|
...................................... نقـــرأ معـــــــــا
|
امرأة تصلح ما أفسدوا! .................... خيري منصور
لو كان للعرب إعلام غير هذا.. لأجمعت الفضائيات والأرضيات والبرمائيات كلها على مشهد لم يدم سوى نصف دقيقة، طرفاه فلسطينية عزلاء إلا من ذاكرتها وإرادتها، ومستوطن أعزل من كل شيء إلا من سلاحه.. فقد أمسكت المرأة يد المستوطن المرتعشة على رشاشه العوزي وقالت له بالحرف الواحد: “ان ما يمنعني من ضربك بيدي هو خشيتي من ان أصاب بالنجاسة”، وقد تكون تلك المرأة على وضوء، أو انها توضأت ذات يوم من دم أخيها، لقد دام هذا الحوار القصير جداً بمقياس من يحصون الزمن بالساعة، لكنه طويل ومديد بمقياس آخر، هو نبض القلب ودقاته لحظة الرّعاف الوطني.
ولو كان الاعلام العربي عربياً بحق، لأعاد هذا المشهد ألف مرة في النهار من دون ان يخشى الملل والرتابة، لأن ملايين العرب متعطشون لمثل هذه العبارة التي لا تخرج إلا من فمٍ هو توأم الجرح.. إن لم يكن الجرح ذاته!
قبل أربعة أو خمسة عقود، كان مشهد وطني عادي، يتحول الى حفلة شعرية ويغرف منه الرسام والكاتب والعازف، لأن الروح كانت معافاة، والإرادة القومية لم تكن قد شلت، ونذكر ان مئات القصائد كتبت عن جميلة بوحيرد الجزائرية، لأنها حررت الأنوثة العربية من الصدأ الذي علق بها، ومن البطالة القومية والانسانية التي حذفتها من المجتمع، لترمى على هامشه كالنواة!
وكانت فتاة عربية تعلق علماً أو تمزق علماً غير مرغوب فيه تتحول الى مناسبة تستدعي كل الاحتياطي الوطني في الذاكرة، بدءاً من النشيد حتى المظاهرة.
فما الذي جرى لنا ونحن نشهد ما لم نشهد من قبل، نساء باسلات يقاتلن الدبابات بلحم أجسادهن وأطفال يحولون صدورهم العارية الى دروع لصد الرصاص، ونماذج بشرية فذة تسبح ضد تيار الرعب، لكن ما من يد تصفق، وما من كلمة تثقب الصمت لتشهد على ما يحدث!
اسهل ألف مرة علينا جميعاً ان ننعى أمة، ونهجو تاريخاً، ونشمل بما فاض من احباطنا حتى هؤلاء الذين من أجلهم وحدهم ستشرق شمس الغد.
أليست الشجاعة، والمواجهة والافتداء هي من الاستثناءات الذهبية على مر التاريخ؟ فلماذا نشيح عنها بوجوهنا وأقلامنا؟ ربما لأن هذه الاستثناءات النضرة في زمن ذابل تحرجنا، وتذكرنا بعارنا الشخصي والقومي، لهذا نتناساها.
ان وصف العرب الآن بأنهم مذعورون وفارون من مواجهة قدرهم يجب ان لا يشمل خلايا المناعة الحية التي تقاوم في أقسى وأفظع شروط عرفها البشر، والعرب الذين يقاومون في العراق وفلسطين ولبنان هم من صميم هذه الشعوب، ورضعت الحليب ذاته من نصوص ومرجعيات ومنابع، وما من حق أحد حتى لو عصب عينيه ان لا يعترف لهؤلاء بالفضل، لأنهم يموتون دفاعاً عن حق من يتبقى بعدهم في الحياة، فأي نكران هذا وأي عقوق؟
لم نعد نغني لمن استحقوا الثناء والغناء كله، ليس لأنهم انقرضوا من هذه السلالة الخالدة، بل لأننا لم نعد نجيد الغناء، وصرنا نخاف حتى من ذكر أسمائهم لأنها مدرجة في قوائم العصاة والمطاردين من الماء الى الماء ومن اليابسة الى الفضاء!
والمرأة العربية التي ينتهك لحمها وكرامتها الإعلان الهمجي رغم ما يغلفه من الحداثة الزائفة، لها نموذجان اليوم، أحدهما يتجسد في باسلة تحرم عدوها من ضربة بيدها العزلاء لأنه نجس، والآخر تعرضه في المزاد الرخيص الأبيض أو الحنطي شركات تنتظر بفارغ الصبر تنكيس الاعلام كلها، والهزيمة الشاملة كي تفتح الأبواب لزبائن هم من قتلة الأخوة والأبناء!
تلك المرأة الفلسطينية التي احتشدت أمة في لسانها وعلى رؤوس أصابعها ليست من كوكب آخر، انها ابنة هذا الجبل وهذا النهر وهذه الصحراء، وهي ابنة الأبجدية ذاتها التي تهان وتسحق في بورصات التاريخ المعروض للبيع والجغرافيا المعروضة للإيجار!
فلماذا يمر الاعلام سريعاً بهذه المشاهد وهي ما تبقى فينا على قيد الوطن والتاريخ وحتى الأخلاق؟ أراهن، ان امرأة كهذه تصلح ما أفسدوا وما أفسد الدهر معهم!
خيري منصور
|
|
|
|
|
|