أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!.

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 03:39 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عبدالغني كرم الله بشير(عبدالغني كرم الله بشير)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-19-2007, 07:34 AM

عبدالغني كرم الله بشير
<aعبدالغني كرم الله بشير
تاريخ التسجيل: 12-06-2005
مجموع المشاركات: 1082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!.



    أمير تاج السر يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد

    كتب - محمد الربيع


    في نهاية الثمانينيات، سطعت في جبهة السرد في السودان، وفي الوطن العربي، شمس القاص والراوئي أمير تاج السر. التي تسللت أشعتها في هدوء وخفر، في عمل روائي حمل اسم مسقط رأسه في شمال السودان، قرية «كرمكوك»، ثم استوت ظهيرتها في سطوع باهر في مرايا ساحلية وسماء بلون الياقوت وصيد الحضرمية وعداء المهاجر ونار الزغاريد، ومهر الصباح، وأخيراً زحف النمل التي صدرت حديثاً عن دار ميريت في مصر.

    أدهش أمير تاج السر قراء الرواية بقدرته الفذة على تحويل طين الواقع والوقائع إلى ذهب من السرد، بواسطة مخيلة باذقة تختزن أدق التفاصيل، وتعيد بناءها في مهب لغة تهدر مع زحامها وتصفو وتصبح في غاية العذوبة، في لحظات هدوئها ودعتها وسكونها.

    فأمير تاج السر حكاء بامتياز، ينطبق عليه قول ماركيز، ان الاشياء والتفاصيل تأخذ معناها وتكتسب قيمتها فقط عندما تتحول إلى قصة أو حكاية، وذلك باستدعاء الاشياء والتفاصيل إلى نول القصة لاعادة نسجها بواسطة ادوات السرد ولغته الساحرة.وهو طبيب وثيق الصلة بالناس وبهواجسهم وهمومهم، ومشاكل أجسادهم وأرواحهم، مما وفر له قاعدة معلومات، ضبطت العلاقة بين الواقع والخيال في سرده، وجسرت المسافة بين الوقائع والمثال الجمالي الذي تخلقه لغة مكتنرة بجماليات الكتابة. فنصوصه ورواياته، رغم نزعتها الجمالية القاصدة إلى تحويل الواقع إلى فن، إلا انها مرتبطة بهذا الواقع بشكل لصيق وحميم، لأنها ضاربة الجذور في حياة شخوصه، الذي يلتقط ملامحهم بعين حاذقة، ويخرجهم من سياقهم العادي، ويقذف بهم في معمعة الحكايا، فتبرق احوالهم وتضيء في النصوص.



    والذي يرصد تجليات «الطيب» في نصوصه، يستطيع ان يجد ذلك في النظرة الفاحصة والتفصيلية للشخصيات، وترك الشخصية تفصح عن ملامحها من خلال صوت المتحدث الأول الذي يجعلها تكشف عن هويتها في مسرحه، إلى جانب الوصفات الطبية التي لم يكتف بنقلها إلى النصوص، بل «شخصها» هي ذاتها وحولها إلى بطل من أبطال الرواية إلى جانب الشخصيات الانسانية الحية والفاعلة في النسيج الحكائي.

    إن سحر كتابة أمير تاج السر، لم يتأت وفق ظني من استخدامه لما سماه بعض الكتاب والنقاد باستلهامه للواقعية السحرية، أو الواقعية الشعرية كتكنيك للروي والحكي، بل في قدرته على إبراز السحر والجمال والغموض والمدهش والغرائبي في مصائر وأحوال أناس، «ليسوا من أميركا اللاتينية» ولكن من قرى يهرب منها ضوء الشمس عند الخامسة، ويتركها غارقة في أثير من الحكايات الحزينة والسارة والشجية والفاجعة .. إلخ.

    وأحيانا يبلغ تاج السر في الاهتمام بالكشف عن مكونات الشخصية، مدى يشعر فيه القارئ بالتماهي معها، ورواية «زحف النمل»، موضوع هذه الكتابة، تمثل نموذجا للانهماك في التبحر في ملامح وأحوال الشخصيات، وجعلها تعبر عن نفسها فيمسرح الحكي.

    إلى جانب السرد، يكتب أمير تاج السر الشعر وله مجموعة شعرية صادرة، تؤكد هذا الانشغال، ولكن منذ أن اكتشف القاص الكبير الراحل عبد الحكيم قاسم طاقته السردية الهائلة، استسلم لغواية الحكي، وسرنم وراء مزمارها، إلا أنه ظل يستعحب «الشعرية» في رؤيته للشخوص، فأعطاه ذلك امتيازا إضافيا، بضخ وقود جمالي مضاف إلى جمال السرد.

    ومن خصوصية المكان في الحكاية والملامح الحائزة لشخوصها، وجماليات الكتابة الشعرية، استطاع امير تاج السر أن يخرج بنصوصه من حدود المحل والمكان، لتدل وتوحي في أي زمان ومكان، تعبر حدود انتاجها وزمانها ومكانها لتحلق بجناحين من سرد وشعر، لذلك وضع الكاتب محمد الخولي نصوصه بأنها ذات مذاق خاص وايقاع فريد، لكنه ينشر أعماله في المغرب وتتحمس له القاهرة، وتصفه بغداد بالساحر، انطلاقا من تقييم الروائى الكبير جمال الغيطاني له، والناقد فاروق يوسف، إذ اعتبره الأول من الكتاب العالميين، واعتبره الثاني ساحر يعبئ قيعته بالوقائع، وسحره لا يخطى هدفه أبدا.

    وكلمة الروائي المصري عزت القمحاوي، في تقديمه لفصول من «زحف النمل» في البستان جريدة أخبار الأدب، تشير بوضوح إلى تشابك علاقات السرد والشعر وسحر المناخات في أعمال تاج السر إذ يقول: أعماله السردية الأولى كانت مسكونة بلغة شعرية، ثم كان تقدم السرد الذي بدا بارزا في روايته السابقة مهر الصياح التي صدرت عن دار ورد بدمشق عام 2004، مهر الصياح رواية تنتمى بامتياز إلى روح الواقعية السحرية، ففي تلك المتاهة السردية يبني أمير تاج السر سلطنة انسابه التي يعتمد التفاهم فيها بين السلطان رغد الرشيد وبين رعيته علي الصياح، الرعية تصيح بشكاواها أمام القصر، وتنقل الصيحة إلى السلطان في مجلسه عبر سلسلة من سبعة صياح من خاصة السلطان، الذي يتأمل الشكاية أو المطلب ويطلق حكمه الذي ينتقل إلى صاحب الشكوى عبر الحلقة السباعية ذاتها، وعلى الصائح ان ينتظر يوما أو بعض يوم أو إلى الأبد، لكي يعود إليه الرد، وربما عاد الرد فورا ليأمره بالصياح في العام التالي!

    الرواية لا يمكن تلخيصها، وعلى الرغم من التراتب الهرمي الظاهري، فإن الشخصيات المتعددة داخلها تتمتع بذات الاهمية التي للسلطان، في شبكة من تقاطعات المصائر تجعل منها متاهة لذيذة تقف على الحدود بين الواقعي والفانتازي.

    وفي زحف النمل الرواية التي تنتشر في هذا البستان في فصليها الاول والثاني، لا يصطنع تاج السر مملكة قديمة، لكنه ينطلق من مملكة الغناء في الواقع، مقدما رحلة صعود مطرب من الحضيض إلى قمة المجد، ثم انحداره الذي جاء على يد متبرع بكلية زراع في خاصرة المطلوب وأحالت حياته إلى حجيم، من خلال حصار المتبرع الذي اعلن في البداية انه لا يريد إلا الثواب. وبعد ان رفض المقابل المادي لكليته نكتشف ان الثمن الذي يريده كان كل حياة المطرب التي استحالت إلى جحيم، عندما جاء المتبرع من كل أهل قريته ليقيموا في فيلا المطرب ويحيلوا هدوءها إلى فوضى رثة وصاخبة!

    في هذه الرواية يعود أمير تاج السر إلى المجاورة بين السرد والشعر: فبين فقرات السرد المحموم والسريع الايقاع تأتي الوقفات الشعرية يقدمها الكاتب بوصفها اغنيات المطرب، ونلمح فيها روح السخرية العميقة، التي تحيلنا إلى ما يحدث في عالم الغناء عندما تأتي الشهرة دون سبب قوى.

    تنبني هذه الرواية على مجموعة من المصادفات وكثير من المكر الفني يجعل الاحداث تتلاحق كما في لعبة مثيرة كما في الحياة.

    ******* جريدة الوطن القطرية ******

    مقطع من رواية «زحف النمل».. لأمير تاج السر


    بدأ الأمر الأشد إيلاما في حياتي كلها، حين انهرت فجأة في ذلك الحفل الخيري الكبير، الذي أقامته إحدى المؤسسات العامة لدعم أرامل وأيتام قتلى الحرب الأهلية في البلاد والتي تستعر منذ زمن طويل دون أن يفلح ماء السلام المستخلص من شتى التجارب التاريخية والمعاصرة في إطفائها.كان انهيارا تاما ومباغتا، رعشات اليدين والقدمين،تشوش الذهن، تسارع دقات القلب العجوز،خيران العرق الغزيرة التي انبثقت على الجبين وغياب الذاكرة بعد ذلك لتعود شيئا فشيئا في المستشفى تحت العناية المكثفة،وكان أشد ما آلمني حقيقة بعد ذلك حين تذكرت ما حدث، هو انني لم أكمل الأغنية التي كان فيها مقطع تمثيلي يجسدني راكعا أقبل تراب ذلك المسرح المتسخ، باعتباره تراب الوطن، شبعان أتجشأ حموضة قاتلة باعتبارها شبعا ناتجا من اكتفاء الوطن، ثم نازعا عمامتي من رأسي، ناثرها أمام الناس باعتبارها صناعة وطنية خالصة من صناعات الوطن.وكان يمكن أن أبالغ في ذلك المشهد المثير فأقفز بعمري المديد السنوات إلى معانقة الجماهير في مقاعدها المكسرة والمنتوفة الحبال، مجسدا عناق الصفوة لعامة الناس، والذي هو العناق المطلوب لأبناء الوطن، وأن انهياري حدث وأنا أحكي بالضبط عن انهيار ذلك الطاغية البربري الذي أذل شعبنا زمانا.كنت أصف عينيه المذهولتين، وقلبه المتسارع، ورعشة يديه وقدميه وعرق جبينه الملتهب، ثم حدث ما حدث.لم أكن أبدا من عشاق تلك الحفلات الرخيصة، الخالية من طعم الفخامة الذي أعتبره ضرورة في إنعاش عاطفة الغناء، وتطرية الحبال الصوتية حتى ونحن مصابون بأقسي فيروس للأنفلونزا، أعتبر تلك الحفلات نداء كبير الصوت يشد الغوغاء والرجرجة، وصعاليك المدينة ولصوصها، يغرسهم في وسط أبرياء جاؤوا ليطربوا ويعودوا إلى بيوتهم، ولابد أن ينتهي الأمر بمحفظة تنشل، أو حريق يشب في صدر غيور، أو مدية مسننة تنغرس في امعاء. إضافة إلى أنها كانت دائما بلا مكاسب بدعوى أن مكاسبها قد تسند أرملة فقيرة أو تكفل يتيما أو توفر بعض ضرورات الحياة لأم ثكلى.. ومن تجربة لي حدثت في بداية خطواتي في طريق الغناء أن واحدا من كبار لصوص المدينة آنذاك أراد تحيتي في حفل خيري كنت أغني فيه لصالح مرضى «الدرن»، فصعد إلى المسرح في فوضى واتساخ، انتزع مكبر الصوت من أمام حبالي الصوتية، صرخ مرددا أغنية عربيدة،ثم ردد : أنا والفنان (أحمد ذهب) إخوة في كل شيء، وكانت جملته تلك مدخلا فسيحا دخلت عبره الشرطة والتحقيقات الصارمة إلى حياتي ردحا من الزمان قبل أن تخرج.

    اعتذرت بشدة حين أخبروني عن حفل الخير ذلك.. تعللت بارتباطات أخرى لم تكن موجودة حقيقة، واعتذرت بغضب حين ألحوا وبثوا إلى هاتفي مئات الأصوات التي كان بعضها ناعما يغازلني وبعضها خشنا يهدد ويتوعد، وبعضها أهوج يحلف بالطلاق ثلاثا، لكنني رضخت أخيرا حين أرسلوا لي ماسح الأحذية (أكوي شاويش).

    لا أدري كيف اهتدى أولئك المنظمون إلى أكوي شاويش، ماسح الأحذية الجنوبي الذي فقدت آثاره منذ سنوات طويلة، ولم أكن أظنه موجودا حتى تلك اللحظة على سطح الحياة.لا أدري من أين استخلصوه، وكيف عرفوا بذلك الوعد الذي وعدته به منذ أربعين عاما أن أغني في عرسه متى ما أراد مني ذلك.كنت مغمورا في ذلك الوقت، وكنت قادما إلى العاصمة من ريف بعيد وأمي، أحمل صوتا مزركشا، وعودا بدائي الصنع، وأحلام مزارع متهيج الحواس، يعتقد جازما بأنه سلطان الطرب الذي جاء ليجلس على عرش الغناء الذي ظل في رأيي خاليا منذ أن عرف الناس كيف يغنون.كانت الإذاعة الوطنية قد تأسست بالفعل في ذلك الوقت وقطعت شوطا طويلا في بثها لتتجاوز مساحة البلاد إلى مساحات مجاورة،وبدأ الناس يقتنون أجهزة الراديو، ويعرفون كيف يستمعون إلى الأغنية، ونشرة الأخبار وأحوال الطقس المتقلبة.وبدأ بعضهم يتحدث في السياسة وبعضهم يطالب بالإصلاح،واكتفى بعضهم بالرقص حين تبث أغنية حتى لو لم تكن راقصة.كان مناخا لا بأس به لسلطان لا ينقصه سوى التتويج، ومن ثم كانت تلك الرحلة القاسية التي ما زالت آثار شوكها باقية على حواسي.ركبت الإبل والحمير، وبواخر النيل السلحفائية، وقطار النقل الوحيد الذي زحف لخمسة أيام بين الصحاري المدقعة، ومحطات الخلاء اليابسة قبل أن يلقي بي في بحر العاصمة الذي لم أكن أملك قاربا أو حتى مجدافا يعينني على خوضه.. ألقيت ببصر الريف على ليل العاصمة المضاء بالكهرباء، رأيت عربات تمرق مسرعة، وحميرا عليها سروج مذهبة.. رأيت نساء نضرات ورجالا لهم جلابيب شاخصة البياض وتخيلت شعبا متحضرا يحملني في نبضه حين أصدح بتلك الأغنيات التي تمجده. كان إلقائي لبصر الريف وأنا أهبط من درجات القطار، كثيفا ومبالغا فيه، ولابد أن ثمة انبهارا مجنونا قد حدث، وان غشاوة ممتعة قد تكونت لأن قدمي زاغت فجأة عن الدرجات وهويت إلى أرض العاصمة وحيدا ومكسور الساق،كان وجهي متأزما، وحبالي الصوتية التي أتيت بها لتتويجي، واهنة وتلهث بشدة. نقلني بعض العابرين بالمحطة إلى المستشفى القريب، كان أول مستشفى حقيقي أراه وأنا القادم من أصقاع كثيرة المرض وبلا مستشفيات، دخلته محمولا ومتوجعا، لكن بصر الريف لم ينس أن يدور بداخله، يلتقط عطرا جديدا من عطور العاصمة، كانت مكوناته ثياب الجراحين ووجوه الممرضات، وزحام المرض الذي يتدافع من حولي. كان العنبر الذي نقلت إليه في النهاية، رثا بشدة، يكتظ بالفقر والحوادث وآهات الجبائر، كانت ثمة سيقان معلقة، وأياد مبعثرة، ورؤوس مغلفة بالبياض وكان عدد من الصبية مدلوقين فيه، يحملون في أجسادهم إصابات مختلفة. وقد عرفت أنهم من تلاميذ إحدى الخلاوي الريفية، وقد سقط على رؤوسهم جدار حجري أثناء درس في التجويد.كنت راقدا على محفة ممزقة بالكاد تسع جسدي الممتد، يدفعني الممرضون ببطء وسط ذلك اللحم المهشم، حتي عثروا على مكان خال، وكان سريرا من الحديد الصدئ عليه لحاف مهمل، وملاءة مقطعة، وكان بلا وسادة.كانت حقيبتي قليلة المحتوى قد فقدت أثناء تلك البعثرة، والعود الذي كنت أحمله بقوة، قد أصيب بجروح بالغة، لكن بذرة إحساس السلطنة في الداخل ما تزال متوفرة،لم يتوقف نموها أبدا.ألقيت نظرة متأنية على السرير الذي كان بجانبي، وهناك عثرت على تلك الساق المعلقة في الأثقال الحديدية، والتي تنتهي عند تتبعها بالجسد الطويل والصلد للجنوبي (أكوي شاويش).تعارفنا على الفور كمصابين جمعتهما مصيبة، وبلغة أهل الجنوب التي يأتون بها من منابعهم مبعثرة، ويخفقون في لمها مهما عاشوا خارج تلك المنابع،حدثني الجار عن حياته كلها..كان ريفيا أيضا، لكن ريفه كان بعيدا جدا. ريف يلفه الغموض، وتستره الغابات، ويرتديه الكر والفر والتمرد على النظم، ريف عار إلا من خرق تشد على الوسط، وحراب للصيد تفهم اللغة دون عناء.كان قد قدم إلى العاصمة منذ عدة أعوام، تلكأ في شوارع الخوف، وحارات العنصرية المزمنة التي لن تسمح لواحد مثل أكوي بالتسكع في جوفها دون أن تخدشه. عمل سقا وبناء وبائعا للخضار في سوق الشمس القديم، استأجروه في حمل الأثقال، وخدمة البيوت، وتدريب الصبية على سباقات الجري، وحين بدأت موضة الأحذية ذات الكعوب العالية والأربطة الأنيقة تغزو البلاد في أرجل السياح وتجار الخردوات وموظفي الدولة الكبار،تعلم مسحها وتلميعها وأصبحت مهنته منذ ذلك الحين.كانت ساقه قد تهشمت في عراك على دجاجة أنشبه الجوع بينه وبين جاره،ولم يشبع أي منهما في ذلك اليوم.كنت أحس بقلبه ينبض بعنف حين يتحدث، أرى يديه تتحركان في الهواء في تناغم كأنهما تمسحان حذاء، وكنت من مرقدي أستطيع شم عرقه، ولا أحس بقشعريرة أو رغبة في القيء.

    سألني الجنوبي فجأة بلغة الغابة المكسرة :

    ما الذي تبحث عنه في العاصمة يا ذهب ؟

    قلت دون تردد:

    أبحث عن نفسي.. عن كياني..عن شعب أطربه بصوتي ويطربني بالسماع إلى صوتي.

    هل أنت حزبي ؟

    استغربت من سؤاله الذي دل على ثقافة عالية في الصراعات، برغم أن الأحزاب كانت جديدة على البلاد في ذلك الوقت، وحتي أهل الشمال أنفسهم ما كانت ترد إلى أذهانهم بتلك البساطة، لكنني أجبته :

    لا

    إذن ما هي مهنتك ؟

    أنا مطرب.. مغن.. سلطان الطرب الذي سيهز العاصمة من أقصاها إلى أدناها.. هل فهمت ؟

    لم أنتبه إلى نفسي وأنا ألقي بذلك الإيضاح المتغطرس،وحين انتبهت كانت ساقي قد بدأت تصيح بشدة،ازرق لوني، وخرجت من بطني نداءات الجوع التي لم أكن قد وضعتها في اعتباري.. انتبه الجار إلى تلك النداءات، انحنى قليلا على الأرض وأخرج من مخلاة قديمة، خبزا يابسا وطبقا به طعام (مصلّص) التهمناه معا حتى التجشؤ..ولابد أنه الآن انتبه إلى عودي المكسر الحواف الذي حرصت على وضعه في مرمى بصره، لأنني لمحت ضحكة بيضاء تركض من بين أسنانه، ثم ركض خلفها ذلك الصوت المتعثر الخطى :

    - أنا سأخدمك يا ذهب.. فقط أسمعني صوتك.

    كان طلبا صغيرا وما أسهل إجابته لو أنه كان في بيت للعرس، أو صالة للأفراح، أو حتى في زقاق عربيد لبيع العرق والبوظة، لكن الغناء في عنبر للحوادث مكتظ بالمرض والآهات، والسيقان المعلقة، كان جنونا ربما يدحرجني إلى مكان أشد ظلمة، لا سطوة فيه لسلطان ولا فرجة لضوء.. حاولت تأجيل ذلك الطلب، ولم أستطع إلغاءه لأن فضولا جامحا هزني.. كنت أريد أن أعرف تلك الخدمة التي يملكها ماسح للأحذية ملفوف بالخرق، في عنبر رث ويمكن أن تدفعني إلى الأمام.قلت لأكوي.. دع الأمر حتى نخرج من هنا بالسلامة، لكن الجنوبي كان صلدا وعنيدا..وأبى أن يتزحزح عن رأيه شبرا، وعندها اضطررت أن أزحف باتجاهه متجاهلا صياح الساق، ومخالفا لقوانين الشد والتثبيت للسيقان المكسرة، اقتربت من أذنه، دلقت فيها واحدة من أعز أغنياتي إلى القلب،أغنية (صباحك خير) التي كانت عن (زهرة جعفر) أجمل بنات قريتي، والتي كانت سببا لفقدان الكثيرين لحواسهم، وهجرة الكثيرين إلى قرى أخرى، وأيضا سببا رئيسيا في تأخر جني القطن في مواسم عدة لأن الأيدي العاملة كانت تنشغل بالعراك على حبها تاركة خدمة الجني :

    صباحك خير ووجهك نور

    عيونك شعلة من بلٌّور

    يا رايقة وجميل طبعك

    أكيد هليتي من الحور

    تقولي خلاص كفاي حبك

    واقول ياريته يبقي دهور

    انتهيت من الأغنية وأنا ألهث، أصابني ما يشبه الدوار اللذيذ،لأن القلب كان يخفق،وطعم زهرة البرتقالي،كان بالفعل في حلقي وأنا أغني. لم أكن واثقا أن الجنوبي قد فهم لغة المعاناة التي تضج بها الأغنية، ولا أظنه استعاد حبيبة قديمة إلى الذاكرة لها تلك الصفات المشعة..تخيلت ذهنه البسيط ينقب في ترابه وحواريه المكتظة بحوار الغابات وتشابكها، بحثا عن معني الحور و البلور و(متاهة الأشواق)، ولا يعثر على شيء أبدا.. كنت قد رفعت حلقي عن أذنه، تحولت إلى وجهه أرصد علامة أو نظرة تعجب أو انبهار، لكن ما حدث بعد ذلك كان أكبر من تصوري.. فقد انطلق من حلق الجنوبي صوت ضخم ولكن بلا جماليات ولا اتزان، كان يردد أغنيتي نفسها بنورها وبلورها ومتاهة أشواقها، وكان أغرب ما فيه خلوه من لغة الغابات المكسرة. ضحك أكوي ضحكته البيضاء.. ولأول مرة منذ تعارفنا، انبنى حاجز بيني وبينه لم تستطع صحبة العنبر الطويلة، ولا صحبة الحياة العاصمية بعد ذلك في إزالته أبدا،حيث خاطبني بلقب الأستاذ عريضا غطاني به:

    رائع يا أستاذ ذهب.
                  

العنوان الكاتب Date
أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-19-07, 07:34 AM
  Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-19-07, 08:08 AM
    Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. Mohamed Abdelgaleel11-19-07, 08:38 AM
      Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبداللطيف خليل محمد على11-19-07, 09:09 AM
        Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-20-07, 05:22 PM
      Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-20-07, 06:41 AM
  Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. haroon diyab11-20-07, 06:53 AM
    Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. Mohamed Abdelgaleel11-20-07, 07:56 AM
    Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-22-07, 09:46 AM
  Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. خالد محمد سليمان11-20-07, 10:10 AM
    Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. أمير تاج السر11-20-07, 10:48 AM
      Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. مامون أحمد إبراهيم11-20-07, 10:56 AM
        Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. haroon diyab11-20-07, 02:52 PM
          Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. محمد جميل أحمد11-20-07, 03:11 PM
            Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-20-07, 03:53 PM
              Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. أمير بابكر11-22-07, 10:55 AM
              Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. ابوعسل السيد احمد11-23-07, 05:30 AM
                Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. munswor almophtah11-23-07, 07:20 AM
    Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-25-07, 10:49 AM
      Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. محمد جميل أحمد11-25-07, 11:25 AM
        Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-27-07, 08:43 AM
          Re: أمير تاج السر ... يحيل طين الواقع إلى ذهب من السرد .. (بقلم: محمد الربيع).!!. عبدالغني كرم الله بشير11-27-07, 08:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de