المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 05:58 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-17-2004, 07:56 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية

    محاولة لاستفزاز الذاكرة المدينية عندنا خصوصا انو المدن السودانية تستأثر بكثير من حميمية الريف

    أرجو ان اوفق

    المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (1)
    الخرطوم ( بندر البنادر ) والمقرن المضاع
    المدن السودانية ، أليفة الملامح ، طاعمة ، دافئة ، تسكن قلوب ساكنيها وتخلق منهم وحدةً تكسر حواجز القبيلة والنسب ، وتكتب على نواصي ذاكرتهم حضورها المسكون بعمقها الحميم ، تاريخ انتمائها لهم ، شارعاً فشارع ، وملعباً فملعب ، و ( حيشان وأسواق شعبية وحلاّل ومواسم ) ، والمدينة السودانية تخص نفسها دائماً بلونٍ خاص وطعمٍ من آخر ما يشتهي أولادها ، ورائحةٍ أكثر ما تحرِّك أوتار الحس المتنازع بين البقاء والهجرة ، وتبقى لها أعمق سمة من سمات الريف القديم وهي النزوع – عن وإلى – البندر والبندر في السودان هو الخرطوم العاصمة ، وهذه السمة هي التي خلقت رائحة وطعم ولون هذه المدن ، فالمدينة السودانية محاولة لخلق عاصمة للقبيلة – مكانياً – يتناولون فيها وفيها فقط مسائلهم الحكومية والتي تشمل على كل ما يخرج من نطاق حواشيهم المترعة بالقمح والقطن والسمسم والبفرة والباباي ، وتبدأ من السكر والشاي والكبريت وتنتهي بتصديقات الدواوين المختلفة ، فتكون حتى مدينتهم جزءً رئيساً من وعيهم الباطن وامتداداً لفكرتهم حول البندر المطلق ( الخرطوم ) وفي ذلك تستوي كريمة وكادقلي وبارا وأمدرمان التي تأبى حتى الآن صفة المدينة ( ذات السيقان الأسمنتية ) وتظل تحتفي بشوارع ( ود درو ) عاشقة الحفر ، والظلمة ، المتصاعدة أحياناً والمتلوية أكثر الأحايين ولكنها تنزف عبق تاريخهم ومعنى وجودهم وارتباطهم بالنيل مجرداً من سلاسل التحديث ، وقيود العولمة ، يظل يراشق ضفافه كما يشاء برذاذه المتطاير ويمنح صائدي الموردة أسماكاً تعطي المكان رائحته الأبدية ويظل سوق الجلود رمزاً لصنعة اليد الحاذقة ، يشهر سلاح رفضه ضد الآلة والمصنع ، ورغما عن ذلك تبقى أمدرمان جزءً من البندر السوداني وجزءً من صعيد أهل السودان ، تدفن رأسها في الرمل حيناً ، وهي تمرُّ بين سوق العناقريب ورائحة الحبال والجلود المعطونة بأيادٍ حذقت فن التجليد ، وتمرُّ بسوق العيش تشبع رئتيها بغبار الحبوب المتصاعد ، وأذنيها بهمهمات الباعة وصهيل الخيول المنهكة ، وعينيها بصور الماضي الذي يصرّ على الحضور ، وتمرّ على أحياء ودنوباوي ، وبيت المال ، والملازمين ، فتقرأ في عيون أهلها محاولة ترييف المدينة الصاخبة في منازل تتجشأ جدرانها من قليل المطر شقوقاً تبقى لسنين معالم ومواضع تشعل المكان بانتماءٍ نفسي يغوص في روح المكان لصوقاً بذكرياتٍ وتداعيات وأحلام ، تدسّ الأمهات فيها أوراق وخطابات المغتربين ، وأبواباً تنسى تاريخ التقاء مصراعيها ، مفتوحة يرقد على جانبيها حنين الريف وهواء البساطة وأغنام الحي التي تسرح هائمةً على أوجه أصحابها تتسمع دندنات العود من بيت لبيت ، وأبيات الشعر مقهىً فمقهى ، وألحان أغنية الحقيبة التي شكّلت وجدان الأمدرمانيين من كثيرين ذابوا في ذات سرور وكرومة ، وظلَّت أمدرمان على ذلك تتقلب بين مؤيد ورافض لمقولة د. عبد الله حمدنا الله ( أمدرمان مدينة مصنوعة ) ولكنها تنتبه فجأة إلى غابات الأسمنت الممتدة التي تذكرها بتسلّط البندر على ثقافتها ، فتتقطر عرقاً من احتمال ضياع الريف الذي يربض مترقباً بداخلها حيال قدرة البندر على الانتشار في أوصالها مبنىً ومعنى ، ولأمدرمان هذه أحاديث خاصة ، نأتيها حين عشقٍ قادم ، ولكن اليوم أفرد جناح الحرف صوب مدينة ٍ لا يدعي الانتماء إليها أحد لأنها اختارت أن تكون بندراً مطلقاً لا يأتيه الريف من بين يديه ولا من خلفه ، وهو بعد يعدّ العدة لخنق النيل الحرِّ مطلوق السراح بجسور وكورنيش حديث يقطع كثيراً من أحاديث الوجد السابق بين الماء والضفة ، إنها الخرطوم العاصمة.
    الخرطوم ومنذ زمنٍ بعيد ظلّت تشتهر بابتعادها عن وجدان الشعب ، ظلّت في مخيلاتهم مدينة ( اللاءات ) فقط ، عندما يغنّون ، يغنّون لعجو المحس التقيل ، ومنقة كسلا ، وعروس البحر ، وعروس الرمال ، ولكنهم يغتربون في العاصمة ، غربةً وجدانية ، فالنيل عندهم رهين بوابات القصر ، والنقل النهري ، والضفاف عندهم لا تعني براحات جروفهم وشتولها الخضراء بقدر ما تحاط في أذهانهم بحساسية الوصول و ( ممنوع السير على الحشائش ) وطيور المقرن البيضاء لا تعرف جنةً أخرى ولكنها تشكو ضجة الجسور وقوارب الأندية المترفة التي تخيف أمواج النيلين الهادئين ، وعندما جلس ( معاوية نور ) القرفصاء على ضفة النيل الأزرق من جهة الخرطوم وهو يطالع مقرن النيلين ، أمامه ، ومدينة الخرطوم بحري التي تقف بخجل ضفافها وعبق ذكرياتها واحتدام أحلامها في جوف يحنُّ إلى جزيرة توتي ، تقف خجلى خلف قصر الصداقة المهيب ، تقع على يمينه ، وأمدرمان القرية الكبيرة على شماله ، وجزيرة النور والمعنى وأشجار الليمون والبرتقال والبنطون الذي بات يشكو تحرشات صغار القوارب ، جزيرة توتي أمامه ، قال إنه يحتاج لبروست آخر ليشرح ما في وعيه المستتر ، إنها مكونات الحياة والجمال ، كانت أبواق السفن القريبة جزءً من ذاكرته المسكونة بنداءات الباعة وتلال القرع البلدي وجوالات الجرجير التي تنضح ماء وخضرة ، والخرطوم اليوم غربةً ثقافية ، يجئ إليها الشمالي ممكوناً بجراح وتمزقات خاطره حيال ما خلّف وراءه من حياة ، ينقرش طنبوره فتتفتح ورود الفول على ضفاف القرير الرائعة ، وترسم صفحة النيل أغنياتٍ خالدة تشارك القماري أعشاشها وتخطو على شوارع القلوب المفتوحة.
    شوفي الزمن يا يمة ساقني بعيد خلاص ... جرعني كاس ... دردرني واتعذبت يا يمة ... وريني الخلاص …. وينتحبون
    حمدي سافر جنس سفرة ... مالي حلق الحلة عبرة ... خلّ طين عضمين وتمرة
    ويجئ إليها أهل الغرب فتصفعهم أهواء الواقع الجديد ، يبكون زمانات ( ساورا ) وشلالاتها وزهور جبل مرة ذات الألف لون ، ومنقة أبو جبيهة ، وألبان ( كاس ) ، وريفها ، يمشون على أطراف الجبل بذاكرتهم وجباههم المصرورة في غير ما زعل والمطلوقة في أوجه القادمين ، يشترون بالتعريفة في زمنٍ يمارس فيه الجنيه النكوص على أعقاب قاتليه المترفين ، يهوّمون في أنحاء العاصمة غريبي الوجه والثقافة ، منهوكي القدرة على تحمّل آلام غربتهم الجديدة فيبكون : دارفور بلدنا ... رجِّعنا نعمل .... نزرع نعلى شانا
    ويهم أهل الشرق بالموت وهم يشتاقون لماءٍ تقتله الرائحة والطعم واللون ، ويتوضئون به ( في أمانة الله ) يندس في ( قربةٍ) واهنة في خلوات ( مسمار ) الواسعة ، يتحين ( قيطان ) عراريقهم أي مرورٍ أمام أحد الدكاكين ليتكرف فقط رائحة الصابون ويعود لشظف اتساخه ، فقط يبكون أيام وقوفهم على رجلٍ واحدة يستعرضون أيديهم على ( سفروقٍ ) يتعارض على كتوفهم ليطالعون ركاب القطارات ، ويستفزون أهل الشمالية القادمين من ( حش التمر ) بأن يبيعونهم البلح في محطاتهم ( البلح الحلو ) ويبدلون الحاء بهاء باهتة ، يلخصون الحياة كلها في ( فنجان جبنة في شمالو يسوى الدنيا بي حالو ) يحلِّفون اللوري أن يمنحهم فقط ( بوري ) وفي العاصمة يسحقهم الضجيج.
    ولكن الخرطوم ظلّت أغنيتهم الوطنية يتحدون معها وحدة كاملة وهم يحلمون بالسودان الواحد ، تعبّر عنهم جميعاً وتحتويهم
    يا خرطوم مين سلبك حلبك ، زنجك ، نوبتك ، بجتك ، عربك يا خرطوم
    مين الصلبك فوق الطلحة …… (ويدعون النقاط تفتح أسئلةً أخرى)
    هي نسيج السوداني الأوحد الذي خلق من دليب الشايقية ومردوم الغرب وباسنكوب الشرق وكمبلا الجنوب ، سبحة عشقٍ سودانية يسبّحون بها أطراف الليل وآناء النهار ، وجودهم الثقافي المتنوّع الذي تشكّل وحدةً واحدة وغنّوا معه
    غنّي يا خرطوم غنّي شدّي أوتار المغنّي ... ضوّي من جبهة شهيدك أمسياتك وإطمنِّي
    وكلما لفحتهم هجاير الغربة والمهجر كلما نشدوا سودانهم الصغير الخرطوم
    الناس يسألوني .. وأسأل غير ي عنك
    سبب الفرقة نحن ... واللا أسبابا منّك
    ليه الغيبة طالت .... ليه يا المشتهنّك
    الخرطوم بدونك ... ضهبانة وتفتّش لي واحات عيونك
    وعندما تحدّث سيد أحمد الحاردلو الدبلوماسي الشاعر ، في قصيدته عن الثائر الأفريقي الكبير ( لوممبا ) احتشد السودان كله في الخرطوم المدينة التي لا تعرف الظلام ، ويبدو أن التجاني يوسف بشير هو الوحيد الذي غازل الخرطوم وهو يراها كالزهرة المونقة ، وحتى عندما غناها أبو العلا مع سيد خليفة كان يعني السودان.
    ولأنها آلت على نفسها تحمّل رسالة العبء السوداني كاملاً ، لم تشكو يوماً من كثرة الباكين فيها على أحلامهم الدفينة ، ولكنها ظلّت تباكي الجميع وتحاول أن تجفّف الدمع عبر ذوبانها في اسمٍ واحد مع أمدرمان وبحري – القريتين الكبيرتين – ( العاصمة المثلثة ) لتمنح نفسها بعضاً من عافية الريف ، وتنشد أن يأتي يوم يحنّ إليها فيه جيلاً من الأبناء ضيّعهم المهجر خارج السودان أو في إحدى مدنه المتناثرة هنا وهناك بعيداً عنها ، مثلما حنّوا لأمدرمان وغنّوا
    من فتيح للخور للمغالق ... قدلة يا مولاي حافي حالق
    بالطريق الشاقّي الترام
    ما هو عارف قدمو المفارق ... يا محط آمالي السلام
    وتشتاق إلى زمانٍ يحنّ إليها فيه حتى أبناء الريف الذين غنّوا
    حبّيت عشانك كسلا ... خلّيت دياري عشانك
    وعشقت أرض التاكا ... الشاربة من ريحانك
    وإلى أن تفّك الخرطوم من يديها قيد اتصافها بـ ( بندر البنادر ) ، وتحلّ رهان نيلها حتى يصافح رذاذه ساكني الجريفات والكلاكلة وإلى أن يحنّ أبناؤها البعيدين عنها ويبكون ( أحنّ إلى خبز أمي … وقهوة أمي … ولمسة أمي ) ستظل فقط تفاخر بأنها مدينة اللاءات الثلاث في عالمٍ أدمن كلمة نعم.

    أسامة معاوية الطيب
                  

07-17-2004, 08:01 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    سأكتب عن كسلا ومروي
    اكتبوا عنها
    افتحوا آذان هذه المدن حتى تعرف انها نحبها جدا
    انتظركم
                  

07-17-2004, 08:48 AM

mahdy alamin
<amahdy alamin
تاريخ التسجيل: 07-01-2004
مجموع المشاركات: 2025

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    صديقي : أسامه
    Quote: أرجو ان اوفق

    اكيد.........نعم

    ذكريات جميله لاتنسى مع هكذا تكتب الأشجار أغنياتها وأبو شنب والفلبيني أخيرآ مهدي الكسلان أو ........

    التحيه لك دومآ

    مهدي الأمين
                  

07-17-2004, 10:40 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: mahdy alamin)

    مهدي
    ازيك ياخي
    وازاي الشارقة وعجمان وبعض رهافة مرتفعات اثيوبيا الجميلة؟
    حنتلاقى
                  

07-17-2004, 10:44 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    بين نهر القاش وجبل التاكا
    تنام كسلا على أغنياتها (2)
    أول ما يكحِّل العين وهي تشارف على مدينة كسلا ، سحابةٌ ترسل أذيالها على نواصي جبل التاكا الثلاث ، لا تبرح مكانها وتظل تدور حولها وهي تغمض عينيها خجلا ، وتجود بدمعها أمطاراً ناعمة تغسل حجارة الجبل الملساء فتكتب للعشاق صفحة غرامٍ أخرى ، وهم يخطون في وداعةٍ عبر مساربه الكثيرة لبلوغ إحدى قممه ، وجبل التاكا أكثر جبل سوداني رسم لنفسه هالة الحب والعشق في نفوس زائريه – يقاسمه جبل مرة وجبل البركل بعض العبق – في بلد تفاخر بسهولها الممتدة كأوراق ( الفلسكاب ) البيضاء تنتظر فقط أقلام الترابلة لكتابة الجهد والعرق حتى يوقِّع الماء عليها مزارعاً تسد عين الشمس وشتولاً تخيط المساحات بإبر الخضرة والعبير ، كان الصبية قديما حين كانت المدارس ، وقبل أن ترحل مع مواسم الأمل ، يحضرون ( فتايل ) الدواء الفارغة لصرف الحبر يوم السبت من كل أسبوع – على أيام قلم الشطَّافة - والآن يحضر المزارعون ذات الفتايل لصرف ( الجزلين ) لتحبير تلك الأوراق الممتدة لذا فإن كتابة الترابلة لا تزال على رأس الورقة فقط ، وما بين الكلمة والكلمة ينفضون القلم عدة مرات في زمنٍ مزَّقتنا فيه الفواتير - وأهل كسلا يعرفون أن من تقوده قدماه إلى إحدى القمم الثلاث ، وأكثرها دنوُّاً من الأرض ويشرب من نبع (توتيل) الذي يخالف قوانين الفصول ويظل كما يشتهيه الزائرون ، يتفجّر عيوناً تغسل الحجارة ، وناعم الرمل ، والخواطر المسروقة بروعة المشهد ، لا بدّ وأن يعود إليه ثانيةً ، وكثيرٌ من الشواهد تؤيد أساطيرهم هذه بعودة الزوَّار ولو بعد حين ، يبدو الجبل في ثلاث قممٍ سامقة تتسابق فيما بينها لتمنح الوجود لوحةً نادرة الجمال ، والجبل كله عبارة عن صخرةٍ كبيرة ، لامعة ، مغسولة ، تتخلل تعرجاتها شجيرات صغيرة ، يبدو الندى على أوراقها كسبحةٍ نثرتها الشمس على هامة الجبل البيضاء وسالت بغير نظام على وجوه الشجيرات وسكنت ، لا تكاد تغيب طيلة أشهر السنة وتتجمل في الخريف مع تفتق الزهور ومواسم الشعر والخصب والإلهام ، تقف كل الفصول تغني للياليه الأنيقة ...
    أرجعيلن
    يرجع الطير لي غصونك ويرجع الدم للأغاني
    ينجبر خاطر الليالي الشايلة آهاتك معاني
    ينطلق ضهر أغنياتنا ونملا بيك الكون أماني
    رجعي الضو للمداين… ولون غناك لأوتار سجينة
    للعصافير ريش جناحا ……… … وهدهدي الفرحة الحزينة
    وركّي فوق لمة غمايم …………… قمرة في كتف المدينة
    وهي – قمم الجبل الثلاث - أقرب منظرٍ من كل زوايا المدينة وأقرب عشقٍ من كل ملامحها ، وأبعد أثراً في نفوس زائريها ، وكانت سبباً في حالات الوجد التي زينت جيد أغنيات أهل السودان ، والكل يردد ( حبيت عشانك كسلا وخليت دياري عشانك … وعشقت أرض التاكا الشاربة من ريحانك ) وكل ما مرّ في طرقاتها عبر الذاكرة أهلها وهم يهوِّمون في غربة العاصمة كلما اهتاجت بداخلهم أشواق القهوة والشعر الكثيف الذي يخفي ( الخلال ) على طوله ويفيض ودكاً ورائحة ( كاسلا .. كاسلا .. أنا قلبي سافرا ) ، وثمار المانجو في كسلا ومنذ زمان بعيد أروع وصفٍ لمحبوبةٍ تسكن جراح وحروف مغنيها ، وظلّت حدائقها الغنّاء تبالغ في زيّها الأخضر الجميل الموشّى بيانع الزهر وناضج الثمر والمطرّز برائع الورد ، حتى اصبح الناس يفتتنون ببصلها – ولبصل كسلا سمعةٌ نافذة – ناهيك عن برتقالها و( والموز أبو نقطة ) وأنواع المانجو والبلح التي تحرج بقية الأمصار و الأرياف ، تنام الحدائق على طول المدينة وعرضها مفتوحة العينين والورود ، وتصحو على خيوط الندى يرسم عالمه على ثياب النساء وجلابيب الرجال وهم يبدءون موسم القطف صباحاً قبل الدخول للسوق التي لا تعرف لها مدخلاً أو مخرجا ، كلها أكوام الفاكهة وشلالات عطر البرتقال والجوافة بلونيها وحمرة القريب فروت المميزة واصفرار المانجو ذات الأسماء والروائح والطعم المختلف ، تدهش الزائر حين يؤتى إليه بها متشابهة ، والسوق ضاجة الحركة تبدو عربات ( الكارو ) الصغيرة تجرُّها الخيول معطونةٌ بالرائحة واللون وتداخل الطعم ، بعضها ارتكز على جدران دكاكين ( غرب القاش ) الصغيرة يفعل الزمن فعله في طينها القديم ، نادرا ما ترى الطوب الأحمر ، في انتظار ذهابٍ قريب للحقل المتورّد بأكوام الفاكهة وأصوات النساء ، وبعضها انشغل مع خيولها في التلفت صوب نداءات الباعة المنتشرين ، تصدر عجلاتها أزيزاً دائماً ، ريثما يفرغ الحمّالون المقاطف من على ظهرها ، وأصوات الباعة موسيقى أخرى تغمض الأجفان وتفتحها على عوالم جديدة للروح مفسحةً المجال أمام وجد الصوفيين الذين يقف بينهم وعلى مقربة من الجبل الملهم (ضريح السيد الحسن) ، سقفه السماء ، يقولون أن غارةً (طليانية) أخذت سقفه في ما مضى ولكن الأنصار أيضاً خلوّ بينه وبين السماء دونما يقصدون ، وظل يطالع النجوم من صحن داره ويتوق لسحبٍ تغازله دون أن تبلل (بروشه) الناعمة ، يغسل بدموع مريديه ، أحزانهم وكل طوارق حياتهم.
    وكسلا التي تحنو على الريف بداخلها حنواً عميقاً وهو يهب سوقها حياة الجنان وروعتها ، تبدو كمدينة وسيمة الشوارع والأبنية ، أنيقة العمران ، رشيقة حركة المواصلات ، تصطف على خطوط مواقفها الكثيرة حافلات الركاب الصغيرة ( كانوا يسمونها البرينسات ) وباصات الضواحي بأبواقها المميزة ، وتطل على نهرها العظيم الحدائق دائمة الشباب ، تكتب مع أرتال المحبين صفحات الغرام الزاهية ، وقاعاتٍ حكومية وشعبية تضفي على المكان المخضر ألوان أخرى ، والنهر يرقد على شاطئيه الخضر يتأمل الجسر المعلّق فوقه تمرّ عبره حكايات المدينة وسنين وروايات تاريخها الطويل ، والأحلام التي تحيط بمستقبلها ، وهو يضع يداً على يد تحت رأسه ويقرأ كتاب ماضيه ، وعلى مقربةٍ من الجسر الجديد يتأرجح الجسر القديم متأوهاً مع كل حركةٍ على أيام مجده الغابرة والنائمة في أذهان رفاق مشواره من أهل المدينة ، ومتألماً من وقع الخطا على ضلوعه الواهنة يستند فقط على عناية الله.
    ومدينة كسلا من المدن السودانية الفريدة التي اختلط أهلها من قبائل الشرق الكثيرة مع قبائل السودان متباينة السحن واللسان والثقافات متفقة السماحة والطيبة وحلو الجوار ، وكذلك تسكنها مجموعات كبيرة من الجاليات ، أصبحت جزءً من تكوينها الإثني والثقافي ، مجموعات كبيرة جاءت من الهند وجعلت لنفسها حياً منفصلاً ( الحي الهندي ) لا يزال يُقفل ليلاً ويُفتح نهاراً ، ينغلق على ذاته بمدارسه وأنديته بأبواب وجدران كبيرة ولكنها ظلت تسرب عبر سمائها المفتوح ثقافتها وتستشف تراث وحضارة المدينة الجميلة ، وتتفاعل معها بذات روح أهلها ، تميزهم شعور نسائهم شديدة السواد والطول ، ولثغة اللسان الآسيوي ، ومحلات بيع القماش والعطور التي تملأ السوق ، والموتوسيكلات التي برعوا في قيادتها ، يذوبون في سودانية الطبع لا يملكون تغيير سحنات آسيا ولكن نهر القاش بدأ يعمل على تغيير لون شعر أبنائهم ويكسوه بحمرة رقيقة ، لسانهم أسلمته الليالي إلى اللهجات المحلية لا يذكر من أمر (الأوردو) وصاحباتها شيئا ، وكذلك تسكنها الجالية الأثيوبية والإرترية تتفق معها في كل شئ عدا اللسان ورويداً رويداً تزول غربته ، وينتمون لكسلا المدينة الدافئة كامل الانتماء.
    ومن أشهر أحيائها حي الختمية تسكنه قبائل الشايقية والجعليين والهدندوة ، يبدو كسودانٍ مصغر يقف خلفه الجبل بشموخه ونسمات فضائه العريض متأملاً في ملامح المدينة التي تنام وتصحو بين يديه وتتقافز القرود على أعلى قممه الثلاث ملاعبةً الأطفال والشباب ، متطلعة إلى تجوالٍ قريب بين حدائق الموز المنتشرة على جنبات نهر القاش المتمرد ، تحوّله ليالي الصيف إلى رمالٍ تكسو الرمال وذكرياتٍ تحكي الأمس والماضي وضفافٍ تلعق الصبر في انتظار قطرات ماء تبلل حلقها الجديب ، ولكنه وحين الخريف يأتي مارداً يسوق أمامه عنفوان الشباب وتمرده ويقضي دائماً على مساكن حي غرب القاش الصغيرة ليمنحهم القدرة على خلق بيوت أوسع قد يمحو آثارها حين عودته القادمة ، وما بين نومته وهياج صحوه تخلق كسلا حياةً كاملة الجمال والخضرة تلتقي كلها عند شاطئيه عصراً ، صغاراً وكباراً ، وللمحبين على رماله أسفارٌ من الوله والشوق ...
    على الرملِ
    كان القاش يبذر أغنيات الحبِّ في الأحداق
    فتنبت وردةً حمراءَ
    تأخذ شكل هذا القلبْ
    وكانت لوعة العشّاقْ
    تنام على سرير العشبْ
    على الرملِ
    زرعنا الوعدَ باللقيا
    وبتنا طيَّ هذا العشقِ أغنيتينِ من أشواقْ
    وحين تبدأ الشمس سفرها اليومي تسكن أصوات العصافير آذان المدينة زقزقةً وانشراح ، والليل فيها موائد النسيم وسحره ، عبر ممرات السواقي الضيقة كثيرة التعريجات إلى أن تلفّك الوحشة بكامل سطوتها ، تلتقيك المساكن ، تبدأ أصوات ساكنيها تكسر عنك رجيع الهواجس فتتناسى الأغنية الباهتة التي كنت تدخرها لرعشات الخوف هذه وصوت أرجل العالم كلها تخطو وراءك وأنت ( تعصر وتخبّ ) وتكاد تطير ، الأطفال يلعبون لعباتهم الشعبية المحببة والرجال يتسامرون قرب دكان الحي متقد الذاكرة والطرفة والحضور وفوانيس الجيران وكهرباء المدينة ( الما مضمونة ) والشباب يستفزون قدراتهم كلها في مجالس أنديتهم المختلفة.
    وفي حي ( السكة حديد ) يجتمع السودان في توادد الأهل ونبل الأصدقاء ووداعة الأحباب ، تكاد بيوته دائرية الغرف وفناءات الدور تكون داراً واحدة تطل عبر جدرانها أوراق أشجار الجوافة والليمون وعرائش العنب التي تطول على ظلالها الوريفة جلسات القهوة وأحاديث الظهيرة المخلوطة بالنعاس اللذيذ والإرهاق ، ويسطع فيها نجم الراديو تغسل أغنيات برامجه النهارية أوجاع الحقل وأعباء السوق ومسؤوليات المنازل الكثيرة ، ومن جميل ما يميز كسلا أنها لم تسلب ساكنيها من بقية القبائل ومناطق السودان وحتى خارجه ذواتهم ولم تترك ثوبها هي كذلك ، تجد عبر ليلها المملوء أشجاناً وأفراحا ، نقارة أهل الغرب وطنبور الشماليين وباسنكوب الشرق وشعورهم الطويلة التي تشكو تغوّل الزيت الدائم عليها ، وتجد في قلب المدينة أوركسترا أهل الوسط وكلها محضورةٌ دائماً ، عامرة تفيض إلفاً وقربى ، وفي السوق الكبيرة بوسط المدينة ، تنتظم أكوام الفاكهة المبعثرة في سوق غرب القاش الصغيرة ، على مناضد خشبية مختلفة الألوان والأسماء تأخذ زينتها عند كل صباح بعد غسلها ورصها في أشكال هندسية جميلة ، ولكنها تحافظ على سعرها الزهيد في السوقين ، ولو أنها تبدي بعض الغلاء بوسط المدينة لحرص زوّار المدينة من عرسان السودان الذين يحجون إليها على شراء فاكهتها المشهورة حين عودتهم إلى مدنهم ، وتسيطر على مطاعمها وجبات أهل الشرق الرئيسة يبدو ( السلات ) وهو عبارة عن لحمٍ ينضج على حجارة محماة بالنار في كامل دسمه واحمراره الشهيّ ، ويتألق ( القُرار ) اللحم المحشو في ( مصران ) الخروف ، لكأن كل توابل الحضارات مزجت بخلطته وكل قوائم الطعم اصطفت عند ضفة حجارته المتقدة فلا تكاد تشبع منه ولا تكاد تخطئ نظرة النصر في عيون الطاهي وهو يهبُّ ناره ويغني بابتسامته التي تفوق الضحك بمراحل ، يصاحبها بأغنياتٍ محببة وبعض رقصٍ يهزّ فيه رقبته بمهارة فائقة ، ولكن الفول يظل ملمح كل المدن السودانية ، يزيده السمن البلدي حضوراً في مطاعمها البلدية التي لا تفتر عن تقديم وجباتها طوال اليوم وتضجّ قربها المقاهي تقطع سكون الليل بأنفاس الشيشة وبخار الشاي ورائحة القهوة وونسات السمّار ، تتميز مقاعدها الخشبية باللونين الأخضر و(اللبني ) مع سواد اتساخٍ يطليه بها الزمن والناس ، وهي من أميز ملامح المدينة تجد فيها أخبار العالم ونتائج مباريات إستاد كسلا المفضوح بارتفاع الجبل ، يتحد فيها الصبر والأمل والحب والرغبة وتتطاير الأحلام مع لفافات دخان الشيشة وينجو العقل ببعض خدرها من التفكير في الواقع المر ، والطريق السريعة خارج المدينة لا تنتهي بعد خروجها إلا إلى حدائق وسواقي وضواحي كسلا التي تملأ سوق غرب القاش بالحياة ، وتمتد مدّ البصر أحزمة الخضرة حول المدينة حتى لتكوّن على جيدها وشاحاً من الخضرة والجمال عقده الجبل الذي لا تبرحه سحاباته وذيولها الضبابية وقروده التي تغيب ساعات العصر حين يضجّ الجبل باللقاءات وتبدأ بعد الغروب في ملء أسماع المدينة بأصوات ألعابها وبهجتها الممتدة عبر أزمانٍ وأزمان.
    لا تكاد تغادر مدينة الجمال المتجدد تلك إلا وتلتفت صوب ذكرياتك فيها تطالع الجبل وهو يودعك بجبينه المغسول وسحاباته الدامعة ، حتى تغيب عنك ، فيبدأ القلب عندها في التلفت والشِعر يحوّم حولك " كسلا أشرقت بها كأس وجدي " قبل أن يغنيها الكابلي ويبدل الكأسَ بالشمسِ لاعتباراتٍ لا تخصّ المدينة ، ولا حالات الإلهام العميقة ، ويظل الجبل يقاطع المسافاتِ وأنت راحلٌ عنها حتى لتظنه يتبعك وهو غارقٌ في عشقه حتى أخمص حجارته ، وتتقد بينك وبينه لغة الهوى فتنام على أشجانك ويصحو الغناء.
    أسامة معاوية الطيب
                  

07-17-2004, 07:38 PM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    ومازلت انتظر
    حتى لا يقف صبري بين حجري ضب الخوف واليأس
    حتى لا أموت من شوقي لرائحة الحروف
    حتى لا تخنقني الغربة بدخان الاغتراب وانا اصرّ طرف وطني في طرف ثوبي وأنام
    حتى لا .....................
    انتظركم
                  

07-17-2004, 07:41 PM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    شمال السودان ، الطنبور والساقية ( 2 )
    تدور الساقية ، تدور معها صورٌ وذكريات قبل قناني الماء ، تحكي عالماً من حنينٍ خاص ، تدور ، انسياقاً وراء لحنٍ غزلته الطبيعة شالاً أخضراً تتشح به شتلات النخل والضفاف ، تدور ، تخلق دوائر من الأنغام ، تتسرّب إلى عيون وقلوب النيل فيبدو ورذاذه المتطاير على جنباته ، عريساً من أغنيات الوعد الأخضر ، وموّالاً من الحلم ، تدور الساقية ، كل جزءٍ فيها يغني على ليلاه ، ولكن ( المشّق ) بالذات هو الباعث لكل أنغام وموسيقى الساقية ، التي أصبحت جزءاً من تكوين إنسانها ، وكحلاً على عيون حسانها ، وبعضاً من حصاد حواشيها المترعة ، قمحاً ، وتمراً - ووعدا وتمنى لا تقاطعه انتكاسات السياسة التي احترفت إحراج الأغاني في زماناتٍ بات الشعراء يغيرون قصائدهم ويعتذرون لإبداعهم بالسقوط - وبرتقالاً كان أكثر ما يميزه ويكسبه طعماً إضافيا ، صنع ( زريبة ) بأغصان وأشجار السنط والطلح ذات الشوك المبكي حوله ، وحراسته كذلك بعصي الكبار ، وتحرشات الصغار ، وثرثرة النساء ، أو بحالٍ من الأحوال إحاطته بهالة المنع التي تجعله مرغوباً وحلما ، كان رائعاً في الطعم رغم الحموضة التي تطفئ العين ، ورائعاً في اللون رغم اخضراره المر ، ورائعاً في الحجم على تناهيه في الصغر ، ولمثل ذات الفكرة ( الإبعاد ) كان الشايقية يغنّون للبنات والبلد ، وحتى منقة كسلا ، عندما تغنوا بها ، (منقة كسلا حلوة وصافي لونا تومتي بريدا) (منقة كسلا البقت لي شيلا خلوني الأقوم أمشيلا ) يظنون أن كسلا هذه من مدن الخيال الشعبي الذي خلق منها أسطورة تحكى ، ومنقتها من ثمار المستحيل التي تنبت فقط على ( تقاند ) الشعراء ( يقولون إنها كانت تشيل مرتين في السنة ) وفي كل مرة تحتفظ بصورتها الخيالية للمحبوبة فينتفض الشعر والمغنين ،كانت إشارة لاستحالتها على فنانٍ لا يعرف أن وراء كريمة أراضٍ يمكن أن يصلها، ويعتقد أن القطار يسافر للمجهول فقط .. فهو دائما يأخذ ولا يعطي، وعندما يستوي على كنبات الرابعة غير الممتازة ، يطالع ( كسرة التمر ) ويتحيَّن لحظة الإفطار ، ويفتعل شجار القطارات الذي لا ينتهي خصوصاً أنه يبدأ من العدم .. يظل في حنينه الدائم لنيله ، وقصائده ، وطفولته الحائمة بين جريد النخل وأشواك الطريق الدامية ، لإحساسه باستحالة الرجوع ، ومن هنا يبدأ بكاء الرجال وهو أصفى معاني البكاء ,وأنقى إشارات الحب والوجد ، وأغلى لحظات الصفاء.
    والمشّق هو الجزء الذي يدور عليه محور الساقية وهو المسؤول عن صوت الساقية الممّيز ، والخاص ، الباعث على كمٍ هائل من طاقة إنسان الريف الإبداعية ، ويعتمد صوته – رخيماً أو حاداً – على اهتمام سادته به ، وكان ( الصمد ) – بمثابة القائد على القرية اجتماعياً وثقافياً وحتى سياسياً – هو من يقوم على أمر دهنه بالسمن البلدي – يعتمد هذا على حالة المنطقة الاقتصادية - مما يكسبه حنيناً أخّاذاً وهو يتداعى في موسيقاه الحالمة ، يجلس ( الأروتّي ) – الشخص الذي يقوم على متابعة ثيران الساقية أثناء دورانها اليومي – يجلس على مقعده يترنم بأبيات قبيلته الشاعرة التي ( يطارد نصفها ، نصفها الآخر ) الآن ، ويظل النصفان يكتبان الشعر ويخلقان عالماً من الحبّ والوجد الشفيف وأهازيج الرجولة والبطولة ، يترنم الأروتّي ويلاحق الثور ( الأرقوق ) – الذي يعمل وحده على الساقية – ويكون ضخماً ، صبوراً ، قوياً ، مطيعا ، أو يلاحق ثوريه – الصغار – بالسوط في يده ، وشجون الكون بين أضلاعه ، وحكايات أجداده عن عفاريت النيل تحوّم حوله فيبدأ يدندن
    لا تعاينن للعمم يا عينة الجيل
    دي بيوضة طير بقر ساكت بلا حيل
    الساقي سيدا قام ساريلا بالليل
    شدّاها فوق عبدولي جاور مزلق السيل
    وعلى أنغامه تغازل الماء عروق البرسيم ، وأوراق المانجو والجوافة وأزهار الليمون النفّاذة ، وجرائد النخل التي طالما أحبت أن تهامس سالكي الطريق ، وأحياناً تصرخ بشوكها على رؤوس الأطفال ، وهم يتقافزون حول عالم الظلال والخضرة ، تشدّك الأنغام إلى ظلمة غابة الضفاف ، ووضح نهارات الريف البيضاء ، والساقية هي الملهم ، كوّنت على مرّ سنينها إرثاً عميقاً لا تخطئه الآذان في موسيقى وأدب وثقافة الشمال ، وكانت المراكب التي ( تحرث ) البحر ذهاباً وإياباً ، تحمل فهم السوق المتنقلة ، ومنتديات مجمعاتهم الحياتية جميعها ، يبعث الهواء ( الصلاح ) في بحّارتها شجوناً لا يكادون يكتمونها فتفضحهم الأوتار ، ألحاناً تغوص في مكامن أسرارهم همساً يفيض شجى وشجن وآلام فراقٍ لم تمحه صفحة الماء مع أنها جزءاً من تكوينهم الاجتماعي ، ولكنهم يبكون المسافة بأوتار الطنبور التي تلّون أصابعهم بأيام داؤود ومزماره وتمنحهم عافية السفر عبر الحروف وتكتبهم على مشوار رحلاتهم شعراً ومعاني
    لا تعاينن للعمم يا كرّكابة
    دي بيوضة طير بقر ساكت لبابا
    الساقي سيدا ما شرب الروابا
    دة المصالي أم قور وقاعد فوق جعابا
    وهنا كما في سابقاتها يفاخر الشاعر بأصحاب السواقي الذين يصنعون تواريخهم بجهدهم وليس كالآخرين الذين يهتمون بمظهرهم ولباسهم للثياب البيض فقط دونما فائدة ، وأم قور هذه هي الساقية ، وكان الشعراء عندها لسان حال القبيلة يباهون برجالاتها ويقولون ما لا يقله إلا الشعر من معانٍ وصور ، حتى أن التركية السابقة خلعت على حسونة شاعر الشايقية العظيم رتبة العامل تلك حتى يغير صورتها في أذهان العامة ومضى حسونة العامل يعيد سيرة المتنبي بين أقرانه الذين لم يسمعوا ( أنا من نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم ) ولكنهم رددوها معه وهو يجالس العمد والنظار على طريقته الخاصة.
    تسبح مراكبهم مع تيار النيل ، ويسبحون على أنغام وأوتار طنابيرهم عكس تيار الأيام عشقاً لا تخطئه الأسماع ، جاءوا بالحبّ والوعي من بين مسارات الخضرة وعيون الماء ، ومن نفثات حجارة الجبل المتكئ على أكتاف القرى والمدن ، يطالع مستقبلها كما ظل حافظاً لعهود ماضيها الخالدة والمحفورة بداخله شهوقاً وعلو ، كانت أمواج النيل سابقاً سوق الريف الواسعة ، تحمل لهم عبرها (مراكب المحس) ، كل احتياجاتهم خصوصاً أزيار النوبة الأنيقة شهيرة تخطيطات الرأس ، طويلة العنق كما يشتهون في غنائهم للمحبوبة ، ويحمد لها الأهالي قدرتها على تبريد الماء في زمن ( السموم ) القاتلة ، وبين رحلاتهم الطويلة عبر مناطق الشايقية يكون للطنبور ابلغ الأثر في تخفيف حدة الشوق ولواعج الحنين ، وهذا في ما يؤكد المؤرخون هو الطريق الذي دخلت آلة الطنبور عبره لديار الشايقية ، وكان الرواويس – واحدهم روَّاسي – يقصرّون الليل حيناً ويطيلونه أحياناً بعزفهم الذي يتدفق شفافية ، وينزف مع ألحانه ذكرياتهم ومواجعهم ، وبكاءً يعلّم القماري شجو الهديل ، ويعلّم النيل دفء الاحتماء بين أحضان الضفاف ، كان الروّاسي يجلس في مقدمة المركب الخشبية الكبيرة ذات الشراع المتشرّب بحمرة أشعة الشمس الحارّة وأطيان النيل المتراشقة عبر الأمواج ، فيبدو بلونٍ كامل الخصوصية ، يبدو بين الأبيض والأصفر والأسود ، يبدو بين جميع الألوان ، يجلس الرواّسي يمسك بطنبوره - آلة العزف الوترية – ذات الأوتار الخمسة والتي يقول عنها دكتور بادي إنها تمشي على خمس ، وأعتقد أنه تلمّس هذا المعنى من أستاذه ورائد شعراء حقبة السبعينيات إسماعيل حسن الذي يكتب الشعر صلاةً في محاريب الريف المسكونة بعميق المعاني وكبير الأمل ، ويقف على أطراف ( الساب) يناجي لياليه الخوالي
    تصوري حالي من بعدك وكيف يا حالي حالك كيف
    وا مأساتي كان هلّت ليالي الصيف
    وكان طلّ القمر ضاحك يغازل في عيون الريف
    قميريتن أباها النوم تقوقي تقوقي كايسة وليف
    وحس رواسي جوة الموج براه الشوق وساكب ذاتو في التجديف
    وحيّرني الوقوف يا ذاتي ما بين النطع والسيف
    وحتى بادي وقف على ( ساب ) ذاكرته وخلق الشعر الذي يمشي على حواف الشعور فتنبت الرعشة بين القلب والحلم ، وكانت (جماجم كورتي فوق راس الجبل بتشابي ما عرفت رقاد) ولازالت تشتهي الرقاد على عناقريب ذاكرتها ، أفسدها سرير اليوم الذي ( يعسِّم ) ظهر الأفكار.
    بهذه المعاني يمسك الروّاسي طنبوره ، وتبدأ سلسلة من الصور المتباينة المعنى والوجد والدلالة ، وبين همسات الليل الهادئة ورشقات الرذاذ المتطايرة ، يتسمّع الأروتّي الذي يجلس على ( التكم ) – جزء من أجزاء الساقية يجلس عليه الأروتّي لمتابعة حركة الثيران – يتسمّع ألواناً من البكاء المتقاطر عبر طنبور الروّاسي وهو يشقّ ليل رحلته الطويل صوب اللقاء المأمول فيكتب الليل فيهما أبياته
    الله ليلي .. ليل يا ليلي ... الله ليلي أنا ليل ... ليلي أنا ليل .. يا ليل
    يا عجو المحس التقيل فدع العراجين
    انتي ما بيدوكي لي زولاً مسيكين
    إلاّ واحدن نخلو مقرون في البساتين
    وبين صوت الطنبور وآهات الساقية دخل الغناء المنظّم منطقة الشايقية عبر الرواويس ، هكذا يؤرَّخ لطنبور الشايقية ، والشايقية عموماً أهل شعرٍ وخطابة وفصاحة وفروسية ، وأهل ترحالٍ وسفر ، يمعن الحنين سفراً في حنايا ضلوعهم ، فتنزف عيونهم وقلوبهم دموعاً وقصائد أكثر ما تشكي ، الفراق والهجر ، ينشدون الاغتراب ويضربون في الأرض سفراً وبحثاً وتنقيبا ، وترهقهم الذاكرة التي أكثر ما تعيد عليهم صور السواقي ودموعها ، وأشرعة المراكب وضحكاتها على موج النيل الذي يتراشق عبر أحلامهم أغانٍ تعلّمهم شجو القمري وحنينه ،
    أيوة شفتك في الدغيش سايقة المراكب لي بلدنا
    شايلة في ايديك قمحنا وحاضنة في عينيك سمحنا
    ايوة شفتك والشعاع رقرق على نوّار جرفنا
    مرة في الفرح البجينا ومرة في الحزن البهاجر
    ومرة في أعماق جرحنا
    يلا قولي وطمنيني كيف بداية الدهشة كانت لما جيتي
    انت سبتي النيل وراكي وفجأة في الخاطر لقيتي
    الفرح في الدنيا سابك انت فرحتي وطريتي
    والزمن في الدنيا جارح انت خليتي ومشيتي
    ايوة شفتك وكم عرفتك وانت عمرك ما نسيتي
    وطنبور الشايقية أرهف من كل ألوان الأوتار وأعمق من كل هديل وغناء ، تعوّد أهلها أن يلوّنوا أغانيهم بمشاهد فلكلورية توائم بين اللحن والحركة وتخلق حضوراً كامل الضوء والمعاني وسامي الروح العاشقة ، وعشقاً يتقاطر على داراتهم ، يقول حوله الباحث محجوب كرار إن شكل الأغنية الحديث هو نتاج تفاعل أغنية الطنبور مع ثقافات الجوار ، أول ما تفاعلت معه هو الطنبور ذاته جاء للمنطقة عبر الرواويس من قبائل النوبة ولكنها اشتهرت به دون غيرها من قبائل السودان الكثيرة التي تتعامل معه ، لأنها زاوجت بينه وبين حنين الكلم ورقة الوجد الذي يتفطر ألحاناً ومواويل تبكي حجارة الجبل الذي نهض في الشعر شامخا ( كلنكاكول )(*) وكان جبل ( أبنعوف )(*) حانة وجد يستلقي عندها المشايخ فتسكر الليالي بعبق الذكر ، ويترنم على أطرافها المغنون فيساقط النخل الرطب جنياً ، وتمسي عذرواتهم في خدورها تنشد لحسنها أن يطاول قامة شعرهم السامية.


    أسامة معاوية الطيب
    الشارقة 7360105/050
                  

07-18-2004, 03:38 AM

osly2
<aosly2
تاريخ التسجيل: 10-17-2002
مجموع المشاركات: 3541

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    Quote: الناس يسألوني .. وأسأل غير ي عنك
    سبب الفرقة نحن ... واللا أسبابا منّك
    ليه الغيبة طالت .... ليه يا المشتهنّك
    الخرطوم بدونك ... ضهبانة وتفتّش لي واحات عيونك



    واصل اخى اسامه
    نحن نقرأ ونعائش معك كل الدهشه والاعجاب
                  

07-18-2004, 03:45 AM

Abdalla Gaafar

تاريخ التسجيل: 02-10-2003
مجموع المشاركات: 2146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    الاخ اسامة
    اتابع قلمك اينما حل ..في هذه الحضرة اضع همي واستمع فأكتب اكتب...لك الشكر والود والتقدير
    ولي عودة في احدي محطاتك

    عبد الله جعفر
                  

07-18-2004, 03:59 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: Abdalla Gaafar)

    اوسلي
    تعرف كانت زمان عمتنا الحجرة عندها جريدة خدرا خاتاها للشفع الصغار البيمشو الحفلات وكنا ونحن مكتحين بغبار الحفلات كلو ننوم قدام الفنانين ونتكندك تحت الصفاقين واعتقد دا واحد من تعلقنا لاحقا بالطنبور كوجدان
    ولكن من كان يزرع كل هذه الشتول في سبايق قلوبنا ونحن اطفال ؟ او لم يكن الحنين للمكان ؟ او لم تحفر الشوارع رهق حوافها في وجودنا المجنون هذا ؟ يا صديقي سنفعل طالما في العشق طرقة لمقابلة جوع الغربة
                  

07-18-2004, 03:54 AM

Ibrahim Algrefwi
<aIbrahim Algrefwi
تاريخ التسجيل: 11-16-2003
مجموع المشاركات: 3102

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    ماش الحال

    اصحاب خالس خالس


    مع انك فلست بي لانو انا داخل نت من شارع الجمهورية بالقروش الكُتار

    ونحنه عندنا مطر


    وي وي


    ممكن اجي اكتب ليك امدرمان وطبعها الريفي من خلقتها ولا ماممكن
                  

07-18-2004, 04:06 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: Ibrahim Algrefwi)

    عبدالغفار
    ازيك
    انت عارف ليه الوان الباصات في كل مدينة في السودان بيتشابه ؟ لانو نحن نعشق الاخدر كما يسميه اهلنا نموت في الاخدر عشان كدا من غير وعي رسمي تطغي الشعبية على ملامح المكان ... تبكيك القضارف وانت تفارق اخر قطاطيها وتتعبر مروي حين يتصاعد بصك عن شجرة بنطونها غريبة الحنين وتلاوحك كسلا بايادي توتيل انت تردد تلفت فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب ولكن بورتسودان لا تفعل اكثر من تدمي قلبك وانت تفارق رائحة سوقها وتتجه صوب العقبة ... هذا السودان منهك حد الفضيحة مرهق درجة الموت الذي يحييك في داخله ويوقده بداخلك
    اشكر يا سيدي
                  

07-18-2004, 04:14 AM

osly2
<aosly2
تاريخ التسجيل: 10-17-2002
مجموع المشاركات: 3541

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    Quote: اوسلي
    تعرف كانت زمان عمتنا الحجرة عندها جريدة خدرا خاتاها للشفع الصغار البيمشو الحفلات وكنا ونحن مكتحين بغبار الحفلات كلو ننوم قدام الفنانين ونتكندك تحت الصفاقين واعتقد دا واحد من تعلقنا لاحقا بالطنبور كوجدان


    ونعايين لوجوهنا فى الرتينه حيث تتمدد الوجنات ويأخذ الانف
    شكل صبابة الجاز
    الذ تشبيه صدر من احد اصدقاء الطفوله بان شبه صوت المسجل
    عندما تنزل بطاريته بصورة الوجه فى الرتينه
                  

07-18-2004, 04:29 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: osly2)

    الجريفاوي ؟
    مش قت ليك صاحبي ؟
                  

07-18-2004, 05:32 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    مروي وذكريات السيل(197
    أحلامٌ على أهبة النزوح (4)
    بدأت صاخبة ، متمردة ، تطل على النيل ، ويطل عليها (البنطون) العتيق ، يقاطع صمت جروفها ذهاباً وإيابا ، يحمل العالم في رحلاته هذه ، جلَّ عمَّاله على ظهره وعلى الأرض من ذوي العاهات ولكنهم كانوا رمزاً لمعانٍ خلقتها أقلام الشعراء قبل أن تجفّ أو أن تغيِّر سطورها بفعلٍ أو ردِّ فعل ، كان الطلاب يزوِّغون فيه من المحصِّل صاحب الجلباب السماوي والشال ( خاطف جميع الألوان ) الذي يسعى أن يعوّض ملاليمهم بجنيهات أصحاب الفارهات وكانت حمير أهل الشرق التي تأتي للسوق صباحاً وتعود مساءً لا تحب أن تنهق إلا في منتصف النيل وقبالة المحكمة ، وما فسرت الأيام إلى الآن تلك الرغبة إلا لماماً بعد أن نافس إنتاج المساجين محصول أهل الشرق الوافر لزمانٍ طويلٍ سابق ، وإلى الآن تقف (نيمات) البنطون في كل شموخ المدينة تطالع البحر ومطالع السوق تحتفظ بكل حرفٍ من تاريخها قبل أن تتحول حجارة الآثار إلى تزيين بوابات الأحياء ، وتطلي نادي الأهلي بجدران عظيمة في مدخله رغماً عن نزوله للثانية في دوري كريمة ، إذن فلماذا يضع التاريخ مدخله وهو يخسر المستقبل بالداخل ؟ لكنه مازال يباهي بالبوفيه الذي يبرع في الكركدي الساخن ، يبرّد كثيراً من وقع الهزائم المتكررة ، لماذا (يتخن) جلد إحساسنا دائماً بالهزائم حتى ننسى مقاس قمصاننا من نصرٍ لن يأتي ؟ حكمة الواقع المر ! تطل مروي على النيل بحياةٍ تقفز فوق السكون ، تبدو مباني الإنجليز التي تصطف على شريط الضفاف الأخضر وهي تنظر للشرق بكبرياء كجيشٍ أدمن الانتصارات في زمانات الهزائم ، معتدةٌ بنقوشها وعمارتها الأنيقة ، مفتونةٌ بجدرانها العريضة تمتص كل لهيب الصيف وضوضاء السوق القريبة ، متموجةٌ ، صامتة إلا من ونسة قماري على أشجار الجميز الضخمة التي تلفُّ المكان بخيوط رائحتها العميقة والمميزة والمستفزة ، ومن محاولةٍ يائسة لإحدى الأسماك للخروج من الجلد بقفزةٍ عالية من النهر ولكنها وحين تعود باندفاع قفزتها نحو الأعماق تدرك وهي تخطو صوب ذاكرتها ( أن العرجا لي مراحا ) فما لها وعالم اليابسة وقد أسلمت المياه جلدها لنعومةٍ تصل حد الانزلاق تنسرب به من بين الأصابع ، ولم تكن مروي مجرد مدينة خلقتها ظروف سياسية لعهدٍ ما أو لفتت استقامة شوارعها واتساع النيل عند عينيها حاكماً يحلم بمد رجليه على بساط ديوانه الأنيق من النيل إلى النيل عبر خور (أبدوم ) تطل نافذة غرفة نومه على صحو العصافير في حديقةٍ لا تنتهي ، ولكنها (صنب) – وهذا اسمها القديم - التي أوقفت التاريخ ليسمع سنين مجدها وأرهفت أسماع الكون لالتقاط همسات أجداده الأبطال الذين صنعوا (نبتة) وخلقوا (كوش) وكتبوا بحروفها ( اللغة المروية القديمة ) كل ما يمكن للحضارات أن تكتبه على صفحات الخلود ، واليوم يعجز الصبية في فصول الدراسة عن الكتابة بحروف العرب التي باتت تخنقها ضائقات ذات اليد حد الموت فيرتدي التلاميذ عجز أهلهم في مشاوير يومية نحو مدارس يملؤها الفراغ ويعودون أنجح ما يكونون في السقوط المريع ، لا يفكُّون الخط ولا يبرحون الجهل قيد حرف ، يسمونهم اسماً وسيماً جديداً حتى لتشتهي أن تكونه (الفاقد التربوي) تردد جنبات المدارس التي شهدت التفوق والنشاط وحيوية أساتذة الرياضة في زمن الكرة ( أم بوز ) ذات الكَفَر الجوُّاني ، تردد الفقد واحد.
    تصطف سرايات الإنجليز الآن أطلالاً تذكر تواريخ كبريائها حينما كانت مروي تنام متوضئة برذاذ النيل على جناين الحكومة مغسولة الشوارع بصمت الكون ليلاً وانتباهة الوجود نهاراً تحفها أشجار اللبخ والجميز والزونيا التي تصبغ الثياب بلونها الطاعم ومشاوير العصاري على أنغام طيورها التي تمنح المارة ألحان عشقٍ قديم وأنفاس حضارة لم تزل تنقش بآثارها على قلب الوطن وتلقي بثمار الزونيا والجميز على قارعة الطريق المرشوشة بالرمل وخطاوي المحبين ، والسوق ترفل في أصوات الباعة عربية الملامح إفرنجية العمارة ، سودانية النكهة يجتمع فيها كل السودان ، والسودان لا يغيب عن مدنه ، تتحاور فيه الثقافات والسحنات والأشواق وتنتصر فيه الروح الواحدة ، كانت سوق مروي عالماً يغصُّ بالجمال ومطاعم الفول تنتشر على جنباتها كانت أبوابها تفتح على جانبي السوق مثل جلباب الأنصار الناصية ، ما يسهِّل على طلاب الثانوية المفلسين الزوغان من دفع الحساب وأحياناً حمل الملاَّحة معهم لزوم (دنكلة) فول الداخلية الذي لا يستجيب لكل المحسنات ، لم يكن الناس بعد يعرفون اشتهاء الجبن الأبيض على الفول ولكنهم كانوا يباهون بالرغيف المدوَّر الذي يترك آثار دقيقه على الأيدي وآثار ملوحته الحبيبة في أعماق ملامحهم ، قبل أن تغرق البيوت في الخبز التركي عديم الرائحة والطعم ولكنه يتميز بلونٍ جذاب ، وتلفت الانتباه حركة المقاهي ، كانت الباسطة (يادووووووب طالعة) تسيل ماؤها على الأصابع فتفصح لزوجتها عنها وتقضي حلاوتها على طعم الويكة اللديح الذي استفرد بحاسة الذوق ، وللشايقية حنينهم الخاص مع الشاي (يصبرون على تسع كبابي من السادة ولكنهم وحين يختلط بالحليب لا يحسنون العد) يختصرون كل الكون في مجلس الشاي ويختصرون كل الحب في عزومتهم للضيف عليه ، السوق واسعة ، تشتهر بالقباب العربية الأصيلة وأشجار النيم التي تحضن دائماً تحتها مجموعة أزيار ، سبيل ، تزدان أغطيتها بأنصاف القرع كأكواب تسهم بإضافة نكهتها على الماء أو علب الخميرة الطويلة يثقبونها في أسفلها حتى لا يسرقها الصبية ولكنها تفسد أثواب الكبار فيذهبون عنها وقد رويت جلاليبهم لسبيلٍ آخر ، ويطل غير بعيد دكان (عم أقرع) الذي يحادث المدينة أثرا عن أثر لا تفوته بيوم ولكنه يفوتها بأكوام علب الصلصة وفتايل ريحة السيد علي وأوراق الخريف وزجاجات الفروالة التي سكنت على الرفوف ، حيّرت الغبار ، يجلس بصلعته الناصعة أمام دكانه يطالع العيون وقد غرق في سهوم الكِبَر وشجون الذاكرة تقابله في صالات الخضرة أكوام القرع التي ترقد بالشهور حتى لكأنها جزءً من السوق ، ونساء هذه الصالة أقدم منها كثيراً ، يرحن بالكاد بعد تفرق الناس يقضين كل الليل في الوصول لمنازلهن وما أن يصلن حتى يبدأن طريق العودة يطبعن الجرجير والعجُّور بحالتهن فيبدو أكثر كرمشةً وصُفرة ، ويطل ليس بعيد الجامع المهيب ، طالما باهى النخل بطول مئذنته وحسدته المنازل على طوبه الأحمر المحروق وأقبيته ذات الزخارف الجميلة ، كانت كل المدينة تطل على النيل ، المحكمة ودار الشرطة وأندية الموظفين والأفندية ورياض الأطفال ، تحرسها بقايا أهرامات جدودٍ حصنوا آثارهم ولكنهم أهملوا ذاكرة الأبناء المثقوبة فبدأت الرمال من حول أهراماتهم ونقوشها ودلالاتها العميقة تكتب على صفحة التاريخ سطور النسيان ومقالات الإهمال وروايات غرابيل الأجيال ، تتناثر المعرفة بالتاريخ والتي كان أهلها يسافرون بين نوري ومروي والبركل والكرو دون خوفٍ من ضياعٍ قادم ولكنها هكذا دائماً حكمة الأبناء تجاه أجيال الآباء حكمة التطلع إلى المستقبل دون أي ارتكاز على جدران الماضي فيكون السقوط .
    والدولة التي تجهد نفسها جدا في تحديث دواوينها وتزيينها ، ورش الطريق المؤدية إلى دارها ببنود الميزانية كلها وورود المشاتل التي نام نخلها عن الظل والثمر وسهرت على تهجين الورود المحسنة لعيون الولاة التي لا يملأها حتى التراب ، وتنثر فاره السيارات على جنبات المدينة تضنُّ على تهراقا وكوش ونبتة حتى بالسلك الشائك يحيط بحقبتها المفتوحة على عالم الحضارات كلها ، يمنع عنها فقط استباحة التاريخ واغتصاب المجد ولكن … وجاء للمدينة بليل ، السيل الشهير ( سيل 7 فاجأ عيون السرايات الواسعة فأسكتتها الدهشة حد الذبحة عن لملمة أقبيتها وبواباتها المنقوشة بكل الفنون عن وجه الماء الكالح وباتت ذات ليلٍ داكن السواد والذكرى تشهق في النيل ولا تكاد تلحق ، وجاهد اللبخ والجميز وعاندت الزونيا واعتدت جذورها بأمسيات المدينة الراقصة وهي تغوص عميقاً .. عميقاً ولكن الماء تعرف حين يصيبها مسُّ السيل كيف تخلق الموت وهي التي نامت رقراقةً تهب الحياة لزمانٍ بعيد وتمنح الجمال لأجيالٍ وأجيال ، باتت السوق بصخبها وضجيج مقاهيها وجلبة العوام صمتاً يصبّ مع النيل في بحيرة النوبة أو البحر الأبيض المتوسط لا فرق ، كل الذكريات ، مقاعد دكان الحلاّق الخشبية لا تحسن استقبال الجالسين قسوةً وصلابة (هم قاعدين لي متين) ومقصه الخشن يترك آثاره على الآذان دائما ، وكل كراسي المقاهي وصواني الشاي الذي سافرت أكوابه التسع عن ديار الشايقية مع التيار العنيف ، وأغنام المدينة ، كانت تسرح هانئةً بين أحاديث النساء وقهقهات الرجال ظلَّت تترجى مبحوحة الصوت والخاطر مقطوعة الظهر والعشم والأمل أيادي اليابسة بعد أن أرهقتها أصابع السيل طويلة الأظافر ، وماتت أشجار النيم ألف مرة قبل أن تسلم أزيارها لهدير المياه فيختلط ماءها البارد الرائق بتيار السيل (المخجوج ) ولم يصمت الماء عن صراخه المقيت إلا بعد أن اسلم ذاكرة المدينة كلها للنيل ، والنيل صامتٌ تضجُّ أعماقه بتوحُّد المدينة كلها تحت طائل الهجمة ونومتها الطويلة في أحضان أسماكه التي باضت على مقعدٍ شهد ونسات العمّال عليه حين الانتهاء من الوردية الطويلة وفقست تماسيحه على أبواب السرايات الجميلة وتقافز الورل كثيراً على السطح يرفع كراسة طفلةٍ أسلمت المياه مدرستها لموت الفجاءة ، وينزل به ليسكت أوتاراً كانت ستصدح جيلاً بعد جيل معرفةً وعشقاً ونضجا ، ويسأل الأطفال في براءتهم عن مواعيد فتح المدرسة التي تحوِّم سبابيرها في أرجاء جروف حلفا القديمة ، والكبار ما زالوا يبحثون عن ذواتهم وعن مدينتهم التي باتت ترسل رسائل أغنياتها من تحت الماء ، واستيقظت داخلية مدرسة مروي الثانوية بنات على قيامةٍ أخرى تبدل الفناء الأنيق بمياه قاتلة وتذهب نوم البنات الرقيق لتوقظ الخوف والدم والموت ، أوقعت العنابر على الرؤوس المهجومة وكانت ساعةً فقط طفأها الله والصراخ يطلي المكان بالرعب وسرائر البنات تسافر مع هدير الماء وحياة الكثيرات منهن وأحلام البقية والبوابة تضع الثوب على فمها وهي تنتحب مخافة خروج روحها تعاين في العيون الراجفة وتدندن (هي أقيفن .. نورا فيكن ... نورا بت الواطة أخيتي .. نورا أخت كل الغلابة .. تدي للجيعان لقيمة .. وتدي للعطشان جقيمة .. تكسي للماشين عرايا وفوقا يتقطع هديما .. ما عرفتن نورا انتن قولن انتن شن عرفتن ..) قليلةٌ جداً هي المواقف التي تحرج الدمع ، وتختلط حينها كل المعاني بكل المعاني وتقرأ العيون أحرفاً جديدة للموت ما كان ليفصح عنها قديماً والبنات على (العناقريب) يبدلن فناء المدرسة الجميل وتهويمات العنابر الرومانسية بوحشة ( الجبّانة) ولا يعرف الرجال كيف يبكون ولكنهم يفعلونه بصدقٍ نادر ، وظلت قوائم ملاعب كرة القدم شهوراً تتنفس الأكسجين المذاب في الماء مختنقةً بظلام الأعماق وهي القادمة من فضاءات العصاري جميلة التمارين ومشاوير الحسان إلى نزهة النيل اليومية أمام أستديو المدينة الوحيد الذي سافرت لوحاته تهدي الضفاف لوناً لونا ملامح مصورها الأنيق وتبحث عن ستائرها بين أكوام الطين ، وانتبهت أعمدة الكهرباء والتلفون إلى قيمة طولها الذي أوجد لها فرصة النظر إلى جرائم الماء ليس بعيداً عن عيونها الهدم والغمر والسبي والاغتصاب ، الجامع لم تبق منه إلا مئذنته تطالع الفراغ تتحسس شقوق جدرانها كل يوم ، وبقيةٌ من أذانٍ يسكن في مخيّلات الأهل وهم يحوِّمون حوله بانكسار العشيق واحتماله ، لا تشكو آذانهم من مقصِّ أبو خليل الحلاّق ولا تتسمع أذان جامعها المهيب ( فلا الأذان أذانٌ في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذان ).
    الماء الذي يحيا معه كل شيء أيضاً يموت به كل شيء ، إلا الذكرى ، تقتل بحياتها أعماقاً سلمت من الموت ( الناس تموت ان زادت الموية وتموت من قِلَّتا).
    الآن .. ابتعدت المدينة عن النيل ، لم تسمع رجاءات شاعر مروي عبد القادر محمد عبد القادر الذي أرهقته الأيام حد الرهافة فأمسى يكتب الشعر يحنّ إلى مروي القديمة ويسكن الجديدة ذات الملامح الباردة ، ابتعدت عن النيل كأنها تلومه عن صمته الطويل وهي تغوص في أعماقه ملمحاً ملمح وقصيدةً قصيدة ، أصبحت السرايا كظاهر الوشم في باطن اليد ، وما نجا من شجر اللبخ والجميز لم يعد يعتدُّ باعتداله الوسيم بعد أن أسلمه حفر السنة الماء في جذوره لاتكاءةٍ أكثر إيلاماً من الموت ، فالمحكمة التي كان يتسمع السمك والقمري مرافاعاتها أصبح فضاء الصحراء يلفُّ قضاتها ، والمستشفى ،كانت تسكت جراح نازليها نسائم النيل الباردة ، الآن تزيد الأوجاع بصقيعة الخلاء ، دندنت المدينة في سرّها ( الخلا ولا الرفيق الفَسِل ) بعد أن باع الماء صداقته معها برخص التراب ، تبحث عن رفيقٍ كيفما كانت فسالته يذهب عنها وحشة الفراغ وما يزال البنطون غريباً في بحره ، وحيداً ، يغني لنفسه ( فوقي غيمة وتحتي شيمة ولاوي في جواي عُصار .. هدَّ بالهم لون صباحي وطالن أحزاني القُصار ) لا يمكنه أن يرحل لأن له داراً واحدة ، تمنى لو أنه برمائي ساعتها أذن لفارق النيل ومضى ، ما عادت أشجاره الضخمة ملاذ الصبية والعشاق وعصافير المغارب وما عادت أصوات اللواري تشجيه بحنينها وهي تجتهد في الصعود عن وهدة الضفاف إلى الطريق الأنيقة عبر جناين المنقة والبرتقال الدقاق ، ولا عادت كماين الطوب التي لا تعرف النوم يغني عمَّالها طوال الليل ويصنعون الطوب بدرجاته المتفاوتة يرصّونه على حوافِّ الجرف آلافاً تؤسس لمدنٍ قادمة تعنيه في شيء، بات الأطفال الذين كانوا يشقُّون السوق متجملين بصخبها ومداعباتها ومعتدين بأقبية أبنيتها ، وهم يخطون صوب مدارسهم ، يشقُّون بطون التيه عليها الآن في ( صوف الخلا ).
    الآن .. فقط تخضّر جناين السجن ، كانت سابقاً تنزوي وراء ( دمورية المضامين ) – جمع مضمون وهو الذي قاربت فترته على الانتهاء فيخرج للخدمة في الجناين أو بيوت الضباط – وغناء المدينة على أعتاب آذان النيل ، وضحكات الموج مطلوق السراح على ضفافها ، وذاكرة المتحف الذي يربض وسط وشاح الخضرة بكبرياء تحسده عليها الشمس ، يبكي سنين الوجد والغربة وينام مجروحاً على كتف التاريخ المسكين ، والمدينة مسجونة في البعد عن ذاتها ، لا تكاد تدري من أمرها شيئا.
    وما بين مروي 1978 ومروي 2003 يحكي الأطفال والشباب والكبار مواجع وأدت مدينتهم الطفلة ودفنتها رغماً عن مسحها الغبار عن ذقنها الغميء ، وأسلمت ذاكرتهم لليلٍ طويل الغصة والآهة ، وحاد الفجيعة ، وبينهما تكبو الجراح على الجراح وتغوص الطرق المرشوشة بالرمل وخطاوي المحبين في دموع الحاضر الذي لا يحسن إلا استذكار الموت واستحضار دفاتر الشوق واستنطاق الدمع ، يقف الشعر وأحوال مريديه كلها خلف (سُماعين ود حسن) كما كانت تناديه أمه (حد الزين بنية شيخنا اسماعين) يردد مثلما حوّر محرري مجلة مروي
    والله يا مروي على لوح الزمان منقوشة بي سن الحُراب
    وما بنقدر على وصفك إذا خطينا بي حرف الخلود مليون كتاب.
    أسامة معاوية الطيب
    الشارقة
                  

07-18-2004, 12:35 PM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    أم درمان .. ووشم الجرح
    تعرّت
    كان البرق يقطر من دمعها
    والريح
    تعصف بذاكرة النسيم
    منديلها الأبيض
    نسّلت الغربة خيوط آماله ورائحته النافذة
    وحرف الحبيب
    وبقايا القبل وتلويحات النافذة
    يغرق الآن في سكون الأسى وهياج الجحيم
    تقف الآهة بين مدخل الجسر
    ومخرج الحرف
    تقتل الوقت بقبعات العساكر
    تقبض بسطوة الوطء
    أنفاس الأديم
    كانت أم درمان تعزف لزفاف أغنياتها
    أناشيد العمر
    ومقاطع زمانها
    تتساقط على سقوف الطين
    مطراً من نداءات أوقاتها
    و(نيل الموردة) يغرق في أسماكه
    والمساء النديم
    مركب على الشاطئ تبكي
    جثة النيل تطفو على شحوبها
    يا لغريقها العظيم
    كانت أم درمان
    تستقبل العمر بافتضاح الغناء
    على مطالع العيون
    تنحت بأزاميل ذاكرتها تماثيل
    حاراتها وألوان شوارعها ووسامة الشجون
    الآن تستقبل كل يومٍ
    عمراً حزيناً
    يابس الحلق والدمع والغد
    عمراً يتيم
    ***
    كانت كالعصفور
    يختبئ خلف ألوان جناحيه
    في بياته
    ويستطعم البارحة
    تأكل من حسرتها
    بقايا الوطن
    كي تعيد إلى أنفاسها
    بعض ما تبقى من الرائحة
    المسادير تقرّحت حناجرها
    والقصائد أهملت ريشها الذهبي
    تغدو على قدمي أشواقها الرائحة
    والمساء الجريح
    يسدّ أنوف أحلامه
    فعفونة الليالي
    فائحة
    ***
    تخرج الوردة من جلدتها
    وردة
    والبحر يخرج من ضفتيه
    عشباً وقوارب
    والليل يدخل أول الليل
    أغنية
    وآخره ابتهالٌ ونحيب
    ويسفر عن لسان المودة
    وأم درمان تدخل وتر شوارعها
    لحناً وصهيل
    تخرج من عند النيل
    حنيناً للأمس
    وموّالاً
    ولرأس الحزن مخدة
    الوطن كلما دخل في ثيابه للخروج
    توكأ على أمنياته
    ولوَّن صفحة وعده
    ***
    يتزاحم (المحطة الوسطى)
    شهيق العيون المسافرة
    والجيوب النائمة
    والرؤوس التي
    تنشّقت (التمباك) وغفت
    فقط يخلع أضراس نومتها
    (الكمساري) يطقطق لنقود
    غائمة
    وجباهٍ أدمنت النظر إلى صفحات الأرض
    تكتب المرافئ على أشرعة السفن الهائمة
    قاعدةٌ
    الأحلام في مقاعد النساء
    و(البص) يهترئ كل حين
    والنساء اللواتي ينزفن أنوثتهن
    يصنعن الشاي والركود
    على شماعة الأسى
    وقيامتها قائمة
    تتقاطر أم درمان نقطةً
    نقطةً
    على حلوق الأماني الصائمة
    تخرج الوردة من جلدتها
    تدخل في جسد
    أم درمان الموشوم بالجرح
    شوكةً نادمة

    أسامة معاوية الطيب
    الشارقة 17/8/02
                  

07-20-2004, 04:47 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    انا ضالع في مدني
    ضالع فيها
    يا ايتها المدينة الجدعة ستقتليني بحميمية ناسك وهم يتونسون على مواترهم
                  

07-21-2004, 02:56 AM

mohammed alfadla
<amohammed alfadla
تاريخ التسجيل: 10-06-2003
مجموع المشاركات: 1589

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    UP
                  

07-21-2004, 06:35 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: mohammed alfadla)

    بورتسودان
    وتقتلك بالسهولة الصعبة
    سارجع لاكتب عن مدني وبورسودان
                  

07-21-2004, 01:46 PM

mahdy alamin
<amahdy alamin
تاريخ التسجيل: 07-01-2004
مجموع المشاركات: 2025

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    UP
                  

07-21-2004, 09:56 PM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: mahdy alamin)

    فاضلابي
    مهدي
    شكرا
    سأعود
                  

07-23-2004, 03:49 AM

mohammed alfadla
<amohammed alfadla
تاريخ التسجيل: 10-06-2003
مجموع المشاركات: 1589

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    متين كده انشاء الله؟
    ما تخلي حركات الأساتذة بتاعتك دي وتعود سريع ياخ
                  

07-23-2004, 09:44 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: mohammed alfadla)

    والله جاي يا فاضلابي
    ولكني ضالع في شجني
                  

07-24-2004, 07:43 AM

osly2
<aosly2
تاريخ التسجيل: 10-17-2002
مجموع المشاركات: 3541

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    اســامه
    خليتنا بين العود
    بين اللحا المشدود
    متى تطلع من ضلوعك ؟
                  

07-25-2004, 04:26 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: osly2)

    متى تطلع من ضلوعك ؟
    يالكبر هذا السوال يا صديق
    والله سأفعل بس طولوا بالكم
                  

07-25-2004, 05:34 AM

حبيب نورة
<aحبيب نورة
تاريخ التسجيل: 03-02-2004
مجموع المشاركات: 18581

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    أبداً ما قصّرت
    والعنوان جميل جداً
                  

07-25-2004, 09:30 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: حبيب نورة)

    حبيب نورا
    اجمل عنواني واللا اسمك يازول ياجميل ؟
    اشكرك
                  

07-26-2004, 09:15 AM

أسامة معاوية الطيب
<aأسامة معاوية الطيب
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المدن السودانية أرياف تقتحمها المدنية (Re: أسامة معاوية الطيب)

    موانئ تتوق لمراكب الشجن
    بورسودان تكتب بالعربي رطانة الوحدة (5)
    تبدأ علاقتك بها منذ أن تلوح جبال الشرق كلها ذات النواصي التي ترافق السحاب ، منذ أن تبدأ رائحة القهوة تلامس عينيك وحواسك كلها ، منذ أن يقف العالم كله على رجلٍ واحدة ويبدأ في السخرية اللذيذة ، منذ أن يبدأ الرمل يصادق الشعر ويسكن في زمن الشامبو هذا ، ومنذ أن يغالط الجدب رغبة الشجيرات في النمو فتبهت ألوانها ولكنها تظل تقلق الوجود بحياةٍ يائسة لا ظل لها ولا ثمر ولا يصالحها نسيم خلال دورة حياتها الميتة في خلاء لا يعرف عن الخضرة شيئا ولم يسمع عن كلمة حديقة ، مع أن إحدى قرى ومحطات الشرق الشهيرة اسمها الحديقة ، يجب أن يكون لها معنىً آخر في رطانة الشرق ، ليس بها سوى بيت ناظر المحطة وبعض صبية يبيعون البيض المسلوق جدا حتى تبدو أضلاعه ، على الرصيف العاري ، ولكنك تصادقها وأنت تقرأ العيون في (درديب) التي تبيع كل شئ حتى العناقريب للمبيت ، بلا شئ ، تنتشر في ساحاتها ذات الأرض السوداء حد الخصوبة ، المقاهي وطبليات الصبية ، يتقافز منها اللبان وبسكويت (شلتين) الخفيف والسجائر والبلح الحلو على حد دعايتهم التي يفضحها السوس أحياناً ، وغالباً ما تطبع سنكات زائريها برائحتها الفريدة ، خليطٌ من الحبّ والرطوبة والحفاوة واعتدال الطقس ورمل الضريح وابتساماتٍ تسكن الشفاه التي حفظت القرآن وآثرت العرَّاقي والسديري على كل موضةٍ وجديد ، كانت مخازن المعهد الديني تضج حين شهور الدراسة بالخناجر ، والعصي الغليظة ، واحدها سفروق ولكني لا أعرف لها جمعاً ، يتوق أصحابها لانتهاء الفصل الدراسي حتى يعودون لجلودهم التي بدلتها قاعات الدرس ، وكانت الدورات المدرسية تستفز عزوفهم عن ارتداء ملابس الرياضة بعد أن غرقوا في السربادوق الواسع ، تزين رجليه قطعة القماش الملونة تبدو في مثلثها المميز أناقة أخرى لم يكتشفها العالم بعد ، وتأتي العقبة لترسم لوحتها في العيون الخائفة والقلوب الرهيفة والذاكرة المشحونة بصور الحوادث ، ولازالت رغم انعدام خطورتها الآن تخلق توجساً عميقاً لحد الصنَّة التي تصيب البص وهو يقطع جبالها الجميلة ، تتناثر الأشجار في سفوحها الغائرة في كبد الأرض السمراء ، وربما لبعد المدينة الكبير عن بقية أطراف السودان ما خلق لها هذه الخصوصية في علاقات أهلها فقديما كان الداخل إليها مفقود والخارج عنها مولود فقط يعرفون من حياتهم حدود مدينتهم الأنيقة قبل أن تجتاحها مواسم الذباب والرطوبة التي تذهب بنضرة الوجوه ونسائم الليل وبقايا الكهرباء (وشوية الموية) وتبقي على كل الحر وذكريات الشتاء دامع السحاب باسم الأرض تتنسمه الليالي فتفضح الصباحات بعبق الهواء الخفيف حد الملاطفة والجميل لدرجة الغزل فيبدو الجو (أوربي عديل كدة ) تغسل الأمطار برذاذها الناعم غصون الأشجار فيضحك السوق النائم على كفوف ( أجمل فول في العالم ) يمرّ بين مقاعد مطاعمه السمن البلدي يغرقه حتى أطراف خبزه الحار ولطعمه صورٌ من كل موائد الكون عندما يتعادل الهلال وحي العرب وحينما يمسي كل أهل المدينة مدربٌ ومحللٌ رياضي ، يسهبون في تفاصيل كثيرة كأنك لم تحضر مباراة الأمس ، فلا محرز الهدف هو محرزه ، ولا الفنون التي يتحدثون عنها صادفتك بالأمس ، لو سمعت التعليق فقط ندمت على غيابك ، ولو حضرت عجبت من هذه الكرة التي تلعب على طاولات الونسة ، الأمر كله معلَّقٌ على كرةٍ تائهة يصادفها (غصباً عنها) المرمى فتقلب أحوال المسطبة (العجيبة) والمدينة لأيام ، وأحياناً لحين موعد المباراة القادمة ، إنها اللغة التي أضرّت بالكرة السودانية حيث لم تزل الدولة تتعامل بها ، تسيطر ونسة صنَايعية المنطقة على فكر أهل السياسة والاقتصاد والأدب والرياضة، وها نحن نطالع ساعة الهزائم التي تُرى بكل عينٍ كسيرة.ومنذ زمانٍ طويل نتحرى ( هلال ) انتصارات جديدة ، وهذه فقط التي يغفل عنها المجمع الكريم ، يكبّرون العمم ويرصّون أمامهم زجاجات العصيرالأنيقة ويقررون أن مجموعةً مقدرة من الدول العربية والإسلامية قد رأت الهلال (ونحن جيبنا واحد) وهذه نظرية المفلسين .. أفطروا إخوان واتحاسبوا أخوان ( صوموا لرؤيتهم وأفطروا لرؤيتهم فإن غم عليكم ترا اخوانكم شافوا) مالكم مغلبين عيونكم التي أنهكها الشاي البنجقلي في زمانٍ مزقنا فيه فواتير القريفة والمزاج وأصبحنا نرمي الجبنة بعد أن كانت لزماناتٍ طويلة ترمينا
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de