|
موعظة الشجارة الصامتة !!
|
موعظة الشجرة الصامتة!!
لم تتجول في حياتها، ولو بخطوة يتيمة، تطفئ بها لهب الرحيل، الكامن في بذرتها، بل مكتفية بساق واحدة، ساخرة من ذوات المثنى والرباع والسداس، فالزيادة كالنقصان، كما لم تحلق كالفراش، أو تسعى كالإنسان في سبيل قوتها، أعياها البحث عن الأصالة، فأهتدت لهذا الأسلوب الساكن من الحياة، أسلوب غارق في السكينة والرضى، بلا منقار أو أرجل أو جناح أو خياشيم، وطنها وقوتها وعشقها وظلها تحت قدميها، (كف عن الرحيل في سبيل القوت والسعد.. كأنها تؤمي لي بذلك، فالجنة كالجذور، تحت قدميك!!) واقفة طوال حياتها، لم تتكئ أو ترقد، لا للريح، أو لمرض، أو لكسل فطري، أو لتهديد فأس، أو حتى لإلتقاط أنفاسها، من شراسة وعناد الرياح، تخدم بإيثار بالغ العصافير والإنسان والشعر، تجود بثروة من السحر والشعر بلا أي أثر للفخر أو الغرور على أوراقها وزهورها الوردية، حتى قبلات العشاق المحمومة تحت ظلها، لم تتلصص عليهم، وتفسد وحدتهم المقدسة، تسرح شعرها بمشط النسيم، وتستحم بالمطر والندى، وتتعطر بذاتها، بزهورها، كي تهيئ محرابها للعشق، وكالأم تأوي بين أجنحة ظلالها العشاق والعجزة والنمل واليرقات، لا تؤذي العين والأنف والحدس، بل تسبي الحواس بمفاتنها الثرية.
أي مؤتمر أسري حميم، وزعت فيه الأدوار، ألم تعترض الجذور على غرسها في ظلمة الأرض!!، كي تلتقط القوت من تلك الأغوار الرطبة المظلمة، تاركة النسيم العليل للأوراق والزهر، ألم تغار من الثمرة وهي تراقب من عل أسراب الفراش حائمة حول الزهور، وتحمل الساق حمل عبء هذا الكرنفال، مستمتعاً بتضحيته، تاركا الأغصان تلوح يديها للريح، وهي ترتل، وبحفيف خفيض (كفي عن السفر !! سأعطيك عشاً برأسي الأخضر، العش والعصافير واشعة الغروب جزء من الشجرة، وليست زائرة صبوحة.. (كف عن الخوف من القوت.. كأنها تؤمي لي بذلك أيضاً) غرزت قدميها في باطن الأرض، كي تتحن بتراب الوطن، لم تحمل حقائب سفر، كي تبعتد عن بذرتها، ولو ملم واحد، بل ولو نفس واحد لم يغب عنها وطنها الأم، ولم تدير لجذورها الظهر. (تمعن كينونتي، ألا أبدو كقصيدة أتخذت الزهر والساق والغصون فستاناً لها).
الجندي المجهول "هو ذاك الجذر" يسكن الأرض كقبور الأولياء، ملئياً بالحياة، مخفياً كرمه وزهده وطيبته في قاع الأرض، ممسكا ساق الشجرة، حتى لا تمضي مع الرياح، كي لا ترحل عن وطنها، أسرتها، ووجدانها، يبدو أنها منهمكة في مص سكر الأرض، في تلوين الفروع بحذاقة، في تلوين البتلات الدقيقة، إنها ماهرة، إنها غارقة في عملها، لم تنزعج من الرعد كالثمرة، بل تمد هذا الكرنفال بهذه الألوان الرائعة من باطن الأرض، إنها بصيرة نافذة، فالعاشق يرى في الظلام، بنفسجي ووردي وأصفر فاقع، إي علبة راقدة بباطن الأرض، أيكون جسد ولي، وقد ذاب من فرض العشق، فاستحالت جوارجه الطيبة إلى إلوان حية، سماداً للسحر والجمال....
(أنت ذابل، أصفرت أوراقك، عد لجذورك، لم تؤمي هذه المرة، بل قالتها بحفيف حزين، مبين)
(إياك أن تركع.. في سبيل القوت.. فهو تحت قدميك)، مكتفياً بالكفاف، فلا فضول ولا تبول ولا تقوض، أي رقة، فهي لا تقرأ ولا تكتب أو ترسم، أو تسكر، ولكن حفيفها يتلو قصيدة كاملة، حروف من رقة، وكلمات من صمت، وموسيقى لدونة وخضرة، ونفس حي، مؤثر، كالصلاة، يرخى عصب الجسد، وينعش الحدس، سوى كتاب الفطرة، المتجلي بأروع صورة، في ، أو تسكر، أي رقة فطرية، لم تركض، أو تسعى أو تتملق في سبيل قواتها وهواياتها، فتحت قدميها يتآخى القوت مع علبة الألوان، غارقة في إيمان عميق بأمومة الحياة، لم تلتهم الحشائش الخضراء الصغيرة، والتي تنافسها قوتها، أنها تنضح بتواضع جم الروح في الطين والصلال، فتحيله إلى زهر وثمر بديع،
ساكنة، وديعة، حية، لم يخطو ساقها خطوة واحدة، ولو من أجل فضول فطري، أو قلقاً من الثبات، أو هرباً من فأس غشوم.. تتواجه مصيرها واقفة، ساخرة من سعي الذوات البشرية ..إنها موعظة إبدية "القوت بداخلكم" فعلام السعى!!.يتنافس جمالها مع جمال الطيور في خلدي، يتصارعان لبلوغ قمة إعجابي وصبابتي، حركة الأغصان الماهلة وغموض الحفيف ... تنتصر على ضراروة حركة العصافير،،، أنها أكثر غموضا وسحرا وزهدا وحركة.. وهذا ما أصبو إليه.. (إنها محاولتها الأولى في الحياة، ومع هذا فلا أثر للتقليد أو الارتباك أو التصنع والمحاباة).
كيف تسمع الجذور رغباتها اوراقها المتواصلة، رغبات هذه الأسرة الكبيرة، اوراق عطشى، وثمرة تشهتي سكر إضافي، وزهرة تحن للون إضافة من باطن الأرض... كرست الجذور حياتها لخدمة هذا الكرنفال الحي، لم تئن أو تشكتي، متصالحة مع قدرها، كالأنبياء.
هل خرج كل هذا الكرنفال من بذرة رمادية حقيرة، قطار من بهرج خرج من صلب تلك البذرة، مسافراً في محطات بكر، ابتدرها خيال حي، متوقفا القطار عند الساق والأوراق والبتلات والثمرة والمرونة...
كيف اختارت هذا الأسلوب من الحياة، وكأنها أدركت عورات السعي والطيران، فأخلدت إلى الأرض، كالقبر، كصدر الأمر، كالرحم، لم تسترق السمع للعشاق تحت ظلها الوارف، مكتفية بالاصتنات لموسيقها الخاصة، لم تسأل عن مصير أطفالها، ليس قسوة، ولكنها مؤمنة بذاتها، وبألأرض، "لم تركض خائفة في حياتها" مؤمنة بأن الكون والامومة سيان، الأمومة إيقاع ذاتي ينبع من الجذور، لا تخاف لأنها مؤمنة بأن الكون كالصلصال، يخبي بداخله سحر الورد وعطره، كيف اهتدت جذورها إلي سر الإبداع، سر الأكسير، كي تحيل الطين ورد، والصلصال عطرا، والتراب ثمرة، وكأن بداخلها الفانوس السحري ...
عارية، وكأنها طفل لا يكبر، لا نزوة تجري بدمها الأخضر، اختارت أسلوب حياة حكيم، لا تتنافس في كسب ود ذكر شجرة وسيم أو ذكي أو غني، بل جعلت جذورها العميقة هي مصدر قوتها وحياتها واعتدادها، تتوه في معرفة كنهها، أهي ذكر أم انثى، ضاحكة أم عابسة، تخفي خلف فروعها سر حياة غريب، مشاعرها وتمثيلها الضوئ مخفي تحت جذعها، لا أنين أو غنج، تكتفي بالميل مع النسيم بشكل ساحر وحميل، لا تحك جلدها من لذة ناموس، و
لا تحرص على التوسع، مكتفية بالحد الأدنى من القوت، والحد الاعلى من المجون، لا تكف عن الرقص مع النسيم، لا تأخذها سنة ولا نوم، نشيطة ووديعة وكريمة طوال حياتها، لا تأخذ غفوة صغيرة، كي تسترد انفاسها ونشاطها، أو تنفض عن اغصانها تعب التلويح للريح، كما لم تئن من ثقل الثمار، تضمر بذاتها موعظة للنساك، حيث يكون كنزك يكون كنزك،
أي فانوس سحري تحمله جذورها في ظلمة الأرض، كي تلم قوت أسرتها الكبيرة، آلاف الأوراق ومئات الأزهار والثمر، تنسج ملابسهم وألوانهم الزاهية، لا تضج من إحلال الزهر، وطعم الثمرة، ورقة الغصن، في تلك الاغوار المظلمة تنتشر جيوش من الجذور، وبصمت تام كي توفر القوت واللون والعطر لهذا الكرنفال العظيم، جندي مجهول، ينزف دم الأخضر في باطن الأرض، كي يتراقص شعرها الاخضر فوق الارض،
ماذا تريد من حياتها، لم تلقي على نفسها هذا السؤال، بل ظلت تغني وتغني وترحل، وهي واقفة في مكانها، في قصرها.، في وطنها.......
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
موعظة الشجارة الصامتة !! | عبدالغني كرم الله بشير | 12-11-05, 01:31 AM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | garjah | 12-12-05, 01:11 AM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | عبدالغني كرم الله بشير | 12-13-05, 00:26 AM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | عبد الله إبراهيم الطاهر | 12-13-05, 02:47 AM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | Mohamed Adam | 12-13-05, 03:01 AM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | عبدالغني كرم الله بشير | 12-13-05, 11:51 AM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | طيفور | 12-13-05, 01:14 PM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | عبدالغني كرم الله بشير | 12-14-05, 08:06 AM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | Mohamed Adam | 12-14-05, 09:39 AM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | Agab Alfaya | 12-14-05, 01:01 PM |
Re: موعظة الشجارة الصامتة !! | عبدالغني كرم الله بشير | 12-16-05, 01:23 PM |
|
|
|