الطبيعة في شعر محمود درويش

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 08:32 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-03-2003, 03:02 PM

almohndis
<aalmohndis
تاريخ التسجيل: 05-05-2002
مجموع المشاركات: 2663

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الطبيعة في شعر محمود درويش


    1/
    امتازت فلسطين عن غيرها من البلدان الاخرى بوجود اربع مناطق مناخية

    المنطقة الجبلية، السهل الساحلي، الاغوار التي تنخفض عن سطح البحر 004 م، والصحراء في الجنوب اذ جعلت هذه المناطق المناخية الاربع الطبيعة متميزة ذات طابع خاص اذ تتوفر الزراعة بأنماطها ونظمها ما يجعل الارض صاحبة سمة معينة، وقد كانت هذه السمة عاملا فاعلا في خلق حالة من الترابط والعلاقة الوثقى بين الانسان وارضه فتأصلت الوشائج بقوة رابطة العاطفة المتبادلة بينهما لقد خلقت تجربة الانسان الفلسطيني الحضارية خلال التاريخ ترابطا فكريا وعاطفيا بين الارض والانسان ذاته، الارض التي هي جزء من الطبيعة، فهي الوطن وهي المبتدى والمنتهى.

    تبدو كلمة الطبيعة فضفاضة غامضة اذ تعرضت لكثير من التعريفات والدراسات منذ اقدم العصور ولعل غموض كلمة الطبيعة وايغالها جعل تعريفها صعبا على كثير من الدارسين لاتساع مدلولاتها (ونقصد بكلمة الطبيعة عملية الحركة العضوية بأكملها التي تسير في الكون وهي عملية تشمل الانسان ولكنها لا تكترث بنزواته او تأثراته الذاتية او تغيراته المزاجية).(1)

    بهذا التعريف وصف هربت ريد الطبيعة لكن الطبيعة هنا لا تكترث بالانسان واعماله وفنونه فهي تقف منه موقفا سلبيا، فالانسان جزء من الطبيعة لا يستطيع ان ينسلخ عنها او يتجاهلها فالشاعر كالفنان الذي يعيش حياته مع الطبيعة والشعر فن من الفنون فكل انسان يستطيع ان يمنح الحياة صورة ملائمة لمخيلته وعواطفه وخلجاته العامة، ومن خلال الكلمات يستطيع الانسان ان يقيم علاقة بينه وبين الطبيعة فللكلمة صداها، ومقدرتها على خلق عالم ملائم للشاعر فهي مهمة جدا حيث (ان الكلمة بالدرجة الاولى تمنح الشيء الوجود) (2)، فعملية المنح من الكلمة تجعل الطبيعة تسير وفق مخيلة الفنان الذي حاكاها وصورها، فتصوير الطبيعة من الخارج هو اولى مراحل الملامسة او هو اول مستويات الوعي واقدمها والطبيعة ظاهرة معزولة او غير معزولة، لكن بملامسة القشرة يبدأ الاحساس بالظاهرة (ومن ثم تبدأ اولى مراحل الدخول التفاعل وتبدأ العلاقة بين العلة والمعلول الانسان والطبيعة.. فان انعكاس وجود الطبيعة وهو حوار مع الذات الشاعرة وهمومها الاولى التي تجيء المرأة الشريك الاول في مقدمتها) (3).

    ان الفيض الحسي والفكري والنفسي لدى الشاعر يجعل الطبيعة الجاثمة الصلبة واشكالها الثابتة وكل شيء فيها، المألوف وغير المألوف في بوتقته الفنية اذ تصبح الطبيعة غير بعيدة عن الانسان ولا يصبح الانسان بعيدا عنها فعملية التفاعل بالفنية الذكية تجعل الطبيعة تعبر عن الانسان بحقيقته لقد استطاع درويش من خلال تلازمه مع الطبيعة الفلسطينية ان يربط بين الطبيعة والانسان الفلسطيني ذلك الرباط الروحي الذي اصبحت الطبيعة معه تعبر بشكل اوبآخر عن هموم الانسان وهذا يعود للرؤية الفكرية والفنية للشاعر ففي وعي الشاعر لا تكون الطبيعة بعيدة جامدة وانما هي ناطقة معبرة عنه اذ هي تكون ايضا متميزة بالنسبة للشاعر جنبا الى جنب فشجرة الزيتون والبيدر والبحر والحجر والقمر والكرم وغير ذلك من مظاهر الطبيعة والبيئة الفلسطينية جبلت في دم الانسان ذاته فمن المعقول ان يحيا الانسان في غير المكان الذي جبلت منه الارض الذي هو جزء منها فالارض الفلسطينية كان لها الدور الاكبر في التحام الشعر الفلسطيني بها وهذا ما عناه درويش (بصخورها ووديانها وجبالها واطلالها.. وانسانها الذي يظل مرفوع الرأس رغم ما ينوء به كتفاه من اعباء.. انسانها الذي قاوم ولا يزال يقاوم الألم والاضطهاد ومحاولات طمس الكيان والكرامة القومية والانسانية) (4).

    ولعل الارض جغرافيا ونفسيا من اهم محاور الصراع التي تلح على الانسان العربي اذ ان معظم العرب في فلسطين فلاحون وهذا ما يشكل جوهر المأساة اذ دخل الشاعر غمار وجوهر هذه المأساة واستخرج من كل امكاناته ما يستطيع بحيث جعل من كل ظاهرة ومن كل شجرة رمزا وقيما فذة (التين والزيتون والسنديان والخروب في اعلى الجبال قد تخلى الشعراء الآن عن كثير من قيمها الجمالية المجردة في الطبيعة ليستولد منها قيما فذة جديدة تمثل العراقة والشموخ والالتحام الاوثق والابقى يجسد الارض عبر الوف السنين) (5).

    وهنا نقول خلافا لقول يوسف الخطيب ان الشاعر ابقى على فنية القيم الجمالية التي يتخذها الشاعر من خلال الاشجار والطبيعة عامة زيادة على ما قاله انه يتخذها لرموز فذة، فالوعي لدى الشاعر هو الذي يخلق عملية التفاعل ايضا فعملية الكشف عن الجوهر لا تأتي عفويا او من خلال لا شيء (أما المعالجة الاجتماعية فاضافة الوعي الى رصيد الشاعر الذي يتأمل ويحلل ويكشف الرؤيا والعلاقات الحية بين كتل الطبعية وعناصرها من جهة اخرى وبينها وبين ذاتها لا كفرد فحسب بل لمجموعة لها معتقداتها ومشاكلها وفلسفتها الخاصة انه بذلك يبحث عن العلاقة بين ذات الطبيعة وذات الجماعة عن جوهر الوحدة بينها) (6).

    فالأرض هي مصدر الرزق الاول والحياة للانسان في كل زمان ومكان اذ عليها يبقى ويبني حضارته ويتحدى كل شيء غريب يحاول طمس تاريخه وشخصيته ومن اجل الارض يدفع الانسان كل غال ونفيس، فالأرض والحفاظ عليها يعني وجود الانسان وضياعها يعني عدمية كل شيء فللأرض مكانتها في كل اداب الشعوب ودرويش من الشعراء الفلسطينيين المبرزين الذين يتشبثوا بالارض واعطوها ميزة في شعرهم اذا احاط درويش بهذا الموضوع احاطة تامة وصور الارض وجعلها مغروسة في النفس حتى وصفه الخطيب بأنه حراث الارض الشعري (الا ان من اختص في فلاحة الارض الفلسطينية فلاحة شعرية رائعة ومخصبة هو دون منازع محمود درويش... ان هذا حقله وهو حراثه وناطوره ومغنيه.. انه حقله بمعنى الحقل وليس غابته البرية الصماء ما يريده هو ان يتوحد مع الارض وليس مع الطبيعة مع الارض في اتصالها المباشر بالانسان وفي موتها وبعثها المتجددين على هيئة الانسان وصورته وليس مع الطبيعة بذاتها لأن الارض هي التي تعطي الطبيعة اللون والرائحة والطعم) (7).
    فالتمسك بالارض عند درويش موقف انساني وموقف وطني غير معزول عن الامتداد القومي وهذا ما اعطى الشاعر هوية واضحة المعالم بصفته يدافع عن حقوقه التي يرفضها المحتل ويحاول طمسها.

    سجل انا عربي

    انا اسم بلا لقب
    صبور في بلاد كل ما فيها
    يعيش بفورة الغضب
    جذوري
    قبل ميلاد الزمان رست
    وقبل تفتح الحقب
    وقبل السرو والزيتون
    وقبل ترعرع العشب
    أبي من اسرة المحراث
    لا من سادة نجب
    وجدي كان فلاحا (
    بهذه الحوارية التي لا نسمع فيها الا صوتا واحدا وهو صوت الشاعر، نلمس تشبثا مغروسا في النفس وجوابا لسؤال جاء بصيغة الامر (سجل انا عربي) هو الموقف الثابت من انسان يستجوب وفي ظروف يعرفها الجميع ما هو الا تجسيد لحالة الرفض الجماعية التي يتحلى بها اهل تلك الارض وصوت الشاعر هنا يصرح علانية بالانتماء المفعم بالايمان ...... الانتماء للارض من خلال الانتماء لاسرة المحراث فالمحراث وهو احد ادوات خدمة الارض وشقها والفلاح الذي يستخدم تلك الاداة ليس سوى حالة انتماء تنم عن ذهنية واضحة ثرية فالارتباط بين الفلاح والارض ارتباط عميق الصلة لا يعرفه الا هو ذات الفلاح فهنا نرى ان الاسم واضح جلي الوضوح (انا عربي- اسم بلا لقب) وهذا يعني عدم الزيف بالموقف وكل ما في القصيدة واضح بين فالمفردات لها دلائلها اذ لم يختر بعض المسميات من العبث -(جذور، سرو، زيتون...) فالمتمعن في مفردة الزيتون يجد انها تدل على الاصالة بمعنى آخر انها رمز للوطن للارض لفلسطين على الرغم من ذلك نجد ان شجرة الزيتون زرعت من قبل صاحب الارض، فالانسان اقدم من كل المسميات ومن مفردات الطبيعة والسرو هذه النبتة التي تمتد جذورها افقيا بعكس شجرة الزيتون التي تمتد جذورها عاموديا والتي لا تجد الاعتناء الا في المناطق الحرجية وهي من الاشجار التي لم تعرف الا فيما بعد وكأنه يريد ان يقول انه لا يبقى على الارض إلاّ كل شيء اصيل منتم للارض واصحابها اصلا او ان كنا نجد ان الارض تتقبل كل شيء وافد او غير وافد لكن البقاء والاعتناء دائما للرمز (الزيتون) فالحالة الطارئة سرعان ما تزول وان دامت والثبات هو لصاحب الديمومة الذي يروي تلك الارض لا الدخيل.
    ولم يفلسف حلمه
    لم يفهم الاشياء
    الا كما يحسها.. يشمها
    يفهم، قال لي.. ان الوطن
    ان احتسي قهوة امي
    ان اعود في المساء
    سألته والارض
    قال:لا اعرفها
    ولا احس انها جلدي ونبضي
    مثلما يقال في القصائد
    وفجأة رأيتها
    كما ارى الحانوت..
    والشارع... والجرائد (9)

    وهنا نرى الشاعر هو السائل وليس المسؤول، ولكنه يجيب على لسان المسؤول الذي هو دخيل على الارض فالشاعر هنا له فلسفته في السؤال وصيغة الجواب، فعدم فلسفة الحلم لدى الانسان الوافد المسؤول من قبل الشاعر حالة لم تخلق من العبث بقدر ما جاء للتدليل على صحة موقفه الذي يخرج الى ان الانسان الوافد على الشيء لا يكون له حلم ولا رؤيا فلسفية مثل الذين يتمتعون بحياة غير حياة الوافد المواطنة الحقيقية ان الارض وهي العامل الفاعل الكبير من الطبيعة موقف الناس منها مختلف فالانسان الذي جبلت الارض من دمه وجبل كيانه من طينها له نمطية معينة متأصلة في فحوى فلسفته الرؤيوية عكس ذلك الانسان الذي يتصف بتلك الصفات اذ تشكل الارض لدى الشاعر كل شيء شكلا وجوهرا فالجلد اول طبقة في جسم الانسان يلامس الطبيعة وهو اول جزء في الجسم يتأثر بالعوامل الجوية وتقلبات الطبيعة من الخارج والنبض هو اول شيء يتجاوب مع شعور الانسان من الداخل في حالتي السلب والايجاب هنا نرى العلاقة القائمة بين الشكل والجوهر اذ كل يتأثر بتأثر الآخر بالنسبة للانسان (الشكل والجوهر) هي معادلة او مشابها لعملية الشكل والمضمون في الادب فتلبس الارض بالانسان والانسان بالارض خال من الزيف فالشاعر يرى ان الارض- الوطن (مفهوما ومعنى) كل شيء في الحياة اما الدخيل (العدو) فيرى انها محسوسات لا غير (الشارع، الحانوت، الجرائد) اي ان الماديات هي التي تسيطر على عقلية (العدو) وهذا يعني عدم الاكتراث بقيت الارض أم زالت لانها خارج المعادلة بالنسبة له.

    كان الخريف يمر في لحمي جنازة برتقال
    قمرا نحاسيا تفتته الحجارة والرمال(01)

    ان شجرة البرتقال التي تتبوأ المكانة الثانية لدى الانسان الفلسطيني بعد شجرة الزيتون انما هي رمز للساحل الفلسطيني هذه الشجرة التي تتمتع بصفة معينة فخضرتها الدائمة وحمرة التربة التي تغرس فيها وكذلك زرقة البحر هذه الالوان المتآلفة تخلق حالة انطباعية في نفس الانسان وحالة من التوحد والثبات ففصل الخريف الذي هو فصل التعرية (التعرية من كل شيء تكون فيه اكثر مقتنيات الطبيعة من الاشجار قد تهاوت اوراقها وتبدو مجردة للعراء توحي للناظر بحالة من التجرد الطبيعية (تلك الحالة الاختيارية الجبرية) لكنها حالة ليست من السهل ان تتقبلها كل النظم في الكون فعملية التعرية تعني الخلاص من الزيف الملتصق بالاشجار لتبدو تلك الاشياء على حقيقتها كما لو لم يكن لها ساتر لـ (الاوراق) وتشبه تلك العملية عملية (بداية لنهاية ونهاية لبداية). ففي فصل الخريف تبدأ عملية الاستعداد لنهاية من حياة كان لها بدء، والدخول في حياة جديدة اي بدأ الموت من اجل الحياة تلك عملية التجرد والاستعداد لا نلمسها رؤية مجردة في شجرة البرتقال وانما تبقى كما هي اللون الاخضر والثمر البرتقالي على مرآى من الجميع وكأن تلك الشجرة هي وبعض الاشجار الاخرى تتحدى نظم الحياة ببقاء كسوتها عليها لكن الذي يميز بعض اشجار الليمون انها مستديمة في عطائها المثمر فهذه ميزة تتمتع بها تلك الشجرة على الرغم من مرورها بطور (البداية والنهاية) التعرية الا انها لا تتوقف عن العطاء.
    وتلك العملية لا تكون محسوسة بالرؤيا واما ملموسة من خلال طرح الثمر، ففصل الخريف بما انه فصل تجرد ووضوح الا انه لم يؤثر على الشاعر سلبا وانما نراه يمر وان كان مروره مرورا جنائزيا الا ان هذا المرور يشبه المرور على البرتقال نفسه (حالة التجدد مع الثبات) وان كانت تلك الحالة من التجدد تسقط شيئا من الشيء المحمول الاوراق للبرتقال (بعض الذكريات للانسان) الا ان تلك الاشياء تكون عاملا مفيدا وفاعلا اذ الارض هي المتلقية فمعها تبدأ عملية التكوين ففي قصيدة (قال المغني) نرى مدلولا جوانيا وظاهريا فما هو جواني تعبر عنه بنية مركبة من نقيض (جواني) مقابل نقيض آخر يجمع سائر ابيات القصيدة
    هكذا يكبر الشجر
    ويذوب الحصى
    رويدا رويدا
    من خرير الماء
    المغني على طريق المدينة
    ساهر اللحن.. كالسهر
    قال للريح في ضجر
    دمريني ما دمت انت حياتي
    مثلما يدّعي القدر
    واشربيني تحت انتصار الرفات
    هكذا ينزل المطر
    يا شفاه المدينة الملعونة
    ابعدوا عن سامعيه
    والسكارى وقيدوه
    ورموه في غرفة التوقيف
    شتموا امه وام ابيه
    والمغني يتغنى لشعر شمس الخريف
    يغمد الجرح بالوتر
    المغني على صليب الألم
    جرحه ساطح كنجم
    قال للناس حوله، كل شيء سوى الندم
    هكذا مت واقفا
    واقفا مت كالشجر
    هكذا يصبح الصليب
    منبرا او عصى نغم
    ومساميره وتر
    هكذا ينزل المطر
    هكذا يكبر الشجر (11)
    فالمتتبع للقصيدة يرى انها تحتوي على ثلاث ترنيمات هي:
    1- ترنيمة الفناء والبقاء في الابيات (1.2،3،4،72،82،92،03،13).

    2- ترنيمة الموت وارادة الحياة في الابيات:
    (5،6،7،8،9،01،11،21،12،22،32،42،52،62).
    3- ترنيمة السلب والايجاب (31،41،51،61،71،81،91،02).
    هناك نقيضان يسيران معاً في آن واحد البقاء في (يكبر الشجر) الفناء (يذوب الحصى) واحلال شيء محل شيء آخر اما ذوبان الحصى فدليل على الحياة اذ تتحلل التربة مع بعضها ممتزجة مع الحصى وبتحليل التربة وذوبان الحصى تكون الحياة اذ نخلق تربة جديدة مليئة بالخيرات والمواد المختمرة وهذا تناقض من خلاله يكبر الشجر اذ في البداية تكون الحياة والكبر يعني النماء والنماء يعني النضج والعطاء للخير وايضا ايحاء الكبر ومدلوله يعني الانتهاء والوشوك على الزوال اذ لكل شيء بداية ونهاية وكذلك الذوبان للحصى اذ يعطي مدلولا بدائيا اوله الاندثار الذي تبدأ بعده الحياة فالذوبان يعني التحلل والتحلل يعني الاتحاد مع عناصر جديدة وتكوين شيء جديد يعني الحياة والحياة هنا تأتي رويدا رويدا اذ تأتي على دفعات والدفعات تكون مسترسلة كما هو خرير الماء.
    والمغني الذي يعزف بالاوتار يسهر الليالي من اجل البقاء ومن اجل ارادة الموت ايضا فالحياة تتمثل في بزوغ الفجر وبزوغ الفجر يعني الحياة الجديدة ويعني عطاء جديدا متجددا بتجدد الزمن والوقت، فها هنا تكمن ارادة الحياة عند الشاعر وكذلك ارادة الموت والتضحية والفناء من اجل الآخرين موجودة عنده ايضا ويطلبها المغني على صيغة الامر (دمرني ما دمت انت حياتي) فتدميره هنا يعني حبه للتضحية (واشربني تحت انتصار الرفات) (هكذا ينزل المطر) والمطر يعني الانبعاث من جديد فظاهرة حب الموت من اجل البقاء والاسرار موجودة في نفسية الشاعر فالوقوف على ابواب المدينة ومسيرة النهر تعني ان الشاعر يتقدم ويتطور ويستقبل الامل والفرح مقابل التضحية والبذل والعطاء.

    وهكذا نرى معاملة العدو للانسان المضطهد الذي نراه في شخصية المغني حيث القيد والسجن والحرمان والتشاؤم التي ليس لها حدود (عذاب نفسي جسدي) اذاً هذه العلاقة سلبية بين الانسان والعدو المضطهد للحقوق.

    وثبات الانسان وتغنيه بشمس الخريف او مكوثه تحتها يظهر لنا اياها في شكل حقيقي غير مزيفة ففصل الخريف كما اشرنا هو فصل التجريد واظهار الحقيقية التي لا زيف فيها.

    واصرار المغني المقاتل المسجون المعتقل على ان يسلي نفسه ويتحدى عدوه بأن يغني ويضمد جرحه بوساطة اوتار العزف التي تعني الامل والطمأنينة على الرغم من الالم النابع من داخله فهنا تكمن شاعرية الشاعر الانسان حيث صموده وعطاؤه وعدم المبالاة التي يوليها لجراحه بحيث لا يتوجع ولا يظهر الالم امام عدوه، فالشاعر نقيض مع جلاده كاتم حريته.

    فالقوة الجسدية للانسان هي مساعد فعال على اكتشاف وابتكار العلاقة والتشابه بين الاشياء اذا لم يستطع المرء ان يدرك هذه الاشياء بمنطقه وعقله ففي بعض الاشعار نرى ان درويش يزاوج بين صورة المرأة وصورة الارض لكي يدخل لكل هدف فهذه المزاوجة لا تتأتى من العبث فكا يقول آرنست فيشر (ووعي الفنان بعاطفة المرأة واستقاؤه من ينابيعها دليل على نضج عاطفته الانسانية ووعيه العام وهذا كفيل بوضع صورة المرأة في اطارها الانساني الصحيح وابراز الدور الطليعي الحق الذي يجب ان تؤديه المرأة في الفن والحياة لان الحب وهو اشد المشاعر ذاتية وهو ايضا اكثر الغرائز شمولا وهو غريزة حفظ النوع) (21).

                  

04-03-2003, 07:45 PM

almohndis
<aalmohndis
تاريخ التسجيل: 05-05-2002
مجموع المشاركات: 2663

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطبيعة في شعر محمود درويش (Re: almohndis)

    2


    ففي مثل هذه المزاوجة بين صورة الارض والمرأة وهذه المزاوجة لا تتأتى لوجود العلاقة الحسية بل تنبع من المعاني النفسية التي يتركها ويخلقها مثل هذا الوصف والافتراض.
    اذا مرت على وجهي
    انامل شعرك المبتل بالرمل
    سأنهي لعبتي- انهي
    وامضي نحو منزلنا القديم
    على خطى اهلي
    واهتف يا حجارة بيتنا! صلي!
    اذا سقطت على عيني
    سحابة دمعة كانت تلف عيونك السوداء
    سأحمل كل ما في الارض من حزني صليبا يكبر الشهداء
    عليه، وتصغر الدنيا، ويسقي دمع عينيك
    رمال قصائد الاطفال والشعراء (31)
    هنا نلمس حوارا بين شخصين الشاعر هو المتحدث والمرأة المخاطبة فهنا يمكننا ان نلمح مستويين من الدلالة كلاهما مقصود كما يبدو فالمستوى الظاهري هو الدلالة المباشرة التي يمكن ان تأخذ معناها من خلال معنى القصيدة الظاهري.
    او من خلال السياق العام فالمستوى الاول اذا كان المقصود من الخطاب فيه امرأة حقيقية اما الدلالة الاخرى الموحية وهي المعنى الرمزي الذي نلمحه حينما تصبح تلك المعشوقة هي الارض هذه المحبوبة مثل كل الحبيبات تخلد حالة شعورية خاصة عندما يلمسها حبيبها وهذا امر مألوف بين المحبين اما المستوى الثاني وهو دلالة الرمز فتبدو عندما تتحول تلك المحبوبة المخاطبة الى صورة الارض اذ هي الدافع الى عمل الكثير ان رؤيا الشاعر في خلق مثل هذا المستوى الدلالي الرمزي هي التي اوحت لنا فضلا عن الرؤيا الخاصة للقارىء بأنه يرمز الى تلك المرأة بالارض اذ من خلال ملامسته لشعرها ترى الروح قد توثبت عنده، فهنا يقدم لنا الشاعر مستويين من التعبير المباشر وغير المباشر اذ نراه يزاوج في شعره بينهما فتظهر فكرة الرمز تارة وتختفي تارة اخرى فينموا المعنى المباشر نموا داخليا طبيعيا لان المستوى الحرفي او الظاهر لا يسخر بطريقة مصطنعة واضحة للتعبير عن معنى آخر المعنى الثاني ينمو نموا باطنيا من المعنى الاول ونستطيع ان نلخص الموقف ان عملية تكوين المعنى او الرمز ليست هي عملية الانابة يجب ان نشعر ان المستوى الاول هام وضروري وانه احسن طريقة للتعبير من المستوى الثاني والعقل يعكس على هذا المستوى الاول اذا هو اراد ان يتمثل كل ما سواه ولذلك يجب ان يتعانق الاثنان) (41).

    ها هنا نلمس ان عملية التجاوب النفسي ما بين صفات الارض والمرأة هي التي جعلت الشاعر يعمد الى تلك الخصوصيات الاقترانية المتداخلة مع بعضها من صفات الموصوف فقرائن (علامات) المرأة متداخلة مع قرائن (علامات) الارض لتطبع في النفس حالة خاصة وميزة معينة ليس من السهل ان نجدها في مسميات اخرى لذلك كان من السهل على موضوع الارض ان يدخل من خلال المرأة وموضوع المرأة من خلال الارض وتزداد صلة الطبيعة الارض بالتغلغل داخل الانسان وبالتأصل اذ قرنها الشاعر بالمرأة، وكذلك المرأة اذا اقترنت بالارض من خلال وصفها فالعلاقة ما بين الانسان والطبيعة علاقة حميمة والمرأة جزء من الطبيعة وهي اجمل رمز واكثر تماسكا من غيره
    اجدد يوما مضى
    لاحبك يوما وامضي
    وما كان حبا
    لأن ذراعي اقصر من جبل لا اراه
    واكمل هذا العناق البدائي، اصعد هذا الا له الصغير وما كان يوما
    لأن فراش الحقول البعيدة ساعة حائط (51)
    هنا نراه يعود ويقرن صورة المرأة باحدى مقتنيات الطبيعة (الارض) ليخلق هناك حاجزا ليحول دون تحقيق ما يصبو اليه وهو مواصلة العناق لان الجبال تعوق ذلك والجبل ما هو الا رمز من رموز الارض فالارض او المرأة تتشكل علاقاتهما مع الشاعر وتكون علاقة حميمة لكن هذه العلاقة استلابية اذا الموانع الكثيرة (القهر، البعد، الطغيان) التي رمز لها الشاعر بالجبل تسيطر على تحركات الانسان وتمنعه من ان يواصل او يحصل على ما يريد، فالجبل، الطريق، الرحيل الحروب كل هذه مسميات في الطبيعة نجد بعضها كثير التداول في المعجم الشعري للشاعر فبعض المسميات تترك اثرا في نفس الشاعر سلبا كان هذا الاثر اما ايجابا.
    الآن بحر
    الآن بحر كله بحر
    ومن لا بر له
    لا بحر له
    والبحر صورتنا
    فلا تذهب تماماً
    هي هجرة اخرى
    فلا تذهب تماما (61)
    فلفظة البحر تتردد كثيرا في بعض قصائد درويش اكثر من اية لفظة اخرى خاصة قصائده التي قالها بعد غزو بيروت عام (2891) وهنا من حقنا ان نتساءل ما رمز البحر عند درويش هنا؟ هل هو رمز للعدو، للهجرة، للطغيان، هو رمز للثورة للعطاء اذ من خلال هذا الرمز يكون سعيه الى كشف وفضح الحقيقة الجماعية للشعب فالبحر بمدلوله الرمزي عظيم سواء اكانت هذه العظمة سلبية ام ايجابية فالرحيل الذي لا قاه الفلسطينيون عبر البحر كما يبدو لنا كان له الصدى الكبير في نفسية الشاعر وعطائه الفني (فعملية الرمز هنا نابعة مما يرمز اليه او هو بالاحرى لا قيمة له مطلقا الا بما ما يبرهن على الفكرة ويؤكدها... ان الرمز الفني تركيب لفظي اساسه الايحاء بما يستعصي على التحديد والتقرير وان اهمية الرمز في صورته الادبية بقدر ما هي في الرمز) (71).

    فهنا نملك القول ان مجموعة معينة من الالفاظ تطغى على عمل ادبي ينتظمها ترابط تداخلي معين او علاقة داخلية معينة تشكل الجوهر الاعمق لذات الشاعر او نفسية الشاعر وتصلح نوافذ تطل من خلالها على قيعان روحه فالعلاقة بين الشاعر والبيئة التي يعيش فيها وان شخصها في شعره واعطاها من روحه التعبيرية لا تكون دائما ايجابية وانما تتأرجح بين السلبي والايجاب تبعا لما يمر به الشاعر من حالة نفسية وانطباعية عن البيئة التي يحيا فيها وهذا هو ما يدفع الشاعر الى ان يفتت الصورة المرئية التي يراها ولكن الشاعر يقف في بعض الاحيان كما اسلفنا موقف الغريب الحزين من البيئة التي رآها واعتاد عليها، على الرغم من التصاقه بها، فمن خلال قصيدة (الجرح القديم) نحس بالانهزامية لدى الشاعر في مطلع القصيدة لكنه سرعان ما يلتحم بالبيئة التي هو جزء منها على الرغم مما نحسه فيها ونلمسه.
    واقف تحت الشبابيك
    على الشارع واقف
    درجات السلم المهجور لا تعرف خطوي
    لا ولا الشباك عارف
    من يد النخلة اصطاد سحابة
    عندما تسقط في حلقي ذبابة
    وعلى انقاض انسانيتي
    تعبر الشمس واقدام العواصف
    واقف تحت الشبابيك العتيقة
    من يدي يهرب دوري وازهار حديقة
    اسأليني كم من العمر مضى حتى تلاقى
    كل هذا اللون والموت تلاقى بدقيقة
    وأنا اجتاز سردابا من البخور
    والفلفل والصوت النحاسي
    يبدو الشاعر من خلال هذا المطلع حزينا غريبا يشعر بالغربة والحزن على الرغم من ان البيئة بيئته لكن علامات اليأس والضعف تبدو واضحة من خلال عزلته لفقدانه الشيء الكثير نتيجة للوضع الذي تعيشه البيئة والمنطقة بأسرها فالتدفق العاطفي والشعوري والانساني والتعجب المبني على الاستغراب والقلق النفسي والحزن مما هو فيه من عذاب وغربة وعلى الرغم من ذلك نرى الشاعر يستهدي ويعود الى رشده وصوابه من خلال المدينة وعلامتها باسواقها والعبق الذي تتركه الاسواق والطرقات التي تسمح وغير ذلك من الامور التي استعار بها، فالنحاس والفلفل والسراديب القديمة المعبرة كلها كانت عبرة لها.

    ايها القلب الذي يحرم من شمس النهار/ ومن الازهار والعيد كفانا
    علمونا ان نصون الحب بالكره/ وان نكسو ندى الورد... غبار
    هنا نلمس ان صوت الوعي وصوت العقل بدأ يعيد انفاسه الا انه يتكامل في العاطفة استمرارا مع الاسطر السابقة.
    ايها الصوت الذي رفرف في لحمي
    عصافير الحب
    علمونا ان نغني ونحب كل ما يطلعه الحقل من العشب
    من النحل وما يتركه الصيف على اطلال دار
    علمونا ان نغني ونداري حبنا الوحشي
    كي لا يصبح الترنيم بالحب مملا.
    عندما تنفجر الريح بجلدي
    سأسمي كل شيء باسمه
    وادق الحزن والليل بقيدي
    يا شبابيكي القديمة. (81)

    تبدو استجابة الوجدان لصوت العقل واضحة هنا اذا انتهى الشاعر الى الاستعداد بالانتماء بدل الغربة التي لمسناها واحسسناها بها في بداية القصيدة وفي هذه القصيدة نرى الصور الداخلية تصارع الصور الخارجية وهذا يتأتى من كونه تعبيرا عن الصراع النفسي فالعواطف مكثفة والتأمل في العاطفة ادى الى احداث تحولات في الموقف الشعري وهكذا نجد السمات العامة للطبيعة ولبيئة الشاعر دفقا خاصا في نفسيته ونفسية المتلقي ايضا لكل شيء مدلوله الذي يحمله ويمكن للطبيعة ان تلعب دورا كبيرا في بناء القصيدة بمعنى انها تكون ركنا اساسيا من القصيدة وبنيتها وتكون الطبية هي الاساس الذي يقيم عليه الشاعر بناء قصيدته وهذا واضح عند بعض الشعراء الذين اعطوا الطبيعة لونا خاصا واهمية كبيرة اذ يلونونها بتلوينهم النفسي ويصورونها تصويرا دقيقا غير ذاك التصوير الذي نلمسه عند بعض الشعراء حين يتعامل مع الطبيعة من خلال ما تراه العين وانما نراه يتعامل مع مفردات الطبيعة تعاملا فنيا ينم عن تفاعل متكامل غير منقوص معها، وبعبارة اخرى فالطبيعة تبدو وكأنها تشكل حالة مثلى لا يرى غيرها ومن خلال تلك الرؤية تنبع الحالة الانفعالية الحقيقية ومن ثم تبدأ حالة العطاء وهذا ما نلمسه عند بعض شعراء المهجر ورواد المدرسة الرومانسية في الشعر اولئك الذين انتهجوا هذا النهج ففي اشعارهم نرى الطبيعة محورا مهما في بناء القصيدة حتى اذا نحيت صورة الطبيعة من قصائدهم انعدم وجود القصيدة مثل هؤلاء كثيرا ما يخلق صورة الحياة من خلال الطبيعة المجردة او يخلقون وجوها عدة للشيء من خلال الغوص في اعماق الطبيعة مثل هذه الحالة لا نلمسها عند درويش وهي ان تكون الطبيعة اساس بناء القصيدة او بمعنى آخر تكون هي (الكل) في قصيدته ففي تلك البنية الكلية لا نجدها عند درويش وانما نجد المغزى يلوح وراء المفردات التي تكون الطبيعة هي المقصودة فيها.



                  

04-03-2003, 08:03 PM

THE RAIN
<aTHE RAIN
تاريخ التسجيل: 06-20-2002
مجموع المشاركات: 2761

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطبيعة في شعر محمود درويش (Re: almohndis)

    عزيزى المهندس

    تحية وتقدير وشكر كثير

    مثل هذه الدراسات هى فعلا ما نحتاجه ونحبه، وهى قد تتوفر للقليلين منا، لذا أرى من الواجب الإتيان بها وإرواء شوقنا لمثلها، بدلا عن مواضيع تملآ هذه الساحة، لا تغنى ولا تفيد ولا تسمن من نهم وجوع للمعرفة والفكر والفائدة

    تحية لك وتحية لدرويش المبدع
                  

04-04-2003, 05:35 PM

almohndis
<aalmohndis
تاريخ التسجيل: 05-05-2002
مجموع المشاركات: 2663

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطبيعة في شعر محمود درويش (Re: THE RAIN)

    3
    انا يوسف يا ابي، يا ابي اخوتي لا يحبونني، لا يريدونني بينهم يا

    ابي يعتدون علي، ويرمونني بالحصى والكلام، يريدونني ان اموت لكي
    يمنحوني، وهم اوصدوا باب بيتك دوني، وهم طرودني من الحقل
    هم سمموا عنبي يا ابي، وهم حطموا لعبي يا ابي، حين مر النسيم ولاعب
    شعري غاروا وثاروا علي وثاروا عليك، فماذا صنعت لهم يا ابي
    الفراشات حطت على كتفي ومالت على السنابل
    والطير حلق فوق يدي فماذا فعلت انا يا ابي، ولماذا انا؟
    انت سميتني يوسفا وهم اوقعوني في الجب، واتهموا الذئب،
    والذئب ارحم من اخوتي، ابت
    هل جنيت على احد عندما قلت اني
    رأيت احد عشر كوكبا والشمس
    والقمر رأيتهم لي ساجدين (91)
    فلو تتبعنا تلك الاسطر الشعرية لوجدنا مفردات استيقت من الطبيعة ولكل مفردة مدلول خاص بها (حصى، باب، بيت، حقل، عنب، سم، لقب، نسيم، شعر، فراشات، كتف، سنابل، طير، يد جب، ذئب، اخوة، كوكب، شمس، قمر) فهنا نجد عشرين مفردة ولكل مفردة معنى ومغزى في الطبيعة يبدو من خلال السياق العام للقصيدة فالعلاقة بين يوسف واخوته علاقة استلابية سلبية غير ايجابية اذ ظاهرة العداء واضحة جلية فيوسف صاحب (الصورة) البريئة يكن الود لاخوته وهم يناقضون تلك العلاقة فيكنون العداء المطلق ويحاولون قتله (فأوقعوه في قعر البئر) واتهموا الذئب بدمه فالذئب يحمل صورة الافتراس والعداء لجميع الحيوانات اذ لا يكتفي بجزء من الفريسة بديلا عنها كلها فالذئب عدو يوسف ولاخوته لكن ذلك العداء تناساه الاخوة واصبح ركيزة ذريعة من اجل خلاصهم من يوسف فأدى بهم ذلك الى صنيعهم المشؤوم مما حمل الضحية يوسف على التسليم بأن الذئب بشراسته وشرهه ارحم من اخوته وهذا الكره بين الضدين تقابله علاقة الوئام بين الأب ويوسف وهي العلاقة التي خلقت حالة الثورة المبتناة على الحقد والضغينة التي عاشها اخوة يوسف، فصورة يوسف والسنابل تتمايل متكئة عليها والفراشات التي تحط على كتفه، تدلل على الوئام بين الموصوف والطبيعة وعدم الوئام بين الاعداء (الاخوة) والطبيعة اذ يحاولون قتل كل شيء جميل مفيد وتحطيم اللُّعَب، وتسميم العنب، وقتل يوسف الذي تستأنس به السنابل والفراشات والطيور ونسمات الهواء التي تمر على جسده بالهوينا (حين مر النسيم ولاعب شعري) هذه الصفات حاولوا قتلها بواسطة العدو المتكامل - عدو الجميع الذئب). وعلى الرغم من مستويي العلاقة مع الطبيعة (سلبي، ايجابي) فاننا اذا ما اعدنا النظر في القصيدة من جديد سنرى ان الشاعر لا يريد الطبيعة من خلال ذكر بعض مفرداتها بل يريد اثبات شيء آخر من خلال تلفظه بتلك المفردات فها هنا نجد ان ذكر مفردات الطبيعة تمثل حالة تعبيرية يريدها الشاعر وهي تبيان حالة الضياع التي يحياها اخوة يوسف وحالة الامل التي يعيشها يوسف اذا جاز لنا ذلك، فالشاعر لا يريد الطبيعة بعينها ونستطيع ان نتخلص من بعض المفردات ونضع مفردات غيرها في تلك القصدة ويبقى المعنى واضحا سليما لا تهتز صورته وان كنا سنفقد جرسا وايقاعا موسيقيا من خلال استبدال مفردة بمفردة لان لكل مفردة ايحاءاً وجرسا خاصا مختلفا عن الايحاء الناتج عن نسج مفردة من المفردات الجديدة مع غيرها من المفردات فهنا نجد ان الطبيعة او مفردات الطبيعة ليست ركيزة اساسية في بناء القصيدة.
    درويش لا نعدّه في تلك القصائد التي تجنح نحو الطبيعة ليستاق رموزه منه بل نجد هذه الحالة الايقاعية والسلاسة في التعبير والغنائية الرقراقة .... بها مفرداته الشعرية وقلة من الشعراء الفلسطينيين يتمتعون بهذه الخصوصية
    ساحل يلتف كالافعى على اجراس خصر الراقصة
    وملوك توجوا البحر باكليل الزبد
    ايَّ شيء ينتهي في هذه اللحظة في هذا الجسد
    اي شيء يبتدى (02)
    ويقول:
    وعلى حبل الزغاريد يلاقي فاطمة
    وتغنى لهما
    كل اشجار المنافي
    ومناديل الحداد الناعمة
    ذبل العاشق عينيه
    واعطى يده السمراء للحناء/ والقطن النسائي المقدس (12).
    فالطبيعة المجردة منتفية في اشعار درويش اذ لا تهمه مجردات الطبيعة ولا يعمد الى وصف حالة التجريد فيها لا كما هي ولا كما هو يريدها ان تكون لوصفها كفنان ملتصق بها وانما يسخرها لما يراه مناسبا لخلق حالة اما انفعالية او تعبيرية علما ان الطبيعة عند درويش بحالة معنية ان كانت هذه الحالة ذاتية تعبيرية او موضوعية بمعنى ان الاثر الخارجي على الذات يظل حاضرا وان كنا لا نستطيع ان نمايز بسهولة بين ما هو خاص وما هو عام في اشعاره من هنا نستطيع ان نقول ان ذات الشاعر (الأنا) صهرت مع هموم الشعب لذا نجد ان العامل السياسي هو الدافع القوي الذي يؤثر في صيرورة القصيدة لدى درويش وفي جنوحه نحو الطبيعة كما نرى انه يمعن بالتحري عن ذاته المفقودة من خلال اشعاره التي يريد من خلالها خلق حالة معينة الا وهي الحياة من خلال وطن ذي طبيعة معينة والطبيعة سخية عليه بمعنى اننا نرى صورها الطبيعية في يده وانه يستطيع ان يخلق حالات شتى يريدها وان كانت تلك الحالات تعبيرية ولم يتول الطبيعة بالتعليل والتحليل والمقارنة كما فعل اهل الشعر المهجري والرمانسيون.
    صديقي، اخي، يا حبيبي الاخير اما كان من حقنا ان نسير
    على شارع من تراب تفرع من موجة متربة
    وسافر شرقا الى الهند
    سافر غربا الى قرطبة
    اما كان من حقنا ان ننام ككل القطط
    على ظل حائط
    اما كان من حقنا ان نطير ككل الطيور ككل الطيور الى تينة متربة (22)
    فهذه المعادلة الواضحة بين درويش وبعض مفردات الطبيعة التي نرى من خلالها الطيور طليقة تغدو وتعود بحيرة تامة وتأخذ ما تشاء مع الحيوانات الاخرى (اليفة- وغير اليف) هذه الرؤية التي جعلته يقارن بين وضع الانسان المحروم من كل اللمسات التي يتمناها او يتمتع بها ابسط مخلوق من تلك الحيوانات التي تتميز بحيرة تامة وهو ما اخذ بالشاعر الى ذكر الارض وقرائنها (تراب، غبار، شارع، حائط... هذا الاحساس بالحرمان هو الدافع الاساس لخلق مثل هذه الصور.
    فالعامل الانفعالي الجواني العاطفي (الحرمان الاجتماعي) بكل قرائنه هو الذي ساعد درويش للتعبير عن حالته بمثل هذا القول اما كان من حقنا ان نطير ككل الطيور الى تينة متربة هذا الحنين الجارف الى خلق كينونة نجده دائما واضحا جليا ببساطته وصدقه وهو ما جاء على صيغة سؤال تهكمي والتمني لان غير الطبيعة هو المقصود كما ان اللجوء الى الطبيعة عند درويش لم يأت من العبث ولا من حالة فراغ (ذهني- ايجابي) وذلك لان الطبيعة بمفرداتها ومدلولاتها تستطيع ان تستثمر من قبل الشاعر وتسخر لايصال فكرته التي يريد هذا ان لم يرد الطبيعة بحد ذاتها بل الرمز الذي تؤديه الطبيعة دائما لا يأتي من العبث وانما يخلق من خلال عملية التفاعل بين ذات الشاعر والطبيعة هذا التفاعل يمكن ان يكون حقيقيا بمعنى حبا للطبيعة وذاتها او ان يكون تعبيريا بمعنى يريد الشاعر الحالة الرمزية التعبيرية للطبيعة ليعبر من خلالها عما يجول في مكنوناته من افكار وقيم يريد توصيلها للناس هذا من ناحية ترابط الطرف الاول من المعادلة الا وهو الشاعر مع الطبيعة كما نرى الطبيعة قريبة في كل الاحوال من الطرف الثاني (المتلقي) اذ تكون عاملا ايجابيا اذ سهلت مهمة التوصيل التي يريدها الشاعر للمتلقي، عندما يخلق الشاعر حالة ابتهاج لدى الانسان حين يعمد للطبيعة ويمكن تكون الحالة سلبية مع الطبيعة من حيث الموضوع المطروق من قبل...... فعلى الرغم من ذلك يبقى للطبيعة لدى قطبي المعادلة (الشاعر- المتلقي) وقع خاص، فبعض الشعراء يعمد للطبيعة يلونها بألوانه ويصورها بصوره كما يشاء اذا اراد الطبيعة بذاتها لكن اذا كانت الحالة الانفعالية هي الرابط بين الطبيعة والشاعر فان الشاعر انما يريد الرمز وما بعده في هذه الحالة.
    يفتش كفي ثانية فيصادر حيفا التي
    هربت سنبلة
    ويا اهل الكرمل
    الآن تقرع اجراس كل الكنائس
    وتعلن ان مماتي المؤقت لا ينتهي
    دائما، او ينتهي مرة
    ايها الكرمل، الآن تأت اليك العصافير من ورق
    كنت لا افرق بين الحصى والعصافير
    والآن بعث المسيح يؤجل ثانية
    كأن الاحبة دائرة من طباشير
    قابلة للفناء، وقابلة للبقاء
    وها نحن نحمل ميلادنا مثلما تحمل المرأة العاقر الحلما (32).
    هنا ترتبط الطبيعة بحالة معينة يمر بها الشاعر وهذه الحالة كما نراها حالة ملازمة له ألا وهي الشعور بالغربة اذ نلمس الاحساس المفرط بالغربة وهذا الاحساس وصل الى حالة العقم والضياع (كأن الاحبة دائرة من طباشير) (وها نحن نحمل ميلادنا مثلما تحمل المرأة العاقر الحلما)فهذه المداخلة ما بين الصور والذكريات هي التي تجعلنا نحدس او نلمس من خلالها ان الطبيعة عند درويش مرتبطة بحالة انفعالية وهذه الحالة الانفعالية لا تجعل من الرمز الطبيعي حالة معقدة بمعنى انه يصعب الوصول الى فهم مبتغى الشاعر من خلال رمزه للطبيعة او اعتماده على صور لمفردات من الطبيعة تؤدي تلك الحالة (الانفعالية) الى خلق حالة عن الشاعر يعمد الى ايجاد صور ورموز مركبة من خلال نسجه مفردات يصعب فهمها او التغلغل في اعماقها فهنا لا نجد مثل هذه الحالة وان كنا نجد في بعض الحالات درويشا يحاول خلق لغة تعبيرية بعيدة عن لغته وتعالج المألوفة- ولذلك نرى ان الغنائية ما تزال واضحة جلية في كثير من اشعار درويش وبخاصة في قصائده التي يعمد الى جلب رموزها او مفردات رموزها من الطبيعة فالايقاع الذي تمتاز به اشعاره بالعودة فاذا فقدت قصيدة الحنين عناصر البساطة والصدق ولم تقم على طبيعة الحلم وفقدت الى جانب ذلك القوة في الاندفاع فانها قد تجيء قصيدة مخفقة وان افتتن الشاعر في طريقة التعبير. (42)
    ونستطيع ان نقرر في الختام ان الطبيعة المجردة معدومة في شعر درويش اذ كانت القصيدة بؤرة تتجمع فيها صور الطبيعة وبعد الخروج من الارض اصبحت الصور تميل الى ان تصبح ذات وهج حي وتميل الى التشتت وتكثر المناقشات الفكرية والمرتكزات والتكرار والتداعي والانتقالات الفجائية بمعنى انه لا يعمد الى استقاء موضوعاته من الطبيعة بوصفها وتشخيصها وان العامل الانفعالي الجواني في نفسية الشاعر هو الذي يسوقه للطبيعة ومفرداته وتبعا لذلك فقد تحولت الطبيعة في شعره الى حالة انفعالية (غنائية) تعبر عن انعكاس الواقع على الذات وصراع الذات مع الواقع لخلق معادل فني معبر عنه في هذا اللون من الابداع الشعري.

    الهوامش
    1- هربرت ريد، تعريف الفن ص 21.
    2- فؤاد رفقة، الشعر والموت ص 65.
    3- علوي الهاشمي، ما قالته النخلة للبحر ص 63.
    4- محمود درويش، شيء عن الوطن ص 23.
    5- يوسف الخطيب، ديوان الوطن المحتل ص 41.
    6- علوي الهاشمي، ما قالته النخلة للبحر ص73.
    7- ديوان الوطن المحتل ص54.
    8- الديوان ص 47.
    9- الديوان ص 591،691.
    01- الديوان ص 312.
    11- الديوان ص 68،88.
    21- آرنست فيشر، ضرورة الفن ص 06.
    31- الديوان ص 822،922.
    41- د. مصطفى ناصف مشكلة المعنى في النقد الحديث ص19.
    51- الديوان ص215.
    61- مديح الظل العالي ص51.
    71- د. فتوح احمد ، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر ص391.
    81- الديوان ص 961.
    91- ورد اقل ص 77.
    02- الديوان ص 864.
    12- حصار لمدائح البحر ص 421.
    22- الديوان ص 385.
    32- حصار لمدائح البحر ص06.
    42- د. احسان عباس، محمد يوسف نجم، الشعر العربي في في المهجر. امريكا الشمالية ص121.
    المصادر والمراجع
    1- د. احسان عباس. د. محمد يوسف نجم، الشعر العربي في المهجر، امريكا الشمالية دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 7591.
    2- د. احمد فتوح احمد، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، دار المعارف بمصر 7791.
    3- آرنست فيشر- ضرورة الفن ترجمة اسعد حليم، الهيئة المصرية للتأليف والنشر.
    4- علوي الهاشمي، ما قالته النخلة للبحر- دراسة فنية في شعر البحرين المعاصر 5291-5791، دار الحرية للطباعة والنشر ، بغداد، 1891.
    5- فؤاد رفقة، الشعر والموت- دار النهار للنشر- بيروت 3791.
    6- محمود درويش، حصار لمدائح البحر- دار العودة بيروت 5891.
    7- محمود درويش، ديوان محمود درويش- ط 9، دار العودة، بيروت 1891.
    8- محمود درويش، شيء عن الوطن، دار العودة، بيروت ط 1، 1791.
    9- محمود درويش، ورد اقل، دار توبيقال للنشر الدار البيضاء المغرب ط1.
    01- د. مصطفى ناصف، مشكلة المعنى في النقد الحديث القاهرة 0691.
    11- يوسف الخطيب، ديوان الوطن المحتل، دار فلسطين، ط1، دمشق.
    بقلم: د. نادي ساري الديك
                  

12-12-2003, 08:06 PM

almohndis
<aalmohndis
تاريخ التسجيل: 05-05-2002
مجموع المشاركات: 2663

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطبيعة في شعر محمود درويش (Re: almohndis)

    هل مر المحراب
    من هنا
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de