ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 01:48 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-03-2008, 04:23 AM

طلعت الطيب
<aطلعت الطيب
تاريخ التسجيل: 12-22-2005
مجموع المشاركات: 5826

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين (Re: طلعت الطيب)

    الفصل الثاني

    ما وراء دارفور: الهوية والحرب الأهلية في السودان

    "نادراً ما يقر العرق الغالب، أبيضاً كان أو غير ذلك، في أي مجتمع بعنصريته، وبوسعنا أن نصف هذا التنصل بأنه كوني تقريباً، وهو يرجع إلى أسباب متعددة، من أهمها أن للعرق الغالب منافع ضخمة في امتيازاته الناتجة عن هذا الوضع. وكثيراً ما يكون العرق الغالب غافلاً عن تحيزه، بل ويعتبر ميوله العنصرية أمراً صحيحاً وبديهياً، وأن لها من المبررات والقوة ما تملكه الطبيعة ذاتها. فقط حينما يتم التصدي لها من قبل أولئك الذين تمارس ضدهم، يمكن للعنصرية أن تزال، وللتوجهات أن تبدأ في التغير... إن الأمم ليست أمينة مع نفسها على الإطلاق، وكلها على هذه الدرجة أو تلك من التنصل."
    (مارتين جاك).

    مقدمة
    السودان موبوء بالصراعات. وكما أشرنا في الفصل الأول فقد دخلت الحرب الأهلية في جنوب السودان موسوعات الأرقام القياسية بكونها أطول حرب في أفريقيا. وبينما كان العالم يهفو لرؤية نهاية هذه الحرب باتفاقية السلام الشامل التاريخية التي وقعت في مطلع عام 2005، اشتعلت حرب واسعة أخرى، ما زالت نيرانها تتصاعد في دارفور، بينما حرب ثالثة أقل ضجيجاً وضراوة تدور رحاها في الشرق. وفي جميع هذه الصراعات تكمن تصورات الهوية في قلب المشكلة. إن تجاهل تعددية الهوية في السودان يمثل المعضلة الرئيسة وهو الذي يؤطر كل الصراعات السودانية. لقد رفضت الطبقة الحاكمة الشمالية، التي ورثت الحكم عن الاستعمار، أن تقبل بمواطني الجنوب وجبال النوبا والأنقسنا كما هم، وأصرت على أن تراهم كما ينبغي أن يكونوا عليه. وترى تلك الطبقة في مواطني دارفور، والبجة في شرق السودان، بحكم أنهم مسلمون ويتحدثون نوعاً "مكسراً" من اللغة العربية، النموذج النهائي والمكتمل لما ينبغي أن يكون عليه مواطنو الجنوب والأنقسنا وجبال النوبا. وقد ظلت الطبقة الحاكمة الشمالية لعقود عدة تعتبر وضع مواطني دارفور والبجة أمراً محسوماً. وبما أن أهل دارفور وشرق السودان ظلوا دينياً وثقافياً وسياسياً ملحقين بالمجموعات الشمالية النيلية، ويُنظَر لهم كانعكاس مشروخ للذات الجمعية الشمالية، فهم في نظر الطبقة الحاكمة يدركون تماماً موقعهم الدوني في التراتبية الاجتماعية والعرقية، وقانعون بما تقرره هذه الطبقة في شأنهم حامدين شاكرين. وقد شرعت الطبقة الحاكمة الشمالية، مستخدمة جبروت الدولة، في تنفيذ ما يمكننا اعتباره جوهرياً مشروع هندسة اجتماعية يهدف إلى إنتاج مواطنين على نفس تلك الشاكلة، شاكلة مواطني دارفور وشرق السودان، في الجنوب وجبال النوبا وتلال الانقسنا، وقد أثبت التاريخ خطل هذا المشروع واستحالته. وفي ذات الوقت، كانت الطبقة الحاكمة تؤمن بأن الأشياء في دارفور وشرق السودان ستستمر كما هي عليه إلى الأبد، باعتبار أن السياسات التنموية والتعليمية والثقافية التي وضعتها تلك الطبقة كانت مصممة لضمان وتأبيد هيمنتها السياسية والثقافية والاجتماعية. وهنا أيضاً أثبتت الأحداث الخطأ القاتل لتلك الطبقة.

    الهوية: نظرة تاريخية
    أشرنا في الفصل الأول إلى حقيقة أن الهوية ظلت دائماً قضية مركزية في الإطار السياسي - الاجتماعي للسودان. وكيف أن السكان في مملكة الفونج كانوا مرتبين وفقاً لهويتهم العرقية والإثنية. وقلنا أيضا أن العرب تربعوا على قمة الهرم الاجتماعي، وهو ما جعل بقية السكان يرغبون في الانتماء إليهم. وتعطي حملة الشائعات التي انطلقت ضد الفونج واصفة إياهم بأنهم "وثنيون لا تجري في عروقهم قطرة دم عربية واحدة"، وكذلك ردة فعل الملك بادي التي أكد فيها أنه عربي متحدر من الأمويين، تعطي فكرة كاملة عن المناخ الاجتماعي والنفسي في المملكة خلال عهد الملك بادي الثالث.
    لقد أزال انهيار مملكة الفونج أمام جحافل القوات التركية-المصرية في عام 1821 آخر حاجز أمام الهيمنة المطلقة للمجموعات المستعربة، أي السلطة السياسية للفونج. وتشير حقائق التاريخ أن محاولات الإطاحة بسلطة الفونج لم تتوقف قط من قِبَل أحفاد عبد الله جماع والمجموعات المستعربة بالرغم من أن جميع تلك المحاولات كان نصيبها الفشل. وبما أن مصير السكان المحليين كان يتقرر تبعاً لفهم الغزاة لهوية السكان العرقية والثقافية، فقد وضعت السلطة الجديدة المجموعات المستعربة المسلمة فوق جميع "الآخرين". كانت تلك هي الفترة التي تعاظمت فيها مكانة المجموعات المستعربة كوكيلة لتجار الرقيق الأتراك والأوربيين والعرب. كما كانت أيضاً هي الفترة التي امتلكت فيها كثير من الأسر الشمالية الرقيق. وحينما جاء المستعمرون البريطانيون في نهاية القرن التاسع عشر أسسوا سياستهم على نفس الفهم السائد للهوية الشمالية والجنوبية. لقد حافظوا على الهوية الشمالية وتعاملوا معها باحترام، بينما حاولوا تغيير و"حماية" الهوية الجنوبية. في تلك المرحلة لم يكن الصراع بين هوية شمالية وأخرى جنوبية، ولكنه بالأحرى كان بين مخططين متنافسين حول ما يجب أن تكون عليه الهوية الجنوبية، مخطط السودانيين الشماليين والمخطط البريطاني، ولم تكن الهوية الجنوبية فاعلاً في ذلك الصراع، بل كانت موضوعه.
    أيضا أشرنا إلى أن هناك إجماع في وصف الحرب الأهلية في جنوب السودان، والتي اندلعت سنة 1955، بأنها كانت صداماً بين الهويات، أو كما وصفها رئيس أفريقي بأنها حرب بين أناس يرتدون العمائم وأناس يلبسون ريش النعام. أما التمرد المسلح الذي اندلع في دارفور في غرب السودان، ثم اتخذ شكل الحرب الشاملة في عام 2003، فقد تأسس على خطاب عرقي/إثني واضح للعيان. لقد أعلنت حركتا التمرد المسلح، حركة وجيش تحرير السودان وحركة العدالة والمساواة، أن السودان ظل دوماً تحت سيطرة المجموعات الإثنية "العربية"، والتي مكنت لتحيزها العنصري مؤسسياً، وهمشت المواطنين "السود" ودفعت بهم إلى أحط درجات العوز. وقد اتضح الآن أن واضعي الكتاب المشهور "الكتاب الأسود – التوازن المختل في السلطة والثروة في السودان" هم قادة حركة العدل والمساواة. ويتضمن ذلك الكتاب إحصاءات عن احتكار السلطة القائم على العرق في سودان ما بعد الاستقلال، ويركز على أن البلاد ظلت تحت سيطرة ثلاثة مجموعات إثنية، مستعربة، فقط .

    لقد كان رد الحكومة على التمرد في دارفور عنيفاً ومشابهاً، بصورة ملفتة، لطرق إدارتها للحرب في جنوب السودان، كاستخدام جيش وسلاح طيران الحكومة، وخلق الميليشيات من المجموعات الإثنية العربية في المنطقة والترخيص لها بالقتل والاغتصاب والنهب. لم يخفف إسلام المواطنين في دارفور من وحشية الحملة ولا من غلواء الممسكين بمقاليد السلطة أو يجعل في قلوبهم رحمة تجاه إخوتهم في الدين، وهو ما دفع بمثقفي دارفور إلى التنقيب عن تفسير لهذه الوحشية والقسوة في العنصرية ولون البشرة.
    وبينما جعجعة المجتمع الدولي تصم الآذان وتعلو على أفعاله، تواصلت المذابح في دارفور دون توقف. لقد دمرت مجتمعات بأكملها أو أبيدت أو اقتلعت وهجرت قسراً من أراضي جدودها. وفيما نهب القرى وتمزيق الأسر وقتل الأطفال واغتصاب النساء يتواصل، كان العالم يتداول في ماهية التعبير المناسب لوصف المأساة. ولكن، وبصرف النظر عن الوصف الذي سيستقر عليه العالم، إبادة جماعية أو تطهير عرقي أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب، ستظل الهوية وسيبقى الاستعلاء العرقي هما لحمة وسداة النسيج الثقافي الكامن تحت هذه الجرائم، وهذا هو ما ستناقشه هذه الورقة.

    أسئلة أساسية
    الأسئلة الأساسية التي يسعى هذا الفصل لمخاطبتها هي: ما هي الأسباب الدفينة لهذه الصراعات في السودان؟ ما هي الدعامات الثقافية والإثنية التي تستند إليها الفظائع المقترفة في الجنوب وفي دارفور؟ هدفنا هو النظر إلى الجذور الثقافية للصراعات، بالتركيز على الطبيعة الإقصائية لهوية الطبقة الشمالية الحاكمة، ومحيطها الثقافي. كما نحاول أيضاً أن نميط اللثام، من جانب، عن الصلة بين أسلوب تعريف الشماليين لأنفسهم في العلاقة مع "الآخرين" في البلاد، ونوع الاستراتيجية المضادة للتمرد التي تتبناها الحكومة، وبين قبول العامة في الشمال، ظاهرياً على الأقل، لهذه الجرائم الوحشية التي ترتكب ضد مواطني تلك المناطق، من الجانب الآخر. ومن قبيل الاستطراد، سننظر أيضاً في بعض ردود الفعل في العالم العربي ذات الطبيعة الاعتذارية والمهادنة تجاه تلك الفظائع، ونرجعها إلى قضية الهوية. وحالما نثبت ذلك، ننتقل لنربط بين الطبيعة الإقصائية لهوية الشماليين، والتي حاولوا أن يصبغوا بها البلاد كلها، وبين ردود الفعل العنيفة للمجموعات التي تمزقها تلك التوجهات.

    تناقضات الهوية في شمال السودان
    لقد أشرت في الفصل الأول إلى أن السودانيين الشماليين يعانون من أزمة في الهوية. وأن الحرب الأهلية التي أدارتها الطبقة الحاكمة بنشاط ومثابرة إنما هي نتاج لهوية منحرفة، مأزومة، ومغتربة عن حقيقة ذاتها. ويعود السبب الدفين لتلك الأزمة إلى حقيقة أن السودانيين الشماليين لا يدركون على وجه الدقة من هم. وقد أشرت في الفصل الأول إلى أن الشماليين يعيشون في عالم منشطر. فبالرغم من إيمانهم بأنهم يتحدرون من "أب" عربي و"أم" أفريقية، إلا أنهم يتماهون مع الأب ويقمعون الأم. المشكلة هي أن هذه الأم التي يقمعونها متمكنة من كامل سيمائهم لدرجة أن الأب أصبح غير مرئي تماماًً، إن لم نقل أنه كان أصلاً محض اختلاق ومن وحي الخيال. وفي حين يعتبر الشماليون أنفسهم عرباً، فإن العرب "الأصلاء" في العالم العربي، خاصة في الخليج والهلال الخصيب، لا يعترفون بدعواهم هذه ويعتبرونهم عبيداً. ويبدو الشماليون هنا كأنهم يحدقون في المرآة بحثاً عن أبيهم فلا يجدونه إلا في خيالهم الخصب، أما حينما ينظر العرب إلى الشماليين فإنهم لا يحتاجون إلى نظارات مكبرة لكيما يروا أمهم الأفريقية.
    وقد ذكرت أيضاً أن السودانيين الشماليين، من الناحية الثقافية، استلفوا كل النظام الدلالي للثقافة العربية، وكذلك النظام الرمزي للغة العربية. ومن المعروف أن النظام الدلالي للثقافة العربية والنظام الرمزي للغة العربية يكرسان اللون الأبيض ويصمان اللون "الأسود"، على المستويين الثقافي واللغوي. التناقض هنا هو أن الشماليين، والذين عادة ما يتراوح لونهم بين "الأسمر والأسود"، قد أخضعوا أنفسهم تماماً لهذه الثقافة العربية، والتي هي جوهرياً ثقافة "بيضاء". وفي استخدامهم النظام الدلالي لتلك الثقافة، والتي تحتقر اللون الأسود، فإن الشماليين يغيبون ذواتهم، ويجسدون المركز، فالذات الشمالية غائبة كفاعل في هذا النظام، ولا توجد فيه إلا كموضوع ينظر فيه بعيون المركز. أما على مستوى استخدام اللغة، فالشماليون يستخدمون كلمات "أبيض" و"أسود" للرمز إلى الخير والشر، السعادة والتعاسة، الطهر والفساد، والتفاؤل والتشاؤم. وتجري تعبيرات مثل "اليوم الأسود" و"السوق الأسود" و"قلب فلان أبيض أو أسود" على ألسنة الشماليين بصورة عادية، دون أي إحساس أو شعور بازدراء الذات الكامن في هذا الاستخدام للغة. ولا جدال في أن هذا "التناقض" الصريح يؤدي إلى استبطان الدونية وتخفيض قيمة الفرد وإلى الكراهية المطلقة للذات. إنها لمخاتلة مذهلة أن يقوم الشماليون، بدلاً من تعديل اللغة العربية لتتناسب مع سيمائهم، بتخيل سيماءات أخرى لأنفسهم حتى يتسقوا مع اللغة.
    اجتماعياً، وتماماً كما يفعل العرب، فإن الشماليين يُسَمُّون سود البشرة من الناس عبيداً، وهو ما يعرف ويفسر توجهاتهم القمعية تجاه المكون الأفريقي في البلاد، سواء تجسد هذا المكون داخل أنفسهم، أو تمظهر خارجها في صورة الجنوبيين والدارفوريين ومواطني جبال النوبا والأنقسنا. ونفسياً، يهفو عامة السودانيين الشماليين كي يكونوا بيضاً أو فاتحي لون البشرة. وهذا الوعي باللون هو من القوة بحيث أن أول ما يفعله الشماليون عندما يولد لهم طفل هو أن ينظروا إلى لون أذنه، خوفاً من أن تكون داكنة، حيث أن لون أذن الطفل يعطيهم مؤشراً عن لونه مستقبلاً. تلك علامات واضحة على مركب النقص الذي يعاني منه الشماليون والذي يدفعهم دائماً إلى أن يصبحوا ملكيين أكثر من الملك، بالتركيز المشتط على الهوية العربية.
    بتبني السودانيين الشماليين لهوية وضعتهم في تخوم هوية العرب "الأصلاء"، فقد دفعوا بالسودانيين من غير العرب إلى هوامش الهوية الشمالية، وبالتالي أصبح السودانيون من غير العرب منفيين إلى هامش الهامش. ولكن التناقض الأكبر في هوية السودانيين الشماليين يكمن في أنهم في حين يسمون مواطنيهم من السود "عبيداً"، فإنهم هم أنفسهم يُسمَّوْن "عبيداً" من جانب العرب "الأصلاء" خارج السودان. ومن هنا نخلص إلى أن الشماليين، بإلحاقهم أنفسهم بالعالم العربي على هذا النحو، هيّأوا أنفسهم لأداء دور الوكيل الذي سيحمل إنابة عن العرب رسالة ثقافية في السودان وما ورائه.

    الهوية الجنوبية: نبذة تاريخية
    لا نعرف الكثير عن الجنوب قبل الفتح التركي المصري عام 1820. ولكن، بصرف النظر عن نوع الحياة التي كانت تأخذ مجراها في الجنوب حتى 1820، فقد اختلت تلك الحياة بفعل الفتح التركي المصري، والذي قدم الجنوب للعالم، وللسودانيين الشماليين، كمصدر للرقيق، وبالتالي حدد من أول وهلة العلاقة بين الشمال والجنوب كعلاقة بين سيد، هو مالك أو تاجر الرقيق من جانب، وعبد، هو متاع أو بضاعة من الجانب الآخر. وسنرى فيما بعد أنه رغم اختفاء مؤسسة الرق، فإن جوهر تلك العلاقة، وهو التحكم والسيطرة، قد استمر كما هو متخذاً أشكالاً أخرى. لقد ظلت الهوية الجنوبية دائماً، وبحكم تعريفها كهوية أدنى، هدفاً إما للإخضاع أو للتعديل. وقد استمر ذلك خلال العهد التركي المصري، وفترة المهدية، وطوال فترة الحكم الثنائي وفترة ما بعد الاستقلال. وسنرى فيما بعد أن تلك الرؤية طبعت بميسمها أيضاً العلاقات بالمجموعات الأخرى التي عرفتها الثقافة والمؤسسة الشماليتين بكونها "سوداء" أو أفريقية، بصرف النظر عما إذا كانت تلك المجموعات قد مرت بتجربة الاسترقاق أم لا، وبغض النظر عن كونها مسلمة، كمواطني دارفور السود، أم غير ذلك.

    تجارة الرقيق والهوية
    لقد ذكرنا أن تجارة الرقيق كانت واحدة من أكثر العوامل تأثيراً في تحديد العلاقات الشمالية الجنوبية. لا جدال في أن تجارة الرقيق ليست اختراعاً تركياً مصرياً، فلقد نشأت هذه التجارة منذ عصور سحيقة وفي مناطق كثيرة من العالم. ولكن أهمية دور الفتح التركي المصري للسودان هنا تعود إلى أنه خلق طلباً ضخماً للرقيق، إذ أن واحداً من أهم دوافع الغزو كان هو جلب الرقيق لبناء جيش من العبيد. في تلك الفترة عمل الشماليون وكلاء لتجار الرقيق الأتراك والأوروبيين والعرب، ولكن بعد ذلك تاجروا في البضاعة الإنسانية منفردين وباستقلال تام، فيما اتخذ دور الوكالة شكلاً آخر.

    نتيجة للزخم الذي اكتسبته حركة إلغاء تجارة الرق، فقد بدأت الدول الأوروبية، بالتعاون مع تركيا، في محاربة تجارة الرق. وقد نجح الخديوي اسماعيل، مدفوعاً بتلك التوجهات، وبتعيينه الجنرال غردون كحاكم للاستوائية، في قمع تلك التجارة إلى حد ما. في تلك الفترة اختفى التجار الأوروبيون من الساحة ولم يبق فيها أمام نظر الجنوبيين سوى التجار العرب والسودانيين الشماليين وحدهم يتداولون في تلك التجارة، ويقاومون جهود الحكومة لإيقافها. في تلك الفترة ربط الجنوبيون "بين الإسلام واللغة العربية، من جانب، والإدارة الحكومية وتجار الرقيق، من الجانب الآخر" وانخرطوا، خاصة النيليين منهم، بمقاومتهما. حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة ممثلة في الإرساليات التبشيرية الإنجليزية والفرنسية، تعمل ضد تجارة الرقيق. وحينما حطم المهدي النظام التركي المصري، عادت تجارة الرق بكامل عنفوانها، ولكنها هذه المرة كانت مؤسسة شمالية بحتة، واستمرت وشملت مناطق متعددة في البلاد لما يربو على عقدين من الزمان بعد إعادة فتح السودان بقوات الحكم الثنائي في 1898. وقد واصل العرب البدو حملاتهم على النوبة في جنوب كردفان حتى 1912، أما في جنوب النيل الأزرق فقد استمر الشيخ خوجلى الحسن وزوجته ست آمنة في التجارة بأهل الأنقسنا حتى 1928، حينما تم القبض على ست آمنة وحوكمت وأدينت.

    البعثات التبشيرية وتعديل الهوية
    مهد الاحتلال التركي المصري طريق الجنوب أمام البعثات الاستكشافية والإرساليات التبشيرية الأوروبية. وقد تأسس العمل التبشيري جوهرياً على فرضية أن الجنوب يمثل فراغاً ثقافياً ودينياً ينبغي أن يملأ بالثقافة والدين الصحيحين، أي أنه معني بتعديل الهوية. كما اهتم المبشرون أيضاً بحماية ما اعتبروه فراغاً ثقافياً من الخطر الذي تمثله الثقافة المجاورة في الشمال، والتي حسبوها ثقافة أرقى. ولهذا شرعوا في إزالة أي تأثير عربي أو إسلامي في الجنوب، وفي قطع الطريق أمام إي احتمالات مستقبلية لمثل ذلك التأثير. يتضح هذا جلياً في خطابات الجنرال غردون، حاكم الاستوائية، في 1871، إلى الجمعية التبشيرية الكنسية في إنجلترا، والتي يدعوها فيها للقدوم والعمل في محافظته.

    بعد الاحتلال البريطاني لمصر في 1882، أصبح طريق الجنوب سالكاً تماماً للإرساليات التبشيرية لمواصلة نشاطها لتعديل الهوية. وقد تعرضت هذه العملية لانقطاع قصير أثناء الثورة المهدية التي طردت الأتراك في 1885، ولكن وتيرة العمل عادت كما كانت عليه، إن لم يكن بحماس أشد، بعد الاحتلال الإنجليزي المصري للبلاد في 1898.

    السلطة الاستعمارية البريطانية والهوية الجنوبية
    مباشرة عقب احتلالهم السودان في 1898، حدد البريطانيون موقفهم من الهويتين السودانيتين الشمالية والجنوبية، وقرروا، تبعاً لذلك، وضع المجموعات المستعربة في الشمال في درجة أعلى من المجموعات الأفريقية. وقد أسندت الإدارة البريطانية الجديدة في السودان إلى الجمعيات التبشيرية مهمة تمدين هؤلاء الهمج بتعليمهم "مبادئ الإدراك العام، والسلوك السليم، وطاعة السلطة الحكومية". أما في الشمال، فقد أبدى البريطانيون احتراماً كبيراً للمجموعات العربية وحافظوا على هويتها الإسلامية بل وعززوها.
    إضافة إلى ذلك، اتبع البريطانيون سياسة تهدف إلى حماية الجنوب من أي تأثير ثقافي شمالي. ولهذا شرعوا في وضع الحواجز الكفيلة بإيقاف التنقل والتفاعل الطبيعي بين الجنوب والشمال، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى انتشار عناصر من هوية الشمال في الجنوب. وفي هذا الإطار قاموا بتغيير العطلة الرسمية من الجمعة إلى الأحد، وأبدلوا وحدات الجيش المصري في الجنوب بقوات الاستوائية المكونة من السكان المحليين فقط وتحت القيادة البريطانية، كما قاموا بإدارة الجنوب بصورة مستقلة ومنفصلة. وقد هدفت تلك السياسة، والتي تواصلت منذ 1898 وحتى 1920، إلى تحضير الجنوب ليتطور على نحو منفصل ومستقل عن الشمال. لقد نصت المذكرات الثلاثة التي ستحدد السياسة البريطانية في الجنوب بين 1920 و 1947 بوضوح على ما يلي: (أ) "فصل المناطق الزنجية عن العربية"، (ب) استيعاب الجنوب في نهاية الأمر في "حكومة الممتلكات الأفريقية الأخرى مثل يوغندا وشرق أفريقيا"، و (ج) منع التأثير الإسلامي من الوصول إلى الجنوب بعزل الجزء الجنوبي "الأسود" من السودان عن المنطقة الشمالية".
    وفي عام 1922 صدر قانون المناطق المقفولة ليعزل الجنوب كمنطقة مغلقة. لم يعد الدخول إلي الجنوب بعد ذلك مسموحاً إلا بإذن من الحكومة، كما منع التجار الشماليون من الاتجار الحر في الجنوب بحكم "أمر تراخيص التجارة" الصادر في 1925. وقد وجه المسئولون بوضوح بالحد من وجود "الجلابة"، أي التجار الشماليين، في المدن وعلى مسارات التجارة المعروفة في الجنوب. كان المخطط هو تخفيض عدد التجار المصريين والسودانيين الشماليين "ليس بصورة حادة ولكن على نحو تدريجي" واستبدالهم بيونانيين وسوريين مسيحيين. وقد هدف القانون أيضاً إلى تقليص عدد الجنوبيين الراغبين في البحث عن فرص عمل في الشمال. أما التجار الذين كانوا قبلاً في الجنوب فقد مورست عليهم الضغوط للرحيل، وبحلول 1932 كانت المهمة قد أنجزت تقريباً. أما القبائل الجنوبية المجاورة للقبائل العربية في دارفور وكردفان، فقد تم ترحيلها من مناطقها تلك إلى مناطق أكثر عمقاً في الجنوب لمنع أي تواصل بينها وبين القبائل العربية.

    الإدارة البريطانية ومظاهر الهوية
    ذكرنا فيما سبق أن الإدارة البريطانية فعلت كل ما في وسعها لحماية الهوية الجنوبية من العناصر المكونة للهوية الشمالية، خاصة اللغة العربية والإسلام وطريقة الحياة الشمالية. تم إبدال اللغة العربية باللغة الإنجليزية، والتي أصبحت وسيلة الاتصال في الجنوب، وكذلك باللهجات المحلية. لقد اعتبرت اللغة العربية المفتاح "الذي سيفتح الأبواب لانتشار الإسلام وتعريب الجنوب وإدخال النظرة الشمالية للحياة". وقد اعتبرت الأسماء العربية أيضاً جزءاً من مكونات الهوية العربية التي يجب حماية الجنوبيين منها، فنصح زعماء القبائل وأتباعهم بعدم تبني أسماء عربية، أما أولئك اللذين كانوا قد استخدموها سلفاً فقد نصحوا بإبدالها بأسماء قبلية. وشكل اللباس الشمالي واحداً من المظاهر الملموسة للهوية الشمالية التي غزت الجنوب، فكان لابد من استئصالها. وقد نصح الجنوبيون باستخدام الأزياء الغربية بدلاً من العربية، كما أمر التجار بعدم بيع الأزياء العربية للجنوبيين. وفي عام 1935، كتب مدير المنطقة الغربية لبحر الغزال خطاباً إلى ثلاثة من وكلاء التجارة الرئيسيين الذين يزودون المنطقة بالبضائع، يوبخهم فيه على عدم إتباعهم الحرفي لتوجيهات الحكومة فيما يتعلق بالملابس، ويقول الخطاب:
    "ألاحظ أنه بالرغم من وخلافاً للتوجيهات المتكررة، فإن كميات كبيرة من الملابس العربية مازالت تصنع وتلبس. أرجو الانتباه مستقبلاً إلى أنه من الممنوع تماماً صنع أو بيع مثل هذه الملابس. القمصان يجب أن تكون قصيرة، بياقة وفتحة من الأمام على الطريقة الأوروبية، وليس برقبة مفتوحة كما يرتديها بقارة دارفور. وكذلك يجب عدم بيع "الطواقي"، التي يضعها العرب على رؤوسهم للف العمامة حولها، في المستقبل. يجب عدم صنع أي ملابس عربية من الآن فصاعداً. إنني أمهلكم حتى نهاية فبراير للتخلص من مخزونكم الحالي. يسري هذا الأمر على جميع الوكلاء الخارجيين وعلى مالكي ماكينات الخياطة."
    وحتى بتر الأعضاء الجنسية الأنثوية (أو ما يسمى بالختان) تم منعه في الجنوب، ليس بسبب قسوته في حد ذاته، ولكن لأنه اعتبر مظهراً من مظاهر الهوية الشمالية التي يجب أن تزال. لقد منع التزاوج بين الشماليين/الشماليات والجنوبيين/الجنوبيات لأنه سينجب أطفالاً شماليين. ولسد المنافذ أمام احتمالات من هذا القبيل، فقد نقل كل الشماليين الذين كانوا يعملون في الجنوب إلى الشمال. أما التعليم في الجنوب فقد أسند بصورة كاملة للجمعيات التبشيرية، مدعومة من الحكومة، للمساعدة في عملية تعديل الهوية الجنوبية في اتجاه أسلوب حياة غربي مؤسس على الديانة المسيحية واللغة الإنجليزية.

    الهوية الضعيفة
    بالرغم من كل ذلك، فقد شعرت الإدارة البريطانية، في السنوات القليلة التي سبقت الاستقلال، أن سياستها لفصل الجنوب قد فشلت عملياً، فقررت أن تعكسها وأن تتبنى خيار السودان الموحد. هذا التغيير في سياسة الحكومة، متضافراً مع شعارات "سودان واحد" التي أطلقها مؤتمر الخريجين الشماليين، أثار مخاوف المجتمع التبشيري بما يمثله من أخطار حقيقية بالنسبة للهوية الجنوبية. وقد زاد من تلك المخاوف، على وجه التحديد، الميول القوية للشماليين لاتخاذ الإسلام واللغة العربية عناصر رئيسة في الهوية الوطنية. كان اتخاذ الإسلام ديناً للدولة واللغة العربية لغة رسمية يعني بالنسبة للمجتمع التبشيري أن الهوية الجنوبية التي صمموها، والمؤسسة على المسيحية والثقافة الغربية واللغة الإنجليزية، ستواجه خطراً ماحقاً. إضافة إلى ذلك، كانت الجمعيات التبشيرية تدرك أن السياسة التعليمية في الجنوب سينتهي بها الأمر إلى أيدي إلى الشماليين، وفقاً لما طالبت به مذكرة مؤتمر الخريجين في 1942 المرفوعة للسلطات البريطانية. رغم ذلك كله، قرر البريطانيون ألا يشغلوا أنفسهم بالمشاكل التي لاحت نذرها. وفي 16 ديسمبر 1946 ذكر السيد روبرتسون السكرتير الإداري آنذاك، في مذكرته لمديري المديريات:
    "إن سياسة حكومة السودان حيال جنوب السودان هي العمل بناء على حقائق أن شعوب جنوب السودان أفريقية وزنجية بجلاء، ولكن بما أن الجغرافيا والاقتصاد قد تضافرا (بقدر ما نستطيع استشفافه الآن) لربطهم، لأغراض التطور مستقبلاً، ارتباطاً لا يفصم مع شمال السودان الشرق أوسطي والمستعرب، فلابد لنا من تهيئتهم، من خلال التعليم والتنمية الاقتصادية، للاعتماد على أنفسهم في المستقبل، أنداداً لشركائهم الشماليين ، اجتماعياً واقتصادياً، في سودان المستقبل".
    وبالطبع فقد جربت شعوب جنوب السودان "الأفريقية والزنجية بجلاء" ذلك "الارتباط الذي لا يفصم" بالشمال المستعرب، وسرعان ما تلظت في جحيمه.

    مظاهر الهوية: دور الشمال
    كان هناك إجماع عام بين النخبة السياسية الشمالية، باستثناء الحزبين الشيوعي والجمهوري، بأن الهوية المختلفة للجنوب هي السبب الرئيسي للنزاع، وبالتالي فإنه لحل النزاع لابد من إزالة السبب. وقد اعتبرت عملية الأسلمة والتعريب آلية طبيعية كفيلة بتغيير الهوية الجنوبية وتهيئتها للانسجام مع الهوية الشمالية. وما أن استولت الحكومة العسكرية الأولى 1958-1964، بقيادة الفريق إبراهيم عبود، على مقاليد الأمور حتى صوبت أسلحتها تجاه ذلك الهدف. كانت الاستراتيجية غاية في البساطة، إلغاء مظاهر الهوية التي غرسها البريطانيون في الجنوب، واستبدالها بمظاهر شمالية. وتبعاً لذلك قامت الحكومة بطرد البعثات التبشيرية وعجلت بوتيرة انتشار الإسلام واللغة العربية في الجنوب. تم فتح العديد من مدارس القرآن والمعاهد الإسلامية في جوبا وكادوك وواو و مريدي و ياي وراجا، وفي ذات الوقت تم التضييق على ممارسة الناس للمسيحية. غيرت العطلة الاسبوعية إلى الجمعة، وبدلت أسماء السلاطين والرعايا بأسماء عربية، وفرضت الأزياء الشمالية عليهم. نشطت الحكومة في إنشاء المساجد، وإرسال الدعاة المسلمين للجنوب، وأصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في الجنوب، وتراجعت الإنجليزية إلى المكان الثاني. ومنذ ذلك الحين، وباستثناء الفترة بين 1969 و1983، صار إدغام واستيعاب هوية الجنوب عبر التعريب والأسلمة قسرا سياسة رسمية للشمال، نفذتها الحكومات المختلفة المتعاقبة بهمة منقطعة النظير. وباستيلاء الجبهة القومية الإسلامية على السلطة في يونيو 1989، انطلقت هذه العملية بأقصى سرعة واندفاع، حيث اعتبر الجنوب مجرد خطوة أولى على طريق توطيد الإسلام في أدغال أفريقيا.

    كيف فهم الشماليون التمرد الجنوبي
    بدأت الحرب الأهلية في الجنوب في 1955. ومنذ ذلك الحين ظلت الطبقة الشمالية الحاكمة، والتي احتكرت السلطة منذ الاستقلال في عام 1956، تردد أن التمرد في الجنوب ما هو إلا مؤامرة خارجية دبرتها القوى الاستعمارية والكنيسة بهدف فصل الجنوب عن الشمال. وعادة ما تتم الإشارة لقانون المناطق المقفولة وللإجراءات التي اتخذتها الإدارة البريطانية بين 1930 – 1938 لإلحاق جنوب السودان بشرق ووسط أفريقيا كبراهين دامغة لإثبات نظرية المؤامرة. وقد تبنت الحكومات المتعاقبة في الشمال استراتيجية مضادة تهدف، ليس إلى إلغاء ما كانت الإدارة البريطانية والكنيسة قد فعلتاه فحسب، وإنما إلى تحقيق "الحل النهائي" بإزالة "الثغرة" التي استغلتها القوى الاستعمارية، أي الهوية المختلفة للجنوب. ومن هنا جاء مشروع الإدغام والاستيعاب إلى الوجود. هذا هو الأصل الذي تنطلق منه وتعود إليه مشروعات التعريب والأسلمة في الجنوب والتي تابعتها جميغ الحكومات التي مرت على السودان بعد الاستقلال دون استثناء. إن ذلك يؤكد أن الطبقة الحاكمة الشمالية كانت تدرك منذ البداية أن الهوية كامنة في جذور المشكلة، ولكن هذه الطبقة، وكما ذكرنا فيما سبق، لم تكن مستعدة أبداً للنظر إلى الهوية الجنوبية كفاعل في الصراع، وإنما كموضوع له، وكغنيمة أو جائزة تفوز بها في المنافسة مع القوى الاستعمارية. بالنسبة لتلك الطبقة لم تكن هناك "هوية جنوبية"، بل مجرد إطار فارغ ينتظر أن يملأ بمفردات الهوية العربية. لم يكن الصراع إذاً ضد الهوية الجنوبية بقدر ما كان حولها. ولهذا السبب فإن تلك الطبقة لم تكف حتى اليوم، وبالرغم من كل هذه الفترة الطويلة منذ الاستقلال ومنذ طرد البعثات التبشيرية، عن الحديث عن المؤامرات الغربية التي تحيكها الكنيسة والحكومات الغربية.

    وجهة نظر شمالية منشقة
    كما ذكرنا من قبل، فقد مثل الجمهوريون والشيوعيون استثناءاً من التيار العام. لقد اتخذ الشيوعيون خطوة متقدمة على الأحزاب التقليدية الشمالية باعترافهم بالخصائص المختلفة للجنوب، ولمناداتهم بحكم ذاتي هناك. ولكنهم، تماماً كالأحزاب التقليدية، عارضوا مطلب الأحزاب الجنوبية بالفدرالية في الجنوب. وبتأثير منهم تَبَنَّت سلطة مايو هذه الفكرة وأصدرت إعلان التاسع من مارس عام 1970 الذي قامت عليه اتفاقية أديس أببا عام 1972.
    أما الجمهوريون فقد كانوا أول من دعا إلى تطبيق النظام الفدرالي في البلاد بكاملها، كما كانوا أيضاً أول من عرّف الحرب الأهلية في الجنوب باعتبارها مشكلة حكم. لقد قال الأستاذ محمود محمد طه في عام 1955، في رسالة عن مشكلة الجنوب، أن "حل مشكلة الجنوب يكمن في حل مشكلة الشمال". بالنسبة للأستاذ محمود، لم تكن المشكلة في الجنوب إلا مجرد عرض لمرض عضال هو غياب المشروع الوطني الواسع الذي يستوعب الكيانات المختلفة في البلاد كلها. لقد انتقد الأستاذ محمود النخبة لفقدانها الرؤية فيما يتعلق بالبلاد، ولعدم اكتراثها بأهل الجنوب ولتجاهلها لمأساة أهل الجنوب "الذين قضت عليهم حضارة القرن العشرين بالعيش في فقر مدقع، جوعى، تستوطنهم الأمراض، عراة وحفاة". ولكن تحذيرات الأستاذ محمود ضاعت، كصرخة في البرية، دون أن ينتبه لها أحد. لقد احتاج الشماليون، النخبة الحاكمة وقادة الثقافة المتواطئون معها، إلى نصف قرن من المراوغة والخداع وخسائر لا تحصى في الأرواح والممتلكات والفرص ليفهموا أن الحل النهائي الذي سعوا إليه بكل ما أوتوا من قوة كان مستحيلاً، وأن مشروعهم لإدغام الجنوب واستيعابه قد فشل تماماً. ولكن ما زال عليهم أن يعترفوا بأنه كان خاطئاً من الأصل. ومع ذلك فلا أحد يعلم كم من الخسائر سيحتاج الشمال لتعميم الدرس المستفاد من الجنوب على "الآخرين" في جبال النوبا وتلال الأنقسنا ودارفور.

    دارفور: أتون الجحيم على وجه البسيطة
    في إفادته لمجلس الأمن عن نتائج تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور، ذكر السيد كوفي أنان، الأمين العام للأمم الممتحدة، أن التقرير "يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن السنتين الأخيرتين لم تكونا لأخوتنا في الإنسانية في دارفور شيئاً أقل من الجحيم على الأرض". وحقاً، لم يكن ما وجدته كل تقارير منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش، ووسائل الإعلام الدولية، ووصفته ببشاعته، سوى الجحيم. لقد احترقت أعين الملايين من مشاهدي برنامج بانوراما الذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية وهم يتابعون، لا إحصاءات مجردة، بل شهادات حية يقدمها بشر من لحم ودم، يتحدثون إليهم من قاع ذلك السعير. بشر مثل خديجة، تلك المرأة الدارفورية التي أصبحت تجسيداً للشقاء الإنساني والتعاسة والحزن وهي تقف بجانب ركام قريتها المدمرة، تتمنى لو كانت هي التي لاقت حتفها، وتصف المشهد الذي خلفه الجنجويد وراءهم، قائلة:
    "وجدت جثة طفلى ذي الأربع سنوات ملقاة بجانب المستشفى فحملتها وذهبت أبحث عن طفلي الآخرين، فوجدتهما مقتولين داخل المدرسة، حيث كانا يختبئان في ركن غرفة الدرس. كان هناك عدد يصعب حصره من جثث الأطفال القتلى الملقاة أمام المدرسة. فليغفر لي الله، ليتني لو كنت مت."
    تلك الشهادة التي تفطر القلوب ليست سوى نسخة طبق الأصل من مئات الشهادات الأخرى التي جمعتها منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش، ومنظمات أخرى لحقوق الإنسان، واللجنة الدولية للتحقيق في دارفور، وصحفيون مستقلون. لقد اتفقوا جميعاً في وصف نمط للإعتداءات المنظمة على المدنيين في دارفور، يقتل فيها الرجال، وتغتصب النساء بانتظام ويطرد السكان المحليون من مساكنهم بالقوة ثم تحرق تلك المساكن وكذلك الممتلكات من الأبقار والمحاصيل أو تنهب. لقد تم تحديد المهاجمين بأنهم، بالإضافة إلى الجيش السوداني والقوات الجوية، ميليشيات عربية مدعومة حكومياً. كما أن الضحايا هم باستمرار من قبائل الفور والمساليت والزغاوة والداجو وبعض القبائل الأفريقية الصغرى الأخرى، والذين تطلق عليهم القبائل العربية في دارفور إسم "الزرقة". لقد دخل مصطلح "الزرقة" هذا إلى الاستعمال في الثمانينات من القرن المنصرم مشحوناً بالتحيز العنصري، إذ يشير إلى بشر ذوي قيمة إنسانية أدني، من أصول غير عربية، أجلاف، شبه وثنيين، ويحق استعبادهم واسترقاقهم.
    وبالرغم من ذلك، فإن الحكومة السودانية وأجهزة الإعلام العربية ومشائخ إسلاميين كبار وأيضاً كثير من المتعلمين والمثقفين السودانيين، ظلوا يتعاملون مع ذلك الجحيم الأرضي بدرجات متفاوتة من الإنكار والتجاهل. لقد تعامل الشماليون بصفة عامة، وباستثناء قلة منهم، مع الأخبار الملتهبة من دارفور إما بلامبالاة قاسية أو بإنكار فظ، ولكن الأكثر مدعاة للقلق هو أن البعض منهم تعامل معها بعنصرية بغيضة. وقد استمر أصحاب النوايا الطيبة من الشماليين يتساءلون في قلق وجزع عما إذا كانت تلك الأخبار صادقة، ولكن كالعادة، فإن أغلبيتهم مستعدة دوماً لتصديق الرواية الرسمية للأحداث، خاصة عندما تردهم عبر طرف ثالث، كوسائل الإعلام العربية.
    كثيراً ما تثير وسائل الإعلام السودانية والعربية، وكذلك مواقع الإنترنت الإسلامية أسئلة على شاكلة "لم كل هذا التركيز على دارفور من قبل وسائل الإعلام والحكومات الغربية؟" و "لمصلحة من ولأجندة من؟" و "ربما هناك ثروات معدنية طائلة يعرفها الغرب" وغيرها، مركزة على أن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية وليس الأسباب الانسانية هي الدافع الرئيسي لذلك التحرك. إن القاسم المشترك بين تلك الجهات يتمثل في:
    • ليس هناك إبادة جماعية أو تطهير عرقي في دارفور. وأعداد القتلى جرى تضخيمها.
    • ليس هناك إغتصاب بالجملة للنساء. والحديث عن الإغتصاب الغرض منه الإساءة لأهل دارفور، وللسودانيين عامة، والنيل من "المشروع الحضاري للبلاد".
    • الجنجويد ليسوا حكراً على القبائل العربية. هم عصابات خارجة عن سيطرة الحكومة.
    • لا يصح الحديث عن "عرب" و "زرقة" فى دارفور، فجميعهم متشابهون ولهم ذات السحنة والملامح.
    • ليست هناك صلة أو تنسيق بين قوات الحكومة والجنجويد.
    • هناك مشكلة محلية بسيطة وقديمة هي مجرد نزاع قبلي حول الموارد الشحيحة، تم تضخيمه بواسطة الولايات المتحدة والقوى الغربية في مؤامرة لتشويه الإسلام وتقسيم السودان وتحويل أنظار العالم عن خزيانها في العراق والمناطق الفلسطينية المحتلة.
    إن تلك مؤشرات بأن هناك مشكلة جوهرية في وجدان و أذهان أولئك الناس وتلك الجهات التي تتبنى هذا الطرح المضلل. أصحاب هذا الطرح ذاهلون تماما عن مواطني دارفور وليس في أذهانهم أو اهتماماتهم أو معادلاتهم أي مكان لمعاناتهم الإنسانية. وبتعبيرهم عن الغيظ والحنق لأن تركيز الضوء على مأساة أهل دارفور قد صرف انتباه العالم عن مأساة الفلسطينيين والعراقيين، فإنما يقولون أن القيمة الإنسانية لهؤلاء الأخيرين أعلى من القيمة الانسانية لأهل دارفور. وفي محاولتهم اختلاق أسباب أخرى للاهتمام الدولى بمعاناة أهل دارفور، غير الأسباب الحقيقية المتمثلة في غضب الرأي العام على مرتكبي تلك الفظائع وتعاطفه الانساني مع الضحايا، فإن مروجي تلك المقولات إنما يقولون ببساطة أنهم لا يأبهون بمعاناة أهل دارفور، وأن حسابات صراعاتهم الاستراتيجية تطغى على الإحساس بآلام البشر. سنعود إلى مناقشة أمثلة لهذه الآراء فيما بعد، ولكن فلنناقش أولاً الأسباب العرقية للصراع.

    التركيبة الإثنية لدارفور
    يصف عبد الله عثمان التوم، وهو باحث في الأنثروبولوجيا من دارفور، عملية تشكل الهوية في دارفور بأنها شبيهة جداً بما تم في الشمال النيلي. يقطن دارفور عدد من المجموعات الإثنية، معظمهم أفارقة سود مسلمون، بعضهم لازال يحتفظ بلغاته الأفريقية الأصلية ولكنهم يستخدمون اللغة العربية كلغة تخاطب بينهم، والبعض الآخر فقد لغته الأصلية وأصبح يتحدث العربية كلغة أم منذ قرون كما اتخذ العروبة هوية له. ولكن التصنيف الرئيسي هو بين هذه المجموعات الأفريقية السوداء، أو ما يسمى بالزرقة، من جانب، وبصرف النظر عما إذا كانوا يتحدثون العربية كلغة أم أو لا، وبين القبائل العربية، من الجانب الآخر. وتتشكل الزرقة من قبائل الفور و المساليت، الزغاوة، السلامات، الميدوب والبرتي. بينما تشمل القبائل العربية البقارة، الرزيقات، الزيادية، المعاليا والبني هلبة.

    عملية التعريب في دارفور
    منذ أن أصدر ملك الفونج السلطان بادي الثالث، في القرن السادس عشر الميلادي، مرسوماً يعلنه هو وجماعته "منحدرين من العرب"، وبالتحديد من "سلالة الأمويين"، عرفت كل المجموعات الإثنية في هذه المنطقة أن إدعاء هوية عربية إسلامية سيرتقي بها إلى دوائر القوة وامتيازاتها. ونتيجة لذلك فإن جميع المجموعات الإثنية تقريباً في شمال السودان الجغرافي تزعم لها شجرة نسب عربية. وينطبق هذا على نوبة الشمال وبعض قبائل النوبا، خاصة في الجزء الشرقي من جبال النوبا، والبجة في شرق السودان والحوازمة في كردفان وكذلك الفور في دارفور. و يذكر عبد الله التوم أن عدداً من قبائل الزرقة نفسها قد ادعت لنفسها نسباً عربياً، فيقول:
    "بعض هذه الجماعات التي تزعم صلاتها العربية في دارفور لا زالت تحتفظ بلغاتها الأفريقية بينما ضيعت مجموعات أخرى، مثل الزغاوة والفور والبرتي والسلامات والميدوب على سبيل المثال لا الحصر، لغاتها الأصلية لصالح العربية في القرن أو القرنين الماضيين. وغالباً ما تدعم مزاعم هذه المجموعات في الأصل العربي بشجرات نسب مكتوبة ترجعهم إلى النبي محمد نفسه أو إلى بعض أصحابه المقربين. وبعض شجرات النسب هذه موثقة بأختام من مكاتب في المملكة العربية السعودية وتشترى من هناك. وبالرغم من غرابة الأمر، إلا أن هناك الآن مكاتب تجارية تعمل في تجارة الأنساب هذه في السعودية."
    تلك الفقرة تضيف الكثير إلى معرفتنا، فهي توضح أن عملية التماهي مع العروبة التي اكتملت في الشمال النيلي (أو السياسي)، ما زالت في طور السيرورة في الشمال الجغرافي، ولكن وجه الاختلاف هو أن الشمال النيلي، والمنفي هو ذاته إلى هامش الهوية العربية، أصبح مركزاً للهوية لدارفور وبقية المناطق، وأصبحت له الآن سلطة الاعتراف أو عدم الاعتراف بادعاءات الهامش.

    إعادة صياغة الهوية
    لقد قطعت الأحداث الأخيرة في دارفور تواصل تلك العملية، كما يذكر التوم، وأجبرت المركز وكذلك الأطراف على إعادة النظر في قناعاتهم السابقة، فبعض مجموعات الزرقة والتي كانت تزعم أن لها نسباً عربياً بدأت تعيد النظر في ذلك الآن، ويواصل القول:
    "من المدهش أن عدداً من المجموعات الإثنية ..... تتحدث العربية كلغة أم وظلت، على الأقل حتى سنوات قليلة خلت، تحتضن أصولاً وثقافة عربيتين، بالنسبة لهذه المجموعة الأخيرة، تمكنت الأفريقانية أخيرا من أن تخلف اللغة والإسلام ونفوذ الثقافة العربية كعامل حاسم في تحديد الهوية. لقد أصبحت الأفريقانية تمثل لهم الانتماء التاريخي للأرض وكذلك الفخر بسواد بشرتهم، ولكن فوق كل ذلك فقد أصبحت تعني التميز عن خصومهم الجدد، العرب."
    وبالتأكيد، لو صحت تلك المقولة، فإن ذلك يعني أن المشهد قد أصبح معداً الآن لعملية إعادة لصياغة الهوية، وأن تلك المجموعات هي الآن بصدد إعادة صياغة هويتها. لقد أدركت تلك المجموعات بأنه لن يسمح لها أن تكون الأمة التي أرادت أن تكونها، وأن مركز الهوية التي يطمحون في أن يكونوها، لا يعترف بشرعية دعواهم، لذا فقد شرعت في إعادة صياغة هويتها. لقد ذكرنا من قبل في وثيقة "أزمة الهوية في شمال السودان" أن التوتر بين المركز والأطراف قد يكون كامناً كوميض النار يعمل في صمت في الأوقات الطبيعية وفترات السلام، وحينها تكون مظلة الهوية مستعدة للترحيب بكل المجموعات الاجتماعية التي تزعم الانتماء لها، أما في فترات النزاع العنيف فإن المركز يستخدم أو، كما يحدث في معظم الأحيان، يسئ استخدام سلطته، في منح الاعتراف، إذ أن بوسعه سحب المظلة من، ونزع الاعتراف عن، أية مجموعات اجتماعية طرفية كلما رأى ذلك ضرورياً. لقد رأى الزرقة أن المركز قد استخدم سلطته في القبول والرفض ضد مصالحهم، وأن الحكومة السودانية، وهي المركز في هذه الحالة، انحازت إلى القبائل العربية في دارفور وسحبت مظلة الاعتراف منهم، الأمر الذي دعاهم لإعادة النظر في هويتهم. ونتج عن ذلك، كما يذكر ذات الباحث، أن "الأزمة الحالية غيرت تصنيف السكان السابق برمته، وأنتجت تصنيفاً جديداً يعمل كآيديولوجية تملك القول الفصل في التحالف بين مختلف المجموعات الإثنية، وتبعاً لها يمكن تقسيم دارفور الآن بصورة أساسية إلى مجموعتين رئيسيتين، العرب ومعظمهم ولكن ليس كلهم من البدو، ولهم إدعاء قوي بالثقافة والجذور العربية، والأفارقة السود "الزرقة" والذين يعتبرون أنفسهم بصورة أساسية غير عرب وأفارقة في الأصل.

    الكتاب الأسود: لماذا هو "أسود"؟
    يتجلى التخريب الذي أحدثه النظام التعليمي في نفسية بعض المتعلمين من دارفور في عنوان هذا الكتاب، إذ أن مؤلفيه، الذين أسموا أنفسهم "الباحثون عن الحقيقة والعدالة"، هم أنفسهم سود البشرة يعانون من الظلامات القائمة على العرق، ولكنهم مع ذلك لا يرون الأكذوبة والظلم اللذين جعلا من اللون الأسود رمزاً للسوء والقذارة والشر والفساد. إنها عنصرية الثقافات "البيضاء" ضد السود في تجلياتها اللغوية، ومن اللافت للانتباه أن أشخاصا على هذا القدر من التعليم والوعي السياسي لم يروا التناقض في استخدامهم لمصطلح يسيء إلى لون بشرتهم. إنهم باستخدامهم للنظام الرمزي للثقافة العربية إنما يثبتون أنهم مازالوا مستعمرين ثقافياً، وأن القوى التي اضطهدتهم مازالت تحتل ذواتهم. إنهم بحاجة إلى تحرير عقولهم أولاً، والتفكر بأن الطريقة التي يستخدمون بها اللغة وحدها كفيلة بهزيمتهم. وإذ نقول ذلك عن أولئك المتعلمين من دارفور فإننا ندرك أن ما ينطبق عليهم ينطبق أيضاً على استخدام الشماليين للغة العربية بغير تفكر في دلالات نظامها الرمزي.

    الفكرة خلف الجنجويد
    إن الصاروخ الذي انطلق بمصطلح الجنجويد من الاستخدام الغارق في المحلية في أقاصي دارفور، إلى أروقة الأمم المتحدة وردهات البرلمان الأوروبي والبيت الأبيض، كان وقوده ناس "الزرقة" في دارفور وعذاباتهم القاسية. لقد انشغل البعض بمعنى الكلمة، ولكن المهم هو مضمون "الفكرة" وليس معنى الكلمة. الفكرة خلف الجنجويد هي "الوكالة" وفي هذه "الوكالة" قد يتبدل الضحايا المستهدفون، وقد يتغير القتلة المأجورون، ولكن الفكرة نفسها تظل ثابتة. والثابت الآخر في هذه الوكالة هو هوية المستهدف، فلابد أن تكون غير عربية، أفريقية سوداء.
    إن الجنجويد هم العملاء المأجورون فيما يتعلق بالضحايا في دارفور، أما بالنسبة للضحايا في الجنوب، فقد كان المراحيل هم العملاء المأجورين. إن الفكرة ليست جديدة في ذهن الطبقة الحاكمة الشمالية، بل قديمة ومركزية حتى أنهم ابتدعوا لها عبارة محددة في قاموس المصطلحات العنصرية الشائعة وسط النخبة السياسية الشمالية ضد الأفارقة السود السودانيين وهي "إقتل العبد بالعبد". حينما وضعت تلك المقولة موضع التطبيق لأول مرة كان العبد الأول فيها هو الجنوبيين، بينما كان العبد الثاني هو أهل دارفور وجبال النوبة، الذين شكلوا الكتلة الكبرى في كتائب الجيش "الوطني" التي أرسلت للجنوب لقتال المتمردين. ثم أعيد إحياء الفكرة مرة أخرى في منتصف الثمانينات، حينما فاقت تكلفة الحرب موارد الحكومة، وحينما رأت الحكومة قواتها خائرة تتلقى الهزيمة إثر الهزيمة وقوات المتمردين يشتد ساعدها وتحرز نصرأ إثر نصر. لقد كان المجلس العسكري الانتقالي بعد انتفاضة أبريل 1985 بقيادة سوار الدهب هو صاحب الفضل هذه المرة في إعادة إحياء الفكرة، ولكن الصادق المهدي، رئيس الوزراء المنتخب بعد سنة من ذلك التاريخ، كان هو المسؤول عن وضعها موضع التنفيذ بصورة كاملة.
    لقد كان العملاء المأجورون في ذلك الوقت هم المراحيل، والذين تم تجنيدهم من قبائل البقارة في كردفان ودارفور لخوض حرب رخيصة الثمن لصالح الطبقة الحاكمة ولتوفير منطقة عازلة ضد المتمردين. بما أن أفراد هذا الجيش القبلي لم يكونوا يتلقون مرتبات من الدولة، وبما أن أسلحتهم الصغيرة كانت أضعف من أن تستطيع مقارعة ترسانات الجيش الشعبي لتحرير السودان، وبما أنه لم يكن لديهم دافع للمخاطرة بحياتهم في سبيل الطبقة الحاكمة التي كانت تضطهدهم أيضا وتهمشهم وتسميهم بالغرابة، واضعة إياهم مباشرة فوق جيرانهم الجنوبيين في أسفل السلم العرقي، فقد كان منطقياً تماماً أن يستخدم المراحيل أسلحتهم التي حصلوا عليها حديثاً، ليس لمهاجمة مواقع الجيش الشعبي، وإنما لتنفيذ أجندتهم القبلية التوسعية، فقاموا بمهاجمة جيرانهم المدنيين من الدينكا وقتلوهم ونهبوا ماشيتهم واستولوا على أرضهم واسترقوهم. وفي عام 1987، ارتكب المراحيل مجزرة شنيعة في الضعين ضد جيرانهم الدينكا، حيث قتلوا منهم حوالي 1500 شخص وحرقوا بعضهم أحياء في عربات القطار التي لجأ إليها الدينكا فراراً من مهاجميهم، بل وقتل بعضهم داخل مركز الشرطة تحت نظر وبصر القانون، في أبلغ وأفصح شهادة عن الحصانة المطلقة التي كان يتمتع بها المهاجمون. وبدلاً من التحقيق في الأمر وتقديم المسؤولين عنه للعدالة، قامت حكومة الصادق المهدي بحملة تضليل ضخمة لتطويق أخبار المجزرة وكتمانها عن العالم الخارجي. وحينما تجرأ أستاذان جامعيان، هما سليمان بلدو وعشاري محمود، على كسر حصار الحكومة على الأخبار وفضحا المجزرة في كتابهما "مجزرة الضعين"، تم قمعهما وتهديدهما بواسطة أجهزة الأمن الحكومية وهاجمهما الصادق المهدي شخصياً في خطبة له في الجمعية التأسيسية، بينما ظل مرتكبو تلك الجريمة بعيدين عن أيدي العدالة حتى الآن. لقد كانت تلك، كما وصفها أحد الكتاب السودانيين، واحدة من أبشع حالات العنصرية المؤسسية.

    لم يكن من قبيل الصدف أنه في نفس السنة، 1987 ، قامت حكومة الصادق المهدي بمباركة تحالف جديد نشأ في دارفور تحت اسم "التجمع العربي". زار وفد من هذا التجمع، والذي ضم 27 قبيلة، الخرطوم والتقى بالصادق المهدي لكسب تأييده لأجندتهم. ظاهرياً، كانت خطة التجمع العربي، وكما فضلت الحكومة أن تراها، تهدف إلى بناء توازن عربي في دارفور يساند الخرطوم وسياستها في المنطقة. أما أجندة التجمع العربي الحقيقية في دارفور فقد كانت الاستيلاء على أراضي الزرقة عبر التطهير العرقي. لقد كان ذلك التجمع العربي هو الحاضنة التي نما في حضنها وترعرع الجنجويد.
    لقد استقطبت الحكومة الجنجويد من ذلك التجمع لمقاتلة حركة التمرد الجديدة في المنطقة. وكما كان متوقعا، فقد انتهز التجمع العربي تلك الفرصة الذهبية، والتي لم تُيسِّر فقط الحصول على السلاح والدعم اللوجستي من الحكومة، وإنما أيضا مساندة القوات الجوية بكل جبروتها، وانطلقوا فوراً نحو جيرانهم من قبائل الزرقة لشن حربهم القبلية التوسعية بأهداف تطهير عرقي لا تخطئها العين. ولكن لسوء حظ الحكومة هذه المرة، كانت الأقمار الصناعية لها بالمرصاد، فصورت مئات القرى المحروقة، وأجهضت كل محاولات الحكومة للتكتم على المسألة، وانتشرت صور وأخبار الفظائع ضد المدنيين في دارفور عبر كل أجهزة الإعلام العالمية ومنظمات حقوق الإنسان الدولية.

    ردة الفعل في الشمال
    ردة فعل الحكومة
    بعد أن تبين لها فشلها في التكتم على الحوادث ومنع تسرب الأخبار إلى أجهزة الإعلام العالمية، اجتهدت الحكومة السودانية لاحتواء التشويه الذي لحق بصورتها. وبالرغم من أن صورتها لم تكن طيبة أصلاً منذ أن استلمت السلطة في يونيو 1989، فقد طرأ عليها بعض التحسن بعد شروعها في مفاوضات السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ونتيجة لتعاونها المدهش مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية في الحرب على الإرهاب. قامت الدبلوماسية السودانية بحملة عارمة وظفت فيها كل قدراتها ومواردها لاحتواء الضرر الناجم عن تعرية الحكومة، واعتمدت في ذلك استراتيجية تقوم على التقليل من عدد الضحايا في دارفور، وتوزيع الفظائع والجرائم على كل أطراف النزاع وليس فقط الحكومة والجنجويد، وتحميل مسؤولية الكارثة للمتمردين باعتبارهم الذين بادروا بالقتال، وأخيراً على تصوير القلق والاهتمام العالميين تدخلاً في الشأن السوداني، وفي هذا الجانب الأخير ركزت ماكينة الدعاية الحكومية على المؤامرة الغربية ضد المشروع الحضاري للأمة، والذي ليس هو غير سلطة الجبهة القومية الاسلامية في السودان.
    أما في أجهزة الأمم المتحدة، فقد طفقت الحكومة، وهي تُلوِّح بعقود النفط الضخمة كرشاوى، وبتحالفاتها مع الأنظمة الشبيهة لها، تقاتل بضراوة لإجهاض أو تعطيل أو تخفيف أي إدانة أو قرار قد يصدر من لجنة الأمم المتحدة لحقوق الانسان أو من مجلس الأمن. وبدا وزير الخارجية السابق مصطفى عثمان اسماعيل مزهواً وهو يستعرض نجاحه في تفادي العقوبات. ولكن رغم كل ذلك فقد صدر تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور متهماً الحكومة وميليشيا الجنجويد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، ومتضمناً أسماء 51 شخصاً موصياً بمحاكمتهم لدي محكمة الجنايات الدولية، وهو ما دفع بالوزير السابق إلى تركيز جهده حالياً على تفادي محكمة الجنايات الدولية: واستبدال محاكمات مسرحية زائفة بها داخل السودان. إنها ألاعيب النظام العادية والتي لم تعد تدهش أحداً من أولئك الذين يعرفونه.

    أحزاب المعارضة الشمالية
    ولكن الأمر المدهش كان هو رد فعل المؤسسة الشمالية خارج السلطة مثل الأحزاب السياسية المعارضة وممثلي النخبة المثقفة المحافظة الشمالية. لقد لاذت أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وكذلك التجمع الوطني الديمقراطي بالصمت، أو تحدثوا عن الأزمة بأفواه ملأى بالماء. وحسب علمي كشخص متابع لصيق بالأحداث، فلا الحزب الاتحادي الديمقراطي ولا التجمع الوطني الديمقراطي أصدر بياناً حول دارفور. إن هذه ليست ملاحظتي وحدي ولكنها ملاحظة آخرين كثر، كتبوا معبرين عن خيبة أملهم في أن التجمع الوطني الديمقراطي أصدر بياناً عقب اجتماعه الأخير عن اعتقال العميد عبد العزيز خالد، قائد ما كان يسمى بقوات التحالف السودانية، في دولة الإمارات العربية المتحدة وتسليمه للسودان، بينما فشل في إصدار كلمة تدين ما كان يجري في دارفور. وفي حين واصل التجمع الوطني الديمقراطي والحزب الاتحادي الديمقراطي الصمت البليغ، قرر حزب الأمة، والذي يستمد سنده الشعبي الرئيسي من دارفور، أن ينحاز للجناة بدلاً عن مواطني دارفور. لم يكن مدهشاً للكثيرين، خاصة أولئك الذين يدركون الدور الذي لعبته حكومة الصادق المهدي في ميلاد التجمع العربي في 1987، أن يقرر حزب الأمة التنسيق مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم في عام 2003، في تعبير واضح عن الشراكة في الجرم، فقد قام حزب الأمة بتخطيط ورسم السياسة عندما كان في السلطة حتي 1989 بينما تولت الجبهة القومية الإسلامية أو "حزب المؤتمر الوطني" الذي خلفه في السلطة تنفيذها. لقد أكد الحزبان في بيانهما أنهما يتقاسمان "الرؤية المشتركة والمسؤولية" لحل المشكلة، فلا عجب إذاً إن كانت نقطة الانطلاق للحل الذي اتفقا عليه هي "شن عمل عسكري لهزيمة التمرد"، أما تحليلهما للأزمة فمعروف سلفاً، إنها ليست سوى نزاع قبلي محلي حول الموارد وبقية الرواية. لقد حمّل بيانهما المشترك المسؤولية عن الأزمة لكائن من كان ما عدا المؤسسة الحاكمة الشمالية، إذ يقول:
    "إن تحول أزمة دارفور من صراع تقليدي حول الموارد ونزاع قبلي، إلى تمرد واسع يرجع إلى نشوء عوامل أخرى لم تكن معروفة قبل الأزمة الحالية، مثل تصاعد التوجه القبلي والإقليمي، وتزايد أعداد الفاقد التعليمي، ونسب العطالة المرتفعة بين الخريجين، وثقافة العنف ووفرة السلاح والانطباع العام بأن الحكومة لا تفاوض إلا الجماعات المسلحة، ووجود الميليشيات المسلحة والمناورات السياسية وتدخل الجيران والهيئات الدولية في الأزمة."
    إن تلك الفقرة تفقأ العين بجرأتها في التنصل عن المسؤولية، وبسردها لتلك العوامل وكأنما قد خلقها الجن أو هبطت علينا من كوكب آخر. من هو المسؤول عن انتشار السلاح في المنطقة؟ من هو الذي خلق الانطباع بأن الحكومة لا تفاوض إلا الجماعات المسلحة؟ من نشر ثقافة العنف في البلاد من أقصاها إلى أقصاها بجعل السودان قبلة للمجاهدين من كل أصقاع العالم الإسلامي؟ كيف يغفل البيان كل تلك الأسئلة في تحليله لأسباب الأزمة؟ إن إشارة البيان المشترك إلى التدخل الدولي والإقليمي في الأزمة ماهي إلا ترديد لدعاية الحكومة اليومية، ولكن إشارته إلى "تصاعد التوجه القبلي والإقليمي" تلفت الانتباه بشكل خاص، ليس فقط لمحاولة الحزبين تفادي المسئولية عنها، وإنما لأن التعبير نفسه يذكرنا بتعبير مماثل هو "المؤامرة العنصرية" والذي ظل يستخدم لوصف المحاولات الانقلابية التي يدبرها عسكريون من غرب السودان، دون العسكريين من الشمال.
    ما أخفق البيان المشترك في ذكره هو أن هناك وعياً متزايداً لدى الجماهير السودانية المهمشة بأن النخبة الحاكمة الشمالية بمجملها، وفي مختلف أشكال حكمها للبلاد منذ الاستقلال، سواء عسكرية أم مدنية، علمانية، طائفية أو إسلامية، قد خذلتهم، وأنها خذلتهم لإنها عنصرية في الأساس. إن نمو التوجه القبلي والإقليمي إذن ما هو إلا حصاد ما زرعته المؤسسة الشمالية بيديها، ورد الفعل العنيف لهذه الجماهير يجب أن يفهم في هذا الإطار وعلى ضوء هذه الحقيقة ليس إلا، ومن يزرع الشوك لا يجني العنب و"التسويهو بإيدك يغلب أجاويدك" كما نقول.

    مروجو الثقافة الشماليون
    إن رد فعل أحزاب المعارضة الرئيسية، والذي لا يختلف عن موقف الحكومة، يوضح أن المؤسسة السياسية الشمالية، في الحكومة والمعارضة، تتبنى نفس الرؤية تجاه مواطني دارفور الأفارقة السود. وهذا التوجه يفصح عنه بالصمت غالباً وبالقول أحياناً مروِّجو الثقافة السائدة في الشمال، الذين نصبوا أنفسهم حماة للثقافة العربية الإسلامية في السودان. إنهم يؤمنون إيماناً جازماً بعروبتهم وبأن السودان دولة عربية ليس إلا، ويحملون آراءً إقصائية إلى أبعد مدى عن هوية السودان، ويتحسسون ويتوجسون إلى حد العصابية من أي دعوة لإعادة التفكير في هوية البلاد أو لبناء هوية متعددة الأبعاد للوطن، كما يكنون عداءً وكراهية شديدين تجاه مشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان السياسي للسودان الجديد، ولأولئك الشماليين المتبنين أو المتعاطفين مع ذلك المشروع، أو الذين يعملون من أجل هوية جامعة لشمال السودان. وفيما يلي سنستعرض أمثلة لبعض قمم هذا التوجه وهم الطيب صالح والدكتور خالد المبارك والدكتور إبراهيم الشوش والدكتور عبد الله على إبراهيم.
    الكاتب الروائي الطيب صالح
    الطيب صالح روائي عبقري طبقت شهرته الآفاق، ورغم أنه ليس شخصية سياسية بل ويبدي امتعاضه الواضح من السياسيين، فإن ثورات غضبه الإبداعي تجاه حكومة الجبهة القومية الإسلامية من حين لآخر، والتي فجرها في مقالات قصيرة قوية تم تداولها بصورة واسعة، وظل صداها يتردد لفترة طويلة بعد نشرها، كانت مثار إعجاب أغلبية المتعلمين السودانيين. ولكن كثيراً من قرائه يتساءلون عن ما الذي يفجر براكينه تلك وعن ما إذا كانت قوة انفجارها تتناسب مع بشاعة الأحداث في الوقت الذي يسجلها أو يفجرها فيه. فمثلاً لقد لاذ بالصمت حينما روعت البلاد كلها بإعدام الأستاذ محمود محمد طه بتهمة الردة، وقد توقع الكثيرون منه أن يقول شيئاُ عن تلك الجريمة النكراء التي ارتكبتها الدولة ضد حياة رجل سوداني وقور، زميل في مهنة الكتابة ومفكر هام قتل لمجرد التعبير عن آرائه. وكذلك فقد توقع الناس من كاتب بمثل عبقريته أن تلهمه تلك المأساة وتلك البسالة التي واجه بها محمود جلاديه والموت.
    ما زال الناس ينتظرون أن يقول الطيب صالح شيئاً عن دارفور، مسرح أقسى وأبشع الكوارث الإنسانية كما وصفتها الأمم المتحدة. لقد حاز الطيب صالح عدداً من الجوائز الأدبية العالمية وكانت آخرها جائزة القاهرة للمواهب العظيمة في الرواية التي توج بها في مارس 2005، وتوقع الناس أن يستخدم المنبر العالي والمناسبة ذات التغطية الإعلامية الواسعة ليتحدث عن دارفور في كلمته الاحتفالية، ولكنه استغل المناسبة ليتحدث عن شيء آخر. لقد استغلها لانتقاد تطبيق الشريعة في السودان، صاباً جام غضبه على إسلاميي السودان لتطرفهم في تطبيق الشريعة بينما أرضهم لا تضم قبراً لصحابي واحد، ولم يذكر حرفاً واحداً عن دارفور. لقد أطلق ذلك عدداً من الانتقادات ضده في منابر الحوار السودانية على شبكة الانترنت، وقد نسب العديد من تلك الانتقادات لامبالاته بما يجري في دارفور إلى شعوره الطاغي بهويته العربية والذي يمنعه من التعاطف مع الأفارقة السود.

    الدكتور خالد المبارك
    الدكتور خالد المبارك أكاديمي وكاتب مسرحي وصحفي، عرف عنه نقده اللاذع للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، واللذين يتهمهما باستهداف العروبة والإسلام في السودان. ولقد نالت الكتيبة الشمالية داخل الحركة الشعبية وخاصة الدكتور منصور خالد نصيب الأسد من انتقادات الدكتور خالد المبارك.
    يكتب الدكتور خالد المبارك عموداً يومياً في صحيفة "الرأي العام". لم يدن دكتور المبارك موقف الحكومة في دارفور مطلقاً، وعادة ما يكون حديثه معمماً، فضفاضاً وغير مباشر حينما يتطرق إلى ذلك. وكثيرا ما يرسل رسائل غير مباشرة تُعتَبَر غزلا في الحكومة، وآليته في ذلك هي الصمت والكلام: الصمت عن معايب الحكومة، والطعن في معارضيها وخصومها السياسيين و الفكريين، كرموز الحركة الشعبية، والجمهوريين، والشيوعيين. وربما مكافأة له على خدماته للحكومة فقد تم تعيينه مؤخراً ملحقاً إعلامياً بالسفارة السودانية ببريطانيا.
    فمثلاً في إحدى مقالاته علق الدكتور المبارك على مقالات صحفية تعبر عن سخطها على "الخواجات"، والمقصود بذلك موظفي الإغاثة في دارفور، وتضعهم جميعهم في سلة واحدة. بالنسبة لخالد هناك نوعان من "الخواجات"، الأخيار والأشرار، ويعبر عن ذلك بالقول:
    "وبالرغم من أن هناك بين موظفي الإغاثة أمراء حرب، مدفوعين بمصالحهم الذاتية وبدوافع دينية وغيرها من الأجندة الخفية والتي لا يمكننا إثباتها في المحاكم، إلا أن هؤلاء لا يمثلون سياسة القوى الكبرى، ويشهد على ذلك فشلهم في إجهاض اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، وفشلهم السابق في الحملة لغزو السودان أو فرض العقوبات عليه."
    أما النوع الآخر من "الخواجات" وفقاً لدكتور المبارك، فهم ممثلو المنظمات غير الحكومية العالمية الكبيرة، مثل أطباء بلا حدود التي رفض ممثلها إدانة حكومة السودان قائلاً أن وظيفته هي إنقاذ الحياة، وكذلك ممثل منظمة أوكسفام والذي قال لمندوب هيئة الإذاعة البريطانية أنه يحتاج إلى ثلاثة أشياء بصورة عاجلة، المال والمعدات والمتطوعين، وأنه لم يدع إلى مهاجمة أو غزو السودان." وأضاف الدكتور قائلاً أنه سيكون من الغباء لو افترضنا أن النوع الأول "الشرير" من الخواجات لن يسعى لاختراق النوع الثاني "الخيِّر"، ولكن ذلك سينجح فقط في المستويات الدنيا من العمالة، وفي نفس الوقت فإن التوازنات داخل هذه المنظمات الطوعية وخبرتها وتجاربها ومعرفتها بالعالم وتقاليدها الديمقراطية ستعصمها من الوقوع تحت سيطرة الحكومات والأصابع الخفية.
    وبالرغم من أن الدكتور المبارك يبدو هنا مدافعاً عن عمل الخواجات الأخيار فإنه في واقع الأمر ومن طرف خفي يعزز من فرضية التدخل الغربي في الشأن السوداني، وهي النظرية التي تستخدمها الحكومة السودانية ومناصريها لتحجب بها معاناة أهل دارفور، أي أنه يتفق مع أصحاب نظرية المؤامرة جوهرياً ولا يختلف معهم إلا في مداها وشمولها. والمثلب الآخر في تعليق الدكتور المبارك هو أنه يجعل من إدانة حكومة السودان أو من الدعوة لاستخدام أي نوع من الضغوط الدولية عليها معياراً تسقط به المنظمات غير الحكومية مباشرة من زمرة الخواجات الأخيار. لقد أدانت منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش، على سبيل المثال، حكومة السودان للفظائع التي ارتكبتها ضد الزرقة في دارفور وبأفصح ما تكون الإدانة والشجب، وطالبتا بالمحاسبة وبإسقاط الحصانة لمحاكمة المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية وبالتعويضات للضحايا، فهل يضعهما ذلك في زمرة الخواجات الأشرار؟ وإذ يعيد الدكتور المبارك إنتاج صيحة الحكومة "الذئب .. الذئب"، فإنه إنما يعين الجناة، أي الذئب الحقيقي، ويخيب أمال الضحايا في دارفور.
    وفي مقالة أخرى علق الدكتور المبارك على مناقشة عامة عن "مؤشرات التدخل الأجنبي في السودان" نظمها الإتحاد العام للطلاب في الخرطوم، وهو اتحاد موالٍ للحكومة، وكان هو أحد المشاركين فيها. وفي مداخلته اتفق الدكتور مع أولئك الذين يرون أن البترول هو السبب في الاهتمام العالمي بما يجري في دارفور. كما ذكر لسامعيه أن تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور وتقرير اللجنة السودانية للتحقيق في دارفور اتفقا في أن انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان حدثت في دارفور وأن تلك الانتهاكات ارتكبت من قبل جميع أطراف النزاع. كما كرر إشادته بمنظمة أطباء بلا حدود والتي تعمل دون أي تدخل في "سياساتنا" كما قال. أما عن منظمة العفو الدولية، فقد قال أن تقاريرها قد أدانت حجر الحقوق والحريات في الغرب تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وأن تلك التقارير قد انتقدت ما جرى في أبوغريب وجوانتنامو".
    من اللافت للانتباه أن الدكتور قد وزع المسئولية عن الانتهاكات في دارفور على "كل أطراف النزاع" بالتساوي ودون تسميتها. هناك ثلاثة أطراف في الصراع، حكومة السودان، الجنجويد والمتمردون. والفظائع التي ينسبها تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور لحركتي التمرد لا يمكن مقارنتها بأي مستوى من المستويات بتلك التي ارتكبتها حكومة السودان والجنجويد. إن الاغتصاب الجماعي وحرق القرى بأكملها ونهب قطعان الماشية بالجملة ارتكبت بواسطة الطرفين الأخيرين، لا الطرف الأول. وعلى سبيل المثال، فإن تقرير تلك اللجنة يذكر أنه:
    "من كل الإفادات فإن اللجنة تجد أن جل حالات الاعتداء على المدنيين في القرى قد تم ارتكابها من قبل القوات المسلحة لحكومة السودان والجنجويد، ... وبالرغم من أنه كانت هناك اعتداءات من قبل المتمردين، فإن اللجنة لم تجد دليلاً على أن هذه الاعتداءات كانت واسعة النطاق أو أنها كانت موجهة بطريقة منظمة ضد السكان المدنيين. لقد كانت هجمات المتمردين في معظمها ضد الأهداف العسكرية، الشرطة أو قوات الأمن."
    ولكن ما كان مذهلاً حقاً هو أن الدكتور خالد المبارك حينما أشار إلى تقارير منظمة العفو الدولية اختار التقارير التي تتحدث عن أماكن بعيدة جداً عن دارفور مثل جوانتنامو وأبو غريب، بينما موضوع المناقشة هو دارفور. لقد أصدرت منظمة العفو الدولية عدة تقارير عن دارفور وأحدها كان مخصصاً بكامله للاغتصاب كسلاح في الحرب يستخدمه الجنجويد. إن المرء ليتساءل عما الذي حال بين دكتور خالد المبارك وبين الإشارة لهذه التقارير في منبر عن دارفور، ولماذا اختار بدلاً عنها الإشارة إلى تقارير المنظمة عن أبوغريب وجوانتنامو. هل هي مداهنة الحكومة طمعا وخوفا، أم أن لذلك علاقة بهوية الضحايا والجناة في كل حالة؟ حيث أن الضحايا في دارفور هم القبائل الأفريقية "الزرقة" بينما الجناة هم العرب، أما في جوانتنامو وأبو غريب فإن الضحايا عرب بينما الجناة هم الخواجات الأمريكان. وبما أن الدكتور المبارك هو أحد دعاة العروبة الأشاوس في السودان، فإن المرء يتساءل عما إذا كانت مداخلته تقول شيئاً عن مكان اهتماماته الحقيقية.

    الدكتور ابراهيم الشوش
    الدكتور إبراهيم الشوش ناقد أدبي و كاتب وصحفي ورئيس تحرير سابق مجلة الدوحة. وهو مثل الدكتور المبارك مدافع نشط عن العروبة في السودان وناقد منتظم للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان عبر عموده في صحيفة الرأى العام. وهو معارض شديد للتدخل الأممي لحماية المدنيين في دارفور، ومؤيد لمواقف الحكومة في ذلك. وهو أيضاً جرى تعيينه كملحق إعلامي في إحدى سفارات السودان بالخليج، فيما رُؤي بواسطة المراقبين باعتباره مكافأة له على خدماته للحكومة.
    لقد اتهم دكتور الشوش الحركة الشعبية لتحرير السودان بأنها "تطارد مع كلاب الصيد وتجري مع الطرائد"، أي أنها تدعم المتمردين في دارفور بينما تستعد لتقاسم السلطة مع الحكومة في الخرطوم. لم يوفر الشوش أحداً لم ينتقده أو يهاجمه ، فانتقد المجتمع الدولي والأمم المتحدة وأمينها العام كوفي أنان ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي لاهتمامهم بدارفور ولا مبالاتهم التامة بالمذابح اليومية في فلسطين والعراق . ونقتطف من مقالة له بعنوان "حينما تمطر السماء لبنا وعسلا":
    "المطار في الفاشر يستقبل الطائرات من كل نوع، من الجزيرة العربية، من آسيا، من أوروبا وأمريكا، تحمل أطناناً من المواد الغذائية بعضها معلب بالطريقة الأمريكية. لقد اكتشف العالم فجأة أن هناك فجوة غذائية في دارفور ينبغي سدّها وإلا فإن الدنيا ستنتهي. أخبار دارفور في كل مكان، في الإذاعات ومحطات التلفزة الفضائية. الإتحاد الأوروبي الذي كان مختفياً أثناء غزو العراق، ربما متأسفاً على ضياع نصيبه من غنائم الحرب نتيجة عدم مشاركته فيها، يزأر الآن ويكشر عن أنيابه في دارفور. الأمم المتحدة، التي لم تحركها المجازر التي تعرض لها الفلسطينيون والعراقيون، استيقظت في دارفور. ومجلس الأمن المحترم أصدر بياناً شديد اللهجة عبر فيه عن قلقه تجاه الكارثة الإنسانية في دارفور مُعلّياً إياها على كل الكوارث الأخرى في العالم. كوفي أنان، رجل الأمم المتحدة الهادئ، عبر عن قلقه بإرسال بعثة للتحقيق ولكن منسقه للشئون الإنسانية في السودان لم يكن بوسعه الانتظار حتى تنتهي البعثة التي أرسلها رئيسه من عملها، وقال علانية وبملء فمه أن هناك تطهيراً عرقياً ضد القبائل الزنجية في دارفور. لقد جاءت الدنيا بأجمعها إلى دارفور ولم تترك أحداً خلفها، الصليب الأحمر مع الهلال الأحمر وكل المنظمات الإنسانية تدافعوا في سباق محموم لإنقاذ أهل دارفور من الفقر والقصف والتطهير العرقي، وهكذا في غمضة عين وانتباهتها غير الله حال هذا الجزء من العالم من جحيم الفقر إلى جنة النعيم ومن عدم الأهمية إلى الشهرة العالمية."
    تلك الفقرة تتضمن كل العناصر التي تكون القاسم المشترك بين العرب ومناصري العروبة في السودان. إنها نفس النظرية التي ناقشناها من قبل، ولكن في أعلى تعبيراتها خشونة وقسوة وفظاظة تكاد تلامس تخوم العنصرية. ما الذي يجعل مثقفاً سودانياً كالدكتور الشوش يستنكف ويستنكر أن يهب العالم لإنقاذ حياة أبناء وبنات وأطفال وطنه، ويحسدهم على حال لا يحسد فيها أحد، ويصف شقاءهم في معسكرات اللاجئين والنازحين ب "جنة النعيم"، ويتهم العالم بازدواج المعايير، ولاشك لدينا في ذلك، ولكنه كالجمل "لايرى عوجة رقبته" فيما يتعلق بالتعاطف الإنساني، إذ لا يرى في تعاطفه مع الفلسطينيين والعراقيين واستهجانه التعاطف مع الدارفوريين ازدواجية في معاييره هو نفسه. هل يعود ذلك إلى أنه يتماهى مع الجناة لا الضحايا؟ إن هذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن مروجي الثقافة الشمالية هم على استعداد للذهاب لآخر الشوط في تسويق سياسات المؤسسة الشمالية ضد العنصر الأفريقي الأسود في البلاد، وأنهم خواء من أي إمكانية على التعامل بطريقة "وطنية" كسودانيين، وأنه ليس بوسعهم إلا أن يكونوا وكلاء لمركز الهوية العربية.

    الدكتور عبد الله علي إبراهيم
    الدكتور عبد الله علي إبراهيم أستاذ جامعي وكاتب وصحفي وهو يدرس حالياً في الولايات المتحدة وكما يزور السودان ودول الخليج بانتظام حيث يحاضر عن الثقافة والسياسة. الدكتور عبد الله مثال لأولئك الذين انتقلوا من الماركسية إلى اعتناق الإسلاموية، دون اعتراف منه بذلك، والمسافة التى قطعها في تلك الرحلة يمكن قياسها بالبون الشاسع بين كتابه "الماركسية ومسألة اللغة في السودان" الصادر في 1976 وكتابه "الشريعة والحداثة" الصادر في 2004، وفي هذه ال 28 سنة الفاصلة بين الكتابين تحول من موقع الدفاع الصلد عن التعددية الثقافية واللغوية في السودان إلى داعية غيور للشريعة والعروبة. يشترك د. عبد الله علي إبراهيم مع رفقائه الثلاثة في عدائهم للحركة الشعبية لتحرير السودان، و يحظى منه الدكتور منصور خالد باهتمام خاص، حيث كتب عنه عدداً وافراً من المقالات التي تتسم بالفجور في الخصومة، شأنه في ذلك شأن د. خالد المبارك و د. إبراهيم الشوش. اختار د. عبدالله الشفاعة لسياسات المؤسسة الشمالية عبر الطريق الأكاديمي، فكتب مقالاً قصيراً بعنوان "الجنجويد: الجانب الآخر من القصة" يتقصى فيه تاريخ مصطلح "الجنجويد" ويرجعه إلى جذوره الرومانسية، حيث كان الجنجويد رديفاً لروبن هود، متابعاً المصطلح في سقوطه وترديه من تلك الصورة الشاعرية الجميلة إلى الصعلكة المجردة. وينطلق عبدالله من أطروحته تلك إلى الفصل بين الجنجويد والقبائل العربية بالقول بأنهم مجرد عصابات تجمع قطاع الطرق من كل حدب وصوب، نافياً صلة حكومة السودان بهم أو سيطرتها عليهم "إذا أخذنا في الاعتبار حجم دارفور، الوضع المعقد في المنطقة والضعف التقليدي للحكومة المركزية". وهو يقول ذلك رغم علمه بأنه "من المنطقي أن نفترض قيام النظام الراهن بإطلاق يد الجنجويد من حين لآخر ضد الجماعتين المتمردتين في دارفور" كما ذكر. وهذا "الافتراض المنطقي" يستند إلى حقيقتين لا جدال حولهما وهما (أ) أن "الحكومات المركزية قد استمرأت تاريخياً استخدام مجموعات محلية مختارة لتحارب كوكيل و (ب) أن حكومات ما بعد الاستقلال قد استخدمت هذه الاستراتيجية في جنوب السودان لتدمر المتمردين من الداخل."
    هناك ملاحظتان هامتان لابد من الإشارة إليهما هنا، وأولهما أن الكاتب يأخذ إنكار الحكومة لسيطرتها على الجنجويد على محمل الجد، بينما الآخرون جميعاً، بما في ذلك منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش واللجنة الدولية للأمم المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر، يؤكدون أن الحكومة السودانية قامت بتسليح الجنجويد وبتنسيق الهجمات معهم. ويتساءل المرء هنا عما إذا كان عبد الله لا يأخذ هذه المنظمات بجدية. والملاحظة الثانية هي أن الكاتب يتعامل مع مسألة ارتباط الحكومة بالجنجويد كفرضية بحتة، بينما الحقائق الواضحة التي تكشف وتثبت هذا الارتباط على أرض الواقع تفقأ العين، وكمثال واحد فقط، فإن تقرير المفوضية الدولية للتحقيق في دارفور هذه الحقائق والتي ظل الباحثون من منظمات حقوق الإنسان ولجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة يعملون بجد لكشفها وتعريتها، والتي تم نشرها في عديد من التقارير تتفق جميعها في إثبات الصلة والهجمات المنسقة بين الجنجويد والحكومة. وكمثال فإن تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور للأمم المتحدة يذكر أن " حقيقة أن بعض الهجمات قد تلقت دعماً جوياً تشير بوضوح إلى الصلة بين الجنجويد وحكومة السودان". تلك هي الحقيقة المرة في دارفور، وذلك هو العالم القبيح الذي يدير عبد الله ظهره له منصرفاً عنه، وهارباً منه، إلى عوالمه الخيالية، عوالم الافتراضات والرؤى الشعرية والرومانسية. ماذا سيقول الكاتب الآن بعد شهادة موسى هلال، قائد الجنجويد، المسجلة على الفيديو إلى منظمة هيومان رايتس ووتش، والتي ذكر فيها بالحرف أن الحكومة السودانية وجهت جميع النشاطات العسكرية للميليشيا التي استنفرها وجندها؟
    ولكن تقاليد عبدالله في استخدام مهاراته الأكاديمية للاعتذار عن المؤسسة الشمالية ليست جديدة. فقد فعل ذلك من قبل خلال مذبحة الضعين التي أشرنا إليها سابقاً. لقد كان الجناة في تلك المذبحة من القبائل العربية، البقارة، بينما كان ضحاياها من الدينكا. وقد حاولت الحكومة التكتم على الأمر، ولكن أكاديميين من جامعة الخرطوم، هما سليمان بلدو ومحمود عشاري، فضحا المذبحة. لقد كانت مساهمة عبد الله في ذلك الموضوع هي أن ينقب عن النواقص الأكاديمية في كتابهما المعنون "مجزرة الضعين". وبالرغم من أنه لم ينكر الحقائق الواردة في الكتاب، فقد ركز على انتقاد ما أسماه "الضعف المنهجي" في بحثهما، واتهمهما بإعداد كتابهما "بدون معرفة ولا توجيه" وبكونهما مدفوعين بتحيزاتهما الآيديولوجية والسياسية ضد الحكومة في ذلك الوقت. وفيما بعد، وصف هذا العمل العظيم بأنه "كتاب تلقى انتشاراً واسعاً لا يستحقه" بل ووصفه بال "بايخ".
    لقد كرر نفس الأسلوب في شأن مقالة كنت قد كتبتُها عن الرق في السودان. ففي نقده لهذه المقالة، والتي لفتت انتباه الشوش أيضاً، أثار د. عبد الله مرة أخرى قضية الضعف في منهجية البحث، إذ أنه حيثما يفشل في مواجهة جوهر الموضوع، يلجأ إلى المسائل الشكلية. لقد انصب نقده الأساسي على أنني لم أُرجِع أي حدث أو خبر عن الرق في السودان إلى مصدر سوداني مستقل، وعلى أنني اعتمدت حصرياً على مصادر أكاديمية وكنسية وصحفية غربية، وهو ما يعني بالنسبة له أنني سلكت طريقاً مختصراً نحو "الاستشراق الداخلي". ولدينا ملاحظتان هنا، أولاهما أن د. عبد الله الذي يعطي الانطباع بتوفر المصادر السودانية التي توافي معاييره، والذي يتهمني بأنني قد اخترتُ عمداً ألا أرجع إليها، فشل في ذكر مرجع واحد منها، ولو على سبيل المثال. ليس سراً أن الحكومة في ذلك الوقت، عام 1997، كانت في عنفوان سياساتها القمعية، وأنها كانت، ولا زالت، تتحكم في جميع منافذ الإعلام في السودان، وبالتالي لم يك هناك مصدر واحد مستقل مسموح له بالتعاطي في شأن حوادث الاسترقاق في السودان. ولكن الأخبار لم تكن تتسرب من السودان عبر المصادر الصحفية الغربية والكنسية فقط (فاقدة المصداقية لدى عبد الله)، وإنما أيضاً عبر منظمات حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش وكذلك المقرر الخاص للأمم المتحدة. إذن إذا لم يكن بوسعي أن أرجع إلى تلك المصادر الغربية خوفاً من أوصم ب "الاستشراق الداخلي"، أو استخدام كتاب بلدو وعشاري، مخافة تحيزاتهم الايديولوجية والسياسية، فماذا يتبقى لي؟ الإجابة واضحة تماماً، إذا لم يرق أن أشاركه الرقص على أنغام الحكومة، فينبغي على أن أطبق شفتي وألوذ بالصمت، ولا أعتقد أن هناك أمراً مجلب للراحة والفرح بالنسبة للمؤسسة الشمالية أكثر من هذا.
    الملاحظة الثانية هي أنني، وفقاً للدكتور المحترم، لم أفلح وأخطأت حتى في المرة الوحيدة التي أشرت فيها إلى حادثة سودانية عن الرق، وهو هنا يشير إلى حادثة الفتاة التي لجأت لمحكمة من محاكم الشريعة لتسمح لها بالزواج، من رجل أحبته، ضد إرادة والدها الذي اعترض على الزواج بحجة أن الرجل منحدر من أسرة كانت رقيقاً، وقد عولجت القضية عبر ثلاثة مستويات من محاكم الشريعة. قضت المحكمة الابتدائية بإنكار حق الفتاة في الزواج وحكمت لصالح الأب فاستأنفت الفتاة الحكم لدى محكمة المحافظة والتي نقضت حكم المحكمة الابتدائية، فاستأنف الأب لدى المحكمة الشرعية العليا التي أيدت حكم محكمة المحافظة.
    لقد كانت الخلاصة التي توصلتُ إليها، والتي لم تُرْضِ د. عبد الله، هي أنه باستثناء المحكمة الابتدائية، فإن كل المحاكم الأرفع، والتي نقضت حكم المحكمة الابتدائية، تهربت من مواجهة مسألة الرق في الشريعة، ليس ذلك فحسب، وإنما انطلقت في حيثياتها من إيمانها المستتر بأن الرق موجود في الشريعة، وأنه سبب مقبول لفقدان الأهلية للزواج من امرأة حرة. إن كون المحكمتين الأرفع درجة حكمتا لصالح الفتاة وخطيبها لأسباب فنية، مثل عدم وجود دليل على أن أسرة الرجل كانت مسترقة، وأن الأدلة السماعية ليست مقبولة في المحكمة، أو القول بأن الرق في السودان لم يكن متسقاً مع مفهوم الرق في الإسلام، لا يجعل من ذلك الحكم سابقة جيدة. بل كانت القضية ستشكل سابقة ممتازة لو أن المحكمة تبنت الأسباب التي قدمتها المدعية والتي احتجت بأنه " ليست هناك عبودية في السودان الآن، وأن جميع الناس أحرار، وأن مسائل الحرية والنسب التي ترد إليها الكفاءة تختلف من جيل لآخر، وتبعاً للمتغيرات في اعتقادات الناس". لقد تجاهل عبد الله هذه النقطة، وأطلق تعميماً جزافياً بأن "الرق وكل ما يتفرع عنه أو يتعلق به مكروه في الشريعة" وتلك عبارة لا تستند إلى أي تعليل أو سلطة مهما كانت، بل وتنفيها الحادثة موضوع النقاش نفسها، كما ينقضها استمرار مؤسسة الرق سليمة ومعافاة لمدة 1400 سنة وكان من الممكن أن تستمر حتى الآن لولا أنها ألغيت بتدخل "القوي الغربية". إن ذلك يوضح أن د. عبد الله الذي يستطيع أن يرى تحيز "الآخرين" وضعفهم المنهجي، غافل عن تهافته الشخصي والناتج عن تحيزه الآيديولوجي. إن المرء يستغرب فعلاً أن هذا هو نفس الشخص الذي أنتج تلك القطعة الرائعة عن وكالة الشماليين للعالم العربي التي أشرت إليها سابقا، فلقد استدار 180 درجة ليصبح واحداً من أكبر وكلاء العالم العربي.
    رد الفعل في العالم العربي
    لا يحفل العالم العربي بالأزمة إلا في إطار ما يسميه بالتدخل الأجنبي، ولا يرى فيها إلا كونها جزءاً من مؤامرة ضخمة ضد العالمين العربي والاسلامي، بدأت بأفغانستان ثم العراق والآن السودان تليه في الطابور سوريا ثم إيران. وتعطي العناوين التالية لبرامج خصصتها محطة تلفزة فضائية واحدة، هي قناة الجزيرة، عن أزمة دارفور في الفترة بين نهاية يوليو ومنتصف سبتمبر 2004 فكرة بسيطة عن ذلك، وهي "دارفور والضغط الدولي على الخرطوم" وتمّ بثه في 26 يوليو 2004 وكان من بين عناوينه الفرعية "الاهتمام الدولي والأمريكي بدارفور، ماذا وراءه؟"، "اتهامات ضد حكومة السودان"، "مخاوف من أن يتم احتلال السودان" و "أهمية الحل السياسي ومخاطر فرض العقوبات". و"دارفور تفتح الباب واسعاً للتدخل الأجنبي في السودان"، و"دارفور بين الدوافع الانسانية ومصالح القوى الكبرى" وتمّ بثه في السادس من أغسطس 2004. أما البرنامج الرابع والذي حمل العنوان المحايد "أسباب الأزمة في دارفور" وبث في 15 سبتمبر 2004، فقد كان في حقيقة الأمر حملة دعائية صارخة بالنيابة عن الحكومة السودانية عبر مقابلة مطولة مع الدكتور محمد سليم العوا السكرتير العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهي هيئة أنشئت حديثاً ونصبت نفسها مرجعية لكل مسلمي العالم سنة كانوا أم شيعة، عرباً وأعاجم، ويرأسها الشيخ يوسف القرضاوي وتضم في عضويتها بعض الإسلاميين السودانيين مثل حسن الترابي وعصام البشير وزير الشئون الدينية في الحكومة السودانية.

    زيارة وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لدارفور
    الشيخ القرضاوي: دارفور والصهيونية
    استجابة لدعوة رسمية من حكومة السودان ترأس الشيخ القرضاوي ومعه محمد سليم العوا، وفداً من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لزيارة السودان. وكان الغرض الرئيسي للزيارة كما أعلنه الوفد هو الحصول على المعلومات عما يجري في دارفور مباشرة ومن منبعها، وإنهاء الأزمة التي شوهت صورة الإسلام، ودفع المصالحة بين مسلمي دارفور. وفي ضجة إعلامية كبيرة استقبل الوفد في الخرطوم من رئيس الجمهورية ونائبه الأول آنذاك وعدد من الوزراء والمؤسسة الدينية. وأمّ الشيخ القرضاوي صلاة الجمعة في مسجد الشهداء، حيث أدي كل المسئولين الصلاة خلفه. وفي خطبته في الصلاة التي نقلت حية عبر الإذاعة والتلفزيون الرسميين، اتهم الشيخ القرضاوي الحكومات الغربية بالتآمر ضد الإسلام، والمنظمات غير الحكومية الغربية العاملة في دارفور باستغلال المساعدات الإنسانية كقناع للعمل التبشيري الهادف لتنصير مسلمي دارفور ضمن حربها الدينية ضد الإسلام. وقد ركز أيضا على ضرورة "تقوية المعرفة الدينية لأهل دارفور" ومقابلة احتياجاتهم المادية، كما أهاب بالأطراف المتحاربة أن توقف تلك الحرب والتي أعطت أعداء الأمة الفرصة للتدخل في شئون المسلمين.
    بعد ذلك سافر الوفد إلى دارفور حيث قابل ولاة دارفور وغيرهم من المسئولين المحليين وزعماء القبائل، كما زار بعض معسكرات اللاجئين التي تديرها الحكومة. وفي ختام الزيارة أصدر الشيخ بياناً يكرر فيه أن "الصهاينة هم خلف ما يجري في دارفور لخلق القلاقل للسودان وصرف أنظار الأمة عن العراق وفلسطين".
    بالرغم من أن هدف الزيارة المعلن كان هو التوصل للحقيقة على الأرض، فإن خطبته يوم الجمعة توضح أن الشيخ القرضاوي كان قد توصل إلى تلك "الحقيقة" قبل أن تطأ قدماه أرض دارفور. لقد أبدى الشيخ في كل تعليقاته، الفارغة من أي تعاطف انساني والمشحونة بالتحاملات العرقية، لا مبالاة متناهية تجاه المعاناة الرهيبة لأهل دارفور. لقد بدت تلك المعاناة تفاصيل تافهة في خارطة اهتماماته الضخمة والاستراتيجية بالمؤامرة الصهيونية ضد الإسلام. كما كان تزويره للحقيقة في دارفور مذهلاً. أليس مدعاة للتعجب أن الشيخ كان مهتماً تماماً بكون العمل الإنساني الذي أنقذ آلاف الأرواح تم بأيدي منظمات غير حكومية مسيحية، أكثر من اهتمامه بضياع حياة وأسباب معيشة إخوته المسلمين؟ أليس مدعاة للسخرية ألا يدعوه ذلك لمناداة منظماته الخيرية لمد المساعدة للضحايا في تلك الكارثة الفظيعة بدلاً من دعوته لتقوية المعرفة الإسلامية لأهل دارفور؟ لكأنما الدين أكثر أهمية من الحياة الإنسانية، أو كأنما الله قد خلق البشر من أجل الدين وليس الدين من أجل البشر. إن الإجابة على هذه الأسئلة تكمن في الهوية بامتدادها الآيديولوجي، هوية حكومة السودان، هوية الجناة وهوية الضحايا. فالحكومة السودانية والشيخ ينتميان إلى نفس التنظيم الأصلي، تنظيم الإخوان المسلمين، وقد حاول الشيخ من قبل رأب الصدع بين حسن الترابي وأتباعه السابقين الذين أزاحوه، كما إن منظمة الشيخ الجديدة، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، تضم الترابي نفسه ووزير الشئون الدينية السابق في الحكومة.
    أولاً، لقد كان الشيخ مهتماً بمحاولات تشويه صورة الإسلام ولكن بما أن الإفصاح عن السبب الحقيقي لذلك التشويه، وهو الحكومة والجنجويد، لم يك وارداًً، فقد كان عليه اختلاق أسباب أخرى من تلك التي يكون العقل العربي على استعداد لتصديقها مثل الصهيونية. وثانياً، الجناة في هذه الجرائم الوحشية، حكومة السودان والجنجويد، عرب (على الأقل في نظرتهم لنفسهم) ومسلمون، وتلك حقيقة محرجة وضربة موجعة لنظرية الشيخ الأساسية والتي يؤسس عليها نشاطه اليومي، أي تصوير العرب والمسلمين كضحايا للعدوان الغربي والمسيحي واليهودي. لذا كان عليه إتّباع استراتيجية ذات حدين، الأول هو إنكار أن هناك عرب في دارفور (سنناقش هذه النقطة فيما بعد)، والثاني هو تزييف أزمة دارفور بجعلها من صنع "المعتدين الحقيقيين" أي القوى الغربية والصهيونية والصليبية، بحيث تجد مكانها المريح في مشروع الشيخ.
    ثالثاً، رغم أن الشيخ اكتشف أن أهالي دارفور مسلمون، إلا أنهم كانوا أفارقة سوداً، ولذا فقد تبنى رأي إخوته الإسلاميين السودانيين تجاه إسلام دارفور، والذي يرى أنه قد تلوث ببعض التقاليد المحلية التي لا تتسق مع الإسلام المتشدد العربي. في هذا الإطار يمكننا فهم مناداة القرضاوي بتقوية المعرفة الإسلامية لأهل دارفور وكذلك تخوفه من اعتنافهم المسيحية. كما يفسر لنا ذلك أيضاً سر عدم تعاطفه مع أهل دارفور وتخوفه من أنهم سيصرفون أنظار العالم عن مآسي العراقيين والفلسطينيين. إن الفلسطينيين والعراقيين هم عرب مثله، يشبهونه في كل شيء في هيئتهم ورؤيتهم، كما أن هويتهم وإسلامهم ليسا موضع تساؤل عنده، ولذلك فهو يتماهى معهم تماماً ويرى نفسه فيهم. إنهم يمثلون "الذات" بالنسبة له بينما أهل دارفور السود يمثلون له "الآخر". وحينما يتعلق الأمر بالسودان، فإن الشيخ يتماهى مع المؤسسة الحاكمة الشمالية التي تشاركه ايديولوجيته الإسلامية، والتي هي أقرب إليه عرقياً من أهل دارفور السود.

    محمد سليم العوا: الخرطوم لم ترتكب خطأ :
    أجرى الدكتور محمد سليم العوا مقابلة تلفزيونية مباشرة عقب عودة وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من الخرطوم. أدار الحوار أحمد منصور، وهو إسلامي مصري، في برنامجه "بلا حدود" وتم بث الحلقة في 15 سبتمبر 2004. وقد ظل مقدم البرنامج يكرر أن دكتور العوا قد عاد للتو من دارفور وأنه سيكشف حقيقة الأحداث في دارفور بعد أن شاهدها على الأرض، وقد قدم العوا في ذلك اللقاء دفاعاً مطولاً عن الحكومة السودانية، متبنياً الرواية الرسمية عن الأحداث، أي أن الأزمة هي نزاع قبلي بين الرعاة البدو والمزارعين المستقرين حول الموارد النادرة، وأنه ليس نزاعاً عرقياً وأن الانتهاكات إما ضخمت أو فبركت. ومع أن العوا قد أصر على أن كل التقارير التي تتهم الحكومة والجنجويد بارتكاب الإبادة الجماعية والاغتصاب الجماعي زائفة ومجرد أكاذيب إلا أنه ركز بشكل خاص على نفي الاتهامات الخاصة بالأسباب العرقية والإثنية للفظائع والاغتصاب الواسع.

    البعد العرقي والإثني
    ينفي العوا تماماً وجود انقسام عرقي بين العرب والأفارقة، ويذكر أنه كان قبل ذهابه إلى دارفور يظن أن الصراع هو بين العرب المسلمين من جهة والأفارقة الوثنيين من الجهة الأخرى، ولكنه اكتشف عند وصوله لدارفور أن الجميع مسلمون، وأنه ليس هناك عرب بل هجين لا يمكن وصفه بأنه عربي نقي أو أفريقي صاف، نتج عن ألف سنة من التزاوج بين العرب والأفارقة. ولكن نسبة لأن بعضهم ينسب جذوره إلى قبائل عربية وبعضهم إلى قبائل افريقية، فذلك هو مصدر الضجة حول العرب والأفارقة. ويواصل ليحكي قصة عن وزير الخارجية الأمريكي السابق "كولين باول" قائلاً:
    "عندما زار باول دارفور، كان يتحدث عن العرب والأفارقة. ورداً على ذلك وجه والي دارفور سؤالاً لباول عما إذا كان يستطيع التمييز بين من هم عرب ومن هم ليسوا كذلك من بين الحضور، وقبل باول التحدي ولكنه أخطأ فيهم جميعاً، فكل من ظنه عربياً كان من غير العرب والعكس صحيح، وبعد 6 أو 7 محاولات فاشلة استسلم باول وتوقف عن المحاولة."
    ثم خلص إلى القول بأنه "ليس هناك فرقاً في الملامح أو اللون أو اللغة بين أهل دارفور فجميعهم متشابهون ويتحدثون هذه العربية القرآنية اللطيفة الجميلة". وبناء على هذه الحجة يخلص العوا إلى أن الانقسام في دارفور هو بين البدو والمزارعين المستقرين وأن النزاع هو حول الموارد. هذه هي النظرية التي يؤسس العوا عليها قضيته في نفي الإبادة الجماعية، إذ طالما أنه قد أثبت عدم وجود قبائل عربية في دارفور فإن اتهام الحكومة السودانية بالتآمر مع القبائل العربية لإبادة القبائل الأفريقية في دارفور ينهار من أساسه.
    حجة العوا تلك تفضي بنا إلى أحد أمرين، إما أن الأشياء اختلطت عليه، أو أنه يخلطها عن عمد. إن التصنيف إلى قبائل عربية مقابل قبائل أفريقية في دارفور لم يأت به طرف ثالث خارجي ولكنه صادر من أهل دارفور أنفسهم، إنه تعريفهم هم لأنفسهم وللآخرين. حقيقة الأمر هي أن هناك قبائل في دارفور تزعم أنها عربية سواء اتفق معها العوا في ذلك أو لم يتفق، وأن لديها رابطة أو تحالفاً يجمعها اسمه تجمع القبائل العربية في دارفور. إن كونهم لا يشبهون العرب "الخلصاء" في الملامح أو اللون ليست واردة هنا، ولكن الوارد هو أنهم قد صنفوا القبائل "الأخري" بأنهم "الزرقة" وهاجموهم على هذا الأساس، وذلك هو ما يجعل من ذلك الهجوم فعلاً عنصرياً. وبالنسبة لأهل دارفور فهناك قرى عربية وهي التي وجدها تقرير المفوضية الدولية للتحقيق في دارفور في حالة سليمة ولم تمس، وهناك قرى الزرقة والتي وجدها نفس التقرير قد سويت بالأرض. ولو كان العوا أميناً مع نفسه لكان قد توصل إلى نفس النتيجة التي توصلت إليها منظمة العفو الدولية وهي أن "الآيدويولوجية الإثنية والعرقية التي تخللت الهجمات في 2003 و 2004 في دارفور قد أصبحت حقيقة أساسية وقاسية".
    وبما أن التصنيفات "عرب" و"زرقة" لا تتسق في كثير من الأحيان مع الملامح أو اللون أو اللغة، فإن الذين هم من خارج المنطقة عادة ما يلحظون التناقض الفاضح في كون أناس سود البشرة، يدعون أنهم عرب، يصفون سودأً آخرين بأنهم "سود" أو "زرقة" ويحاولون إبادتهم على هذا الأساس. من الملفت أن العوا لم يلاحظ ذلك، بالرغم من أنها كادت أن تفلت من لسانه حينما قال أنه ما لم يذكر لك أحد بأن هذا الرجل عربي فإنك لن تعرف مطلقاً أنه كذلك، وقوله أن برهان عروبتهم موجود في شجرة عائلتهم والتي لا يستطيع هو أن يشكك فيها لأن الإسلام يلزمه بأن يصدق كل من يدعي أنه متحدر من أصل عربي. وهكذا، وكما نري فقد أثبت، على نحو غير مباشر، كل ما كان قد أنكره في البداية، أي أنه في دارفور هناك من يصفون أنفسهم بكونهم عرباً وهناك من يصفون أنفسهم بكونهم أفارقة سود.

    الاغتصاب ليس في الحقيقة اغتصابا
    أكد العوا عدم وجود أي حالات اغتصاب قائلاً "لقد تحرينا عن الأمر عندما كنا في الخرطوم مع مجموعة أعضاء البرلمان من دارفور. وحينما ذهبنا إلى دارفور قمنا بإجراء مقابلات مع العديد من النساء اللائي أخبرننا أنه لم يك هناك اغتصاب". وحينما أحاله مقدم البرنامج إلى تقرير منظمة العفو الدولية "الاغتصاب كسلاح في الحرب في دارفور"، فقد حاول أن يجعل من القضية برمتها قضية لغوية. وقد قدم دكتور العوا تفسيراً مذهلاً للخطأ وسوء الفهم الذي وقعت فيه منظمات حقوق الإنسان الدولية بأنها "ربما خلطت بين كلمة غصب والتي تعني طرد شخص من بيته بالقوة، وكلمة اغتصاب"، داعماًً تلك المقولة بأنه كان يتحدث إلى إمرأة عجوز في مخيم للنازحين فقالت له لقد غصبونا تعني أنهم طردونا من بيوتنا وهي كلمة قريبة في النطق من اغتصبونا، وذلك هو خط دفاعه الأول.
    أما خط دفاعه الثاني فهو ما وصفه بأنه "بشهادات من أشخاص ذوي مصداقية"، ومن أكثر مصداقية من نائب والي دارفور السابق "الورع"، وأحد قضاة دارفور، ثم رئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف وهو رئيس اللجنة السودانية للتحقيق والتي عينتها الحكومة للتحقيق في الادعاءات بالانتهاكات في دارفور؟ إن شهود العوا يذكروننا بالمثل المشهور "الكلب شاهدو ضنبو". وفي تقديمه لشاهد دفاعه الأول رسم العوا صورة تثير الرثاء لنائب والي دارفور واصفاً رد فعله لاتهامات الاغتصاب الجماعي قائلاً أن "النائب كان يتميز غضباً وفقد القدرة على النطق لبعض الوقت ثم قال لي " إتق الله فينا، هل تقول لي أن أهل دارفور قد ارتكبوا الزنا؟" إن حجة نائب الوالي والتي تفتقر المنطق تماماً هي أن الاغتصاب لم يحدث في دارفور والبرهان هو أن أهل دارفور، ببساطة، لا يرتكبون الزنا. إن المعاني التي يتضمنها رد نائب الوالي هي (أ) أن الزنا أفظع من الاغتصاب و (ب) أنه من المستحيل على رعيته أن ترتكب الزنا. وبما أن نائب الوالي لم ينكر حدوث القتل والتدمير والنهب، فإننا نستطيع أن نفترض، مستخدمين منطق نائب الوالي، أن رعيته تستطيع أن تقتل وتدمر وتنهب، ولكنها لا يمكن أن تمارس الاغتصاب لأنها، فوق هذا وذاك، لا ترتكب الزنا.
    أما شاهد دفاعه الثاني فقد كان قاضياً مهماً في دارفور وقد كانت شهادته درامية تماماً. سأل العوا شاهده عما إذا كان يعلم عن أي حالات اغتصاب، فأجابه القاضي بالإيجاب وأنه كانت هناك حالة قام هو بالحكم فيها. واستمر القاضي يحكي رواية عن كيف أن المتمردين، في سعيهم لتجريم الحكومة في مسألة الاغتصاب، استقطبوا مومسات وساقطين لتمثيل فعل الاغتصاب ولتصويره في فيلم ومن ثم تسويق الفيلم الإباحي لوسائل الإعلام العالمية كدليل على الاغتصاب.
    وتبعاً لهذه الرواية فإن هذه المجموعة من المومسات والساقطين قبض عليها بواسطة قوات أمن الحكومة وتم تقديمها للمحاكمة حيث اعترف جميع أفرادها بأنهم قد جندوا بواسطة المتمردين. وقد تم نشر هذه الرواية وإذاعتها بصورة واسعة بواسطة الحكومة في حربها الإعلامية ضد المتمردين قبل زيارة وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين للسودان بوقت طويل. وقد كرر دكتور العوا هذه القصة في "الجزيرة" دون أن ينتبه إلى تناقضها مع صورة المجتمع الفاضل لنائب والي دارفور حيث ليس بمقدور الرعاة من حيث المبدأ ارتكاب الزنا.
    إن ما لا يدركه العوا هو أن هناك أشخاصاً في هذا العالم يحاولون تمحيص الأشياء بدلاً من ترديدها، وقد كان ذلك هو ما فعلته منظمة العفو الدولية بالضبط. لقد قام أحد موفدي المنظمة، وكان في زيارة للسودان، تحرى عن هذه الحالة بالتحديد وقابل أربعة من النسوة المتهمات في سجنهن ثم نشر ما توصل إليه في تقرير بعنوان "السودان دارفور. لا أحد نشكو له، القهر للضحايا، والحصانة للجناة".
    إن القصة كما توردها منظمة العفو الدولية هي كالآتي: في أول أغسطس 2004 قام ما يسمى بالأمن الإيجابي باعتقال 12 شخصاً جميعهم من مليط وهي مدينة في شمال الفاشر وتحت سيطرة الحكومة، وكان المعتقلون 4 نساء و 8 رجال. عند الاعتقال أعلنت السلطات المحلية أنها اكتشفت محاولة من بعض أهالي مليط لفبركة شريط فيديو يصور عمليات اغتصاب في المنطقة. بعض تقارير الحكومة نسبت هذه الفبركة إلى جماعات المتمردين وبعضها إلى المنظمات الطوعية العالمية والتي قيل أنها دفعت أموالاً لبعض الناس لإنتاج هذا الشريط. وقد قضت النسوة حوالي الشهر في الحبس يعذبن طيلة النهار في مكاتب الأمن الإيجابي وينقلن في الليل إلى زنزانة مظلمة في سجن النساء في الفاشر. وقد طلب منهن أن يعترفن بتلك القصة، وقام الأمن الإيجابي بتجهيز الوثائق وكاميرا الفيديو لتصوير الاعتراف، ويستمر التقرير ليذكر:
    "بعض النساء اعترفن بالقصة تحت الضغط. وبدت سعاد النور أقل تعذيباً ربما لأنها أكرهت على القول بأن النساء الأخريات شاركن في إنتاج شريط فيديو عن الاغتصاب: "لقد أخذوني بعيداً وقالوا أنهم يعلمون أنني لم أصور الفيديو ولكن يجب على أن أقول أنني صورته، ثم ضربوني بشدة. وفي اليوم التالي قلت لهم أنني قد صورت الفيلم." أما مريم محمد دينار فقد قالت "بعد هذا التعذيب أجبرت على الاعتراف بهذه القصة. لم أوقع على شيء ولكنهم كتبوا وثيقة ما. لقد غطوا عيني ببعض الأوراق ثم صوروني بكاميرا فيديو كانوا يحملونها على أكتافهم. وبعد ذلك صورونا أنا وسعاد في أوضاع مختلفة، جالسات، واقفات، بأجهزة هاتف، وأجبرنا على أن نقول على تلك الهواتف أننا قد فعلناها."
    وحينما أحضرت هؤلاء النسوة أمام القاضي أخبرنه بأنه قد تم تعذيبهن للاعتراف بأنهن شاركن في صنع الفيديو. ولكن القاضي، كما ذكر، أمر بإعادتهن إلى مكتب الأمن الإيجابي لأنهن حاولن تغيير اعترافهن، حيث تم تعذيبهن مجدداً. وقد هددهن أفراد الأمن الإيجابي الثلاثة الذين كانوا مسئولين عن اعتقالهن بقولهم "النيابة تتبع لنا، والأمن الإيجابي يتبع لنا". النساء الأربع اللائي قابلتهن منظمة العفو الدولية مسئولات عن أطفال وعن أقارب مرضى وقد أكدن بشدة أنهن لم يعرفن لماذا تم اعتقالهن ولا يعرفن شيئاً عن شريط الفيديو المزعوم.
    أما الشهادة الثالثة فكانت من رئيس القضاء الأسبق رئيس اللجنة السودانية للتحقيق في دارفور، دفع الله الحاج يوسف، وهو أحد الإسلاميين السودانيين، والذي ذكر للعوا أنه توقع أن نساء دارفور ربما لن يتمكّن من الحديث عن موضوع حساس كهذا للجنته مباشرة فلذلك، وحتى يقطع الشك باليقين، فقد استعان بنساء ذوات خبرة قضائية وطبية لإجراء المقابلات، وأنهن ذهبن إلى معسكرات النازحين وقابلن النساء ولم يجدن حادثة اغتصاب واحدة. إذا لم كانت خبيرات رئيس القضاء الأسبق لم يخطئن الطريق إلى المعسكرات، فلابد أن فجوة المصداقية بينهن وبين النساء الدارفوريات كانت من الاتساع بحيث جعلت الحديث إليهن بلا جدوى، وإلا فما الذي جعل نساء كحواء وكليمة يواجهن كاميرات هيئة الإذاعة البريطانية ويتحدثن لهيلاري أندرسون عن مصيبتهن ويصفن بالتفصيل كيف تم اغتصابهن، ويمنع نساء أخريات من الحديث إلى لجنة التحقيق السودانية أو نسائها المعينات؟
    لقد أحس الملايين من مشاهدي تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بالحنق وتميزوا غضباً وهم يتابعون حواء تقول "حاصرني خمسة رجال، فشلني الخوف ولم استطع الهروب. لقد حوصرت. ثم اغتصبوني واحداً تلو الآخر. بعد ذلك حاولت أن أجد أبي وولدي" . كما أنهم أيضاً شاهدوا كليمة تقول "لقد اغتصبوني. لم يك هناك ما أستطيع فعله". بماذا يشي هذا عن لجنة التحقيق التي ترأسها رئيس القضاء السابق وعن مصداقيتها؟
    لقد اختتم العوا حديثه بالخلاصة التالية:
    "إن حقيقة الأمر هي أن كل اتهامات الاغتصاب قد اخترعت للتشهير بالحكومة وأهل السودان ولتوفير الذريعة للتدخل الأجنبي في البلاد. حكومة السودان لم ترتكب أي جريرة وكل هذه الاتهامات زائفة. إن هناك مخططاً لإخضاع السودان للغرب. دارفور غنية بالحديد الخام وباليورانيوم والنفط. ودارفور هي بوابة الإسلام إلى أفريقيا. إن مسلمي دارفور المتحدين يمثلون خطراً على الغرب، ودارفور مستهدفة لهذا السبب. الآن يجب علينا أن نفضح المؤامرة. إن ما يجري في فلسطين ودارفور هو جزء من المؤامرة فالعدو الصهيوني يعمل في دارفور."
    ذلك الصوت هو صوت ممثل المركز يدافع عن وكلائه. في هذا الدفاع فإن الاعتبارات الاستراتيجية للمركز تحجب المأساة الإنسانية، والبشر لا أهمية لهم. ما يهم المركز هو الأرض وليس البشر، وهو الثروة وليست الحياة، وفي هذه الرؤية يُختزل السودان برمته إلى جسر يحمل المركز إلى قلب القارة المظلمة، وتختزل دارفور إلى بوابة في نهاية ذلك الجسر، وتُحجّم الحكومة ذاتها إلى حرس جالس عند تلك البوابة.
                  

العنوان الكاتب Date
ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف khalid kamtoor12-28-07, 03:14 PM
  Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف khalid kamtoor12-28-07, 03:32 PM
    Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف doma12-28-07, 03:58 PM
  Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف Elawad12-28-07, 04:26 PM
    Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف doma12-28-07, 04:37 PM
      Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف khalid kamtoor12-28-07, 05:28 PM
  Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف Elmoiz Abunura12-28-07, 06:04 PM
  Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف Mahjob Abdalla12-28-07, 06:44 PM
    Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف Tragie Mustafa12-28-07, 06:50 PM
      Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف Tragie Mustafa12-28-07, 06:52 PM
        Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف khalid kamtoor12-28-07, 07:23 PM
          Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف ابراهيم على ابراهيم المحامى12-28-07, 09:49 PM
  Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف abdelwahab hijazi12-29-07, 03:17 AM
    Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف khalid kamtoor12-29-07, 04:22 PM
      Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف ابراهيم على ابراهيم المحامى12-30-07, 04:01 AM
        Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف ابراهيم على ابراهيم المحامى12-30-07, 07:40 PM
          Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف abdalla elshaikh12-30-07, 10:23 PM
            Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف doma12-31-07, 03:43 AM
              Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف abdalla elshaikh12-31-07, 04:38 AM
                Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف طلعت الطيب12-31-07, 08:07 PM
  Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف Elmoiz Abunura01-01-08, 00:29 AM
    Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف ابراهيم على ابراهيم المحامى01-01-08, 04:17 AM
      Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف ابراهيم على ابراهيم المحامى01-02-08, 04:46 AM
        Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف سيف النصر محي الدين محمد أحمد01-02-08, 03:54 PM
          Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف سيف النصر محي الدين محمد أحمد01-02-08, 04:23 PM
          Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف khalid kamtoor01-02-08, 04:38 PM
            Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف khalid kamtoor01-02-08, 04:49 PM
              Re: ثالثاً: تطفيف موازين البحث عند د. الباقر العفيف khalid kamtoor01-02-08, 04:55 PM
  تعقيب الأستاذ الشيخ عمر الأمين khalid kamtoor01-02-08, 05:10 PM
    Re: تعقيب الأستاذ الشيخ عمر الأمين khalid kamtoor01-02-08, 05:31 PM
      Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين khalid kamtoor01-02-08, 05:41 PM
        Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين طلعت الطيب01-02-08, 06:07 PM
          Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين khalid kamtoor01-02-08, 07:21 PM
          Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين سيف النصر محي الدين محمد أحمد01-02-08, 08:44 PM
            Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين طلعت الطيب01-03-08, 03:20 AM
              Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين طلعت الطيب01-03-08, 04:23 AM
                Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين طلعت الطيب01-03-08, 05:43 AM
                  Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين khalid kamtoor01-03-08, 11:51 AM
                    Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين Elmoiz Abunura01-04-08, 02:50 AM
                      Re: تعقيب الأستاذ الدكتور الشيخ عمر الأمين khalid kamtoor01-04-08, 02:30 PM
                        Re: فرانز فانون khalid kamtoor01-05-08, 05:27 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de