|
Re: بورتفوليو (2) (Re: هشام آدم)
|
________-
صباحاً ... كان شهوة الاكتشاف تستيقظ قبلي ، عندما وجدت أيادي الشمس تنزع عني غطائي الخفيف وتمسح برفق على عيني أن ( قم ) ففتحت عيني على أناس جالسين (تحت الراكوبة) يتعاطون الشاي بالحليب ، وما أن وقع بصرهم علي حتى اتصل خيط الأمس بكلمات من قبيل ( في السعودية بتنوموا قدر ده؟ ) ( أنسى إنّك كنت في السعودية واتعود تصحى بدري) .... إلخ . فقلت في سري (يبدو أنني على موعد مع رفيقة الأمس "إحساسي بالغربة") فرسمت ابتسامة خفيفة .. ونهضت.
هناك .. يتعامل الناس معك على أنك طفل صغير ، لا يجب أن تخرج بمفردك ، قبل أن تتعلم أبجديات الشارع وخارطة المنطقة ، أظنهم لم يسمعوا بشغف الإنسان للاكتشاف ، وبوصلته الداخلية !! ويتكلمون معك بلغة تشعر بها أقرب إلى لغة الإشارة أو لغة الصم والبكم ، متخيلين أنك من كوكب آخر قد لا تفهم اللغة الاعتيادية إلا بشكلها المبسط السخيف الذي يشعرك بالبدائية ، وكأنك تتعلم الكلام والفهم لأول مرة. ويفترضون فيك أشياء هي من البديهيات ، مثل ظنّهم أنك قد لا تعرف ميكانيكية فتح علبة الساردين (هذا إن وجدت علبة ساردين أصلاً) !!!
بعد أن أخذت حمامي الصباحي ، واستمعت إلى نشرة الإساءة التاسعة (أقصد نشرة الساعة التاسعة) هممت بالخروج لأنني أريد أن أعرف المكان إضافة إلى أنني لم أكن أطيق المكوث في المنزل لأنني كنت أحس بالاختناق. تشعر بهذا الاختناق لأنه نوع من الاغتراب الداخلي ، وعدم التوافق بين تلك الصور التي كنت تراها وبين شخوصها الحقيقيين الماثلين أمامك ، ربما كان نوعاً من الصدمة التي أفهم لها تفسيراً مريحاً يجعلني أتقبل الوضع على أنه وضع وسوف أعتاد عليه لاحقاً بالممارسة الاجتماعية الواعية والكثيفة.
وعلى حين غفلة من لغتي الركيكة (بالنسبة لهم) أردت فقط أن أعبر لهم عن رغبتي في الخروج والتجول في المناطق المجاورة ، فقلتها بكل براءة (أرح نمشي نتمشى شوية في الحارة) … فبدأوا بالضحك من كلمة (الحارة) تلك . إنه اختلاف القواميس الذي كان من المفترض أن يتم التعامل معه بشكل أفضل وأقل مساساً بخيارات اغترابي اللغوي الذي لم يكن لي يد مباشر فيه. فابتلعت الإساءة على مضض وتعلمت أن أحوّل (حارة) إلى (حلّة) وخرجت!!!
في الشارع … وعلى امتداد البصر لم أجد غير (التراب) لا شوارع مسفلتة على المدى البصري البعيد ، فتعجبت .. غير أنني لم أشأ أن أبدي هذا التعجب بسؤالٍ يفتح باباً للسخرية جديد. الكلاب … البهائم المنفلتة في زريبة بلا أسوار .. ولأول مرة أعرف آيدلوجيا الرعي البيئي .. أن ترعى البهائم في شوارع وخرائب تأكل من فتات الأوراق وعلب الجبنة الفارغة وأكياس النايلون !!!! هزيلة ، تشفق عليها وعلى ضرعها المجوّف .. تمشي فتتمسح بالجدران الجالوصية المتهالكة أصلاً .. فتعجبت مرةً أخرى.
في لقطة أخرى .. وجدت مركبة (عرفت فيما بعد أن اسمها "دفّار") تنطلق بسرعة في ما كان يطلق عليه اعتباطاً شارع (ردمية) ظننت للوهلة الأولى أنها سيارة لنقل النفايات عندما رأيت أحدهم يقف على بابها الخلفي مطلقاً صافرات بشرية من فمه .. وصعقت عندما وجدت إحداهن تستعد لركوبها !!!!
ذكرتني هذه المشاهدات مع (الدليل السياحي) المرافق لي .. بمشاوير موسى والصالح خضر … وعرفت أن لي غضبة موسى التي لا تطيق صبراً على غرائب الخضر. فسألته: "إنتا السيارة دي شنو بالضبط" فأجابني بعد ضحكة طويلة ومملة "دا اسمو الدفار … إنتا ما سمعت (الدفار شغلو حار) … دي المواصلات بتاعتنا" فقلت (سراً) "سبحان الله"
والغريب في الأمر أن المارين لم يكونوا متضايقين مما تخلفه تلك المركبات (الدفار) من غبار مزعج ورائها .. وكأن لهم خياشيم تنتقي الأوكسجين من بين تلك الأتربة العالقة في الهواء.
لقد كانت رحلتي الأولى في الجوار ، أكثر دهشة من أي رحلة افتراضية عشتها في مخيلتي عن السودان أو حتى عن تأملاتي حول مشوار البشرية إلى ساحة الحساب يوم الحشر !!!
<<<
|
|
|
|
|
|
|
|
|