الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 07:26 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-23-2005, 05:34 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار

    من الخبز الحافي إلى زمن الاخطار

    الصور المرافقة

    لوث جاريثا كاستنيو


    --------------------------------------------------------------------------------


    لا يمكن الحديث عن الأدب العربي المعاصر ، وفن الرواية بالذات ، دون أن نشير إلى المكانة الخاصة التي يحتتها الكاتب المغربي "محمد شكري " .

    فهو واحد من الكتاب العرب القلائل الذين لاقوا قبولا وترحيبا من القراء الأسبان (أبناء لغته الأصلية) منذ أواخر الستينات .

    وقد ترجمت روايته "الخبز الحافي " الى الأسبانية ، وكانت لا تزال ممنوعة في أغلب البلاد العربية ، وقد ذهل جمهور القراء الأسبان من أسلوب شكري المتميز ، المتحرر من أي أقنعة جمالية أو أخلاقية يختبىء وراءها الكاتب في العادة ، إما بسبب الخوف أو الحياء .

    فلم يخجل شكري وهو يكشف عما لاقاه من مهانة لانسانيته في مراحل حياته المختلفة ، كطفل وصبي وشاب.

    هذه المهانة التي هي نتيجة إهمال حكومات ومؤسسات سياسية واجتماعية كان "محمد شكري " واعيا بضرورة الكشف عن المآسي الانسانية التي تسببها .

    إنها الحقيقة مسا كانت مرة .

    ومرة كانت روايته الأولى "الخبز الحافي " التي حازت الإعجاب لأن كاتبها لم يحتجب وراء أقنعة أو كذب ، فهو كاتب مبدع بأسلوبه الروائي السلس الذي عبر فيه وحكى عن حياته وحياة أسرته والمواطنين المغاربة (والأسبان ) في شمال المغرب ، وشمال الجزائر ، فقد عاش "شكري " ، والأصح أن نقول . " تشرد" في "تطوان " ، و "طنجة " ، و"سبتة" و "مليلة" و " العرايش " ، و " وجدة " و " وهران " (في الجزائر) .

    كتبت روايته "الخبز الحافي " في أواخر الستينات ، أفا زمن الأخطاء الذي يعتبر الجزء الثاني المكمل لهذه السيرة الذاتية الروائية ، فقد صدر في المغرب في أواخر الثمانينات ، ولم يقابل بالرفض من الرقابة ، ربما لانه لم يكتب بنفس "االصلف والفجاجة " ، كما الخبز الحافي ، وربما لأن " شكري " قد صار اسما معروفا في الدوائر الأدبية العربية والعالمية ، وربما لأن الرقابة في المغرب صارت أكثر مرونة لا تبالي بالكتابة عن شريحة المشردين في المجتمع طالما أنه لا يوجد هجوم مباشر عل المؤسسات الرسمية .

    "زمن الأخطاء" سيرة ذاتية ، تذكر للماضي يرتكز على "الراوية - الكاتب ا، حين كان في العشرين من عمره وقد قرر أن يتعلم الكتابة والقراءة ، وهذا الشخص - الكاتب - لا يملك من متاع الدنيا سوى إرادة قوية يحاول الإعتماد عليها للخروج من إسار الفقر الذي عاش في ظله طوال حياته السابقة .

    يأخذنا "اشكري " بخطى بطيئة الى شبابه ، ثم يعود الى صباه ، ليعود مرة أخرى الى شبابه ، يحكي تفاصيل طويلة مؤلمة عن لمجاته بين الفقر واليؤس ، الوساخة والحشرات ، بين الألم والمرض (أقل الأمراض هنا هو السل ) حتى وباء البرص ، مرورا بالجنون والأمراض التناسلية التي أصابته ، فهو يحدثنا باستمرإر عن علاقاته بالبغايا اللواتي يمارسن "مهنتهن " دون أية رعاية طبية .

    فهن يعشن ، مثلهن مثل الرجال الذين تترددون عليهن ، حياة بؤس وقذارة ، ببعن أجسادهن مقابل نقود قليلة لهؤلاء الذين ليس لديهم الكثير .

    يحكي "شكري " عن صباه وعن كرهه لأبيه ، هذا الأب الشاذ في عنفه الذي كان يمارسه ضد "شكري " وضد بقية أبنائه وزوجته .يتذكر "شكري " باستمرار عودة أبيه ، ثملا ، الى الكوخ الذي كانت الأسرة تعيش فيه بعد أن يكون قد فقد كل نقوده التي كسبها في القمار ، فقد كان مدمنا لا يعرف كيف يتوقف عن اتلعب ، وحين يكون ثملا فإنه يخسر كل شيء .

    يعود الأب ثملا صائحا يوزع الشتائم في كل اتجاه ، فتستيقظ الزوجة صامتة لا تستطيع الرد عليه ، خوفا من الضرب والتعذيب الذي كانت آثاره تظهر على وجهها وجسدها .

    وكره الأب لإبنه هنا أشبه باللعنة الاغريقية المستمرة ، فهو يكره ابنه ليس فقط في مرحلة صباه ، بل وحتى بعد أن استقل عنه وأصبح رجلا متعلما يعمل مدرسا في مدرسة حكومية ، فلا يفتأ الاب يلاحقه بالسخرية أمام أصدقائه وزملائه إن التقاه بينهم في حانة أو حتى في الطريق ، مرددا أمامهم أنه ابن عاجز لا يستطيع عمل شيء أو فهم لثيء ، وكأنه لا يريد أن يعترف بهذا الأبن الذي تغلب على البؤس وخرج من سطوته .

    وعلى عكس مشاعر الأب ، كانت الأم التي تحس بالفخر بهذا الابن ، بل إنها تحس تجاهه بحب وعطف خاص ، ربما لانه كان الوحيد الذي شاركها آيام البؤس والذي كان يكلمها بلهجتها البدوية ، وليس باللهجة المغربية التي لا تحسن فهمها كما كان باقي أولادها يكلمونها ويعتبرونها جاهلة لا تفهم .

    يحكي "شكري " أنه لم يعرف بالضبط عدد إخوته أو عدد الأطفال الذين ولدتهم أمه ، فقد كان منهم من يموت قبل الولادة أو بعدها مباشرة ، وعندما غادر كوخ الأسرة لم يكن يعرف عدد إخوته ، حتى هذه الأم التي توفيت عام 1984 هي نفسها لم تكن تعرف عدد الأطفال الذين وضعتهم .

    ويكبر الصبي "شكري " دون أن يعرف القراءة أو الكتابة ، لكنه يسيطر على لغتين : العربية الدارجة والأسبانية التي تعتمها في شوارع وحانات "سبتة" و " طنجة" عندما كان يلتقي بعشرات الأسبان ، الذين هربوا من أسبانيا بعد انتصار جيش "فرانكو" على الجيش الجمهوري .

    كانت هناك مظاهر عديدة أسبانية الطابع : أسماء المطاعم وأماكن اللهو ، والمقاهي مثل "كافي سنترال " ، "كافيه دي لابلاتا" ، وهناك كان شكري الشاب يستمع الى الموسيقى الأسبانية وموسيقى أمريكا اللاتينية ، الى موسيقى أسماء كبيرة في هذه الفترة مثل "لوتشو جاتيكا" أو "نات كين كول " ، "انطونيو ماتشين " ، حيث تعلم "شكري " الأسبانية في الشوارع من المتشردين والهاربين من انتقام فرانكو ، لا لسبب إلا لأنهم كانوا يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها الجمهوريون .

    ويعشق " شكري " مصارعة الثيران ، ومن خلال الملصقات على جدران المقاهي ، يكتشف الأسماء الكبيرة من أبطال هذا الفن ، وهو يحدثنا عن "تشيكويلو" وعن " الأخوة برالتا " وعن "الجايو" وهؤلاء جميعا معروفون عندنا نحن الأسبان - كمصارعين مشهورين هربت صورهم في حقائب الهاربين الى المغرب في هذه " الرحلة ".

    إن رحلة الخلاص هذه لتذكرنا برحلة قديمة جرت في القرون اوسطى ، عندما طرد العرب من أسبانيا وذهبوا الى شمال أفريقيا بحثا عن الخلاص وهربا من انتقام ملوك أسبانيا الكاثولوكية ، ولكن في الرحلة الأخيرة ، لم يكن الهاربون عربا أو يهودا ، بل كانوا من الأسبان . فالحاكم الجديد ، "فرانكو" ، فرض نفسه كمخلص لأسبانيا من الشيوعيين والماسونيين والملاحدة ، كما كان يدعي ، وهي الصفات التي كان يطلقها على كل من يخالفه الرأي .

    في سيرته نراه يحب الشراب :"الخيريت الأبيض " وهو نوع محبوب في جنوب أسبانيا ، كما نراه يتغزل بالنساء السمراوات ذوات العيون السود ،أما حبه للقراءة فقد وصل به الى حد "إلتهام " الكتب من كل نوع : عربية ، أسبانية ، أوروبية مترجمة : قرأ "رافييل ألبرتي " و "ماتشادو" و "بيثنتة الكسندرا" "جبران " و " شوقي " و "االمنفلوطي " ، وإذ تصادفه صعوبات في فهم بعض النصوص العربية ، فانه يجد العون من خلال صداقته لشاب ضرير يساعده على فهم المعاني وصحة نطق الكلمات .

    ويحكي عن أول لقاء مع الكاتب المغربي "محمد صباغ " الذي شخعه على الاستمرار في الكتابة والقراءة . وهكذا جاء اليوم الذي رأى فيه "شكري " واحدة من قصصه القصيرة منشورة في جريدة "العلم " ومن يومها وهو يحاول أن يبدو "محترما" ولا يرتاد الأماكن المشبوهة .

    إن "شكري " الذي عاش حياة قاسية ومعذبة لم يفقد حسه الانساني وتعاطفه مع كل هذا الجيش من المشردين واللصوص والضائعات مثل تعاطفه مع هذا النموذج الانساني الذي يقدمه بحبه وعطف شديدين ، وبتمثل في "حبيبة" ابنة التاجر الغني التي فرض أبوها عليها الزواج وهي في السابعة عشرة من عمرها ،

    من رجل عجوز لم يلبث أن طلقها بحجة أنها لا تنجب ، ثم يكون زواجها الثاني من شاب في مثل سنها ، تنجب منه أربعة أولاد ، لكن زوجها الثاني أيضا يسيء معاملتها فيتم الطلاق ، الأمر الذي دفعها الى الجنون ، ويدخلها أهلها مستشفى الأمراض العقلية ، ويزورها " شكري " ويلاحظ أنهم لا يقدمون لها علاجا ، وانما مجرد أقراص مهدئة ومنومة ، وكأنه ، في تلك الأيام ، يرى ما سوف يحدث له شخصيا في المستقبل ، إذا دخل مستشفى للأمراض العقلية في " تطوان " ، وبعد أن خرجت حبيبته من المستشفى ، واستقرت في زواجها الثالث ، تموت وهي حامل في شهرها السادس بوباء الطاعون .

    يعود " شكري " دائما الى فترة صباه ، ومنها يلتقط لحظة مأساوية لا ينساها هي لحظة موت أخيه الصغير "عبدالقادر" أثر فعل إجرامي عنيف قام به الأب .

    كان "عبدالقادر" مريضا ، ولذلك فانه كان يبكي طوال الليل ، ولم يكن الآب الثمل العائد من الحانة يتحمل هذا البكاء ، فانقض على الطفل وكسر رقبته بيديه ، كما يتذكر أيضا آباه في واحدة من نوبات غضبه وعنفه حين فرب زوجته "أم شكري " بقدر فيه عسل يغلي وكانت تعد الحلوى لبيعها في السوق .

    هذا الأب كان يقاتل مع " الجنرال فرانكو" ، وعندما عاد الى المغرب كان يجلس مع رفاقه من المرتزقة الذين شاركوا في الحرب الأهلية الأسبانية من نفس الموقع ، وكانوا يتحدثون عن ذكريات " شجاعتهم " و " مجدهم " و " بطولا تهم " في هذه الحرب ، مع أن معظمهم لم يكنوا يمارسون هذه الشجاعة الا ضد الضعفاء أمثال " شكري " وأمه واخوته .

    في "زمن الأخطاء " وتحت عنوان "روساريو" يحكي "شكري " عن " فرانكو" وتصرفاته القاسية ، لا فقط مع من يعتبرهم أعداءه ، بل ومن هم في زمرة الأصدقاء ، و "شكري " يقدم الدكتاتور الأسباني عبر وجهتي نظر السيدة

    "روساريو" وهي من محافظة "أستورياس" في شمال "أسبانيا" ، و ا"فرهين بريتو" المنحدر من نفس محافظة " فرانكو" والذي يتذكر اللحظات الصعبة بعد الحرب الأهلية عندما حكم على "أسبانيا" بالعزلة من قبل أوروبا ، و "فرمين " هذا يتكلم باحترام عن "بيرون " د كتاتور " الأرجنتين " والصديق الوحيد " لفرانكو" الى جانب " سالازار" دكتاتور البرتغال .

    ويحكي "شكري " على لسان افرمين " أيضا عن زيارة "بيرون " الى "أسبانيا" في زيارة رسمية تصحبه زوجته الشهيرة "إيفا" التي سحرت الأسبان ، وحتى "فرانكو" الذي لم يكن يهتم بأي إمرأة ، و "شكري " يقدم لنا هذه الأجواء التاريخية

    وهذه الشخصيات التى تعكس عبق التاريخ .

    ويتذكر "شكري " أيضا دخول "أسبانيا" حلف شمال الاطلنطي عام 1955 بعد السماح بإقامة قواعد عسكرية أمريكية في انحاء مختلفة من أسبانيا ، كما يتذكر الأخبار الهامة التي كانت تنشر في الصحف والمجلات الأسبانية عن بطولة "فرانكو" في صيد السمك والخنزير البري وصوره التي كانت تنشرها الصحف وتحت أقدامه خنزير برقي ضخم .

    هكذا يتذكر "شكري " من خلال شخصية "بريتو" الفاشستي هذه الصورة ، لكنه أيضا يقدم صورة أسبانيا الأخرى: صورة المنفيين الأسبان . ويتكلم عن " بيكا سو" ، واغتيال " لوركا " ، و" ميجل إرناندت " الذي مات في سجنه ، وتذكر قصيدته المشهورة "امرق البصل " وفيها يتحدث عن جوع طفله وينصح امرأته أن تعطي للطفل مرق البصل .

    شكري إذن لا يعرف تاريخ "اسبانيا" السياسي فقط ، بل وتاريخها الاجتماعي ، فهو يتكلم من خلال شخصيات أسبانية أخرى عن موت "اخوسوليتو" و "مانوليتي " وهما من أشهر مصارعي الثيران الذين ماتوا داخل حلبة المصارعة .

    كل هذه الشخصيات تمتزج يحياة "شكري " كمدرس في مدينة "تطوان " وهو يقيم في فندق "ريال " وصاحبة الفندق أسبانية أخرى إسمها "خوسوفينا "، ومن " تطوا ن " يرجع " شكري " الى " طنجة " المدينة التي عاش فيها وهو صبي وشاب ، وهو يقارن بين صورة "طنجة القديمة و"طنجة" الحديثة . إنه يبكي عل الأطلال ، فقد اختفت كل بيوت البغاء ، كما اختفى كل من عرفهم من قبل ، ويجد إحدى من أحبهن "من المشردات " حتا عذريا وقد عملت راقصة في ناد ليلي .

    ويحلل "شكري " مصير أولئك النسوة المشردات حين يفقدن الجمال والشباب ، كما يفقدن الأسنان والشعر ويعملن كخادمات في المراحيض ، بينما الفرصة سانحة أمام من يتمتعن بالجمال والشباب للسفر الى أوروبا ، كما يرقب حياة فريق آخر من بنات الهوى اللواتي يعشن على الطبقة الجديدة ، فهن أكثر تحررا في الملابس والسلوك ، وعلى درجة من اليسر المادي ويترددن على الفنادق و"الكازينوهات " الفخمة التي ظهرت حديثا.

    ومن تجربته في المصحة النفسية يكتب شكري عما يدور في هذه المستشفيات من مآس ، ويصف عراك الممرضات فيما بينهن أمام عيون المرضى المندهشة ، وحين يخرج من المستشفى بعد أربعة أشهر ، ويعود للحياة ، يجد الماضي وقد تلاشى شيئا فشيئا ليسمح للحافر ان يحتل مكانه . ونجدنا أمام "شكري " وهو كهل في الخمسين من العمر ، هارب من الحب والعاطفة ، يعتبر الحب أو الشغف سببا لكل المصائب في حياة الانسان ، ولكنه لا يزال يشتاق للجنس اللطيف ، ومن هذا الجنس اللطيف يختار ذلك النوع البعيد عن الأنثوية الصارخة ، وظل حب "شكري " لثلاثة أشياء : الكتب ، والجنس اللطيف ، والشراب . لكنه يجد في الكتاب صديقه الدائم ، وهو يكتب ويكتب كثيرا في اي مكان يتواجد فيه ، في البارات ، أو المطاعم ، أو المقاهي ، مكانه الدائم وينقل على قصاصات من الورق تلك الجمل التي تعجبه من "بودلير" و "رامبو" وعظماء الأدباء الذين أحبهم .

    وتحت عنوان "موت الأم " الجزء الأخير من الكتاب يقطع "شكري " الرباط الحميم مع الماضي ، فهو يرجع الى "سبتة" بعد غياب عشر سنوات ، لحضور زفاف اخته حيث تفوض التقاليد على شقيق العروس ان يحملها الى بيت زوجها .

    وفي فجر أحد الأيام ، يستيقظ "اشكري " عل دق عنيف على الباب ليجد زوج أخته يزف له خبر وفاة أمه بعد نزيف استمر عدة أسابيع ، ويعرف "اشكري " أن امه كانت تلح في طلب رؤيته لكن الرسالة لم تصل اليه الا بعد موتها .

    وها هو الآن في طريقه الى "سبته " يستعيد الماضي : يتذكر أمه وهي تغني له الأغاني البدوية ، وفي نفس الوقت يسمع صوت صهره يحدثه عن المقبرة التي اشتروها في " سبتة" ، ويتذكر أخاه "عبدالقادر" المدفون في مقابر "سبته " تحت تلال الرمال في بقعة صارت مجهولة لا يعرف مكانها بالضبط .

    ويحضة "اشكري " طقوس دفن أمه ، ويحكي بمرارة وألم كيف ان الحفارين أخرجوا الجثمان عدة مرات لان الحفرة لم تكن تتسع به . وكأن التراب يرفض استقبال أمه كما رفضتها الحياة . بعد الدفن يعود الجميع للبيت ، ويجلسون أمام مائدة الطعام حيث ياكلون بشراهة ، وبصورة استفزازية يتكلمون عن الميراث ، ويتشاجرون حول بيع بيت العائلة الذي قرروا التخلص منه على الرغم من أن الأم كانت تصير على الاحتفاظ به مهما كانت الظروف .

    ويحس "شكري " بالقرف أمام طمع أفراد الأسرة ، فيهرب من "سبتة" الى ليل "طنجة" ، وفي اليوم التالي يستيقظ وهو لا يستطيع تذكر كيف وصل الى بيته . لقد نام مغيبا واستيقظ ليجد فردة حذائه مليئة بالبول ، والأخرى بالشراب .

    انه ليمكننا القول أن كتاب "زمن الأخطاء" هو تصوير لرحلة الحياة ورحلة الموت ، مثل كل كتب "شكري " ، ولكننا نجده وعلى الرغم من قسوة الحياة التي عاشها الا أنه دائما يظل عاشقا للحياة ، مقبلا عليها ، لا أهمية للموت بالنسبة له رغم حتميته .

    ان عشق الحياة مزروع في روح "اشكري "، وهو يبدو واحدا من زمرة الفنانين والكتاب الذين كانوا دائمي البحث عن جوهر الحياة ، مهما قادهم هذا البحث الى العزلة او الجنون .

    إن أسلوب "شكري " واضح وبسيط : أسلوب رجل لا يخاف الكلمات ولا يخجل منها ، إن عواطفه تبدو جلية بلا مجاملات ، ان الكتابة عنده فعل عضوي كما ينبغي ان تكون الكتابة الحسية ، ومن خلالها يمارس "نميمة"جارحة ضد نفسه وضد الآخرين .

    ورغم الفرق الزمني بين "الخبز الحافي " و ا،زمن الأخطاء" (ثلاثون عاماتقريبا) فإن "شكري " يحتفظ بنفس الأسلوب بما فيه من شجاعة وإلهام وابدا ع .

    والفرق بين "زمن الآخطاء" و الكتاب السابق له أن "االخبز الحافي " لا يقدم " شكري " الا في مرحلة صباه ، بينما في "زمن الأخطاء" يحتل شبابه مكانة أكبر ، عندما كان مدرسا يعيش في أوساط بنات الليل ، لكننا نجد اهتمامات اخرى وقد طغت على هذه الحياة ، كالقراءة والشراب ، وتبدأ الصداقة والزمالة تزحف لتحتل مكان الجنس ، كما لو أنه لا يستطيع إقامة علاقة كاملة مع الجنس الآخر ، ويبدو أنه بدأ يعي حجم القمع الذي يراه واقعا على البشر ، ولم يستطع هو الآخر مارسة هذا القمع على البغايا .

    إن "شكري " كانسان وروائي يحتل مكانة متميزة على خريطة الكتابة العربية ، وميزة شكري هي الشجاعة ، شجاعة الكشف والفضح .




    --------------------------------------------------------------------------------
                  

05-23-2005, 06:04 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    يعتني محمد شكري وباستراتيجية ابداعية بما يسمى: (السرد الملعون أو الهامشي) وقد أخلص له حقا وخصص له مشاريعه الابداعية والترسلية كلها.

    لم يكن اختيارا ملفقا وإنما جاء في تساوق مع حياته الحقيقية الهامشية وحياته- بعد الشهرة- الرمزية. فهو خرج من الشارع وكتب عن الشارع بمعاناة وقسوة وما كان بحسبانه ان اعترافاته عن حياته الملعونة سيسمعها الناس في كل مكان من العالم. لقد أكسبه صدقه عن ذاته واصدقائه والراسخين أو العابرين في حياته تعاطفا من طرف البعض ولعنة من طرف البعض الآخر. لهذا يهاجمونه بأنه يعري ويفضح المستور ويلغي الرقابة الأخلاقية في حين أن محمد شكري لا ينطلق إلا من حق وشرط أساسي في كل عملية إبداعية وهو الحرية. فهو بذلك يجهر بما يود غيره البوح به غير أنهم يخشون ما لا تحمد عقباه. شكري بذلك يرفض المساحيق والمواربة والتواطؤ.

    يعد (الخبز الحافي) أشهر كتاب كتبه محمد شكري وقد كان نعمة ونقمة على صاحبه اذ انه نشر اسمه في كل الأصقاع وخلق اهتماما به وبما كتبه بعده لكنه في نفس الوقت قيد حريته الابداعية لأن النموذج أو البست سيلير يهضم الكتابات الأخرى ويفترس قيمتها ويقود ادبية الكاتب لانتاج نماذج مشابهة. لهذا صرح محمد شكري انه يريد ان يتخلص من الخبز الحافي بل طالب باحراقه. وكل كتبه التالية تصب في اتجاه تكسير هذه القيود وبالتالي كتابة كتب مختلفة باستمرار. وفي هذا السياق يندرج كتابه الحديث: (وجوه) وهو الجزء الثالث من سيرته الذاتية والروائية.

    يرسم محمد شكري وجوها ويتحدث عن علائق انسانية في غرابة مصيرها وتعقيدات تفاصيل حياته الكارثية. ولعل هذا ما يوحد هذه الوجوه المتعبة في الحياة بالصدف والمفاجآت والقسوة والعذاب. حيوات مليئة بالموت المنتظر والجنون المتكرر بشتى الأشكال والمردد على لسان السارد وألسنة الوجوه عشرات المرات.

    (ربما الموت نفسه ما سيكون مصيرها) ص8.

    (لم تخلص له الا بعد مماته: فقد صارت تذكره في كل مكان حتى جنت) ص9

    (إنه الجنون الانساني الذي عجل موت فان جوخ واستحود انطونان ارطو واستريندبرج ونيجينسكي...!)

    (لكنني لن استسلم حتى ولو جننت, حتى ولو انفجرت جمجمتي) ص22 و23

    (لا ادري لماذا خطر لي ما قاله سيوران ونحن نستقل التاكسي ان شاعرا يفتقد الشعور بالموت ليس بشاعر كبير)ص44

    (فكرت ان حكمة الحياة قد تقربنا من الموت العزيز علينا في أعماقنا, لكنني لا يغريني بساط الموت السحري; فأنا أحسني وارثا من شقاء الحياة الفانية أكثر مما أنا وارث من نعيم الموت الخالد). ص54

    (ربما تحت سكر مكتوم. وفي لحظة عبوره السكة الحديدية خذلته مقاومته, كانت قاطرة توزيع عربات السلع تمر في صمت فدهسته صادمة رأسه الذي كان مائلا أكثر من جسده الى الامام فمات في المستشفى) ص82.

    (أخبار الموت والموتى) ص118 وهو عنوان فصل من فصول الكتاب يتحدث فيه عن منصف مؤرخ الموت في طنجة.

    (أبديت رغبتي المهووسة لزيارة المقابر الثلاثة: بير لاشيز ومونبارناس ومونمارتر انها رغبة ماسة ملحة لزيارة قرى ومدن الأموات في أي بلد ازوره حتى ولو لم يكن فيها من أعرفه من مملكة الأموات).ص113.

    أمام هوس شكري بموضوعة الموت واشكاله تبدو لي هذه الأمثلة المختارة قليلة وفيها شيء من التعسف لأنها مستأصلة من جسد الفصول ونسيجه الدلالي, ولأنها أيضا مواقف وحالات مرتبطة بشخوص الرواية وتعقيدات حيواتهم. ان الموت يتجسد كوقائع لكنه أيضا استيهامات مزدوجة يشارك فيها الكاتب بهوسه بالموت والشخوص الواقعيين والرمزيين بانقيادهم نحو مصيرهم المحتوم ورغباتهم اللعينة في الاستنزاف والانمحاق.

    وهي استراتيجية هذا الكتاب. ان شخوص هذه الحانات ذرائع pretexts لقول أشياء أخرى كبناء حكاية جديدة وتوظيف خطاب هامشي ولا شعور منتظم في بنية رمزية وفي لغة اخرى لا يؤسس ذاته ولا يتعرف عليها الا داخل مكان تنشط فيه الذاكرة وتخفت فيه الرقابة. ربما لهذا يتعاطى كثير من المبدعين الخمر أو المخدرات لإستدعاء الاعماق وكتابة المكبوت وهو ما فعله شكري نفسه.

    ان وجوه محمد شكري صدى اصوات آتية من العوالم السفلية للحياة. ومهما رسم لها من صور أدبية فهي تبقى حاضرة تارة وغائبة تارة أخرى. وجوه يغيبها الحزن الجهنمي للسهر والادمان والاستنزاف ويوهجها بعدها الانساني الراغب في طمأنينة وحلم وسعادة وسكينة. حيوات معلقة في هذا السرد الهامشي في كينونتها الانسانية التي قد تتحول في لمح البصر الى كينونة لا انسانية بما تعانيه وتقاسيه وهي تتحول باستمرار من وهم الى رمز الى متخيل. ما بين شرنقة الأسوأ الذي تعيشه والأفضل الذي تطمح ان تعيشه ونتيجة ذلك عثرات تدوس الآمال وتدهسها. انها صورة عن الواقع المرير للهامش المغربي في طنجة بصفة خاصة وفي مدن أخرى بصفة عامة. بل الهامشي يوجد في كل مكان وهو نتيجة تضارب المصالح والتمايز الطبقي الصارخ والفشل في الحياة.

    سلوى هذه الوجوه أنها وجدت من يتحدث عنها كما فعل هنري ميلر وجان جنيه وتينسي وليامز ومحمد زفزاف وغيرهم. لهذا فهي لا يمكن للقارئ أن ينساها, فحضورها الدائم في ذهنه يقلب الصورة المشوهة عن الهامشيين فشكري لا يقدمهم كأبطال من ورق بل كأشخاص من دم ولحم يروضون المآسي وتروضهم, يهزمونها وتهزمهم, تلفظهم ويلفظونها, تلعنهم ويتشبثون برحمها.

    تغلب على حركية شخصيات (وجوه) دينامية تحول دائم ومفاجئ, فهي تسير في طفرات نحو العبث والعدم والنسيان. مصابة بلعنة دائمة تؤدي بها الى انقصاف ورغم ذلك فهي تنهض في جموح للاستلذاذ بآخر رغبة أو حلم او استسلام.

    فهي مستلبة في عوالمها الهامشية. تعيش عصاباتها النفسية كما يعيش السوي حياته كل شخوص العالم السفلي تتوافق فيما بينها وبتواطؤ وجداني جميل على عادية كل سلوك مهما أفرط صاحبه في الذهان او الهيستيريا او الجنون. وهناك وجوه كثيرة عن هؤلاء ويمثل فريد أحد هذه الشخصيات الهلاسية المصابة بالهذيان الذهاني بالوساوس القهرية كالشك المرضي والشذوذ الجنسي.

    تتعايش كائنات العالم السفلي في تناغم مع أناشيدها الغريبة والتطهيرية باستمرار فهي لا تنفك تدفق اعترافاتها تحت تأثير الخمر وتداعياتها السحرية تحت تأثير الاغتراب والنكوص والكبت. يطفو هذا المحجوب السري بدفء الضحك والبكاء داخل فضاء الحانة الأثير لدى شكري.

    بورتريهات شكري لا تقدم كرسوم مسطحة بل تقدم كأفكار ثم أفعال. لهذا يركز شكري على بعدها السلوكي والنفسي والذهني, يقدم فلسفتها في الحياة في البدايات والنهايات وبين هذا البين تقف الشخوص الهامشية بين الحياة والموت بين الأمس واليوم بين الشباب والشيخوخة بين الفرح والحزن بين العافية والمرض بين الحب والكراهية بين الرغبة والكبت بين الصحو والسكر . شخصيات تخرج من تيه وحرمان الى الشارع وتعيش جحيم الشارع وتموت في الهامش.

    كل الوجوه التي رسمها شكري نجدها في حانات طنجة. ففاطي حبه القاسي وموضوع رغبته غير المتحققة تعمل في حانة غرناطة وتمثل لمحمد الحب الافلاطوني تارة والحب الرومانسي تارة أخرى وفي حالات أخرى الحب الابداعي: (لم يعد بيني وبين فاطي أي تغزل حقيقي ما عدا الملاطفات والمداعبات التي تخلقها الظروف. لقد تآخينا, ربما على مضض لأنني أيضا أشتهيها كما يجن باشتهائها الملاعين مثلي. اريدها احيانا خارج عذرية حبها التي خلقتها معي..).

    وفي حانة دينز- بار يقدم صورة لهذا المكان الشهير بتاريخه ولوحاته وصاحبه. يشحذ شكري في هذا المقام كل مهارته في الوصف والتوثيق بأسلوب ساخر وفكاهي في بعض الاحيان حول روادها من المشاهير الذين شربوا بها كأسا سواء زاروها فعليا او وهميا حول صاحبها الذي مات وشبع موتا ولازال يتهيأ لبعض زوارها انه يأتي بين الفينة والأخرى ليشرب وينصرف. وعن ذكريات جواسيسها وعاهراتها. يقول شكري حول هذا الالتباس الذي يحوم حول الاماكن الهامشية التي غالبا ما تؤسطر حكاياتها: (رغم هذا, فلا يهم إن كان أشخاص الصورة المعلقة قد زاروا طنجة ودينز- بار أم لا. انهم موجودون في ذاكرات متجولة في هذه الحانة والحانات الأخرى. قد يكون الحي منهم ميتا, والميت حيا, أو لا هو حي ولا هو ميت. إن حياته أو موته يتم الجزم في أحدهما حسب المزاج, وما تهوى ان تسمع أو ما لا تريد ان تسمع: فالمرء بينهم قد يكون اليوم حيا وغدا ميتا, وبعد غد قد يصبح ميتا وهو حي, أو هو لا وجود له اطلاقا, لأن أحدا من الحانة أو أية حانة أخرى ممسوخة لم يسمع به أو لا يريد أن يعترف به حتى وان سمع به ورآه, في هذه المدينة السعيدة, رغم شقائها...) ص30.

    أما في حانة اخرى فينصت شكري الى حكاية علال الذي خوفا من ضياع الميراث يتواطأ مع والده الهادي العائد من الحرب الهند صينية مبتور الذراعين كي يشبع رغباته الجنسية كيلا يتزوج من امرأة تعكر عليه ميراثه.

    إذا كان شكري يجد مآربه في الكتابة عن بعض الوجوه إلا أنه يجد صعوبة مضنية في الكتابة عن وجوه أخرى. ومنها صديقه ريكاردو الذي يقول عنه: (منذ فترة وأنا أريد أن أكتب شيئا عن ريكاردو, لكن الكتابة تمتنع بقساوة وتستعصي كلما عزمت على أن أكتب عن أشخاص أعرفهم جيدا ؛من تحبه قد تحبه أكثر أو أقل, إن شئت« جملة جاهزة. لابد من جملة فيها انجذاب أقوى من هذه. ما هكذا ينبغي لي أن ابدأ الكتابة عنه ص43).

    ومع ذلك فهو لم يبخل علينا في تشريح شخصية ريكاردو الغريبة الأطوار التي ترفض الهامش ومعه مغادرة الحياة في طنجة ويعمل لأجل ذلك كل شيء.

    هناك وجوه عديدة مثل بابادادي صاحب حانة ومطعم بوردو وزوجته وابنه وماجدلينا التي تهيج العالم بغنجها ومعه شكري الذي طالما تعامل معها كموضوع للرغبة الجامحة والمحبطة في نفس الوقت وغيرهم ممن يلتقط شكري حكاياتهم الهامشية من الحانات يستغل محمد شكري حكاياته عن الوجوه التي عرفها أو صادفها ليمرر خطابا موازيا لخطابه الهامشي عن الملعونين. هذا الخطاب يتحدث فيه عن طنجة كفضاء هامشي بامتياز, فهو لا يفلت فرصة تتاح حول حدث أو مكان أو شخص إلا ويورد تعليقات موازية عن مدينة طنجة. فمنذ بداية السرد يقدم صورة سلبية عنها ويصدر إحساسا اغترابيا بعدم الرضا عما آل اليه مصيرها. وهي تعد بذلك المحرك الدينامي والانفعالي لما سيسرد بعد ذلك من استرجاعات ونوستالجيا. ويمكننا ان نركب هذه الصورة المكسرة والمشوهة مما ورد هنا وهناك في متن الرواية.

    (حتى ليل طنجة الذي كان في الأمس القريب يحتفظ ببعض شبابه وشيء من روح جماله أصبح اليوم هرما, مترهلا, قبيحا وملطخا بالبراز. صار وحشيا ولم يعد يوحي بأي راحة واطمئنان. أنا أعرف انه يتملص من التهم الموجهة اليه وكل ما هو مشبوه فيه. أعرف أنه أبو الجرائم وحليفها, ومع ذلك فلن أكون ضده مطلقا: لن أتنكر لعشرته القديمة; لأنني مدين له بالكثير) .ص5 و6.

    ( في هذه الرحلة الطنجية التي أكثرها ليل وأقلها نهار سأفني بعضا من نفسي في التخيلات والاستيهامات, الهلوسات والهذيان الاستمنائي)..ص01

    (جلست في مقهى طنجيس وطلبت قهوة مكثفة, الخمار يولد في رأسي قططا تتخالب وتتماوأ. هذا السوق- الذي أحبه كل معلون مثلي- لم يعد يعني لي اليوم غير القرف والبؤس المزري.. أكاد أرى الجريمة ماثلة في عيني كل من أراه الآن جالسا أو واقفا يتربص. المكر أراه وأشمه. انه الرعب بعينه في وجه كل من يجوس الساحة العدوانية المجانية متحفزة في كل الوجوه الممسوخة) ص27

    (المدينة أصيبت بنكبتها السياحية الأولى منذ حرب67. وجاءت حرب الخليج لتجهز على ما تبقى من أمل في اعادة تنشيطها الاقتصادي الملعون«.ص56

    أحيانا تدشن قاعة الشاي الجديدة فتح بابا أو بابيها وتظل العمارة الجاهزة مقفلة شهورا أو سنوات وقد لا يسكنها أحد الى أجل غير مسمى لأنه ما بنيت إلا لتبييض أموال اصحابها كما يقال عنها: يريدون أن يجعلوا من المدينة باريس المغرب وهي تتخبط لتخرج من بلاعة بؤسها التي تنتنها وتغرقها).ص92

    (غادرته وفكرت في أن طنجة اصبحت اليوم توحي بالانتجار لمن لا يستطيع مغادرتها. لقد ضاع فيها كل ما هو اسطوري جميل).ص102

    هذه صور هامشية عن مكان أساسي وجوهري في جميع كتابات شكري. فهو فضاؤه الأسطوري ويشكل أيضا قسما ثابتا من أسطورته الشخصية لهذا فهو يحرص على منحه مبدأ الغرابة والادهاش وكل امكانيات الترميز.

    تعد (وجوه) شكري من أغنى كتبه احتمالية للقراءة المفتوحة فهو زخم بطاقته الغريزية المكثفة في أقنعة ملتوية ومتشعبة, نفسية ولغوية.

    فهناك مستوى أول يتعلق بالبنية الروائية المصرح بها على الغلاف. ويمكن بذلك قراءة النص كرواية بما يستدعي ذلك من أجهزة مفاهيمية وتأويل موسع.

    ثم مستوى ثان يتعلق بالمعطى السيري التعددي للكاتب ووجوهه وفضاءاته وهو ما حاولنا القيام به في انتظار قراءة أخرى احتمالية مختلفة.
                  

05-23-2005, 06:34 PM

خضر حسين خليل
<aخضر حسين خليل
تاريخ التسجيل: 12-18-2003
مجموع المشاركات: 15087

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    الخبز الحافي من أجمل ماقراته في الادب العربي بشجاعته أستطاع شكري أن يقول مايريد لا أن يكتب مايريده القارئ . شكراً الاخ صبري لهذه الاضاءة وأتمني أن تمدنا بنسخة من الكتاب لو في أمكانية دمت
                  

05-23-2005, 10:22 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    خضر حسين


    تسلم ومحمد شكري صادق ومثابر واديب وسيرته الذاتية لا تضاهي

    عارف لا مانع من اعارة الكتاب لكن لي رغبة وهي جزء من انانية

    ان احافظ علي هذه النسخة وهي الخامسة اربعة راحوا بين الاحبة


    ايضا لو المسافات قريبة ما في عطلة من التسليف

    [email protected]
                  

05-23-2005, 11:24 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    بابا
    دادي

    محمد شكري (روائي من المغرب)


    --------------------------------------------------------------------------------


    الثانية بعد الزوال، في الغالب لا يكون عنده الآن أكفر من زبونين أو ثلاثة وربما واحد أو لا أحد. يستمتع بقنينة نبيذه إذا كان وحيدا. يفخر اليوم بأن أحد زبائن مطعمه وحانته في بوردو كان طالبا في الحقوق وصار فيما بعد وزيرا مرموقا في أحدى الحكومات المغربية. سمى محله "حانة طنجة ". لكي تكون مدينته حاضرة معا دائما في المغترب. العمال والطلبة صاروا يعتبرون حانة طنجة سفارتهم ودادي سفيرهم وكل أوراق اعتماده حبهم له ولطفه معهم. حتى طبخ أمهاتهم كان يطبخا لهم. كل واحد وحنين شهيته لما كانت تطهوه له أمه.

    حينما زار الوزير اللامع طنجة استضاف بابا دادي للعشاء معه في فندق فخم، لكن بابا دادي تعجرف كعادته لأنه لم يكن قد تناول بعد كمية كؤوسه التي تلينه وتجعله حميميا وفكاهيا وأحيانا مهرجا لطيفا بين زبائنه المداومين. أعلن للرسول الذي جاء بصفة رسمية فخمة ليشرفه بالدعوة المرجوة: "فليأت هو بنفسه الى محلي ويشرب معي نخبا هنا كما كنا نفعل في بوردو حالمين بالاستقلال والرجوع الى الوطن ". تكلم بابا دادي باحتفال ضخ فيه ما يعتقد أنه يستحقه من الاعتبار أحس في بوردو واليوم في طنجة رغم أنه لا أحد أهانه.. أثارت الذكرى انفعاله وهيجته حتى أوشك أن يلقي خطبة لولا أن أوقفته زوجته دومينيك بحزمها المعهود: "دادي، إن السيد ينتظر".

    أعاد عليه الرسول، بوجهه البشوش المندهش، ساعة الحضور واسم الفندق ثم مد له مبتسما مظروف الدعوة. هدأ بابا دادي ووافق شاكرا. عرض على الرسول باحتفاء أن يشرب شيئا، لكنه اعتذر بعمله الرسمي مشيرا الى التاكسي وسائقه الذي يصحبه أمام سيار ته الفخمة لإرشاده في المدينة.

    - انني من الرباط ولا أكاد أعرف إلا قليلا هذه المدينة الجيلة.

    - عد الينا متى تشاء. إننا هنا نمزح ونمزح مثل عائلة كما ترى.

    شرح له زبائنا العقلاء المداومون الحاضرون منهم تلك اللحظة التاريخية في حياة بابا دادي والغائبون منهم الذين لم يحصل لهم شرف بأن يشرفه بزيارته في حانته الشعبية - رغم سمعتها الوقور- كما كان طالبا في بوردو. إن تنازله معقول إذا لبى دعوته. مثل هذا الحدث لا يمكن أن يخفيه بابا دادي عن أحد حتى يعلم الجميع من هو دادي في الحاضر ومن هو دادي في الماضي. وما كانوا ليصدقوا لولا حجة الشاهدين الحاضرين. الدعوة محددة في اليوم التالي.

    بابا دادي يحتفظ بثلاث بدلات لم يلبس أية منها منذ أن اشترى في نهاية الخمسينات مطعمه الكبير وحانته الصغيرة التي تتصدر مدخله من أنطوان الذي هيجه حنين العودة الى موطنه بوردو مثل حنين دادي الى طنجة. لم تكن هناك أية مناسبة خلال أكثر من ربع قرن تستحق أن يلبس واحدة من مدلاته الثلاث كما كان يفعل في بوردو. انطوان ماتت زوجته وأولاده الثلاثة أنهوا دراستهم وبقوا في مدينتهم منتظرين أن ينضم اليهم. أما دادي فلا أولاد له وزوجته متماسكة فيصحتها لولا سمنتها التي تفاقمت بعد استقرارهما في طنجة . تخليدا للذكرى التي أصبحت مشتركة بينه وبين انطوان ترك دادي للمحل اسمه الذي عمد به:"مطعم - حان بوردو". انسهل الأمر، لم يكن الفرق الذي دفعه دادي كبيرا بعد أن أعجب انطوان بمطعم. حان طنجة في بوردو. استخدما المقايضة في صفقتهما مثل أخوين يتقاسمان الميراث تبادلا بالتراضي. كانا قد سافرا معا وشربا في حانة طنجة أنخابا على شرف طنجة وبوردو. دومينيك تتولى تسيير المحل أحسن من دادي في غيبته بشهادة الزبائن الدائمين. ولكي يبرهن انطوان على أريحيته لم يغير هو أيضا اسم "مطعم - حانة طنجة ". أعجبه الاسم كثيرا دون أن يفكر فيه أو يتمناه.

    اكتفت دومينيك بكي البدلة الرمادية وضمختها بعطرها لتخفف عنها رائحة الكافور ( 1) القوية المنبعثة منها. علقتها في مشجب المطعم وفتحت بابه الرئيسي المقفل - منذ موجة الكساد - لعل الهواء يطير عن البدلة، التي لم تعد صالحة للبين حتى في سوق الخردة، مزيج رائحتها الغريبة المغثية. لم يعد هناك وقت كاف لتنظيفها في المصبغة لأن مثل هذه الخدمة المستعجلة لم تستورد بعد من أوروبا.

    وهما في علية الحانة، التي اتخذاها غرفة للنوم، عاتبته على مسرحيته ودوره الذي مثله فيها بتهريج أما رسول الوزير والزبائن يصفقون بطيش واستهتار. لم يكن من عادة دومينيك أن تتكلم كثيرا فختمت لوعتها: إنني أيضا أهتر مادمت أعرف أنك لن تتغير في شيء.

    المطعم كبير. مؤثث ببعض التحف الخشبية والخزفية التي جلبها معه من بوردو. ليس في القاعة من زينة تذكارية رياضية. لقد علقها موزعة على جدران الحانة لأنها تذكارات تخصه هو وحده دون زوجته التي لا تهتم بالرياضة من أي نوع، ثم هي تليق بالحانة أكفر من المطعم الذي تشرف هي عليه. زوجان من القفازات: واحد ظل يحمله معه الى مجهول مغامرة هجرته من طنجة دون انتصار يذكر، والآخر ذكرى انتصاره على خصمه بالضربة القاضية في بوردو - اذا صدقته - لأنه، بين الصدق والكذب، هو مسكون بتضخيم ومضاعفة أقل ما يغنمه، الزوج الأول من القفازات أحاطه بصورتين: واحدة لاسماعيل السطيطو الذي انسحب في الوقت المناسب دون هزيمة فكراء ليصير صاحب مطعم ليلى صغير معظم رواده من رواد الحانات الليلية والمشبوهين والأخرى لعبدالسلام بن بوبكر الذي كان أقل حظا ومازال ينتظر في تطران مباراة الثأر من خصمه كيد جابيلان Kid Gabellan الذي انتصر عليه في كوبا منذ تسعة وأربعين عاما في بطولة العالم التي لم يكن مؤهلا لها، لكن لأسباب تجارية دفع بعبدالسلام الى خوضها فكانت هزيمته النهائية عائدا منها الى بلده ليجتر اضطرابه العصبي، والزوج الثاني أحاطه بصورتين: جو لويس Joe Luis الذي خاض 84 مباراة انتصر في 50 منها و43ربحها بالضربة القاضية K.O. والأخرى لمحمد علي (كاسيوس كلاي قبل اسلامه). وفي ركن عند مدخل الباب أحدى صوره كمن ينتصب وسط الحلبة في الشوط الأول. تبين خلفية الصورة انها أخذت له في أحد استوديوهات التصوير، ثم صور أخرى أقدمها في العشرينات من عمره وأحدثها بعد أن تجاوز السبعين رغم أنه مازال متشبثا بالسابعة والستين منذ سنوات كما لو أنه يعلن عن سنه لغريب جاءت به الصدفة الى حانته.

    لم يعد بابا دادي يستغل المطعم إلا نادرا. وكل طلب للأكل ينبغي أن يكون مسبوقا بيوم على الأقل. المدينة أصيبت بنكبتها السياحية الأولى منذ حرب 67. وجاءت حرب الخليج لتجهز على ما تبقى من أمل في اعادة تنشيطها الاقتصادي الملعون.

    لا يسمح بابا دادي لأحد بأن يشرب خمرا في مطعمه إلا مصحوبا بوجبة ولو خفيفة حتى تبقى لمطعمه هالته التي عرف بها، ولا يسمح لامرأة مغربية بأن تدخل محله إلا إذا صحبها رجل وبادية عليهما الرزانة والاحتشام في لباسهما وسلوكهما حتى تبقى هالته التي عرف بها.

    زوجة بابا دادي هي التي تشرف على إدارة حسابات المحل. تجلس الى مكتبها في مدخل المطعم ولا تتدخل أبدا في شؤون الحانة. لها وقارها بين الزبائن. حتى بابا دادي نفسه لا يكلمها إلا باقتضاب وبصوت خفيض إذا اقترب من مكتبها. الرواد الذين تتبادل معهم التحية وبعض الكلمات قليلون. كأس شرابها من النبيذ تضعا تحت مكتبها. تجد دائما عذرا مناسبا لكي تؤجل دعوة من يريد أن يعرض عليها كأسا. يأتيها دادي بكاسها ويأخذ الفارغة في صمت. لا يسمح للنادل، الذي يساعده في المشرب، إلا نادرا بأن يخدمها. قال زبون: ما يطيل العشرة بين رجل وامرأة هو أقل الكلام بينهما.

    مارس دادي الملاكمة في الثلاثينات أيام كان يبيع الجرائد وهو دون العشرين من عمره. يفخر أيضا بأنه أول شيوعي "طنجوي" وعندما استول فرانكو على الحكم انضم دادي الى الجمهوريين. سموا هنا أيضا فرانكو باكيطو Paquito (2)الاعتقالات التي بدأت في المنطقة الشمالية قلما كان يعود ضحاياها في هذه المدينة أو تلك. وضع طنجة الدولي كان يحمي - نوعا ما - الجمهوريين المقيمين فيها، لكن الرعب الذي أشاعه باكيطو في المدن الأخرى امتد الى طنجة وتفاقم مع وفود أنصاره وجو اسيسه الذين خلفهم نظامه هنا فتقلصت مناهضته علانية. شعاره السرطاني هو: الفاشية هي أيضا ديموقراطية. مع أنه كان أكثر ديكتاتورية من مكر وستالين. ماذا كان ينتظر ما باكيطو الذي لم يكن فقط يرتاب في المثقفين بل كان يحتقرهم ويعدمهم ؟ وفي أفضل الأحوال يسجنون في :El hacho سجن سبتة الرهيب الذي لا يقل فظاعة عن سجن الكاطراث. Alcatraz (3).(4) بين فترة وأخرى يحدث تبادل طلقات نارية بين الروخوس والفاشيستيين. أحيانا يتبادلون الشتائم بين مقهى فوينطيس والسنترال ( 5). أحيانا تنتهي الشتائم واللعنات الى طلقات نارية في نفس ساحة المقاهي. خلاص: إن نداء مغامرة الهجرة بدا لدادي الشاب أقوى من استمرار الصراع هنا مع أنصار با كيطو.

    هاجر دادي الى بوردو عبر وجدة والجزائر. رفاقه الروخوس افتقدوا فيه أهم عضو في خليتهم. لقد نجا بجلده لأنه غادر طنجة في بداية مايو عام 40 واحتلتها اسبانيا في 14 يونيو من نفس السنة.

    في عام 53 كنت أعمل في مقهى الرقاصة (6) نادلا في النهار وبائع سجائر مهربة في الليل عندما ينسحب بائعوها النهاريون من السوق الداخلي. يأتي دادي كل عام مرة على الأقل في سيارته الشيفورلي Chevrolet أو الدوفين Dauphine لاحياء صلة الرحم مع أهله والمدينة أم المدن المغربية في عز شبابها ومجدها. هندامه دائما أنيق براق بقمصانه وسراويله الفاخرة التي يغيرها أكثر من مرة في اليوم. كانت معروفة هنا. لكن دادي يتقن اختيار ألوانها المنسجمة مع فصل السنة التي يجيء فيها وقامته السامقة وشقرته الفيكينغية. كأن أحد زبائني الدائمين في النهار. في الليل يتيه ليحيي صلة رحمه مع المواخير متفقدا من عرفهن قبل أن يهاجر الى الخارج في ملابس الهارب من المدينة، مستكشفا من طرحت بهن الحرب الأهلية الاسبانية، مفضلا بغايا أوروبا الشرقية اليهوديات، مستقبلات زبائنهن في حومة واد أحرضان، في بيوتهن الصغيرة المفتوحة أبوابها دائما الى آخر الليل، ذات ستائر كالحة، الباقيات هنا رغم اندحار النازية، والاندلسيات. لأنه لم يزر باكيطو اللعين. الفرنسيات لا يهفو اليهن هنا إلا بوردو حاملا لهن معه هداياهن المفضلة , شرابيل مزركشة،(7) وقفاطين، وأساور فضية، وقلائد، في رأس السنة حيث تسبقه الهدايا في البريد، غرامياته البطولية معهن غالبا ما يحسمها بعراك دام مع غرمائه المشاكسين فرنسيين وجزائريين وسلاحه ضرباته القاضية حتى وان كان خصمه يحمل سكينا أو مطواة، حتى وان كان إثنان أو ثلاثة تصوروا ملاكما يستعين بسلاح. يا للعار! هكذا يقول. أما المغربيات فيخصص لمعشوقته ليلة كاملة في فندق لندن العتيق المفضل لديه بأرضية غرفه الخشبية. يطلب أن يؤتى له بأعتق نبيذ اسباني، وطاجين لحم بقر مع اللوز والبرقوق والبيض المسلوق أو ضان مع البطاطا البلدية بالزيتون على مجمر ناره خفيفة مع مطعم الريحاني أو حمادي القريبين ( من فندقه لأنهما أشهر مطعمين في المدينة في الطبخ المغربي وغيرهما باطل.

    في إحدى جولاتي الليلية، شاربا على قدر ما في جيبي كأسا عند خاكوبيطو وكأسا في بارخينيرال، التقيت دادي قدام الجامع الجديد هائجا منهزما كأنه تعارك مع ثلاثة أو أربعة. سكران، وجهه مخموش يهدر،واعدا إياها بالخنق والقتل، خابطا بلكمات قاضية في الهواء. فامة البيضاوية، لا يمكن أن تكون إلا هي. دادي من يستطيع أن يرفعها باليمنى أو اليسرى الى أعلى من مستوى قامته الفارعة، لكنها هي أيضا تستطيع بقامتها القصيرة الضئيلة أن تستخضعه راكعا قدامها بنزواتها المغوية وزوغانها الغجري.

    - هل رأيتها؟

    - فامة ؟

    - نعم.

    - مرت منذ لحظة في اتجاه زنقة الناصرية.

    - مع من ؟

    أجبته بخبث حتى أتسلى بهيجانه.

    - مع شاب.

    - بنت الحرام،. هذه الليلة سأقتلها. وليست هذه أول مرة يقتلها.

    زهور الموتى

    جالس في استرخاء، قرب المطبخ على مقعده ذي المسندين، الذي اشتراه. منذ فترة، خصيصا لقيلولة شيخوخته التي بدأ يعترف بوطئها الغلاب على كبريائه وان كتمه، لكنه ظاهر للعيان.

    إنه الآن في شبه اغفاءته. تطلع الى، عيناه الصغيرتان الزرقاوان اخبتهما الثمانون عاما. السنوات التي يحتفظ بها لنفسه لم يعد أحد يلح عليه بالبوح بها. ما عاد يستجيب للمزاح. ماذا يهمكم من معرفة سني الحقيقية ؟ فضوليون مشاكسون. ندمت على معرفة بعضكم.

    جئت مرحبا جلست قبالته في الركن، قرب المدخل تحت صورته في عز شبابه التي أخذت له بملابس الملاكمة في هيئة متحفزة. التورم غزا مفاصل يديه وقدميه. منذ سنوات وهو يعاني من النقرس وان كانت نوباته تغزوه على فترات متباعدة. أو ربما أجهد نفسه بعناد في أحد تدريباته التي يمارسها أحيانا مع أحد تلاميذه القدامى في الملاكمة حتى يقنع المزاح أنه مازال يقاوم. امتيازه أنه يئن لكنه لا يبالغ في الشكوى والتذمر. ربما يعتبر أن الحزن شيء حميم شخص. أنفه تجمعت وتجعدت فيه حصيلة ستين عاما من الشراب أكثره نبيذ وجعة وطنية وأقله كحول قوي مثل الماحيا (9)، والتيكيلا والابسنت Absinthe (10) لم يحلق منذ أيام. ربما لا يعرف كيف يحلق أو يعرف ولم يعد يقدر. يداه ترتعشان في بداية الكؤوس الصباحية. جنبه على طاولة صغيرة بيرة دون كأس، كعادته. أنا لا أرعش بعد. مازلت أتلذذ بالفطور مصحوبا ببيرة باردة وطعم السيجارة الأولى. سعال خفيف فقط لكن لا تحمر به عيناي دامعتين. بابا دادي يتناول الأدوية ويعترف بمفعولها لكنها لا تثنيه أبدا عن الشراب. كل شيء له مكانه في الجسم: الأدوية تذهب الى مكانها والأطعمة والأشربة تفعلان مثلها والباقي خرافات كما يقول.

    خرج كريم من المطبخ حاملا مزهرية الزنابق التي كانت تحبها المرحومة دومينيك. وضعها فوق مكتبها ولثم الباقة. لم تنجب فتبنته رضيعا. لم يزر قبرها أبدا منذ أن بنيناه. قال له بصوته المبحوح الواهن: أدخل الى المشرب وكفى من النفاق. إنها ليست مدفونة هناك.

    ظل المكتب خاليا حتى من بابا دادي. لن أكون أفضل منها عندما يجيء أجلي لكن هذا لا يؤلمني مادمت لا أنتظر أي عزاء. رفعت سبابتي ووسطاي فوافق بهزة من رأسه على طلبي. ايه نعم شكرا. أكثر الله من خيرك. في السنوات الأخيرة، كثيرا ما يكلم نفسه غير أنه مازال يقاوم خرف الشيخوخة. وضع لنا كريم البيرتين. تبنته ماما دومينيك في نفس الفترة التي شجعت فيها بابا دادي على الزواج من فتاة مغربية يكبرها اليوم بأكثر من أر بعين عاما، حتى يتخلص من نزوات عشقه وفسقه ولعله ينجب منها أولادا وكذلك كان. أنجب منها - كما تمنت له - ولدا وبنتا. يتابعان اليوم دراستهما. البنت أكثر اجتهادا من أخويها. كريم تخلف في دراسته. استغني بابا دادي عن البار- مات فاحتل كريم مكانه. الأزمة الاقتصادية أيأست كل التجار الصغار. الحياة مازالت تدب في المدينة. لكن مجدها الذهبي ضاع. طنجة غادرتها ثروتها الذهبية لكن روحها باقية. هكذا يعزي المفلسون أنفسهم في حكايات الشتاء التي لم يعد فيها من غنيمة الصيف إلا القليل. لا أحد يساءل عن كيف يمكن انقاذها. أسطورتها تغذي الصمت الذي يلفها في انتظار ما سيحدث امتيازها أنها لم تفقد كل روحها رغم صدام الحضارات فيها، وأن كل واحد يمارس فيها موسويته، وعيسويته ومحمد يته بتسامح، لكن يبقى أنه راها من راها ولا يراها اليوم من يراها إلا من خلال غابرها. أسطروها حتى ميعوا ما تبقى لها من صلابة أصلها.

    فهم بابا دادي من حركة يدي اليمنى حول عيني واشارتي باليسرى نحو كريم أنه ينتحب. لقد تنحى جالسا في أقصى قاعة المطعم. فاداه دون أن يتحرك من مقعده. جاءه ماسحا عينيه. مد له خمسين درهما. أشتري زهورها وزهور الموتى (11). نسيت اسمها. بائعو الزهور يعرفونها. زرها غدا أو متى تشاء إن كنت مازلت تتذكر قبرها. ربما ذهبت معك.

    1- يعادل النفتالين.

    2- تصغير باكو Paco الصيغة هنا للاستصغار والاستهزاء، وليس للتحبب كما هو معروف بين اصدقائه الفاشيستيين.

    3- 4 جزيرة مغيرة للولايات المتحدة. في جون سان فرانسيسكو. ألفى - السجن - عام 1963.

    5- المقهيان يوجدان في ساحة السوق الداخلي.

    6- الرقاص، بالدارجة المغربية المحلية في طنجة، هو مبلغ الرسائل من مدينة الى أخرى يجمر على رقاصة.

    7- نوع من الاخفاف المغربية.

    8- الأول كان يوجد قبالة "الجامع الجديدة » (ينطق هنا هذا الجامع مؤنثا) والثاني في زنقة الناصرية.

    9- شراب يصنعه اليهود من التين. وهو شبيه بالاكمى التونسي المستقطر من جذع النخلة.

    10- شراب مسكر مر وقوي يستخرج من الافسنتين. سمي في القرن التاسع عشر شراب الملاعين. من بين الذين أدمنوا عليه فرلين. صدر في فرنسا قانون بمنعه رسميا لكنه مازال يباع خفية.

    11 - يقصد زهور الققحان Crisantemos وهي عادة يزار بها مقابر المسيحيين يوم الأول من نوفمبر..
                  

05-23-2005, 11:41 PM

salah elamin
<asalah elamin
تاريخ التسجيل: 04-07-2005
مجموع المشاركات: 1423

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    الاخ صبري

    لي ذكريات مع رواية الخبز الحافي فقد اهدتني
    صديقة عزيزة هذه الرواية
    وقبل ابدا في قراءتها
    اخذها صديق اخر
    دون علمي

    (0يعني سرقها مني )

    وبعد فترة تحصلت علي الرواية مرة اخري بالصدفة
    من سوق الازبكية بالقاهرة لكني في نفس
    اليوم فقدتها ‘لاني دخلت فيلم (اسكندرية كمان وكمان )
    ليوسف شاهين ونسيت الرواية داخل دار السينما

    ومرة وانا راجع من دبي الي اسمرا
    مرررت بمطار صنعاء
    وصدفة وفي مكتبة المطار
    وجدت هذه الرواية
    واشتريتها
    وفي المسافة بين
    صنعاء واسمرا
    استمتعت بمحمد شكري والخبز الحافي
    وهي معي حتي الان

    وانا رافع شعار

    لاتسلف
    علي طريقة قصيدة امل دنقل
    لاتصالح

    وشكرا لك
                  

05-24-2005, 09:11 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    تشكر صلاح الامين


    سرقة الكتب لا تحلل ولا تحرم

    هي منزلة بين المنزلتين

    انا علي استمرار اعير ولا اجد معير

    راجع تاني سلام
                  

05-25-2005, 06:10 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    up up up
                  

05-26-2005, 04:02 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    upppuupp
                  

12-10-2005, 02:53 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي محمد شكري من الخبز الحافي الي زمن الاخطار (Re: Sabri Elshareef)

    ************
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de