شاهد الملايين تفاصيل إجراءات تنفيذ حكم الإعدام على صدام حسين عبر القنوات الفضائية ؛ لم تكن المشاهدة مفاجئة خصوصاً بعد الإعلان عن توقيت التنفيذ مسبقاً مع تأكيد بأن الإعدام سيتم تسجيله وتوثيقه . لم أستطع تفسير الواقعة بأكثر من أن الأمر كله لا يعد سوى ضرباً من الجنون والهوس بالإستعراض اللذان ينتبان العالم ، كما لم أتبين في هذه اللحظة وأنا أشاهد اللقطات وجه الفرق بين الجهة المنفذة للحكم ممثلة في( المؤسسات العدلية ) ، وبين (الجماعات الإرهابية ) ؛ فقد كانت ذات الوجوه الملثمة تعرض على العالم تنفيذ القتل بدم بارد وموثق.
إنه ذات الميل للإستعراض العنيف والإستفزاز في تنفيذ العدالة والقصاص .
حكم صدام حسين العراق لسنوات طويلة لم يراع فيها لأي حرمة بشرية ، وطاش خلال تلك السنوات الكالحة عياره وإنفلت ، ليسوم أهل العراق ومن طالت يديه المر والهوان والعذاب بالمعاني الحرفية للكلمات ، نكل بمعارضيه وقتل ذويهم ومن يتشدد لهم ، غزا دولة مجاورة بمزاج همجي ، وكان قبل ذلك وأثنائه يقوم بنشاط وهمة بإبادة الأقليات وتصنيع الأسلحة المدمرة .. كل هذا مع خليط من الغرور والعته والنرجسية ، فملأت صورته حوائط البلاد وعملتها المحلية وساعات اليد وترويسات الصحف والمجلات والميداليات التذكارية والكتب المدرسية،وهلم جرا. دفع ببلاده في حروب طويلة لا تنتهي ، دفاعاً عن الحزب وعن العروبة وعن الإسلام وخلف وراءه شعباً منكوباً مكشوف الحال . وفي سياق معقد ومركب سياسياً وتاريخياً تحالف العالم (الحر) والمعارضات العراقية في إسقاط نظام الرجل الحديدي .. وقد أتى ذلك التحالف أكله بعد حرب كانت أيضاً عنيفة وفيها كذلك ذلك النزوع الفاجر للإستعراض ، فكانت الطائرات والصواريخ العابرة للسماوات تشاهد على الشاشات ويلمع وهج القصف في ليل بغداد الحزين ؛ كان اهلنا في البشرية قد شاهدوا من قبل مشاهد تدمير برجي التجارة العالمي ، ورأينا كيف يسقط الناس من الطوابق العليا لناطحتي السحاب بنيو يورك ، تلا ذلك حرب مبثوثة على أفغانستان، ثم مشاهد لا تقل إثارة لناس يمسكون برقاب ناس آخرين ليذبحونهم بالسكاكين مع خلفية صوتية سمعنا فيها حشرجة الضحية المذبوحة وإنبثاق الدم وصرخات التوسل مختلطة بالتكبير والتهليل .
بعد المهمة الناجحة للتحالف الدولي في (تحرير) العراق لم يفت على الجنود الأمريكيين المساهمة في تغذية المشهد الإستعراضي ، فغاص العالم لأسابيع في الحديث عن فضيحة سجن أبو غريب العراقي التي إنتشرت صورها ومجندون يقومون بالإعتداء الجنسي على المعتقلين وتعذيبهم وتعريضهم لنهش الكلاب .
كل هذه المشاهد السابقة لم تفعل سوى شيئين : خلق الرغبة في التشفي والإنتقام، أو الشعور العارم بالحزن والغضب،وفي كلا الحالتين تتأجج النار بين الفريقين المتواجهين وإلى الأبد في سلسلة دموية لن تنقطع . حمى السوق وضمور المعايير الأخلاقية ساعد في إنتشار هذة الفجاجة وهذا العته والإرهاب ؛ إذ لم تعد الصحف والمجلات و القنوات الإخبارية تجد أي غضاضة في بث ماهو مؤلم ومسيء وصادم .. ( أذكر الآن تلك الديباجة التي كانت تأتي قبل عرض أي فيلم (درامي ) تقول بأن هذا الشريط يحتوي على مشاهد ومناظر دموية ، في تحذير لذوي القلوب الرهيفة وأولياء الأمور من أن يشاهده طفل أو صاحب بال مسكين ). أصبح الآن العنف متاحاً للرؤية بشكل يومي وكثيف ، ما من شأنه أن يخلق نوعاً من التصالح البصري والنفسي معه ، والتعامل معه بإعتباره مشهد (فُرجة )، وتحويله من باب الفظاعة والبشاعة إلى باب الإثارة . ( هل أحكي لكم عن عدد الاصدقاء والشباب الذين يحتفظون في موبايلاتهم وكمبيوتراتهم بهذه اللقطات الدامية ، يتفرجون عليها وكأنها صور سكس ؟)
إن ما تفعله القنوات الفضائية وأجهزة الإعلام وطريقة تعاطيها مع الأمر هو نوع من الإرهاب من المفترض أن يعاقب عليه القانون ، لما فيه من الإيلام وقض المضاجع . وما المانع من إذاعة ونشر وترويج الأفلام الإباحية (بحجة تنافيها مع أعراف المجتمع) في حال كان المجتمع معرض وبشكل يومي ومقنن لهذه المشاهد الإستعراضية البشعة من القتل والذبح والتعذيب والحرب ؟ ليت أن الإعلام المصور ، يقوم بعرض مشاهد الجوع والأمراض والفاقة والمعانة لو كانت المسألة مسألة شفافية ووعي وتمليك حقائق ؛ لكنه الجنون والإستعراض وتبادل العنف وإنعدام الحس الإنساني والرغبة المسعورة في تدوير العنف ومواصلته وتأجيج ناره . كان من الأجدر والأكمل في مناسبة عيد الأضحى المقرون بأعياد الميلاد وبدايات العام أن تتسلط الكاميرات والأنباء على أحزان الجوعى في سواحل إفريقيا وتخومها ، ورصد الأحزان في عيون ناس دارفور ، وملاحظة الغرق القاسي الذي يتعرض له أخواننا الناس في جزر آسيا وبلادها الشرقية . وإن لم يكن هذا أو ذاك فالرحمة والمحبة والحنان يسترعون أن ننتبه لمشاكل البرد المؤلم الذي يجمد عظام المشردين في شوارع العالم ومعسكرات النزوح والجبال البعيدة .
لكنه عصر الإستعراض !
12-31-2006, 02:47 PM
saadeldin abdelrahman saadeldin abdelrahman
تاريخ التسجيل: 09-03-2004
مجموع المشاركات: 8857
"ولا شك أن عصرنا ... يُفضل الصورة على الشيء ، النسخة على الأصل ، التمثيل على الواقع ،المظهر على الوجود ... وما هو مقدس بالنسبة له ، ليس سوى الوهم،أما ماهو مُدنَس فهو الحقيقة . وبالأحرى،فإن ما مقدس يكبر في عينيه بقدر ما تتناقص الخقيقة ويتزايد الوهم ، بحيث أن أعلى درجات الوهم تصبح بالنسبة له أعلى درجات المقدس . "
____________________ دي من مقولات المرحوم فويرباخ البارز في الرسم أعلاه ، من كتابه العجيب "جوهر المسيحية" . لودفيك فويرباخ إتولد سنة 1804 في بافاريا في ألمانيا، وهو من الناس الفلاسفة الذين إهتموا وإشتغلوا بمراجعة ونقدالفكر الديني ..
12-31-2006, 03:11 PM
طلال عفيفي طلال عفيفي
تاريخ التسجيل: 06-20-2004
مجموع المشاركات: 4380
سلامات يا سعد .. ومن عجب أن الرجل مُنح في آخر لحظة ما كان يحاول أن يفعله عمره كله : البطولة ! عاش عمره كله يحاول أن يجبر الناس بالإقتناع بكونه أسطورة .. بطل جبهات القتال ، حاكم بلاد الرافدين، وحفيد الرسول .. لكنه فشل في إقامة دولة تحترم ناسها ، وفشل في إمتحان الإنسانية البسيط ، وفشل في حماية شعبه ، وفشل في إدارة مقاومة حقيقية .. وأخيراً فشل في الهرب !
صدام ضحية كم هائل من الأمراض النفسية والهوس ، لكنه قد يتحول إلى بطل بموته المبثوث ، وتوقيته البديع ..
12-31-2006, 03:04 PM
abubakr abubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044
Quote: إن ما تفعله القنوات الفضائية وأجهزة الإعلام وطريقة تعاطيها مع الأمر هو نوع من الإرهاب من المفترض أن يعاقب عليه القانون ، لما فيه من الإيلام وقض المضاجع .
عيدكم سعيد وعام خير يا طلال والاعزاء المتداخليين
شكرا للتنويه والاشارة الي امر مهم .. صباح اليوم وجدت والدتي العجوز في غرفتها وهي ضيفة علينا هذه الايام تكابدمع الرموت كنترول وهي ترطن منزعجة لتغيير قناة عربية ..دخلت عليها ووجدت القناة هي "العراقية" وصورة الاعدام ... قالت " ا يبيا لووقا ان دينغيرك هاكمينا " ( سجمنا دييل ما عندهم غير الموت ) .. غيرت القناة فارتاحت وهي تؤكد انها منذ ان استيقظت و هذه الصورة تعاد عشرات المرات ...
ما حدث لولدتي يحدث للملايين من كبار وصغار في كل العالم منذ دخول طاليبان الي كابول واعدام نجيب الله وتعلييق جثته وقبل ذلك في ليبريا وتقطيع جسد الرئيس السابق امام كاميرات التلفزيون وقبل ذلك صور من حلبجة وصبرا وشاتيلا وووووووو..الخ .وحتي قطع الؤووس في العراق وووو... تكرار منتظم لصور الموت والقسوة والدمار امعانا في تثبيت ذلك في عقول البشر وجعله امرا عاديا وهنا المشكلة حين تكون القسوة هي الاساس في التعامل بين البشر وبذا عودة الي سلطة الغاب وديكتاتوريات الرعب والتعذيب السائدة في افريقيا واسيا وامريكا الجنوبية ...وهكذا يجعلو من صور المعاناة صور عادية وبالتالي لا يهتم احد لا بالدمار في دارفور ولا المجاعة في اثيوبيا ....
وهنا ياتي دور المصلحيين والمبدعيين من ادباء وشعراء وكتاب ومغنيين ورساميين ومسرحيين فيكثروا من انتاجهم في الحب واالجمال ...
اكثروا من تمجييد " الحب والجمال" يا طلال وكل مبدعي بلادنا والعالم فثقافة الموت والدمار لا يهزمها غير انتشار ثقافة "الحب والجمال "
ولكم مودتي
ابوبكر
12-31-2006, 04:55 PM
طلال عفيفي طلال عفيفي
تاريخ التسجيل: 06-20-2004
مجموع المشاركات: 4380
عزيزي أبوبكر ، حقاً الأمر مدهش وغريب .. إن الإعلام يستخدم الصورة (Image) بشكل يفرغ الأمور من محتواها ، تبتذلها وتحولها إلى نوع من التسلية . والأخطر والأعجب من كل ده أن آلام الناس تتحول إلى سلعة وخاضعة للمنطق السلعي والمزاج الإستهلاكي ؛ ربك يهون .. ويولي من يصلح ، ويحفظ والدتك من شر أولاد آدم (وبناته).
12-31-2006, 08:03 PM
راشد يحى مدلل راشد يحى مدلل
تاريخ التسجيل: 08-22-2004
مجموع المشاركات: 338
طلال السمح ........ سلام لقد عاش المعتوه مجرما ومات بطلا"
Quote: فالقتل التراجيدي لصدام سرعان ما سيحوله التوظيف الايديولوجي لليمين الظلامي و اليسار القومي الى ميكانيزم هجوم لا لما يرونه شرا في الغرب فحسب بل حتى فضائل الغرب ذاتها ستكون موضع مسائلة خاصة تلك الأغنيات التي يتمشدق بها السياسيين عن الحرية والقانون والعدالة و الديموقراطية وحقوق الإنسان -إلخ
هذه كلمات صديقي الاستاذ احمد ضحية اوردها في بوست افرده لمقتل الطاغية, واعتقد انه كان دقيقا في التنبؤ بما تضمره هذه الجماعات ,فصدام زعيم ابله ومصيره كان متوقع والحديث كان عن التوقيت ولم يكن عن حقه في الحياة .....
01-01-2007, 10:53 PM
رأفت ميلاد رأفت ميلاد
تاريخ التسجيل: 04-03-2006
مجموع المشاركات: 7655
Quote: هذه اللحظة وأنا أشاهد اللقطات وجه الفرق بين الجهة المنفذة للحكم ممثلة في( المؤسسات العدلية ) ، وبين (الجماعات الإرهابية ) ؛ فقد كانت ذات الوجوه الملثمة تعرض على العالم تنفيذ القتل بدم بارد وموثق.
ضاع الحلم فى ردع الطغاة فأصبح صدام ضحية الطغيان الجديد . وحل الإرهاب مكان الإرهاب وضاع العدل . صدقت يا طلال فهو عهد الإسـتعراض .
كل عام وأنت بخير أتمنى لك كل الصحة والعافية وتحقيق حلم تآلف الإنسـانية
دمت بخير والوطن بخير
رأفت ميلاد
01-02-2007, 06:24 PM
طلال عفيفي طلال عفيفي
تاريخ التسجيل: 06-20-2004
مجموع المشاركات: 4380
تعرف يا بهاء فضائل الغرب ومنجزاته العظيمة قد تكون محل مساءلة فعلاً ، لو قسمنا العالم إلى قارات وغرب وشرق .. لكنى شايف أن فضائل الغرب ومنجزاته هي فضائل ومنجزات إنسانية ، كما أرى أن الظلم والعنف كذلك صفتان إنسانيتان .. جاء على العالم الوقت الذي يجب أن يسعى فيه الناس للتكامل وإيجاد القواسم المشتركة وترميم خدوش وجروح التاريخ المر لصراعات الأديان والدول .. للغرب ميراث عظيم في التنوير والفنون والديمقراطية مقابل ميراث آخر بشع من الإستعمار وسلب الحقوق ؛ يجب أن ندعم الغرب الأولاني ، نستفيد منه ونخوض معه معركته ضد الجنون والعته .. ويجب كمان أن نتطور داخلياً ، وننقي ثقافاتنا من الشوائب والكلام الفاضي ، ويكون عندنا طموح حقيقي لأن نعيش حياة كريمة ومحترمة وآدمية ..
علينا أن ننزع عن أنفسنا موهبة التدمير الذاتي ، ونثق في الحياة أكثر ..
عزيزي يا بهاء .. سيستثمر الكثيرون هذا الموت : وكالات الأنباء ، الصحف والمجلات ، المواقع الإلكترونية ، مروجي العنف ... وربك يستر على الخلايق ..
شكراً لك ، وكل سنه وإنت طيب ..
01-06-2007, 09:25 PM
طلال عفيفي طلال عفيفي
تاريخ التسجيل: 06-20-2004
مجموع المشاركات: 4380
عزيزي رأفت ، لم نجن من هذا الموت سوى غياب بقية الحقيقة والمعلومات التي كان يمكن توفيرها بمحاكمة أقوى وأكثر عدالة .. محاكمة وعدالة تكشفان كيف حكمت بلاد لخمسة وعشرين عاماً ، وتنكشف فيها التحالفات الدموي بين الدول الكبرى والحكومات العسكرية في العالم .. ما دور أمريكا ومدى شراكتها في تسليح صدام ، وما علاقة الدول الكبرى بنشأة ونهضة التسلح الكيميائي في العراق .. و إلى إي درجة تورط كل هؤلاء في إنتهاك حقوق الإنسان في العراق ومن جاوره ..
كانت محاكمة أكثر قوة وعدالة ستكشف الكثير ؛ لكنهم قتلوه يسرعة .
لم نجن من هذا الموت سوى غياب بقية الحقيقة .. وأن صدام تحول إلي شهيد ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
طلال عفيفي
saadeldin abdelrahman
abubakr
راشد يحى مدلل
بهاء بكري
رأفت ميلاد
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست