جبل الوعول (روبن جان كروز – ذاكرة الوجه مرتين)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-18-2024, 09:26 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة هشام ادم(هشام آدم)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-19-2006, 10:10 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
جبل الوعول (روبن جان كروز – ذاكرة الوجه مرتين)


    جـبــل الوعــول
    روبن جان كروز – ذاكرة الوجه مرتين


    الشارع المؤدي إلى حانةِ ( بوب لوتس - Pub Lotus ) أخفت في إضاءته من الشوارع الأُخرى، ورغم أنه ليس الطريق الأقرب، إلا أن ( جان كروز) يفضله عن غيره. فهو رجل معروف في القرية، والقرية صغيرة؛ يصعب فيها إخفاء السر. قد يذهب ( كروز ) من طريقٍ آخر، ولكنه لن يعود حتماً إلا من زقاق ( ميلك لين – Milk Lane ) أو "زقاق الحليب" كما يطلق عليه. في ذلك الزقاق الضيق يضع سكانه أطباق الحليب الدافئ للقطط التي يعج بها الزقاق، وربما كان ذلك سبب تسمية الزقاق بـ(زقاق الحليب) على أية حال، فـ(كروز) لا يحب أن يراه أحد مترنحاً في طريقة عودته من الحانة. وكلما اقترب من نهاية الزقاق؛ كلما تعالت أصوات الموسيقى الصاخبة، وبعض الضحكات النسائية الخافتة، عندها يعلم (كروز) أنه بات وشيكاً من التحليق مع ملائكة الليل، فوق الغيوم الملبدة التي تغطي سماء قرية ( لايكن بن – Liken’Pin) الوادعة.

    يدخل إلى الحانة، يقف برهة ليتفحص المكان، هاهي طاولته المفضلة شاغرة كما هي العادة، فلا أحد يجرؤ على الجلوس عليها – حتى في غيابه -. يتقدم بخطوات رزينة نحو الطاولة، ثم يسحب الكرسي ليجلس. المكان حميمي كعادته، الأنوار الحمراء والزرقاء الخافتة عندما تختلط بظلام الليل يصنعان معطفاً ليلياً يوحي بنوعٍ من الدفء المكاني، وما يجعله يشعر بالحميمة أكثر، هي الأشياء التي لا تتغير أماكنها أبداً: مسرح الرقص، جهاز الـ( DJ ) موضعه وألوانه، تلك الكتابة باللون الأصفر الفسفوري على إحدى واجهات الشراب الأمامية، ألوان الكراسي ووضعيتها، أماكن الطاولات، ( سباستين ) النادل المكسيكي الأصل، والمبتسم دائماً وهو يضع منديله الأحمر الطويل داخل بنطلون الجينز، وجوه الحاضرين تكاد تكون محفوظة لديه، هم أنفسهم دائماً وفي ذات الأماكن تقريباً.

    لم يشعر ( كروز ) بتأنيب الضمير، رغم أنه ترك زوجته - التي تزوج بها حديثاً – ليقضي ليلته كما اعتاد دائماً أن يقضيها، فهو لا يحب أن يغير شيئاً في حياته. راح ( كروز ) يقلب بصره بين وجوه النادلين حتى يسعفه أحدهم، ولكنه فوجئ بـ( سباستين ) من خلفه بابتسامته الحميمية المعتاد يسأله: " ككل ليلة يا سيدي؟" فيضع (كروز) ابتسامة سريعة ووقورة على وجه "من فضلك!" ويبدو كروز منهمكاً في شربه دون انقطاع، الكأس تلو الأخرى، وما هي إلا دقائق ويفيق كروز على أصوات تصفيق حار وضجة يصدرها الحاضرون، إنها(جاكلين) تعتلي المسرح، شقراء فاتنة، مكتنزة الجسم، تكثر التبرج، واستعمال أحمر الشفاه، ترتدي فستاناً وردي اللون بدون أذرعه. يبتسم لها كروز وهو يرفع كأسه في نخب السمر الذي سوف يبدأ للتو، وتبدأ (جاكلين) بالتمايل كأفاعي الأمازون الشهيرة، ويميل الحاضرون جميعاً ويكتفي (سباستين) برقصات خفيفة وهو يخدم على الزبائن.

    وينقضي الليل، ويعود كروز إلى منزله سالكاً زقاق (ميلك لين) الأقل ضجة في القرية، لا يكاد يمشي خطوتين كاملتين إلى الأمام، مترنحاً كعادته، يغني أغنيات (بوول سين) بلغته غير المفهومة بعد أن تثاقل لسانه من فرط الشراب:

    الليل يمسح الوجوه النائمة . . .
    بمناديل رطبة بعض الشيء . . .
    ويربت على أكتاف الأطفال . . .
    وعلى رؤوس الأمهات . . .
    الليل، أنا، والليل كل هؤلاء . . .
    سيعود الخيّالة يوماً ما . . .
    من بين حقول القمح . . .
    وأشجار الليمون . . .
    سيعودون خفاءً . . .
    كي نستقبل فجراً . . .
    أهدأ من هذا الليل . . .
    أروع من هذا الليل . . .


    يقف على باب منزله، وكأنه يفاجأ به أمامه. يمسك بدلته بيده اليسرى، ويحاول إخراج سلسلة مفاتيحه من جيب بنطاله بيده اليمنى، يفتح الباب بحذر، هو لا يخاف زوجته (ألين)، ولكنه يخاف من جاره المجاور، فهو رجل فظ، خفيف النوم، توقظه حتى أصوات الأقدام العارية على الموكيت! الظلام حالك داخل المنزل، ولكنه يدخل مباشرة لأنه يحفظ خارطة المنزل جيداً، يضع بدلته على إحدى الكراسي التي ارتطم بها وما زالت أغنيات (بوول سين) على شفتيه الممتلئتين براحة النبيذ، يخلع حذاءه على باب غرفته، ويفتح الباب بهدوء، هو يعلم في أي جهة من السرير تنام زوجته، فيأخذ الاتجاه المعاكس ويرتمي على السرير وما تزال إحدى قدميه خارجه. صوت ناعس دافئ يخترق ظلام الغرفة:

    - هل عدت يا جان؟ ترى كم هي الساعة الآن؟
    * إنها تقترب من الثالثة صباحاً يا عزيزتي.
    - هل أسرفت في الشراب كعادتك؟
    * ما زلت قادراً على تمييز صوتكِ بعد!

    وما أجمل أن تهدى قبلة في الظلام الحالك، قبلة لا تعني الحب بقدر ما تعني العتاب واللوم اللذيذين، وينام (كروز) كالطفل بعد أن تقبله أمه قبلة ما قبل النوم. وفي الصباح وكالعادة (ألين) ليست على فراشها، وأشعة الشمس التي تتسلل من بين أعمدة النافذة الخشبية لتداعب عيناه العابستان. ينهض بتثاقل ويجلس على السرير مهيئاً نفسه للنهوض، يشعر بخمول غريب يسري بين عظامه، ويجد نفسه ما زال مرتدياً ملابسه التي كان يرتديها بالأمس، يُفتح الباب بحذر وتدخل (ألين):

    * أو .. حبيبي، هل استيقظت؟ كنتُ أظنك ما تزال نائماً.
    - لقد أيقظتني أشعة الشمس التي تسربت خلسة من تلك النافذة.
    * يبدو أن علينا تغيير مكان السرير، وتحريكه إلى الجهة المعاكسة.
    - لا بأس . . لقد اعتدتُ على هذا. كيف كان نهاركِ؟
    * يجب أن نجد حلاً لسقف جدار الحمام، إنه يُسرب الماء.
    - أوه .. حبيبتي، إن اليوم عطلة، لا يوجد سبّاكٌ واحد يعمل اليوم.
    * حسناً .. ولكن ضع ذلك في حسبانك.
    - سأفعل.

    كان (كروز) بدأ بالنهوض من سريره، متأبطاً منشفته البيضاء ومتوجهاً إلى الحمّام. ورغم الضجة التي يقوم بها كل ليلة إلى أنه يصحو كل صباح ليجد البيت نظيفاً كما هو، إنه يحسد نفسه على زوجته، كما يحسده كل جيرانه عليها. تذكر (كروز) وهو يُفرش أسنانه رحلته إلى جبل ( الوعول –Mountain of Ibexes ) الجليدية، فهي هوايته المفضّلة منذ أن كان شاباً يافعاً فصرخ هاتفاً على زوجته:

    - هل ترغبين بالذهاب معنا لتسلق الجبل الجليدي اليوم؟
    * ربما لن استطيع، فأنت تعرف أنني أخشى المرتفعات.

    مضمض (كروز) فمه وخارج ليجد (ألين) أمامه، قبّلها وهو يقول:

    - حبيبتي، سوف تكون رحلة رائعة.
    * أخشى أن تؤثر المرتفعات عليّ.
    - لا بأس . . سأكون إلى جواركِ طيلة الوقت.
    * ثم أنني . . .

    وارتسمت خجلة أنثوية بريئة على خد (ألين) وبدأته تمسح بكفها على بطنها وهي تقول:

    * أخشى ألا يكون (روبن) مستعداً لهذه الرحلة!!

    ارتسمت علامات الدهشة على وجه (كروز)، وبدأ ينظر إلى بطن زوجته وإلى عينيها الذابلتان خجلاً، لا يعرف ما يقول، وبدون تفكير وجد نفسه يمسك ببطنها وهو يبتسم ابتسامة عريضة:

    - هل حدث ذلك فعلاً؟ هل أنتِ حامل؟
    * تومئ (ألين): نعم حبيبي. . سوف تُصبح أباً ..
    - ماذا ؟ أنا .. أب؟

    يطلق (كروز) صرخة هستيرية عالية وهو يقذف بالمنشفة المعلقة على كتفه، ويتقافز كالأطفال، وهي تنظر إليه بفرحة غامرة، لم تره سعيداً إلى هذا الحد قبل هذا اليوم، إنه فعلاً كالأطفال، تماماً كما تعتبرهُ دائماً، فملامحه الطفولية تبدو أكثر وضوحاً عندما يغضب أو يفرح، رغم شاربه الكث ولحيته الخفيفة التي تعلو وجهه. وتظل (ألين) تتابع حركاته التي لا تهدأ وهو يقفز من ناحية لأخرى، ومن كرسي إلى آخر، ليعود ويقف أمامها:

    - سوف تعتنين بنفسك من الآن فصاعداً. لا عمل، لا مجهود، لا أشياء ثقيلة. سوف تعتنين بوجباتك اليومية، يجب أن يخرج (روبن) سليماً معافى.

    امتلئ بيت كروز الصغير بالبهجة والمرح ذلك اليوم، ورغم ذلك، أصر على الخروج إلى النزهة الجبلية، بعد أن أعطى لزوجته المواثيق والعهود الغليظة بأن لا يُكرر خروجه المتكرر من المنزلة مرةٌ أخرى، لأنه وعد أصدقائه بالخروج، وعليه أن يفي بوعده له. بدأت (ألين) تُحضّر له مستلزمات رحلته، وهو يُساعدها فيما ثقل حمله.

    وقف (كروز) على قارعة الباب، ممسكاً بيد (ألين) بقوة وبدأ يتأمل في عينيها ذلك الحب الغريب الذي تحمل امرأة بهذا الصفاء وبذلك التسامح، ووجد في عينيها ذلك الكلام الذي لم يسمعه من قبل، إنه حبٌ من نوع آخر غريب، ربما لم يفطن له قبل هذا اليوم، وبدأ يتذكر – رغم عمر زواجهما القصير – كيف أنه لم يجد منها يوماً ما قد يجعله يتمنى ألا يعود إلى البيت، تذكر أنها كانت متفهمة معه إلى أبعد الحدود إلى متطلباته كرجل، كيف أنها كانت تصفعه بالقبلات لتقول له صامتة: أرجوك لا تفعل ذلك مرةً أخرى. تذكر كيف أنها كانت سيدةً يُفاخر بها أمام أصدقائه، وكيف أنها كانت دائماً حريصةً على أن تكون السكينة والهدوء هو ديدن هذا المنزل الصغير. نظر إليها طويلاً وما تزال تلك الابتسامة الرقيقة تعلو وجهها الأنثوي الجميل، امرأة تحمل من صفات القطط الشيء الكثير، والكثير. قبّلها بقوة، وربت على شعرها وهو يُغادر:

    * اعتني بنفسك يا عزيزتي. .
    - وأنت كذلك . . حبيبي.

    وظلّت (ألين) واقفة حتى اختفى كروز بين العابرين. وفي الجهة الأخرى، التقى كروز بأصدقائه الذين كانوا في انتظاره عند مقهى ( كيد كافي – Cade Café )، تبادلوا الحديث لبضع الوقت، ثم غادروا جميعاً. السماء الصافية تجعل من كلمات الأغاني التي راحوا ينشدونها لوحة متناغمة، وأصواتهم – رغم اختلف طبقاتها – كانت تُمثل مع بعضها جوقة موسيقية جميلة بطريقةٍ ما. توقفوا عند حافة الجبل الذي يغطيه الجليد في المنطقة العلوية منه، نظروا إليه قمته بهيبة وكلُ واحدٍ منهم يُمني نفسه بتلك المتعة في الوصول إلى القمة والعودة ليروي لأصدقائه وأهل بيته تلك التجربة. إنها المرة الأولى التي يصعدون فيها جبلاً شاهقاً كجبل الوعول. ولكنها المغامرة التي تدفعهم دفعاً نحو ذلك. نظر أحدهم إلى كروز:

    • سيفخر بك (روبن) ذات يوم.

    ضحك الجميع وبدأوا بتجهيز أنفسهم للتسلّق، الأحذية المسننة، الحبال، القفازات اليدوية، رمل الجير الذي يحمي أيدهم عند التعرّق، قناني المياه الصحية، البوصلة، الساعات الرياضية على المعاصم، النظارات الحامية من انعكاس أشعة الشمس على الجليد. إنهم جاهزون الآن الجبل إلى القمة. كانت البداية سهلة وكان الجميع يتسلّقون بخطوات مسرعة ولكنهم يحافظون على المسافة قريبة بينهم تحسباً لأي طارئ قد يحدث، وهناك بعض الوعول الجبلية التي تتقافز هنا وهناك مادة للحديث أثناء التسلّق، كانت الوعول تنظر إليهم وكأنها تتساءل: من هؤلاء الدُخلاء؟. لا يجد الأصدقاء صعوبة – أو ربما لأنها البداية فقط – استمر الجميع يتسلّقون بهمّة

    قرابة الساعة، وبدأوا يقتربون من الجزء الجليدي من الجبل، مما يعني أنهم أوشكوا على الوصول إلى القمة. جلسوا على صخرة كبيرة، ليتناولوا بعض البسكويت والماء، فقد أنهكهم التسلّق. كانت أجسادهم مبتلة تماماً بالعرق، فبدأوا يمسحون أياديهم بالرمل الجيري، نظروا إلى قمة الجبل وواصلوا التسلّق من جديد. وكما كان التسلّق سهلاً حتى تلك النقطة، فقد استمروا بالتسلّق الجيّد حتى ولجوا المنطقة الجليدية، وبدأوا في التوغّل فيها. وبينما هم يتبادلون الضحكات وبعض كلمات الأغاني التقليدية شاهدوا جيشاً من الوعول الجبلية تتحرك في حركة متسارعة نحو أسفل الجبل، في البداية كانوا يظنون أن الوعول تشن هجوماً عليهم، ولكنها لم تكترث بهم كثيراً بل ظلوا في نزول المرتفع وما هي إلاّ لحظات ويسمعون ضجة وجلبة آتية من الأعلى. يصرخ أحدهم:

    • إنه انهيار جليدي يا رجال!

    يحاول البعض النزول وكل واحد منهم يساعد زميله الذي بجواره. وتدب الفوضى فجأة. إنهم ما زالوا يجاهدون في سبيل النزول ولكن هذه الحبال تعيق حركنهم، ولا يستطيعون الاستغناء عنها. وفجأة تتقدم نحوهم موجة كبيرة وسريعة من الجليد المنحدر. أحدهم آثر القفز من الجبل على الموت دفناً تحت كومة الجليد القادمة. والآخر انزلق وبدأ بالتدحرج على سفح الجبل. كان كروز ما زال ممسكاً بيد صديقه وهو يحثّه على مواصلة النزول، ولكن لا بُد أنه مصاب في قدمه جاءت الموجة الجليدية واختفى الجميع في إحدى جوانب القرية، صوت عازف الهارمونيكا يختلط بأصوات الأطفال الذين يعلبون بالماء. تقف (ألين) على باب منزلها ترمي بنظرها نحو الطريقة المؤدية إلى الجبل.

    وترد التحية على العابرين دون أن تدير لهم وجهها. لقد أوشكت الشمس على المغيب، ربما عادوا وفضلوا الجلوس إلى بعضهم في إحدى مقاهي القرية. ربما ذهب إلى رحلة صيد. ربما اتجه كروز مباشرة إلى الحانة. ولكن أبعد أن عرف أنني أحمل في أحشائي ابنه؟ ربما! إنه رجل غريب الطباع. ولكن، لا .. أشعر أنني قلقة عليه . ولكن ليست هنالك دواعي للقلق. فما زالت الساعة الخامسة والنصف أو أكثر قليلاً. تدخل ألين إلى المنزل وتغلق الباب خلفها. ويحل الليل والساعة الآن قرابة الحادية عشر قبل منتصف الليل. وكروز لم يعد، ألين في بهو المنزل كاللبوة الجريحة، تغطي مساحة الأرضيات قلقاً ذهاباً وإياباً. ويُغطي سكون الليل المكان بأكمله، دقات قلبها فقط هي التي تُسمع الآن، وطقطقة أصابع يديها وهي تقبض عليهما. ينتصف الليل، ويأتي الصباح، القلق يعتصر قلبها عصراً. تخرج إلى الشوارع تركض حافية القدمين، تلهث كما لو كانت تبحث عن طفلها الضائع، تتجه إلى خارج القرية. تقف على مشارفها تنظر إلى حيث جبل الوعول شامخاً وهادئاً كما عهدته منذ صغرها. تخاطبه بلغة أثيرية: هل رأيتِ كروز؟ فلا يأتيها الجواب. تعود إلى القرية، تسأل الناس والمارة، تذهب إلى المقاهي إلى حانة اللوتس علّها تجده. ولكن لا أثره له. لقد اختفى تماماً. بدأ قلقها يستحيل إلى خوف، والخوف إلى جنون، والجنون إلى مرض حتى سقطت مغشياً عليها. وتمت إعادتها إلى المنزل. الكل يعرفونها. السيدة ألين زوجت كروز السكّير. وتمر الأيام وتعلو في القرية صيحات ست نساء فقدن أزواجهن في رحلة التسلّق تلك. يخرج رجال القرية وشبابها إلى الجبل، يقتادون معهم كلابهم ويستمر البحث لسبع ساعاتٍ متواصلة، ولكن دون جدوى.

    وأخيراً، كلب ينبح بقوة، يُهرع الجميع إلى المكان، ليجدوا جثة مقطوعة اليد، إنه (توماس) صاحب محل الأحذية يحمله الرجال ويلفونه بقطعة القماش التي كانت معهم ويستمرون في البحث لساعتين، ولكن لا جدوى. فيعود الرجال أدراجهم. وتبدأ مراسم دفن (توماس) ويحتشد أهل القرية لحضور مراسم الدفن، ويُكشف الغطاء عن تابوته ويُمسح لأهله بإلقاء النظرة الأخيرة عليه. وفجأة تتقدم (ألين) وهي تعتصر قلبها عصراً تقف مع أسرة توماس، وكأنها تريد أن تسأله عن مكان زوجها، أو ربما تريد أن ترى فيه كروز رفيقه. وتبكي ألين بقوة. أرجو يا توماس انهض أرجوك انهض .. ويمسك بها الرجال. ويبتعدون بها عن التابوت. وتصيح فيهم: إنه الوحيد الذي يعرف ماذا حلّ بكروز. ولكن لا يُجدي البكاء أبداً. يقودها الرجال إلى منزلها، وتدخل غرفتها، حيث السرير لم يتغير مكانه، وجواربه ملقاة بجوار السرير. ما تزالان دافئتين تمسكهما وتغيب في عالم من البكاء المرير. وبعد عدة أشهر تضع (ألين) وليدها، سوف تسمّيه روبن كما كان كروز يحلم دائماً. نذرت (ألين) نفسها لتربية ابنها وبدأت تعمل في محل للخياطة وتتقاضى راتباً لا بأس به بالإضافة إلى العمولة التي تحصل عليها عندما يباع أي فستان تصنعه. وبعد مدة، استطاعت أبين شراء ماكينة خياطة لها في منزلها، وبدأت تعمل لصالحها. ودخل روبن المدرسة وبدأ يكبر أمامها وكلما كبر كلما بدأته ملامحه تقارب صورة أبيه تماماً. كان روبن يسأل أمه عن شكل أبيه فكانت تقول له: انظر إلى المرآة. فقد كان روبن يشبهه تماماً. ويكبر الصبي ويصبح شاباً ثم رجلاً فتياً بنفس الشارب الكث والذقن الخفيفة. لقد بدأت أمه تناديه بـ(كروز). كبرت ألين في السن وتقدم بها العمل حتى أصبحت لا تستطيع الحراك إلاً لبضع خطوات. كان روبن يحب أمه كثيراً وبدأ يساعدها في عمل المنزل ليخفف عنها قليلاً ما تعانيه. وكان لروبن أصدقاء يزورونه في منزله الذي لم يتغيّر كثير عمّا كان عليه في السابق. أمه – كأي أم – تريد أن تراه متزوجاً وسعيداً في بيته مع زوجته، ولكنه لم يكن يفكر في الأمر.

    ذات صباح، بينما كانا يتناولان الإفطار. وضعت (ألين) يدها على كف روبن وهو يأكل وتنظر إليه بابتسامة هادئة جداً، كمن تتأمل في حبيبها، رفع روبن عينيه ونظر إليها باستغراب:

    • لقد كبرت يا روبن، إنك تشبه والدك تماماً.
    - أريد أن أراه.
    • قلت لك أن تنظر إلى المرآة. إنك تشبهه تماماً.
    - هل أنا وسيم إلى هذا الحد يا أمي؟
    • لقد كان والدك وسيماً. لقد كان أوسم رجلٍ في القرية.
    - هل كنتِ تحبينه؟
    • بالطبع! لم تكن هناك امرأة تجرأ ألا تحبه. لقد كانت لعينيه نظرة ساحرة، تماماً كما هي نظرات هذه. أنت نسخة بالكربون منه يا روبن.
    - لا تبالغي.
    • لا أبالغ، إنما أقول الحقيقة. أريد أن أفرح بكل قبل أن أموت.
    - لا تقولي هذا يا أمي (يقولها وهو يقبل يدي أمه).
    • عدني بأن تفكر ثانياً في هذا الأمر.
    - أعدكِ يا أمي.

    ينهض روبن من المائدة ويتوجه إلى المغسلة,

    • لم تكمل إفطارك بعد!
    - لقد شبعت.
    • ولم تبدو في عجلة من أمرك؟ هل أنت خارج الآن؟
    - نعم سنذهب أنا ورفاقي إلى جبل الوعول.

    عندها فتح ألين عينيها وشدهت فمها، وصرخت: ماذا تقول؟ جبل الوعول؟ لم يكن روبن يعلم أبداً سبباً لثورتها هذه. ببساطة فهي لم تخبره عن قصة موت أبيه. ولم تكن ألين ترغب في ذلك. ولكنها الآن تواجه الموقف ذاته. كيف تستطيع أن تجعله يعدل عن رأيه؟ هي لا تريد أن تخسره كذلك، كان جبل الوعول بالنسبة إليها ذلك الوحش الذي لا يُعيد الذين يذهبون إليه، شبحها الآثم الذي لن تغفر له ولن تسامحه أبداً.

    لماذا يبتلع كل الذين تحبهم؟ وبدأت عينيها تفيضان بالدمع وهي تومئ برأس بالرفض، نظر إليها روبن بدهشة محاطة بالإشفاق عليها، اقترب منها وهو يحاول أن يعرف من بين عينيها ذلك السر الذي يعتصر فؤادها كلما ذكر لها اسم جبل الوعول. لماذا تخشاه إلى هذا الحد؟ أي سر تحمله هاتان العينان الدامعتان؟

    • أمي، لقد وعدت أصدقائي.

    يا إلهي، إنها نفس الكلمات التي قالها كروز قبل أن يرحل عنها لآخر مرة، ولم تره بعد ذلك. هل يُعقل أن يكون القدر مترصداً لها طيلة هذه الفترة؟ ماذا جنت ليُفعل بها كل هذا. لقد أخرسها المُصاب عن الكلام، كل ما استطعت فعله، هو أن تمس بقميصه بقوة وأن تنشب أظافرها فيه وهي تهزه بقوة، هزّة تجمع بين الشفقة وبين الغضب، بين الرأفة وبين الخوف، بين الحب وبين القلق. كان روبن يشعر بكل ذلك، ولكنه يرى نفسه شاباً فتياً يستطيع أن يعتمد على نفسه، لم تمنعه أمه من القيام بأي شيء يريده قبل هذا اليوم، فلماذا تفعل ذلك الآن؟ نظر إليها مطوّلاً، ويراقب دموعها وهي تسيل على خدها تحمل صورته فدنى منها وقبل دمعتها قبل أن تتلاشى وتسقط على يدها المرتجفة.وقبلها بين عينيها وهو يقول لها:

    - أعرف أنك أم رائعة جداً، وقلوب الأمهات لا تتحمل أن يحدث مكروه لفلذات أكبادهن، ولكني أعدكِ بأن أعود سالماً، وألا أتأخر عليكِ. فأنا أريد أن أقضي معك السهرة هذه الليلة. هل لكِ أن تحضري لي بعض الكعك بالتفاح، تعرفين أني أحبه من يديك.

    قبلها مرة أخرى، وغادر وهي تراقبه، كأنها لن تراه مرةً أخرى، بدأت تتأمله وهو يرتدي ملابسه بنفس طريقة والده، وضعت وجهها بين يديها وراحت تبكي وتدعو في سرها بلهفة الأم:

    • إلهي . . أنت تعرف أنني وحيدة في هذه الدنيا، ليس لي غيره، فلتحفظه لي، هو الوحيد الذي يؤنسني في وحشة هذا المنزل، هو سندي وعصاي التي أتوكأ عليها، وقرة عيني التي أرى بها الجانب المضيء من هذه الحياة. فلتحفظه لي، واحفظ عليه شبابه. إلهي .. أعده إلي سالماً أرجوك فأنا أحتاجه.خرج روبن من منزله، ليجد أصدقاءه بالخارج في انتظاره، إنهم على وشك أن ينطلقوا إلى جبل الوعول، إن قمته في مثل هذا الوقت من السنة يكون مغطىً بأكمله بالجليد، سوف تكون رحلة ومغامرة ممتعة جداً لهم. اتجهوا غرباً حيث يقع الجبل. وما هي إلا ربع ساعة وكانوا واقفين أمام هذا الجبل. نظروا إليه بهيبة وهم يتطلعون غليه قمته الشامخة. إنه جبل مهيب، وتلك الأساطير والخرافات التي تُطلق عليه في القرية تزيد من هيبته وتلطي عليه بظلال من الأسرار، أصوات الريح التي تصفع سفحه مخيفة جداً. ولكن المغامرة لا تحمل نكهتها الحقيقة ما لم تكن محفوفة بالمخاطر.

    ضحك الجميع وبدأوا بتجهيز أنفسهم للتسلّق، الأحذية المسننة، الحبال، القفازات اليدوية، رمل الجير الذي يحمي أيدهم عند التعرّق، قناني المياه الصحية، البوصلة، الساعات الرياضية على المعاصم، النظارات الحامية من انعكاس أشعة الشمس على الجليد. إنهم جاهزون الآن الجبل إلى القمة. كانت البداية سهلة وكان الجميع يتسلّقون بخطوات مسرعة ولكنهم يحافظون على المسافة قريبة بينهم تحسباً لأي طارئ قد يحدث. الوعول الجبلية تتقافز أمام عينيهم، كم هي رشيقة في قفزاتها بين هذه الصخور القاسية والحادة. وصل الأصدقاء إلى الجانب الجليدي من الجبل، ولكن ما زال أمامه المزيد. توقفوا ليأخذوا قسطاً من الراحة نظروا إلى القمة إنه على بعد نصف ساعة تقريباً (إذا واصلوا بنفس الوتيرة). جلس روبن على صخرة كبيرة واخرج من الحقيبة التي يحملها على ظهره قارورة من المياه الصحية، ويمسح عرقه بكم قميصه المُعد خصيصاً لمثل هذه الهوايات. شعر بأن ثمّة شيء ما تحته. نظر إلى تحت قدميه فأحس بأن شيئاً ما مدفوناً تحت هذه الكومة الجليدية، في البدء خّمن أن تكون جثة إحدى الوعول الجبلية ولكنه ما أن بدأ بفرك الجليد بقدميه حتى وجد ملابس بشرية، ترك قارورة المياه من يده وجثا على ركبتيه وبدأ يزيل الجليد عن الشيء المدفون. بدأ أصدقائه ينظرون إليه مركزين على المكان الذي يحفر فيه.

    وفجأة وجد روبن نفسه أمام وجهه. وكأنه ينظر إلى المرآة نفس اللحية الرقيقة والشارب الكث نفس تقاطيع الوجه والقسمات، هل يُعقل هذا؟ إنه أبوه كروز، نعم! لقد سمع كثيراً عن مدى التشابه الذي بينهما، ولكنه لم ير قط صورة له، ولكنه الآن أمام حقيقةٍ ما. إنها جثة رجل يُشبه تماماً لقد احتفظت الجليد بملامح طيلة هذه السنوات الغريب أن روبن كان أكبر من أبيه قليلاً! راح روبن في نوبة بكاء هستيرية طويلة ممسكاً بجثة أبيه. حاول أصدقائه أن يُخففوا مصابه ولكنهم عجزوا عن ذلك. وبعد ساعة اتفق الجميع على ضرورة حمل الجثة إلى القرية ودفنها في مدافن القرية.

    عاد روبن إلى أمه وهو يحمل أباه في عربة تجرها فرس مريضة، كانت ألين تتوقع أن يعود إليها مسجىً على ظهر العربة ولكنها الآن أمام صورتين متطابقتين، هذا هو كروز زوجها الحبيب الذي لطالما حلمت أن تلقاه لتودعه. إن ملامحه لم تتغير منذ آخر مرة رأته فيه وهو يُغادر المنزل، نفس القميص ونفس الساعة التي كان يرتديها! ولكن ملامحه أصغر من ملامح ابنها كثيراً ظلت الين تنظر إلى كروز المُسجّى وإلى روبن الباكي، إن ملامح كروز أكثر شباباً من ابنها، هل يُعقل أن يكون زوجها أصغر سناً من ابنها؟ ظل أهل القرية يتناول قصة الشاب الذي وجد جثة أبيه، وكيف أن الابن وجد نفسه أكبر من أبيه المتوفى! وما زالت هذه القصة يتناقلها سكان القرية في جميع المحافل، حتى حانة لوتس بوب، وارتبط اسم جبل الوعول باسم كروز وعائلته حتى هذا اليوم!

    Hisham Adam

    (عدل بواسطة هشام آدم on 02-19-2006, 02:29 PM)

                  

02-19-2006, 01:39 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جبل الوعول (روبن جان كروز – ذاكرة الوجه مرتين) (Re: هشام آدم)

    هذه القصة لإنسانة جهجهها القص واللصق
                  

02-19-2006, 03:37 PM

khaleel
<akhaleel
تاريخ التسجيل: 02-16-2002
مجموع المشاركات: 30134

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جبل الوعول (روبن جان كروز – ذاكرة الوجه مرتين) (Re: هشام آدم)

    هشام

    ياخي

    والله العظيم فعلا انت فنان

    ونحن فعلا بنكتب هنابيك

    ما بتجيب الكلام الحلو دها من وين
                  

02-20-2006, 06:54 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جبل الوعول (روبن جان كروز – ذاكرة الوجه مرتين) (Re: khaleel)

    عزيزي خليل

    أربكتني جداً هذه المداخلة ، فلم أعرف ما أقول. ويقيني أن ( شكراً ) سوف تكون عبارة في غير محلها إن قلتها لك. ولكن دعني أخبرك أمراً:

    أنا أقرض الشعر ولا أدعي أنني شاعر ...

    وأحاول كتابة القصص غير أني لا أحاول مقارعة العمالقة بما يكتبونه بفن وحرفية لغوية عالية الجودة تماماً كما يكتب أستاذنا الكبير عثمان محمد صالح أو كما يفعل عميد القصة الشاب المتألق محسن خالد ولا حتى بلغت أناقة أستاذي الجليل الفاضل أبو جهينة. أنا إنما أحاول فقط أن أكتب لنفسي .. فربما صادف سهمي الطائش فؤاد شخص عابر سبيل مثلك فوقعت في نفسه موقعاً حسناً . هذا كل ما في الأمر. وإن أشكرك إنما أشكرك على مرورك واحتمال القراءة.


    هشام آدم

                  

02-22-2006, 09:45 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جبل الوعول (روبن جان كروز – ذاكرة الوجه مرتين) (Re: هشام آدم)

    UP too
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de