== أفضل أعمالي == 12 ====== أحمد الملك

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 05:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-14-2004, 08:37 AM

sympatico

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
== أفضل أعمالي == 12 ====== أحمد الملك

    == أفضل أعمالي == 12 ====== أحمد الملك


    ما أفضل أعمالك ولماذا ترى أنه كذلك وأين نشر وماذ كان رد المتلقين له؟

    اعتقد ان من يكتب ينحاز دائمالاخر انتاجه، لأن الشئ الطبيعي ان يكون اخر ما كتب هو مجموع حصاد تجاربه السابقة في الكتابة، صدرت لي رواية اسمها الخريف يأتي مع صفاء منذ حوالي العام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

    الخريف يأتي مع صفاء رواية كتبتها من وحي قصة قصيرة نشرتها قبل سنوات، وكانت تصور حياة الزعيم الذي يعود الي مسقط رأسه بعد ان يفقد سلطته علي العالم وعلي ذاكرته التي تبدأ في خلط الوقائع، وفي القرية التي عاني اهلها من شظف العيش طوال عهود ظلوا خلالها يعتاشون علي وهم اسطورة ذلك الزعيم الذي خرج من قريتهم الصغيرة قبل ان تملأ شهرته الافاق، وطوال سنوات استعدوا لاستقباله المحتوم، ليفاجأوا به مجردا من سلطته وأوهام امجاده .

    نشرت الرواية قبل اشهر في عمان بالاردن ونشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وربما لقصر المدة لم يتم توزيعها ختي الان بالسودان، ولم تصل للكثير من المهتمين، وان كانت قد وصلتني بعض تعليقات الاخوة الذين اطلعوا عليها . ونشر بعض الاخوة مقالات عنها في منبر سودانيز اون لاين .

    وكان الاخ د. الصاوي يوسف قد كتب تقديما للرواية، انشره هنا ربما يكون مفيدا لاعطاء فكرة عن الرواية .



    أحمد الملك والواقعية السحرية بقلم : د. الصاوي يوسف

    بعد أكثر من عشر سنوات من نشر روايته الاولي الفرقةالموسيقية يبدو أن أحمد الملك قد وجد المعادلة المثلي بين العبارات المكثفة المقصودة لذاتها، وبين خيط الاحدوثة الذي يتابعه القارئ بوضوحمن بداية الرواية حتي نهايتها. فالعبارة عند أحمد الملك تبدو كأنها تعبير عن موقف اسطوري ملئ بالسخرية والمرارة، بمعزل عن سياقالقص التقليدي، المعروف في أسلوب الحواديت. كلماته يأخذ بعضها برقاب بعض، تتكرر كثيرا لا لتوضيح المعني بل لتكثيف الرمز. حتي انالقارئ كثيرا ما يشعر أنه قد قرأ هذا النص من قبل في مكان ما، وإن بلغةأخري. ولكن ما يسهل كثيرا علي القارئ – خصوصا السوداني- أن رموز أحمد الملك ولغته المبتكرة تستند علي إرث اسطوري وفلكلوريثر، من ثقافات أهل السودان، قديمه ووسيطه، جنوبه وغربه وشماله وشرقه، فأنت في روايات أحمد الملك تسير ليس فقط عبر فضاء الرواية الزمني، بل أيضا عبر الامكنة الموغلة في الواقعية، أمكنة معروفة وشبه معروفة، تعج بأشجار وأطيار وناس تعرفهم بأسمائهم وصفاتهم، وربما بأشخاصهم لحما ودما .

    وقد كانت لغة أحمد الملك تذكرني بواقعية ماركيز السحرية والشعرية،وتعابيره المفاجئة، المبتكرة، غير المتوقعة في سياقها، تجعلك تغرق في عالم اسطوري شعري، لا هو بالواقع المسطح الذي نعيشه، ولا هوبالخيال الاسطوري الشاطح في متاهات غير المعقول. إنه خليط من هذا وذاك، اكتشاف لطرق وعرة مجهولة (ومأهولة) في غابات افريقيا وصحاريهاووديانها. أم هي يا تري غابات هذا المجتمع المتشابك المتنوع المتصارع؟ مجتمع تسحقه الدكتاتوريات العسكرية، وعظمة قادتها المتوهمة والمتآكلة مع مرور الزمان. مجتمع تلوكه الحرب الاهلية بين أضراسها، وتلفظه بقايا محطمة، بينها صراعات صغيرة وكبيرة لم تزل تنتظر دورها في التسوية .

    ويبدو أن احمد الملك قد وجد ضالته المنشودة في واقعأقرب الي الخيال- بل احيانا أغرب من الخيال- في فترة من تأريخ السودان مغرقة في الظلم والظلامية. ولعل الكثيرين من قراء أحمد الملك سيظنون أن شخصية المشير الفاقد للذاكرة هي من صنع الخيال، في حين أن الكثيرمن السودانيين سيكتمون ضحكات الشماتة وهم يرون مصير المشير، المعتوه، المثير للشفقة. فهم يعرفون المشير حقا، وهو ما زال بينهم، ليسفقط بلحمه ودمه، وانما أيضا بآثاره وما صنعت يداه في البلاد، مما لن يزول في المستقبل المنظور، رغم زوال اسطورة المشيرالظافر المنتصر أبدا .

    ولكن أحمد الملك نجح بشكل ما في نسج زمان خاص به، يضع في إطاره تلك العجينة العجيبة الثرة، من أشخاص وأحداث عهد المشير. وهو إمتلك مقدرةفذة في الامساك بمفاصل الشخوص والاحداث، وتحريكها بمهارة. ولعله قد تلاعب بها عمدا، ربما انتقاما من كل ما مثله المشير، من طغيان وتلاعب بمصير البشر. وربما توسيعا لأفق الرواية حتي تستوعب كل العقداء والعمداء والألوية والفرقاء والمشيرين اللذين وضع الزمان بين أيديهم سلاحا ورتبة فما استخدموها حين استخدموها الا ضد شعوبهم المقهورة المسحوقة .

    ولفت نظري في هذه الرواية العنصر الجديد تماما، ذلك الجانبالذي لم يعرفه الناس عن حياة المشير، أي دور الدكتورة صفاء والاميرة مينيساري في حياته، وبالتالي حياة شعبه ومن حوله. ولعلأحمد الملك كروائي رأي أن يطعّم جفاف عهد المشير، الذي إنعكس جفافا علي أحداث الرواية، ببعض الندي والنكهة. فخلق بذلك عالماأكثر إثارة وشاعرية. وليس جديدا علي أحمد الملك امتلاكه لكل أدوات الصناعة الروائية. مما ذكره الدكتور بشري الفاضل في مقدمته التي كتبها لرواية الفرقة الموسيقية لأحمدالملك. ولذلك جاءت صفاء قمة جديدة من قمم النضج الفني، لدي شاب نشأ في عهد المشير، ثم ما كاد أن يبدأ رحلته الادبية حتي تلقفه عهد العميد ثم عهد الفريق، وها هو في المنفي أكثر ارتباطا بقضايا شعبه، بل بأعمق الجذور الثقافية والاسطورية والفلكلورية، لذلك الشعب الغني بالابداع.

    الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقفمنه. ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدبا، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قداختصر الكثير من الظلامات الانسانية. وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الادب والثقافة، بل كل فئات المجتمع، في النفاذالي روح هذا المجتمع، التي تكونت عبر العصور، عبر التعايش والتثاقف، لا الصراع الدموي .

    تلك الروح القومية، المتوحدة والمتناغمة، والانسانية، هي النداء الذي يخرجبه قارئ أحمد الملك من هذه الرواية .

    ?.الصاوي يوسف

    كاتب سوداني – كولمبورخ 10-9-2002


    =========================

    مقطع من رواية

    الخريف يأتي مع صفاء


    وفي الليلة الرابعة إعترف أن معظم شارات مجده الأصلية كانت مزيفة وأنه شارك في الحرب الأهلية الأولى، لا كمناضل من أجل وحدة الوطن كما ظلت وسائل إعلامه تؤكد طوال أكثر من أربعة عقود بل كمرتزق، وأن الحملة التي أرسلها شخصياً للأقاليم الإستوائية، بدعوى محاربة وباء دودة الفرنديد، كان الهدف الحقيقي من وراء إرسالها هو إجبار المعارضة المسلحة على التراجع نحو نطاق وباء إيبولا.

    وأنه لم يفتح أبواب حزب الوطن لرجالات الأحزاب ليمارسوا من داخله ديمقراطية حائطية لا لشئ إلا لأنه حاول إقصاء صورته من ذاكرة الوطن بسبب إرتباطها بوقائع المجاعة والجفاف، تمهيداً لعودته نهائياً للواجهة، لا كمستبد، بل كمنقذ، حتى أنه كان يغذي بنفسه عملية التعتيم على أخباره بالتعليمات السرية التي أصدرها بإقصاء صورته من الصحف القومية وإستبدالها برسم غير مؤكد يرقى إلى أيام مجلس قيادة الثورة، واستغل التعتيم الذي مضي ينزلق إليه في ترتيب شئون القلب، ومكافحة أمراض الشيخوخة، منفذاً تعليمات طبيبه حرفياً، بإتباع نظام غذائي صارم لمكافحة مرض النقرس ومرض إلتهاب المصران العصبي.

    حتى أنه إكتسب عادة جديدة كلما جلس إلى مائدة الطعام كان يخرج من جيبه قائمة بالأطعمة التي يمنعه الطبيب من تناولها، فيستبعد طبق الحمام المشوي الذي كان يعشقه في الزمان الغابر، ويستبعد طبق الملوخية، ويستبعد حتى طبق السلطة حينما يكتشف أنه ملئ بالبصل الأخضر، وفي النهاية يكتفي بقطعة خبز مع بضعة ملاعق من الحساء وشرائح البطاطس والجزر المسلوقة.

    ولأنه إكتشف أن صورته بدأت تنزلق إلى عتمة النسيان، فقد عرف بأنه لم يكن بحاجة للتنكر حينما يخرج في جولاته كما كان يفعل في الأيام الخوالي، حتى ينفذ تعليمات طبيبه بالمشي ساعة كل يوم، يسير في شارع النيل بين عشاق الساعة الرابعة والربع الذين طردهم يوماً العقيد مصطفى سراج الدين خارج الوطن، بدعوى إعادة العاطلين إلى مناطق التنمية تحقيقاً لشعار الإنفتاح علي الريف الذي رفعته الثورة.

    يسير بين الصبية الذين يطاردون فراشات موسم الدميرة في حدائق الشعب، ويلاحظ دون أدنى شعور بالذنب، أن دقات قلب الوطن بدأت تنتظم، وأن الأطفال في شمال الوطن يلعبون شليل في أمسيات قمر أغسطس، وأن الصبية على ضفاف النيل الأبيض كانوا يلعبون بسمك التامبيرة، والدادينجا يرقصون فوق جبل لاتيكيه للإله لوريبو كي ينزل عليهم المطر وأن أصوات المفاوضين كانت تعلو على صوت إطلاق الرصاص في جنوب الوطن.

    رغم أنه اكتشف أن صفوف الخبز كانت لا تزال تمتد، واكتشف أن السكارى الذين اصطدم بهم يغنون في شارع النيل كانوا يغنون بسبب الأمل لا اليأس، واكتشف أنه لم تكن هناك ضجة في الوطن كله إلا داخل حزب الوطن حيث الصحف الحائطية تمارس ديمقراطية موثقة للفضائح، فقرأ فيها أسرار التنظيمات السياسية التي شاركته كعكة السلطة.

    وبحث دون جدوى بين حلول مسابقات الكلمات المتقاطعة عن أسرار نزوات قلبه فلم يجد لها أثراً أثناء بحث شاق بين وردات عباد الشمس وأشجار السنط وأطلال الدفوفة في مدينة كرمة النزل فعرف أنه يغرق ضمن مخطط للنسيان، لأنه فوجئ أثناء بحثه أنه نسي ما كان يبحث عنه شخصياً، حتى أنه توقف عن البحث لأنه لاحظ أنه كان يتوغل في النسيان طردياً، كلما توغل في البحث، شاعراً بالضياع في هذه الفوضى الخطابية حيث الجميع يتحدثون في وقتٍ واحد، ملاحظاً بدء تحرر نبراتهم الخطابية من جراحات المنفى وأحقاد السجون.

    عند ذلك تراجع محاولاً ترتيب شئون ذاكرته للحفاظ على أهم ذكرياته دون تلف، وعاد لمحاولة ضبط إتجاه عواطفه تجاه الطالبة الصغيرة لتجنب تحولها نحو مشاعر الأبوة، ملاحظاً أن وقائع القلب كانت الوحيدة التي لم يتسرب إليها النسيان الذي ضرب واجهة ذاكرته، حتى أنه لم يتعرف في البداية على العقيد خليفة إبراهيم بركات حينما ظهر امامه في مكتبه بالقصر بعد غياب دام عدة أشهر قضاها في مسقط رأسه في جبال النوبة.

    جاء بملابس كجور كاملة : أربعة أسورة من الحديد في كل يد، وخاتم نحاس أحمر في كل اصبع وحلقة من النحاس في كل اذن، وخرزةً كبيرة بيضاء معلقة على العنق، ويحمل في يده سوط الكمبلا بحلقات النحاس حول مقبضه.

    كان قد أحرز مرتبة كونا داكيدي، ولم تبق له سوى بضعة شعائر تتم بمباركة أباديا، روح الجد الأكبر ليصبح كجوراً ويستأنف سلطةً موسمية على المطر، وكدليل على صدق مبادرته إنحنى فوق السيد الرئيس الذي حاول أن يتراجع قليلاً من مدى نتانة هذا الكجور الذي جاء من جبال النوبة ماشياً على قدميه طوال ستة أسابيع لم يتوقف خلالها إلا ليتناول طبقاً من حساء لحم الرأس في مطعم على قارعة الطريق في تندلتي، عابراً دون أدنى شعور بالأسى النطاق الأسوأ لبقايا آثار المجاعة وموجة الجفاف التي ضربت غرب الوطن وأواسطه قبل سنوات.

    كدليل على صدق مبادرته قام بالعرض الذي اسماه التنظيف: أمسك بيد السيد الرئيس وأخرج أمام دهشته من جسده ثلاثة أحجار وعصا صغيرة من الأبنوس ومجموعة من العظام النخرة والفردة اليسرى لبوت عسكري وعنكبوتا صغيرا ولّى هارباً بمجرد أن خرج من جسد السيد الرئيس.

    لقد كانت عملية علي درجة من الدقة والصرامة بحيث أن السيد الرئيس شعر براحة جسد خفيف بدون عوائق، قام العقيد خليفة ابراهيم بركات بتعليق سوط الكمبلا في مسمار في مكتب السيد الرئيس، معلناً : حينما يسقط السوط أرضاً سيكون الوقت قد حان من أجل القضاء علي هذه الفوضي.

    ثم تعزيا بتبادل الذكريات، فسرد السيد الرئيس تفاصيل طفولة مبكرة في بلدة بعيدة على حافة الصحراء، في قيلولة نبات الحلفاء وأشجار النيم وعبير أشجار دقن الباشا، وللمرة الأولى اكتشف في نفسه مقدرةً غير عادية على إجترار وقائع طفولته المبكرة، حتى أنه وصف بدقة المداخل الأمامية للبيت القديم المهجور وأشجار الهبيل في فنائه وبيوت الدبابير في جذوع النخيل في سقوفه، وبوابته الضخمة المبنية على الطراز النوبي وأطباق الخزف البيضاء المثبتة عليها، واسترجع صدى صوته من بين أصوات الصبية يلعبون شليل في أمسيات قمر رمادي كان ينبت فجأةً من بين الأجمة الكثيفة لنبات الحلفاء، وللمرة الأولى رأى جدته التي لم يرها في الواقع.

    رآها في الذاكرة تعبر فناء البيت في أمسية السابع والعشرين من رمضان عائدةً من المسيد بعد أن أدت صلاة التراويح، رآها للمرة الأولى عجوزاً ناحلة كانت ترتدي ثوباً أسود من قماش الكرب وحذاءً خشناً من جلد الماعز، وفي وجهها شاهد للمرة الأولى البدايات الحزينة لا للموت بل للنسيان، حينما غرقت بعد ذلك في متاهة خرف الشيخوخة.

    رآها تعبر بين شجيرات الهبيل وأشجار الحناء وهي تتوكأ على عصا من الخيزران، كانت الصور حقيقية لدرجة أنه شعر أنها رأته يحدق فيها وهي تعبر الفناء، وأنها لوحت له بعصاها، كانت الصورة من الدقة والنزاهة لدرجة أنه بدأ يعتقد أن العقيد خليفة إبراهيم بركات إمتلك مقدرة إخراج الذكريات المنسية بنفس طريقة إخراجه للأشياء غير المرغوب فيها من داخل الجسد.

    بحث عن والده، لم يعثر عليه في البداية بجانب نهر النيل في رائحة الرطوبة الكثيفة لأشجار الصفصاف في قارب الصيد الصغير الذي يملكه، ولا نائماً على عنقريب صغير تحت شجرة الجميز أمام مدخل البيت كما كان يفعل في ساعات القيلولة.

    وجده يلعب الورق مع الشاعر حمزة الملك طمبل في شرفة القصر القديم في نفس المكان الذي استقبل فيه الملك طمبل الثالث الرحالة الفرنسي بوانسيه قبل ثلاثة قرون، كانا يجلسان أرضاً على سجاد عجمي وكان والده يرتدي جلباباً بسيطاً من قماش الدمور ويضع على رأسه طاقية حمراء صغيرة، تفوح منه نتانة أسماك الكور، فيما يرتدي الشاعر حمزة الملك طمبل الزي الكامل لنائب مأمور، رغم القيظ الخانق.

    وشاهد التماسيح تزحف بين سيقان نبات البردي في وضح النهار، وشاهد المراكب الشراعية تعبر في ريحٍ مواتية إلى مدينة وادي حلفا، وللمرة الأولى لاحظ أن الزمن يمضي في الذاكرة بصورةٍ أوضح منه في الواقع، حينما لاحظ مقدمات شهر مسرى ثم رأى موسم الجفاف يحل بعد قليل، وشاهد أول أسراب الرهو المهاجرة تصل فعرف حلول شهر توت.

    وسرد العقيد خليفة إبراهيم بركات التفاصيل المشوهة لطفولةٍ بائسة مع والدٍ مات وهو في بطن أمه، رغم أنه يتذكر صورته التي وجدها محفوظةً في ذاكرته، وكان حينما يصف والده وهو طفلُ صغير يصفها أفضل حتى من الذين رأوه، وكان ذلك سبب بحثه عن والده بعد سنوات طويلة، لأن صورة والده المحفوظة في ذاكرته أعطته إيحاءً أن والده لم يمت لأنه لا يمكن أن يموت والده وهو في بطن أمه ثم يكون قد رآه في صورةٍ بذلك الوضوح تظهر حتى أدق تجاعيد وجهه.

    ثم وصف صورة أمه المنخرطة في حداد أبيض دام لمدة أربع سنوات بل أنه وصف صورته شخصياً وهو طفل رضيع غارقاً في البكاء في فناءٍ صغير تملأه الدجاجات بروثها وبيضها، بينما أقاربه يبدأون طقوس جي يردو، بحلاقة شعور كل أقارب والده الكجور من الجنسين.

    ثم تحسس بدايات فراغ صحراوي في ذاكرته لم يتبين في عتمته إلا مشهد العربة التي تسلل إليها في تالودي وهرب بها دون وجهة ودون هدف، فشاهد دون أدنى شعور بالحنين الأبقار المصابة بمرض أبوقنيت في رحلتها نحو المراعي البعيدة لدى بدء موسم الجفاف، وشاهد صفاً من المواطنين بالقرب من بحيرة نو يعبرون داخل أعشاب السافنا فيما يتقدمهم عازفُ علىآلة الكوندي في مغيب شهر نوفمبر، وشباب من قبيلة الكريش يرقصون الكاما على ضفاف بحر الزراف، حتى توقفت العربة في جوبا، فشاهد أوراق المانجو تذرف آخر دموع آخر أمطار موسم الخريف وشاهد فتيان موسم التوج يعبرون الهواء الأخير لزمان لم يره، بل أحسه لا عن طريق الذاكرة بل عن طريق تداعيات الأشواق، في هذه المدينة التي تعج بالأجانب، الذين لم يحمل تجاههم بعد سنوات سوى شعور مبهم ومحايد، رغم أنهم تلقفوه مجرد فتى صغير، يرتدي أسمالاً لا تستر منه سوى العري الضروري.

    دون حتى رصيد من أسوأ الذكريات، سوى كوابيس ليلية مفزعة، عرف بعد سنوات أنها لم تكن سوى دعوة مبكرة من روح والده من أجل إعداده لخلافته في مهنة الكجور، بعد سبع ليالٍ قضاها في العراء إقتات خلالها على ثمار المانجو والباباي وجد عملاً لدى تاجر إغريقي، ينظف البيت ويعتني بحديقته.

    تسليا بإجترار ذكريات لم يلاحظا أن مرارتها كانت عادية إلا متأخراً، وأن أحقادهما المعاصرة لم يكن لها أية رصيد تاريخي سوى مبررات معاناة متوسطة، معترفان ضمناً بخجل أن أحقادهما لم تكن أحقاد الذاكرة، بل الحقد الرسمي للرغبة في التسلط الكامل.

    شاهدا سلطتهما تضمحل كلما تفتحت وردات إضافية لشجرة الحرية التي تغطي الوطن كله، والتي بدت لهما أقرب للفوضى، فمضيا يحاولان تتبع أدق خيوطها الخفية، يتجولان متنكرين في أروقة حزب الوطن، في عرين الفوضي، حيث الجميع يتحدثون في نفس الوقت، يقاطعون بعضهم بعضا، وحيث كل خطيب يدين كل الآخرين. يتتبعان خيوطها في مقالات الصحافة الحائطية حيث الرسوم الكاريكوتورية التي تصور السيد الرئيس في صورٍ أقرب للخلاعة، بديناً بدانةً مفرطة في وطن تعد السَمنة فيه إما عرضاً لمرض أو شروعاً في السرقة.

    يرتدي سروالاً قصيراً يصل حتى ركبتيه وعضلات يديه بارزة ووجهه الضخم شبيه بكلاب الرسوم المتحركة : هيئة ملا كم، ولإضفاء صبغة إنسانية على مظهره المتوحش وضعوا في يده مجموعة من كتب المدرسة، وعلى قدميه حذاءً مدرسياً، لم يفهم السيد الرئيس في البداية المبادرة الإستفزازية، لكن العقيد خليفة إبراهيم بركات تطوع بشرحها : إنها إشارة خبيثة لحبه المستحيل لطالبة صغيرة !، فوجئ هو نفسه بأنه لم يستشط غضباً، لا لأنه تعود على تمرير الإستفزازات الصغيرة لصحافة حزب الوطن الحائطية، ولكن لأنه كان قد بدأ يغرق في وحل نسيان مصائبه الشخصية.

    لقد أفادته هذه الكراهية الحائطية في تذكر الوقائع غير المكتملة لأكثر قصص الحب الرسمي فشلاً في التاريخ، دون أن يعي أنه تخلص من نسيان شامل في مقابل خلطٍ للوقائع، فقد رأى الدكتورة صفاء في ملابس أميرة من الزاندي وفي عينيها البراءة المتأخرة لطالبة صغيرة ولإستنباط مزيد من التفاصيل بحث عنها داخل ذاكرته في الأماكن الأقل توقعاً.

    فرأى نفسه في مرآة الذاكرة، كهلُ يتقدم نحو الشيخوخة، دون أن يجرؤ على الإعتراف أن تقدمه نحو الشيخوخة كان هو التقدم الوحيد الذي يحرزه خلال نصف قرن، رأى نفسه معزولاً عن تفاصيل الحياة في وطن لا يزال يلعق جراحاته، رأى نفسه معزولاً عن إحتفالات أول موسم للحصاد، بعد نهاية عصر الجفاف، رأى نفسه معزولاً عن إحتفالات أول أيام عيد الفطر المبارك، وعن أعشاب السدود في بحر الجبل حيث أفراس البحر تتفرس في وجوه الغرباء الذين يعبرون في قيظ السافنا، وعن إيقاعات الحياة في مدينة يامبيو حيث يقيم صديقنا منقو، وعن أمسيات الخريف الوليد في ود سلفاب حيث نشأ مطرب الشعب مصطفى سيدأحمد .وعن أحزان الأمهات اللائي يكافحن من أجل إبقاء نفس إيقاع الحياة داخل بيوتهن لحين عودة المفقودين.

    يكافحن الأرضة في جزوع السقوف وخزائن الثياب التي لم تمس منذ أن أحضرها الأبناء كأول خطوة لإتمام مشروع الزواج، يقمن بطلاء الجدران بالجير الأبيض كل عام بعد إنجلاء الخريف، يمضين في الإنتطار دون ان يلاحظن أنهن كن في الواقع يمارسن إنتظار الموت، وأن إنتظار الموت كان شبيهاً بإنتظار الحياة التي وضعن لها أدق التفاصيل لإستئنافها لحظة وصول الغائبين، وبحانب الحفاظ الشكلي على مظاهر الإنتظار، بوقف إستئناف الحياة منذ لحظة غياب المفقودين، فإنهن كن يمارسن كإجراءٍ إحترازي إستئنافا مؤقتاً لطقوس الحياة لحفظ صور الأولاد التي بدأت تذوب داخل الذاكرة، فيضعن صورهم الباهتة غير واضحة المعالم في المواقع الأفضل إضاءةً داخل البيت لتساعدهن على إعادة تأهيل الذاكرة كلما توغلت فيها عتمة الشيخوخة.

    يحاولن رعايتها بفرحٍ مؤقت لأبعاد الشؤم عنها : صورُ تحمل زهو أول إبتسامة بعد التخرج، وعلى الكتفين أول شارات المجد القاتل، وعلى العيون أول بريقٍ للموت، يحاولن عن طريق اعطاء مظهر أليف للموت، نقل دوره إلى صفة مراقب، وتحييده حياداً إيجابياً، يحيث يمارسن تحت مراقبته الأليفة نفس الإجراءات البديلة للموت.
















                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de