يوم من الأيام ...
اليوم أواصل ما إبتدأ من ليالي خرطوميه كئيبه, مدينة الرماد المتوجة على الزمن المحروق .. أواصل ما كان من تجوال في بلاد أضحى لا ناقة لي فيها ولا جمل ... مازالت المدينة غامضة وشحيحة وفقيرة ومنهوبة , على شوارعها تراب وعلى ذاكرتها تراب , وكل ما فيها يعج بذلك الطعم الضروس .. أنباء القتل والحرب والمؤامرات الإنقلابية تحوم وتتجول في المدينة بلا رقيب ولا حبيب, والدولة تنشط في رشق الشوارع بعساكرها ... الليلة الماضية والتي قبلها عبر البلاد مايشبه الإعصار .. عاصفة شديدة ومغبونة إقتلعت الأشجار من الشوارع بعد أن سلك جذورها السوس .. وتساقط على البلاد مطر قوي وكأنه يحاول غسل المواطنين من أحزانهم والحكام من ذنوبهم .. لا الحزن أنمحى ولا الذنب وظلت العربات العسكرية تجوب الليل وتنتهك الروح .. ما هذا القبض يا رب .. بسطك يا الله .. في أمدرمان كان " قرمبوز" يسكب المحلب على حناء أحزانه الوحيدة , يبحث عن فرصة وحيدة ليبكي وحيداً , كان أباه قد سافر إلى السماء ومات .. عاجله الأمدرمانيون والجريفاب بعباءات الرجولة وملافح الذكورة التي يجف فيها الحنان ومنعوه من البكاء والعويل , كلما شارفت دمعه على الهطول رفعوها بالفاتحة .. ربتوا على كتفه وقالوا:" شد حيلك يا زول " .. فيشد حيله , وحيله أوهى ما يكون والروح حزينة وفيها لوعه وحنين .. ذهبت إليه في الصباح .. دخلنا غرفته .. وجلسنا على مقربة من الذكريات .. سمعنا فيروز والبلابل وشيرين , وأخفينا عن بعضناأدمعنا .. ونحن نعلم أن كلانا يبكي .. بكينا كل هذه المصيبة والفداحة والفقد .. أبكتنا اللوعه وغربة الروح والقهر .. أبكانا العسكر الجائلون في الطرقات والغبن .. وبكينا للمرة الألف من فرط الغياب .. الأصدقاء أين ذهبوا .. ؟ لم غادرتنا البنات .. ؟ أين طفشت مدينتنا يا ناس .. ؟ وأحلامنا ... ؟ كانت هنا منذ قليل , من سرقها ؟ خرجنا بالسيارة , طفنا المدينة وضواحيها , كنا نبحث عن ملمح نتعرف عليه , أو معلم صليح مع الذاكرة .. كل شيء فيها كان يشي بزوال فاجر .. العابرون تائهون . بنات المدارس أنسكب من عيونهم ذلك الألق والبريق . النساء محمولات , والرجال ,أجارك الله , في خيبه وسكون يجرجرون هزائم البارحة بتؤدة .. إستمعنا ل " شريط قعده " كان فيه أبو داوود وخوجلي عثمان والعطبراوي وعلي المك وعتيق .. غناء ماكن وجلسة صافية .. ترى هل تحتمل المدينة اليوم ما حدث بالأمس .. هل بالمدينة براح ؟ في ذاك النهار المحزون كانت أكثر فجاج بلادي عماراً هي المقابر : كانت العربة قد وصلت بنا مقابر الشيخ خوجلي في بحري .. الشواهد تقف في إنضباط وإستقامة وكـأنها في إنتظار ملك جديد . كنت أود لو نزل إبراهيم وناجى أبوه .. لكن حزنه كان كبيراً , عالياً وعميقاً ... فخفت بأن يفلت منه ويعربد في الساحة , وأنا فيني ما فيني من محن و شهيق ... هنا ينام آل الجريفاوي وآل عفيفي وسائر المحس والحلب عليهم السلام .. إنزلقت بالعربة وتواطأنا على الصمت .. سمعنا سعاد حسني ( أجمل سكسكه تزين مريلة عمري ) .. وسمعنا " بحر أبو جريشه " المقاتل البورسعيدي الصول في قوات البحريه( التي أعادت لمصر الضفة الشرقية) الذي قررأن يغادر المراكب للغناء والمواويل .. كان صوته عاتياً وخشناً ولكن فيه حنان .. حكى لي إسكندراني عاصر " بحر أبوجريشه " أن الرجل كان أسطورة طاغيه : " ده كان بينزل من المركب كل كام شهر ويدخل علينا من المينا , طول إيه في عرض إيه , ويمشي من المينا لحد ما يدخل حواري (بكوس ) وهو بيغني .. النسوان بتفتح الشبابيك وتبص له , الله يرحمو كان بلطجي تمام , ما فيش فيكي يا سكندريه صوت زي صوته , وتلاقيه إيه .. طول ما هو ماشي بيشرب في بيره ومخدرات لحد ما يوصل الفرح اللي هيغني فيه .. يطلع غلى الطربيزه بتاعت المسرح وهو بيغني وبيرقص و وراه مليون عازف إيقاع جايين من كل البلد من بحري لحد أبوقير , ويبتدي الله يرحمو بقى , يفكفك زراير الأقميص الأبيض بتاع البحريه شويه شويه لحد ما يرميه في الفضا ويفضل بالبنطلون الأبيض والفانله التحتانيه لامؤاخذه !! ويروح مطلع من جيبو منديل أحمر ومشوح بيه في الهوا ورابطو حول رقبتو .. زي الجماعه بتوع أمريكا اللاتينيه بالظبط ! الناس كانت بتغيب معاه وبتفرح وبرقص جامد ... "(!!) في العام 1998 كنت في زيارة لصديق عزيز ( لا أزكيه عليكم ) كن مقبوضاً عليه في سجن أبو زعبل بسبب المخدرات , وكان أنه في أثناء عبوري للساحة الخارجية للسجن أن إصطدمت قدمي بسلك شائك فانغرس فيها , ما كان ان أصابني بتسمم حاد .. حتى رجوعي الى منزلي في شارع خيرت بجوار ضريح الطاهرة أم هاشم لم أشعر بشيء , غير أنه في الليل أصابني ألم عصيب وحمى قاربت حراراتها الألف درجه مئوية .. كذا كان بي غربة و وحشة .. وكان هناك سيدة فاضلة تسكن بعيداً على طرف المدينة , أغادر إليها كلما أصابني مكروه . إرتديت ملابسي بعسر و ركبت أول مواصلة صوب منطقة " نزلة السمان " .. في الطريق الطويل بدأ الركاب ينزلون في محطاتهم .. واحداً تلو الآخر .. الى أن تبقيت وحيداً مع سائق الحافلة . سألني : معانا يا بيه ؟ .. فقلت له : معاك , آخر محطه لو تسمح .. رأيته في المرآة التي أمامه وهو يشير بإصبعه ويقول لي :" عينينا يا باشا ..".. وانطلق . فردت جسدي المحموم وألمي على آخر كنبه وجسدي كان في أوج الحرارة .. أول ما إستعدل السائق على الطريق السريع , أدار بإصبعه زرار الكاسيت وعربد في الحافلة صوت أسمعه لأول مرة .. صوت جميل و راجل وحزين , يغني عن ليل السهارى والمقادير والبُعد والمواني والسفر .. نمت كما لم أنم من سنين وهلوست بي الحمى .. وأنا نازل بعد أن وصلنا .. سألت السائق بكل ما تبقى فيني من عمر : " مين ده يا اسطى ..؟ " فقال لي وهو ينظر في عيوني جيداً : "ده عمك بحر .. بحر أبو جريشه .. " . وقد كان ... سامرني بعدها أياماً ولياليها .. قاسمني صوته المغني الحزن القاهري وأمطار نوفمبر .. سألت عنه " بشير " حافظ تراث الجعافرة فقال لي " لأ يا عم ده بلدوزر .. " وسألت عنه الكاتب النوبي حجاج أدول , فرد " ده من النوبيين اللي تم تهجيرهم للقناة " .. سألت مريم فقالت "أبو سلوى , سلوى أبوجريشه , ماتعرفهاش ؟؟ دي اللي بتغني مع منير.. ! " وسألت قلبي فقال " مغني جميل ومعروف لدينا " .. مات بحر أبو جريشه أوائل التسعينيات .. وغاب عن الآذان كما ترحل مركب ... ... طلال _________________________ هذه الكتابة تعود لأواخر العام 2004 , وكل ما ورد فيها من وحي تلك الأيام . تذكرت هذه الكتابة بين قوسي هذا الموت العصيب ..

[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1: << 1 >>

احدث عناوين سودانيز اون لاين الان

اراء حرة و مقالات	Latest Posts in English Forum
Articles and Views	اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases	اخبار و بيانات

الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة

About Us
Contact Us
About Sudanese Online

اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين

News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums

If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]