوقت يحمل غير معنى واحد أن أزمة النظام تتفاقم وأن الحركة الجماهيرية بدأت تتصاعد وأن لا سبيل لوقفها بدون إجراءات قمعية تستعمل فيها الشريعة الإسلامية


    إطلاق سراحي


    وبينما نحن في خضم متابعة الأحداث الدرامية التي تمر بها البلاد ناسيين همومنا الشخصية، وكنت قد إنتهيت من دورتي في إعداد الطعام وتناول الجميع العشاء وأخذت كوبا من القهوة وجلست أحتسي قهوتي واستعد لبرنامجي المسائي من قراءة وكتابة ومتابعة أخبار، إذا بالخاتم يأتيني ويقول لي " قوم لم عفشك أطلقوا سراحك" فقلت له بإستنكار "بلش الهظار البائخ دة" فأقسم لي "وشرفي أنا ما بهظر" ونادى العسكري فضحكت وقلت كمان مقلب بعسكريه، ولكنهم أصروا وقدم العسكري لي ورقة يحملها في يده قائلا "شوف الورقة" وكان مكتوب غسمي وأمامه يحضر بعفشه.


    وأصطف الزملاء لتوديعي فقلت لهم جملة قالها عبدالله علي إبراهيم أيام عبود والرفاق يودعونه في عطبرة "إلى اللقاء في دار الحزب الشيوعي بالخرطوم" وخرجت ويحمل المساجين عفشي أتبع العسكري "إطلاق سراح وبالليل، الواحد يمشي وين حسع!" ووجدت أفراد من الأمن في إنتظاري وأخذوني في عربة لمكتب الأمن ببورتسودان. وطلب مني الضابط أن أوقع على ورقة بأن أحضر لرئاسة الأمن بالخرطوم بعد 48 ساعة فرفضت التوقيع قائلا هذا مستحيل فحتى لو وصلت بعد 48 ساعة أسلم على أهلي وأعزي في البكيات وأبارك الأفراح أم أذهب للأمن فقال هذه التعليمات قلت لن أوقع قال لي التعليمات أن أطلق سراحك بعد التوقيع قلت لن أوقع فدخل وخرج وأتى وقال خلاص تذهب بعد أسبوع قلت ليس لدي مانع. قال لي مع السلامة، قلت ليه أمشي وين حسع قال لي ما عارف ما عندك أهل هنا، قلت ليه عندي لكن ما بعرف أين يسكنون فسألني من هم فقلت أبناء المرحوم أحمد سمساعة، قال لي نحن نوصلك ليهم وفعلا أخذوني بعربة لمنزل المرحوم أحمد سمساعة وفوجئت أختي أرملة المرحوم وبنتاها وأبناها بدخولي المفاجئ عليهم وفرحوا بكي وأكرموا وفادتي وقضيت الليلة عندهم وفي الصباح إتصلت بالزميل عبدالرحمن الأمين وبقية الزملاء ببورتسودان الذين ساعدوني في السفر.


    وقابلت الأطباء لشكرهم وكان الدكتور أسامة الفيل مصرا أن اقضي معه ولو يومين فأخبرته بمواعيدي في الأمن وساعدني في الإتصال بأهلي في أدرمان الذين نسقوا للقائي في الخرطوم بحري. وهكذا أطلق سراحي في نوفمبر 1983.


    وكنت طوال الطريق من بورتسودان أفكر "لم أطلق سراحي في ذلك الوقت بالتحديد؟"


    ولم أجد الإجابة إلا بعد وصولي.


    وكانت الإجابة عجيبة! لقد كانت شقيقتي الأصغر الأستاذة علوية كبلو والتي تعمل معلمة تدرس بمدرسة الراهبات بالخرطوم وكان ضمن تلامذتها إبنة للواء الفاتح الجيلي نائب رئيس جهاز الأمن، فحاولت المعلمات من زميلات شقيقتي أن يقنعوها بأن تأخذ تلفون اللواء الفاتح وتحدثه عن إستمراري في الإعتقال لأكثر من أربعة سنوات ولكن أختي رفضت قائلة أنني لن أقبل ذلك فما كان من المعلمات إلا أن يطلبن التلفون ويتحدثن مع اللواء الفاتح الذي أنكر معرفته بأي معتقل يقضى مثل هذه الفترة في المعتقل فاستدعوا شقيقتي علوية للحديث معه فأكدت له المعلومة فوعدها أن سينظر في الأمر، وكان هذا هو السبب المباشر في إطلاق سراحي. ولا تعليق لي على ذلك غير سؤال ماذا كان سيحدث لو لم تقم هذه المجموعة من المعلمات بالإتصال باللواء الفاتح الجيلي؟ أظن أنني كنت سأمكث حتى الإنتفاضة مثلما حدث لبعض المعتقلين معي والذين أعتقلوا معي في نفس الفترة من عام 1979 مثل الأستاذ يوسف حسين والدكتور محمد مراد الحاج.


    آمنستي تقدم لي المساعدة


    بمجرد قيامي بواجباتي الإجتماعية من إستقبال الأهل والتعزية في الموتى وغير ذلك من الواجبات الإجتماعية المؤجلة لإثنين وخمسين شهرا، كان الواجب المقدم هو الكتابة لمجموعة آمنستي إنتناشونال ببروكسل التي كانت تتبنى قضية الدفاع عني. كتبت لهم أشكرهم وأخبرهم بنبأ إطلاق سراحي، فكتبوا لي شاكرين وأرسلوا لي شيكا بمبلغ من المال لكي يساعدني في مواجهة حياتي بعد خروجي من المعتقل. وقد ساعدني ذلك المبلغ في مواجهة بعض المنصرفات الملحة كإصلاح عربتي وشراء ملابس بع 52 شهرا.


    مقابلة جهاز الأمن


    وقمت بعد أسبوع من إطلاق سراحي بالذهاب لجهاز الأمن، وأستقبلت إستقبالا طيبا، ولم يطلب مني أي شئ وقالوا فقط يريدون مني ألا أقوم بأي عمل معاد للدولة، وكانت المرة الوحيدة التي قلت فيها خلال فترات إعتقالي كلها "أنكم لم تعتقلوني لأنني قد قمت بأي عمل معادَ للدولة" ولم يستم الحديث كثيرا وشكروني على الحضور.


    عودتي للعمل


    وذهبت من هناك لمجلس الأبحاث الإقتصادية حيث قابلت البروفسير إبراهيم حسن عبدالجليل مدي المجلس الذي رحب بإطلاق سراحي وعودتي للعمل وطلب من سكرتيرته إخطار الأمانة العامة للمجلس بعودتي للعمل وهكذا إنخرطت من جديد في العمل والرجوع لجو البحث والتدريس. ولا بد لي هنا من الإشارة أنه بفضل الأساتذة الكرام العاملين في المجلس القومي للبحوث حينها أنني لم أفصل من العمل خلال إعتقالي مرتين وأن أعمل بالمجلس. ولعلي من المحظوظين القلائل الذين لم يفصلوا من العمل إطلاقا خلال فتة حكم نميري.


    طلب مني البروفسير إبراهيم أن أبدأ بملأ فورمات لتقديم لكورسات قصيرة قائلا "عايزك تسافر برة لسببين: الأول هو ترتاح من فترات الإعتقال والثاني تستعيد علاقتك بالأكاديميات".


    وفعلا ملأت عدة طلبات أحدهما لكورس في إعداد وتقييم المشروعات الزراعية بتركيا والآخر في تخطيط التنمية الإقتصادية بنابلي بإيطاليا وكان الكورسان عبارة عن منح لا تكلف حكومة السودان شيئا. وفي إنتظار نتائج الطلبات إنخرطت في أعمال بحثية متعددة وفي نشر بعض ما كتبت في السجن وفي حضور سمنارات المجلس ومركز الدراسات الإنمائية بجامعة الخرطوم، كما بدأت تدريسا في كلية الإقتصاد جامعة الخرطوم. وعدت للتعاون مع البروفسير علي عبد القادر الذي إنتقل حينها للمصرف العربي الأفريقي في الخرطوم.


    سكرتارية اللجنة المركزية تنتدب سليمان حامد للقائي


    وقابلت الأستاذ محجوب عثمان في زواج إبن شقيقته ورحب بخروجي من السجن وكنت آخر مرة ألتقيته في سجن كوبر بقسم الشرقيات في عام 1979 وقال لي الجماعة ديل (يقصد السكرتارية ليست لديهم فكرة عن إطلاق سراحي)، ووعد بإخبارهم . ولم يمض على ذلك الحدث أيام حتى جاءتني بالمنزل المرحومة سميرة إسحاق وبلغتني بمكان وزمان مقابلة رتب لي مع الحزب. وذهبت سائقا عربتي ولم يكن يخط ببالي أن من ألتقيه هو الأستاذ سليمان حامد وكان قد إختفى من جديد بعد إطلاق سراحه. وبع التحايا والسلام وبعض القفشات بلغني الزميل سليمان تحياة سكرتارية اللجنة المركزية وتقديرهم لصمودي ومساهمتي في المعتقل، وسألني السكرتاية تريد أن تسألك "ماذا تريد أن تفعل؟ هل تريد أن تذهب في رحلة للعلاج والراحة أو بعثة دراسية أو المساعدة في بحث عن عمل؟" فقلت له ضاحكا "ماذا يحدث في السكرتارية أيه الطراوة دي؟" فضحك سليمان وقال "أنا قلت ليهم ما تقول للزول دة كلام دي دة هو حيستفذ" فقلت له "مطالبي بسيطة أن يتم توصيلي بسرعة لفرع أو هيئة أماس فيها نشاطي وأن توف لي وثائق الحزب التي لم تصلني" وقلت له "على أي حال أشكر السكرتارية نيابة عني وقول ليهم مشكلة الشغل محلولة وأنا رجعت العمل وأنتهيت من الماجستير ورسالتي الآن عند الممتحن الخارجي، وأما الدكتوراة فسأنتظر دوري في البعثات الحكومية". وأوصلت الزميل سليمان بعربتي حيث أراد وودعته وعدت إلى منزلي وأنا مرتاح البال. لقد تركت مقابلة سليمان لي أثرا طيبا في نفسي، وشعرت إهتماما من الحزب بكوادره وأعضائه.


    استمرار رقابة الأمن بعد خروجي


    وتلقيت خلال تلك الفترة بعض الرسائل حول الحد من حركتي ومراعاة قواعد التأمين في عدم زيارة بعض الرفاق في مكاتبهم، وكنت أشعر بالمراقبة من قبل جهاز الأمن، حتى أن زوج أختي نجاة المرحوم الحاج أبوالوفا غضب ذات مرة عندما ذهبت لزيارتهم وتبعتني إحدى عربات الأمن، فذهب في الصباح لأحد أصدقائه في الأمن محتجا، فأحضر صديقه تقرير المراقبة ورصد له حركتي، فبرر المرحوم الحاج كل مشاوير: ذهبت الثوة عدة مرات لزيارة أختي بلقيس وفتحية، ولزيارة بنتي، وذهبت لنمرة ثلاثة لزيارة خالاتي وأذهب للحلفاية لزيارة أخي محمد وذهبت للعباسية لزياة أخي صفوت، فضحك صديق نسيبي وقال تصور كنا سنعتقله لأن التقارير تقول أنه يجمع فروع مديرية الخرطوم. وكانت النتيجة أن رفعت عني الرقابة.


    إختياري في اللجنة الإقتصادية

    وعرف الحزب بطريقته أن الرقابة رفعت عني، فأرسل لي زميلا في مكتبي بمجلس الأبحاث الإقتصادية ليبلغني بإختياري عضوا باللجنة الإقتصادية التابعة للجنة المركزية، وبدأت فورا حضور اجتماعاتها وعملت مع الزميل نقد الذي كان يشرف على اللجنة ويحضر إجتماعاتها بإنتظام والمرحوم حمزة زروق ذلك الشيوعي العالم العظيم ذو الخلق الرفيع، والذي طوال فترة عملي معه لعدة سنوات في اللجنة الإقتصادية لم يعتذر عن أداء أي تكليف كلف به وكانت كتاباته دائما عميقة ودقيقة وعلمية. وقد حزنت كثيرا لوفاته وأنا خارج الوطن.وأستمر عملي في اللجنة الإقتصادية حتى سفري لأيطاليا في نوفمبر 1984 وأذكر أنني عندما أخطرت اللجنة الإقتصادية بموضوع سفري أن قال صديقي حمزة "حتسافر بهنا وحنعمل الإنتفاضة بوراك" فقلت له "يا أخي أنا ساكيها الوقت ده كله تعملوها بوراي" وكان نقد يستمع لحوارنا فقال لي "تعرف يا صدقي أصله البسكوها ديل ما بحصلوها". والطريف أنني لم أحضر الإنتفاضة وكذلك صديقي المرحوم حمزة زروق الذي سافر بعدي للخارج في بعثة قصيرة.
                  

07-21-2009, 07:49 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    وصلتني على بريدي الخاص الرسالة التالية وقد أذن لي كتتبها بنشرها
    الاستاذ صدقي كبلو
    تحياتي

    اتابع بشغف تلك السيرة الممتعة بسجن بورتسودان رغم قساوة التجربة ، حيث كنا يومها ثلاثة من طلاب مدرسة بورتسودان الحكومية واعتقلنا في ذات الغرفة التي كان يقيم فيها محمد علي سعيد ، يومها كنا بمدرسة بورتسودان الحكومية وكان فرع الجبهة الديمقراطية بالمدرسة نشطا تخت رعاية الاستاذ الفذ حسن عبيدي مدير المدرسة
    يومها كنا نشعر بكثير من الفخر في ذلك المكان الموحش لكنا كانت تجربة ثرة ، وكنا نراك بعد خروجنا من السجن وانت في طريقك الى مستشفى بورتسودان من حين الى اخر 00
    تحياتي
    د . عبد المطلب صديق
    قطر

    وأرسل لي أيضا هذا الرد على طلبي:
    الاخ العزيز صدقي كبلو
    لا مانع بالطبع من نشر تلك الرسالة
    واذكرك ابضا بان الاستاذ حسن عبيدي كان مديرا لمدرسة بورتسودان الحكومية العريقة التي تحولت الان الى جامعة البحر الاحمر ، وقد رافقنا في المعتقل في تلك المرحلة الباشمهندس صيام قريب المرحوم علي دهب حسنين وقد لعب الاخير دورا مهما في اطلاق سراحنا للجلوس للامتحانات ، وقد كان الاستاذ حسن عبيدي يشغل منصب سكرتير عام امتحانات السودان الا انه نقل مديرا للمدرسة الثانوية من باب المكايدة وقد ترشح في انتخابات الديمقراطية الثالثة في دوائر الخريجين مستقلا ومدعوما من الحزب الشيوعي 00 ومن الزملاء الذين طاردتهم اجهزة الامن يومها رئيس المكتب التنفيذي للتحالف امير بابكر ، ولا زلت اذكر احد المعلمين وقد وجهت له تهمة القول بان البيضة حية لان فيها شروط الحياة وهي النمو والحركة وكان المعلم المذكور قد قال هذا الكلام في ندوة عام 1964 فذكره جهاز الامن بهذا القول على سبيل الاشعار بالمراقبة اللصيقة والمستمرة وذكروه بان البيضية ميتة ولكنها تخرج الحي من الميت على حسب تفسيرهم 000 على كل لك الشكر على هذا السرد التاريخي المهم وهو يصلح لان يكون كتابا توثيقيا مقروءا 00 لك التحية على هذا التوثيق الرائع .
    د . عبد المطلب
                  

07-26-2009, 10:34 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    تلك الأيام في سجون نميري "الحلقة الأخيرة " ... بقلم: صدقي كبلو
    الأحد, 26 يوليو 2009 20:56


    الفصل السادس: خاتمة
    نظرة إلى الوراء ... نظرة إلى الأمام

    "اليوم عندما أنظر من وراء هذه السنوات الطويلة أشعر بالسعادة والفخر بفكر تقبلته مختارا وبمنهج سلكته عن اقتناع تام وارتاع لمجرد التفكير في أنني لو لم أكن شيوعيا ماذا كنت أصبح؟" عبد الخالق محجوب، دفاع أمام المحاكم العسكرية

    وأنا أنظر اليوم من وراء تلك السنوات الطويلة أسأل نفسي: هل كان كل ذلك ضروريا؟ وللوهلة الأولى قد يبدو ذلك سؤالا بسيطا إجابته بسيطة، ويتوقع البعض أن أجيب بنعم وعيني مغمضة ودون أن يرتعش لي جفن! ولكن المسألة ببساطة أنني مثل أي شخص آخر أحب حريتي وكنت أود أن أستمتع بحياتي ووقتي بشكل أختاره أنا ولم يفرض علي. صحيح أن صمودي كان ضروريا لأكون نفسي، لأدافع عنها وعن ما أرى هو صحيحا لبلدي ولشعبي ولنفسي، وان أكون منسجما مع قناعاتي الفكرية, ويبقى السؤال: لماذا اعتقل إذن؟ هل كان إعتقالي ضروريا؟ قد ترى أجهزة الأمن التي أعتقلتني ذلك فهي تحرس أنظمة ديكتاتورية ولكني لا أعتقد أن إعتقالي أو أي من رفاقي أو أي من المعتقلين الآخرين كان ضروريا، وأن نظاما لا يستطيع أن يحتمل رأينا ومعارضتنا السلمية لا يستحق أن يحكم بلادنا وشعبنا، وأن الفيصل في قضية الحكم والبرامج التي تطبق والمصالح التي تخدم ينبغي أن يكون الشعب، ولذا لا بديل للديمقراطية وإحترام الحقوق والحريات الأساسية:
    • الحق في الحرية الشخصية، بحيث لا يتعرض الشخص للإعتقال أو التوقيف أو التفتيش بدون أمر قاض أوبدون شبهة إرتكابه لجريمة محددة، يعرض فيها خلال 48 ساعة لقاضي لينظر في أمر حبسه على ذمة التحقيق، إطلاق سراحه بضمان أوبدونه، على أن يقدم لقاضيه الطبيعي، بمعنى القاضي المختص مكانيا ونوعيا قبيل إتهامه ووفقا لإجراءات القانون العامة التي يخضع لها الجميع ووفقا لقانون سائد منسجم مع الدستور ولكل مواطن في السودان الحق في حرمة حياته الشخصية والعائلية، و لا يجوز التجسس على حياته الخاصة أو فتح مراسلاته أو التصنت على محادثاته التلفونية أو أخذ صورا أو أفلام له ولعائلته دون موافقته أو بناء على أمر محكمة ذات إختصاص.
    • الحق في حرية التعبير وتلقي المعلومات لأن القاعدةأن يكون لجميع الأشخاص الحق في التعبير عن آرائهم والحق في إصدار المطبوعات والصحف والنشرات والكتب، والحق في التجمع والتظاهر وتسيير المواكب السلمية وينظم القانون هذه الحقوق دون أن يتغول عليها أو يفرض على ممارستها شروطا تجعل الاستمتاع بها مستحيلا أو حكرا لفئة اجتماعية معينة.
    • الحق في حرية التنظيم والتجمع لأن الأصل في الحقوق الأساسية أن يكون لجميع الأشخاص في السودان حق تنظيم وتكوين الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والنقابية والاجتماعية وعضويتها وينظم القانون هذه الحقوق دون أن يتغول عليها أو يفرض على ممارستها شروطا تجعل الاستمتاع بها مستحيلا أو حكرا لفئة اجتماعية معينة.
    إن هذه الحقوق الأساسية هي جوهر الديمقراطية، بل هي جوهر حقوق الإنسان الأخرى المدنية والسياسية والإقتصادية، فبدون الحرية والحق في حرية التعبير والتنظيم تصبح الديمقراطية مزيفة وتصبح الحقوق الأخرى بلا معنى حقيقي. لقد كان هذا هو الدرس الأساسي الذي تعلمته من معتقلاتي وعبرت عنه بشكل أكاديمي في مقالتي عن حقوق الإنسان والديمقراطية في أفريقيا التي نشرتها مجلة الدراسات السياسية، المجلة العلمية حمعية العلم السياسية في بريطانيا وأعيد نشرها في كتاب ديفيد بيثام عن "السياسة وحقوق الإنسان" الذي نشرته الجمعية في عام 1995 وأصبح مرجعا هاما لطلبة العلوم السياسية في العالم.
    طبعا أنا أفهم لا كما صور بعض نقادي من اليساريين الأوربيين النخصصين في الدراسات الأفريقية والذين ينصبون نفسهم عراب ومنظرين للثورة الأفريقية دون إذت من الثوريين الأفارقة، أن الديكتاتورية ومصادرة الديمقراطية هي أحد وسائل وأسلحة الصراع الطبقي، ولكن خطابي الذي يبدو محايدا وداعيا للديمقراطية وحقوق الإنسان هو أيضا سلاحا طبقيا لأنه يدعو لحقوق الجماهير وللتطور السلمي الديمقراطي للبلدان الأفريقية
    الصمود الجماعي
    وأنا أنظر وراء تلك السنوات لا ينتابني أي شك أن صمودي لم يكن فقط نتاجا لشجاعة أو قناعة شخصية فردية، بل كان أيضا وفي الأساس نتاج لصمود جماعي ولحركة سياسية ديمقراطية قاومت الديكتاتورية وناضلت من أجل الديمقراطية، كان في قلبها الشيوعيون والديمقراطيون ووطنيون كثيرون من قادة وأعضاء الأحزاب الأخرى والذين ذكرت معظم من عاصرتهم في هذه المذكرات ونسيت عددا كبيرا بفعل الزمن والإعتماد على الذاكرة بعد أكثر من ثلاثين عاما من أول إعتقال.
    لقد أستطاع الشيوعيون والديمقراطيون تحديدا في المعتقلات أن يأسسو حياة رفاقية تعاونية في مجال معيشتهم، فلم يكن الفقير منهم يحس بأي تفاوت في مستوى معيشته وفي تناوله للمكيفات، فقد كان الكميون يتكفل بخدمة الجميع. كما تعلم الشيوعيون كيف يخدمون بعضهم في ورديات لم يتذمر أحد منهم في القيام بدوره وكان حتى كبار السن يرفضون غعفائهم وكنا نتحايل عليهم بأن نضعهم في ورديات الشباب النشطين.
    كما أستطاع الشيوعيون والديمقراطيون جعل السجن جامعات للماركسية والمعارف الإنسانية وحقول للثقافة وتبادل المعرفة والتسلية الذكية المطورة للمواهب الفنية والأدبية، فكم من فنان وأديب كشفت السجون عن مواهبهم.
    وكما أوضحنا فقد حفلت المعتقلات بالرياضة من يوقا وكرة طائرة وكرة قدم وجري ومشي، وحفلت بالرياضة الذهنية مثل الشطرنج والويست والكنكان,
    وقد ساعد كل ذلك في الصمود الفردي والجماعي وقد لعب بعض المعتقلين أدوار بارزة في ذلك مثل الأستاذ المهندس صديق يوسف منظم أكبر معتقل في تاريخ السودان المرحوم عباس علي والمرحوم عبد الكريم ميرغني والمرحوم السر أحمد البشير والمرحوم صلاح مازري والمرحوم قاسم أمين والمرحوم عبد المجيد شكاك والمرحوم مصطفى أحمد الذين نقاوا التجربة للشباب وما بخلو. والدكتور خالد حسن التوم والمرحوم بدر الدين مدثر وفاروق كدودة وخليل الياس من قادة المعتقلات ومفاوضي سلطات السجن والأساتذة عبدالله علي إبراهيم وعبد القادر الرفاعي ابراهيم الجزولي وجمعة جابر وكمال الجزولي والسر الناطق وياسر الطيب وحسن قسم السيد وسعودي دراج وعلي العسيلات وميرغني عطا المنان والتجاني حسن من محرري مجلات المعتقل ومخرجي المسرحيات والأسكنشات وكاتبيها. والأساتذة محمد وردي ومحمد الأمين وإدريس إبراهيم من الفنانين وكذلك المرحوم طه البصير والمرحوم حسن بيومي وعوض عبد المجيد وحسن إبراهيم ومحجوب داؤد وعبدالرؤوف علي أبنعوف من منظمي الكميونات ومسئوليها, وكان العم محمد عبد الغفار في عدد من المعتقلات إتحادا كاملا لكرة القدم ومشجعا مدهشا وساخرا يضحك الجميع. وغيرهم كثيرون من أبطال العمل الثقافي مثل الدكتور مراد وإبراهيم جادالله والخاتم عدلان وهناك أناس كان المعتقل بدونهم سيكون ثقيلاً وذلك لقدرتهم على الحكي والدردشة والنكتة مثل عمر الدوش الشاعر المبدع، وخليل ألياس وعلي الكنين وكسباوي ومحمد ميرغني نقد وحسن قسم الله ومحمد عثمان طه ودكتور حزمر وهاشم سوركتي ومحمد مراد.
    ولم يكن صمود المعتقلين ممكنا بدون دعم أسرهم ولم يعرف تاريخ المعتقلات أيام نميري غير حوادث لا تتجاوز عدد أصابع اليد بأسر ضغطت على أفرادها في المعتقل أو طلبت منهم التخلي عن الطلريق الذي أختاروه، بل أن الأسر كانت تستقطع من لقمة عيشها لتوفر للمعتقلين بعض الضروريات، بل أحيانا كثيرا من الكماليات. ولم تكتف الأسر بكل ذلك بل نظمت حملات مطالبة مسنودة بالحزب الشيوعي والإتحاد النسائي لإطلاق سراح المعتقلين.
    التضامن الأممي والدولي:
    ووجد المعتقلون دعما وتضامنا أمميا واسعا من الأحزاب الشيوعية والإشتراكية والليبرالية ومن النقابات والإتحاد العالمي للنقابات والإتحاد الديمقراطي العالمي للشباب والإتحاد الطلابي العالمي، وكثير من المنظمات الوطنية والعالمية.
    وكان دعم منظمات حقوق الإنسان العالمية دعما نوعيا مغايرا في خطابه وأسبابه وأهدافه وتأتي في مقدمة هذه المنظمات منظمة آمنستي العالمية التي لم تكتفي بتبني المعتقلين كسجناء رأي، بل ساهمت في علاجهم وفي دعم أسرهم.
    نظرة إلى المستقبل:
    أكتب كل هذا وعيني على مستقبل ديمقراطي تحترم فيه حقوق الإنسان، فنحن على أعتاب لآخر عهود الديكتاتوريات وأكثرها بشاعة، ولكني كلي أمل في المستقبل وعلى إستعداد لتقديم تضحيات أكثر من أجل مستقبل تحترم فيه الحقوق الأساسية وتتخلل الديمقراطية كل خلايا مجتمعه.
    وأملي في أجيال جديدة حملت راية الكفاح ضد اليكتاتورية العسكرية للجبهة الإسلامية وهدفي أن أنقل لها تجربة من الماضي، فهل بلغت؟





                  

08-17-2009, 03:17 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    بدأنا في المراجعة النهائية لإرسال المذكرات للطباعة، ونرحب بأي ملاحظات قبل النشر
                  

08-18-2009, 06:29 AM

محمد أبوالعزائم أبوالريش
<aمحمد أبوالعزائم أبوالريش
تاريخ التسجيل: 08-30-2006
مجموع المشاركات: 14617

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: Sidgi Kaballo)

    د. صدقي .. تحياتي.

    لم أتداخل - رغم متابعتي - حتى لا أعيق هذا السرد الهام.

    Quote: بدأنا في المراجعة النهائية لإرسال المذكرات للطباعة، ونرحب بأي ملاحظات قبل النشر


    سنكون بانتظار النسخة في المكتبات. ولكن أستسمحك في الإحتفاظ بنسخة مطبوعة من هذا البوست (شفقة ساكت) قبل صدور الكتاب.

    لك التحية.
                  

08-18-2009, 12:10 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تلك الأيام في سجون نميري (Re: محمد أبوالعزائم أبوالريش)

    شكرا يا محمد أبوالريش
    لك ما تريد، ولهذا نشرناه في الإنترنت اولا
                  


[رد على الموضوع] صفحة 2 „‰ 2:   <<  1 2  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de