كنت بمعية بعض الأصدقاء من جنسيات شتى نناقش أمر فتى لا تجد عاهة من عاهات الفكر ولا آفة من آفات الروح الا ضاربة فيه بعرق أو واصله اليه بسبب حينما أقبل الاعلامى النابه سيف الدين حسن العوض الصديق الذى تربطنى به علاقة تأكدت أسبابها على الخفض والشدة ورسخت قواعدها على الاكبار والحب،متهلل الوجه،طلق المحيا،كدأبه دائماً وبعد أن تنسمت من مصافحته أريج المودة زفّ الىّ خبر أرهف ذوقى للجمال وهيأ فلبى للسرور،فحالى فى الجامعة يلفح بالسموم ويطفح بالهمموم وويضطرم بالروتين البغيض الذى لا ينجلى ليله البهيم الا بعد لأى،معز عمر بخيت الكاتب الذى اتسعت عباراته وانتظمت ألفاظه والشاعر المرهف الذى تفتقت قريحته الشعرية على عدد من الدواوين كثيرة الرونق والطلاوة،بديعة الصور والتراكيب.العالم الفذ الذى يهبط على كل روضة ويقع على كل غدير تخطو أقدامه بين حواشى كوالا البارعة الشكل اللطيفة التكوين الان،وسوف يشنف اسماعنا بعد غد فى فندق فسيح الأركان،بديع البنيان ليس باحاديث العلم التى لا ينشرح لها صدرى،ولا ينفسح لها فناء طبعى بل بالشعر الجميل الذى يملأ شعاب القلب بالاعجاب ويخلع على النفس بريق الحسن وعلى الروح رونق السعادة فى أمسية من أماسى كوالالمبور الجميلة المهفهفة الدعجاء.
هاهى السيارة تشق عباب الطريق وسط هوج العاصفة وسرف المطر يقود زمامها الصحفى الحاذق سيف الدين ويجلس بجواره رئيس الجالية الدكتور الورع سعد الدين ابراهيم،وفى المقاعد الخلفية جلس هادئاً متزناً القانونى الضليع سعد أبوالقاسم تتراقص على محياه ابتسامة زاهية من دعابة ألقاها كاتب الأسطر الذى ضج فيه ماء الحياة وأورق فى عوده زهر الربيع والذى لم يكن هناك شئ يكدرعليه سوى أن الشاعر المعز جل قصائده من الشعر الحر وليس من الشعر العمودى وهو الشئ الذى أخالفه فيه أشد الخلاف وأنكره عليه أشد الانكار ولكن مهلاً ان حرية الشعر والتعبير تبيح للشاعر أن ينتحل ما يريد من ألوان ويصطفى ما يشاء من أوزان....و
ما يستوى الثّوبان ثوبُ به البلى...وثوبُ بايدى البائعين جديدُ
ويلاه كيف سالت على قلمى مثل هذه الكلمات الجامحة،وكيف جابهت قوى لا تُذدرى،وكرامة لا تُمتهن،وحمىً لا يُستباح،لعل القوم الذين مازالوا يعيشون فى سجية الماضى قد أغضبهم وقع كلامى وحتى لا يتنكب بعضهم السلاح ويروم قتلى أقول انها ليست نزوة من نزوات الطيش،ولا غمرة من غمرات الكرب،ولكنها غصة تراودنى وتعاودنى وتلح علىّ حتى لم يكن من الكتابة فيها بُد،ان من ضلال الأفهام والأسقام أن ننظر الى شعر التفعيلة كما ينظر الرجل المحافظ على قيمه وموروثاته الى العقائد الباطلة،والمذاهب الواغلة،والعادات الدخيلة،فالقرون تمضى،والعقود تتعاقب،والشعراء تختلف مدارسهم أشد الاختلاف وتتباين مذاهبهم أعظم التباين،ولسنا نستطيع أن نفرض على قبيلة الشعراء أن يحتذوا فى قصائدهم أساليب القدامى ومراميهم بعد أن جهدت القرائح وتراجعت العقول،ولكن يتعين على النقاد أن يبرزوا للشاعر مواطن الخطل فى قصيدته،وأن يهمسوا فى اذنه بادب جم أن للشعر غاية وغايته هى صلاح النفس وتقويمها وابعادها عن لجج الشهوات ومواخير الابتذال،وجعله عصياً على أنفاس الغوانى،وشدو القيان،وهزج المزامير.
سرت على الممر المرصع بالدر والياقوت بخطى وئيدة وجنان يشدو بأعذب الألحان،والرائع سيف يرمقنى بثغر باسم ولحظ ضاحك،كنت أرقب نواطير الشباب وهم يتبادلون التحايا،وأنظر الى أطياف السعادة وهى تغمر العيون وترفرف على الشفاه،واستمع الى أجهزة التسجيل وهى تصدح بالأهازيج،وتعج بالأناشيد،الى أن وقع بصرى على رجل ليس له نظير فى علمه وخلقه وسمته وهندامه،البروفيسور مالك بدرى،الأب العطوف الذى ينساب من صوته أصداء الزمن النبيل،وتلمح عبر ابتسامته الودودة الحانية وجبينه الناصع دعة المطمئن،وفرحة الجزل الذى استقرّ فى أماكن أذهب الله عنها الحزن وأحلّ قاطنيها دار المقامة،وظللت عاكفاً عليه ببصرى أسمع ذكراً يتضوع فى المساجد،وأرى نوراً يتهادى عبر المآذن الى أن أخرجنى من تلك الدوحة الصوفية الفينانة رجل الأعمال ورفيق الدراسة الوجيه مجاهد أبوكساوى وقبعنا تحت جدار الذكريات نرمى هذه بالقبح وتلك بالاعتدال الى أن دلف الى القاعة الدكتور اللوذعى شهاب الفاتح عثمان جزلاً بلِجاً مستبشراً،يسير خلفه رجل عريض الشباب،رقيق الاهاب،مشرق الجبين،لا ترى فيه خلاء ولا عراء ولا وحشة،رجل اشرئبت لمقدمه الأعناق وشخصت لطلعته الأبصار،وتاقت لسماع قصائده الأنفس التى تبتغى الترويح من متاعب الحياة وأوصابها،وبدأ الدكتور شهاب بتحية الجموع الغفيرة التى ملأت ردهات القاعة وسكب عليهم من تحايا الشعر والمطر ليقدم بعدها البروفيسور مالك بدرى متحدثاً عن فقيد البلادالدكتور بعشر الذى لا يغنى عنه عزاء ولا عظة محصياً مناقب الفقيد ومعدداً مآثره الجمة داعياً الحضور الترحم على روحه الطاهرة،ثم تحدث المعز فشاع عقله فى معانيه،وصاغ القريض فلاح الدر من قوافيه،وبان بأبهى صورة اللفظ المنتقى،والسبك المحكم،والتنسيق المطرد،وظهرت قدرته على احتواء المعانى واستنباطها،خاصة فى النسيب فشعر البروف حلو التغزل،حسن المطالع والمقاطع،كما شدنى شعره السياسى الذى يصور الواقع المرير الذى ترزح تحت نيره البلاد بكلمات رصينة،وأبيات متينة تتخيلها أحياناً أعيرة نارية مصوبة الى صدور الطغاة الذين ساموا الشعب بخسف وجعلوه يكابد نكبات لا حصر لها،إلاّ أن شعر البروف الغنائى وأتمنى أن أكون مخطئاً فيما لاح لى وأرجو الا يثير ما أقوله حفيظة البروف،بدأ لى شعره الغنائى مبتذل المعانى،ناضب القريحة،مطروق الأغراض،ليس مثل رصيفه الشعر السياسى أو الوصفى الذى يتسم بشدة العارضة،وحدة البادرة،وفيض القريحة.كما ينتابنى احساس أن البروف فى لحظات الخلق الفنى يهيم وراء خياله ويطرق العديد من الصور،ويلامس العديد من الأكوان،ولا يحفل بالفكرة التى تقوم عليها دعائم القصيدة ويظل هكذا متنقلاً من وادٍ الى آخر يتبعه القارئ بنفس لاهث وجسد مكدود مُعجباً بلطافة التخيل ومستفهماً عن بعض الطلاسم.كما أن هناك شئ آخر لا يقدح أبداً من شاعرية البروف المعز وهو عدم معالجته للشعر العمودى الا فى القليل النادر وحتماً اذا رام البروف نظم الشعر العمودى لوجد الألفاظ فى خدمته ولضاهى النجم فى رفعته ولروضّ القوافى الصعبة،ولأتى بالبيت النادر والمثل السائر،فما الذى يجعل المعز الذى عُرِفَ ببدائعه المشهورة،وبراعته المأثورة لا يتطرق لشعر يهتز له السواد الأعظم من الناطقين بلغة الضاد،ولا غرو فقد جبلوا على فطرته ودرجوا على حوزته وهاموا فى أوديته ومضوا على محبته،انك ان تفعل تبعث المسرة فى النفوس،وتحدث النشوة فى المشاعر،وترضى قاعدة عريضة من عاشقى الشعر الموزون المقفى،ليت شعرى متى يتاح للشعر العمودى فى وطنى من يجدد حبله،وينشر فضله ويذيع روائعه على الناس.
لقد مكث خليط من الأساتذة الجامعيين ورجال الأعمال،ورجال السلك الدبلوماسى،وطلاب الجامعات والمعاهد العليا يستمعون فى خشوع العابد،وسكون العاشق الوله لشعر المعز لساعات طوال دون كلل أو فتور،والبشر يتهلل فى الوجوه،والأنس ينطلق فى المجالس،والضحك يجلجل فى القاعة فقد حكى البروف عدد من النكات والقفشات توْمضَ الجماد وتُضحِكُ الثكلى.كما أضفى وجود طائفة من طالبات كلية الطب بجامعة الاحفاد صبيحات الوجه،وضئات الطلعة ألقاً وسحراً على الحفل،اضافة للنغم العذب،واللحن البهيج الذى سكبته أنامل احد خريجى جامعة الملايو على الحضوروالذى كان مصاحباً لالقاء المعز لأشعاره أدى الى بزوغ لوحة من الحسن ضربت على الآذان وغلبت على الأذهان وجعلت ((ليلة السبت)) تاريخاً لا يتطرق اليه النسيان،وأثراً لا تمحوه تعاقب السنون.
الطيب عبدالرازق النقر الجامعة الاسلامية العالمية بماليزيا-غومباك
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة