في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 05:11 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-03-2004, 08:54 AM

Elmamoun khider
<aElmamoun khider
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين

    النيل النازح عبر بلادي ينبع من عينيك
    السمرة ذات السمرة و الخصب
    و امتزجنا معا
    توحدنا فيك و أنصهرنا
    فوق المكان وفوق الزمان
    لماذا نعود لنفس المكان الزمان ؟

    رحم الله الاستاذ الراحل المقيم احمد الطيب زين العابدين بقدر ما قدم ..
    أكاديمي متفرد حاول إن يبحث و يستجلي في التراث السوداني و التشكيل و تاريخ الفنون لمعرفة البعد الحضاري للسودان .. بحث في الماضي عميقا لإيجاد الحاضر الذي يعبر عن الجميع فكان أن أوجد السودانوية بحساسية ورهافة فكرة الفنان العالم .. و اخذ مجتهداً في أثباتها في الواقع بحثاً علمياً وكتابات ادبية متفرقة هنا و هناك ..
    لقد خطفه الموت و نحن في امس الحوجة له لاكمال اطروحته و مشروعه السودانوي الذي مازال بكراً ينتظر أن ينظر اليه بكل الجدية لمحاولة أكمال المشوار عسي و لعل يكون مخرجا من مازق الهوية الذي ما زال يعكر صفو و حدتنا الوطنية و شعورنا القومي ...
    إليه و هو في ملكوته كجوراً
    يتأمل مخاض و طنيتنا الوشيك
    تحية سلام ووحده وتنمية
    من بعانخي و اوشيك و محمد أحمد و تيه
    و أدومه و مجوك و الملك تيرا و مكوار ...
    اليك و انت الذي علمتنا ان زاتنا في تاريخ عمقنا الحضاري
    وراهنت علي ذلك !!
    وليس لنا سوي الوعد ان لم يكن زيف عاطفة فليكن بحثا نخطي و نصيب فيه ثم نعود الي الذات الوطن تاريخ و حضارة ...
    أليه و هو الذي حملنا مشروعا إنسانيا بقدر عظمة أمتنا التي انتمي لها .. حضارة ضاربة القدم ..


    لقد قالوا عنه :

    • حيدر ابراهيم (مركزالدراسات السودانية )
    أحمد الطيب شخصية غنية و متنوعة في ابداعها و أنسانيتها فهو تربوي و فنان و باحث و قاص و كاتب تطور من بخت الرضا حتي ليدز جمع بين مناطق السودان في تكوينه و نشاته الاولي . أنسان ذو أرادة هائلة هزمت المرض و أنبعث مجدداً بقلم دافق يصنع الحياة بالكلمات و الافكار و حول الجسد الواهن الي عقل جبار احمد فيه من الكجور و الفكي و الفيلسوف و العراف خاصة حين يحكي كتابة او شفاهة و كانه حقيقة صانع تلك الاحداث أو حين يحلل و يولد المفاهيم مثل السودانوية.
    • يحي فضل الله ( مسرحي و كاتب و شاعر )
    هكذا لم يتحمل العام 1998م حياة الاستاذ احمد الطيب زين العابدين . ذهب الي ذلك البعيد و ترك وراءه همومه و تأملاته في الحراك الثقافي و الفكري في السودان كان دائما يلوح امام الهجمات الشرسة علي تجليات الحركة الابداعية بملامح سودانية يحق لها أن تتباهي بتنوعها و تعدد منابعها العرقية و الدينية مشهرا هذه الملامح "السودانوية" في تجلياتها الابداعية الجمالية فها هي البوابة في مملكة "كوش " و "علوة" تحرض تأملاته التي غاصت في معني "الطوطم" الذييتخذ من الاشارات و الرموز فكرته ز إنها " البوابة المرمزة "كما يسميها أستاذنا أحمد الطيب زين العابدين .
    • رجاء احمد الطيب زين العابدين (تشكيلية)
    كانت قيمة والدي في فكره كانسان و ذات مبدعة تعي اهمية الفن في صناعة الحضارة الانسانية للاجيال القادمة فقد كان رئيسا لقسم الدراسات الانسانية و جد نفسه في الحياة الاكاديمية أعطاها جل أهتمامه لدرجة لم يجد نفسه بعدها قادرا ان يفصل بين حياته اليومية و الاكاديمية . لقد سالته مرة عن توجهه الفكري هل انت يميني أم يساري كان يقول ( يا بتي أنا مفكر حر ).
    • د. عون الشريف قاسم ( باحث و اكاديمي )
    احمد الطيب زين العابدين الذوق و الادب الرفيع .

    قال عنهم :
    • محمد عبد الحليم ؟
    هو في ضخامة السودان و تسعه مواعينه كاتساعه و من بناة السودان الحديث فهو المهني المتجاوز لهموم المهنة الي رحاب السودان .
    • جمال محمد احمد؟
    كاتب "سرة غرب " النوبي الفصيح معلم لجيله قدم السودان الي العروبة و قدم الافريقانية الي السودان و هو النيلي العتيق ما تخلي عن شي من أجل شي لقد عمق فينا معني أن نكون أصلاً.
    • محمد المكي ابراهيم؟
    شاعر أمة – ودبلد- صديق حميم يؤانسك من عقله خلال قلبه لا يعرف سوالب الوجود من حنق وحقد و حسد آمل ابداعي كبير ما يزال هو السودان .
    • محمد عبد الحي ؟
    تفجعني ذكراه – أحس بأنه معلم جيل فقد مبكراً يخامرني شعور بأن أقدارنا عجيبه أنا و هو و أن فاقني في كل شي .
    • كمال الجزولي ؟
    مناضل جسور يؤمن و يتعلم ويعمل – شاعر شديد النقدية – مبدع أديب يظلمه من لا يعرفه .
    • الصادق المهدي ؟
    أديب حديث تعلقت به آمال الناس يوماً. ولكنه عجز عن الابداع السياسي . لا نتياس من أمكانية أسهام جديد فهو ابن مجتهد متوقد الذهن و القلب.
    سيرة ذاتية للراحل الاستاذ احمد الطيب :

    - من مواليد ود الحداد بضواحي سنار 1939 م
    - تعلم الابتدائية بأم كداده – شرق دارفور حيث تربي و هو أصلا من هناك .
    - درس بمعهد التربية بخت الرضا 1957 م .
    - تخرج في كلية الفنون الجميلة بالخرطوم 1966 م .
    - تخرج من جامعة القاهرة – اجتماع – 1969 م .
    - أعد دبلوم فوق جامعي في التربية الفنية بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة 1972 م.
    - أعد ماجستير تاريخ فنون بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة 1976
    - عمل رئيسا لقسم الدراسات العامة بكلية الفنون 1977 .
    - عمل عميداً لكلية الفنون 1981 – 1985 .
    - عمل رئيسا لقسم الدراسات الانسانية بنفس الكلية .
    - ملون – اشترك في معارض جماعية في انجلترا و القاهرة .
    - اشترك في معارض محلية .
    - له اسهامات نقدية و دراسات في الثقافة السودانية منشورة .

    مشاريع لم تنجز :

    ومن مشاريعه التي لم تنجز كان يعد الي ترجمة رباعيات الخيام ترجمة سودانية و قد بدأ فعليا في الاعداد لذلك وقد كتب عنها مراراً و تكراراَ كأثر أدبي خالد يضيف الي الانسانية و تستفيد منه كثيراً.








                  

01-03-2004, 09:26 AM

Elmamoun khider
<aElmamoun khider
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    الســــــــــودانـــــويــــــــــة
    "في ذكري رحيل الاستاذ المبدع احمد الطيب زين العابدين "

    أن اوضاعنا الماثلة كسودانيين تحتم علينا إن نعيد دراسة مشاريعنا الثقافية لان الثقافة تمثل منظومة سلوك متكامل تشمل الممارسات الاجتماعية و تنظيم الاســـــره و دور الاجيــــال و العــلاقة بالارض و اســــــــاليب الانتـــاج و النحــت و الرســم و الاعمــال اليـــــدوية و الاحاجي و المعتقدات و طبيعة الكون و معني الحياة , علي نفس المستوي الذي اخضعنا له مشاريعنا السياسية لبناء الســــودان الجديد. ومن تلك المشاريع الثقافية الجادة في أيجاد هوية ثقافية توحد ولا تفرق كان مشروع الاستاذ الراحل احمد الطيب زين العابدين الذي كرس له جل حياته العلمية و بحوثه و امكانياته الادبية لكي يثبت ان الهوية السودانية الثقافية التي شكلت وجدان الشعب السوداني هي التي اطلق عليها السودانوية التي أفترض فيها إن الثقافة الافريقية هي الثابت الاساسي في الهوية السودانية علي حسب المعطيات التاريخية والمكون الرئيسي لوجدانها و زائقتها التي علي اثـرها أبدع الانسان السوداني في المجالات الحياتية السودانية و اثراها بأشكال أبداع مختلفه و متنوعة حسب جغرافيته وتشكيلاتها الاثنية علي الخارطه الثقافية السودانية .
    ألا إن الهيــمنة التي كانت تفرض من قبل بعض المفكرين العروبيين و من الاحزاب و الجماعات الاسلامية و الحكومات المتعاقبه هي تغليب سمات الهوية العربية ورفع من شأنها مقابل الملامح الثقافية الافريقية و فرضها علي اساس انها المكون الاساسي في الثقافة السودانية مما نتج عن ذلك أحتكـــــــــــاك ما بين المكونين "المحلي و الوافد " أسهم ذلك في خلق هوة و شقاق و تهميش للثقافة الافريقية واستبعدت من المشاركة بفاعلية في التظاهرات الثقافية بدعاوي التحريم و البدائية و خلوها من القيم الاسلامية العربية وكان ان ساهمت احزاب الاسلام السياسي و الاحزاب القومية العربية في فرض الثقافة العربية قسراً علي كل السودان .
    رغم ان التجارب الانسانية تؤكد علي ان التحدث بلغة او الانتماء الي دين لا يعني الانتماء الي هوية تلك اللغة او ذاك الدين ويمكن ان نري تلك النمازج في الكثير من بقاع العالم ففي امريكا اللاتينية يتحدثون الاسبانية لم يجعل ذلك من هويتهم اسبانية ونجد ايضا إن الدين الاسلامي وصل حتي جمهوريات البلقان ولكن لم يغير ذلك من هوياتهم القومية شي وظلوا مسلمون . لذلك فان افتراض أن أي مسلم أو متحدث للغة العربية فهو عربي هذا افتراض خاطي قادنا الي مفترق طرق ..
    ولكن الناظر الي السودان موخرا يجد ان هناك توجد بوادر صحوه و عودة الي الجزور الي درجة ان دعاة العروبية يتوجسون منها خيفة روية الملامح الافريقية في الشارع العام السوداني في الخرطوم عاصمة المشروع الحضاري الاسلامي .
    وقد ساهم في هذه العودة انتشار الثقافة الافريقية علي المستوي العالمي وقبولها و التفاعل معها علي مستوي الادب و التشكــــــــيل و الغناء . و ايضا فشل المشاريع السياسية التي حاولت ربطنا بالعالم العربي و القبول الضعيف لنا عربيا في الجانب الثقافي و تهميش دورنا السياسي في المحافل السياسية و الثقافية العربية و انهزام مشاريع القومية العربية جعل البعض منا يرجع الي البحث عن الذات من خلال الموروث السوداني المتنوع الثراء و حتي نكون اكثر حضورا في عالم اضحي يحترم ويستفيد من التعدد و التنوع الثقافي الخلاق .
    أن الثقافة الافريقية لاصالتها المتجزرة في المجتمع السوداني ظلت ثابته و محافظه علي رغم من المحاولات الشرسه لمحوها عن طريق نظام الجبهة الاسلامية في السودان منذ 89 وسياسات التأصيل الاسلامي العروبي التي اتبعها كل تلك الاشياء الذي مرة علي المشهد السوداني ارجعت سؤال الهوية الي الظهور الي السطح بشكل خطير مهدداً البلد ووحدتها القومية .
    السودانوية (SUDANISM) :

    لقد دعا الكثير من المفكرين و المثقفين والادباء الي التعبير عن ذاتنا بسودانيتنا كان الاستاذ الراحل احمد الطيب زين العابدين أحد هولاء المفكرين قد حاول تاسيس اطار نظري لتلك الدعوة و اطلق عليها السودانوية والتي قال فيها هي في الاصل مشروع نظري – نقدي – منهجي يحاول النظر الي الثقافة السودانية من الداخل مستفيدا في ذلك من الدراسات الانسانية عامة , فهي منهج تكاملي يعالج الثقافة من خلال الثقافة اي أنه منهج ثقافوي "ابتدرنا الكتابة فيه تحديداً في 1980 بمقالة عنوانها (التشكيل في الثقافة السودانية المعاصرة) بمجلة الخرطوم عدد يناير 1980 م حفذتنا للكتابة آنذاك مقالة قصيرة كتبها أحدهم عن متحف السودان القومي شكك صاحبها في سودانية المتحف القومي و الاثار و عتب عليه خلوه من المادة الثقافية الاسلامية ولام المتحف علي الوثنية و النصرانية البادية في المادة المعروضة بداخله . مما نبهنا الي ظاهرة ثقافية حقيقية هي أن المجتمع يصنع تاريخه كإفراز للحياة و لكن ذلك لا يترتب عليه أو يساوقه وعي بذلك التاريخ. وعليه فإن الوعي بالتاريخ يمكن أن يستحدث و ها نحن نسعي في هذا الدرب .
    كانت هذه هي رؤية و ملامح مشروع السودانوية و التي يمكن بجهد من التاطير النظري و البحث الاثاري ان تكون الطرح المؤام للسودان الجديد الذي يستلهم ويستمد مشروعه السياسي من كوش القديمة ومن الحضارة التليده لشعب السودان .
    وكان ان اشار الاستاذ احمد الطيب زين العابدين الي ذلك حيث قــال " في الحقيقة أنا مورخ للحضارة و تخصصي هو تاريخ الفـــــــنون و الفنون هي كما تعلمون منجز حضاري فكري حمال للقيم و المعاني والافكار و المدركات عموماً . يتبين الدارس للثقافات السودانية القديمة أن هناك شكلا من اشكال الاستمرارية و التراكم وإن القاعدة الاقدم التي اثبتت عليها الثقافات الوسيطة و الحديثة هذه القاعدة أفريقية خالصة أستمرت آثارها كتراث نازل الي يومنا هذا . أنا سميت هذه القاعدة (القاعدة الحضارية السودانية القديمة ) تأثرت في تطورها بتيارات اقليمية واضحة هي افريقية , أنا اعتبر حتي مصر ذات الاثر الحــضاري الاعظم تيار أفريقي . ولكن هذا المزيج المحــــلي القديم و الافـــــــــريقي المؤثر لم يكن معزولاً عن الاثار الشرق اوســـطية و الاسيوية و الاروبية منذ ايام البطالسة في وادي النيل هذه النظرة هي نظرة علمية منهجية تحكمها طبيعتها الداخلية وليس فيها ما يمكن أن يبرر الاتهام بالعرقية فالسودان نفسه اعراق مختلفه و كذلك الحال في افريقيا فليس هناك عرق نعليه علي عرق و هذه إثنيات تبادلت الاثار و توحدت الي قدر كبير و ما تزال تتوحد فالحال عندنا الان من الناحية البشرية اشبه بما يكون بالحاله البرازيلية . آناس مختلفون يتوحدون بشكل عال في عقائدهم الكبري و في مناهجهم الحضارية بإتجاه خلق هوية عالية التفرد مختلفة عن الاخرين هي السودانوية .
    التي حاول أحمد الطيب زين العابدين في ملحق السودان الحديث الثقافي كتابة من منظور ســـودانوي مجموعة أوراق تحوي قصص و مقالات حاول فيها صاحب مشروع السودانوية كهوية للمجتمع السوداني أن يبحث في الفكر و التاريخ و الفنون وعبر تلك الوسائط حاول ترسيخ رؤي السودانوية . من منظور سودانوي هي رؤية قومية ادبية حاول فيها مذج تراث قومي متعدد لترسخ وتثبت عمليا امكانية التعايش بين هذه الثقافات وصبها في قالب اجتماعي ثقافي مكونا للهوية السودانية .
    كان ان تناول في كتاباته في منظور سوداني الثراء السوداني الشعبي كما في قصة( دمزوقة ) كخرافة و اسطورة شعبية ذات دلالات شكلت وعي مجتمعي كما قال الباحث الاستاذ عبد العزيز مختار دهب في مقال له عن " الخرافة في تفسيرها للوعي الاسطوري " أذا ان دمزوقة هي ليست حكاية خرافية تحكي عن المجتمعات الريفية ولكنها أطار للقيم يختفي في الجمــــــال و استيعاب تلك الحـــــكاوي و مزجها باللحن الاسطوري الايجابي فتأتي سذاجتها و طبيعتها متكاملة الرائحة الشعبية و لكنها تحفر في الاعماق لحنا حضاريا يكثف المعني وجود الانسان . و بهذا تخرج من مثني الخرافة في الشكل المعماري و المضمون و تدخل في الاسطورة من حيث الحفر الداخــلي في الذات البشــــرية و تأثيرها و دخولها في بناء المرحلة و تأسيس خطاب ليتوازي بين ممكنات الواقع و احتمالات المستقبل المتعددة . و علي هذه الشاكلة كانت كل كتابات الراحل احمد الطيب تحمل الملامح السودانوية فكرة و رمز رابــحه و حـــارن ابو صنــــقور و دبيب يايا
    و حجة ونيس و دروب قرمـــــــــاش و بير جبرين و رحيل كاسافورو و ترحيل الجبل و رحلة شنفو ودمامل الساحر و نجد في كل هذه القصص تفاصيل و عوالم سودانية حميمة اراد الاستاذ ان يخاطب فيها الوجدان السوداني بالقيم الشعبية التي تحمل الكثير من الحكم والقيم التي شكلت الثقافة السودانية . كما له ايضا الكثير من المقالات عن الفكر والاجتماع و التشكيل و المسرح و التاريخ كلها كانت تبحث بصورة مباشرة او غير مباشرة عن السودانوية كمشروع هوية وحدوية ليست وعاء مصنوع انما وجود معاش يومي و تاريخ مشترك و وجدان قومي لأهل الســـــودان وتلك المساهمات و الكتابات مستمدة من واقع بعض التكوينات البشرية في السودان كشف الاستاذ احمد الطيب عن محمولها ذي دلالات الايجابية للمشروع القومي . وتناول في عديد من مقالاته البعد الحضاري الافريقي المتجزر في الثقافة السودانية و انعكاس ذلك علي الثقافة الوافده .
    لقد ثبت الاستاذ احمد الطيب في بحوثه ان السودانوية هي نتاج طبيعي لمتصل حضــــــــــاري ففي كتابته عن الثقـــافة الســـــودانية " اعتبارها متصلاً ثقافيا شديد الاستمرار ولعل اوضح تعبير نجده في طيات مقاله (الرموز التشكيلية الحية في الثقافة السودانية ) . وقد اشار في نقده الي تناول الثقافة السودانية علي اعتبار أنها حلقات او دوائر غير متصلة " فهو يؤكد ان هذا أمر لا علاقة له بطبيعة تطور الثقافة السودانية وان كان متعلقاً بتاريخ و طبيعة الدراسات السودانية نفسها الامر الذي نبه اليه في مقالاته بعنوان ( التاريخانية و مسالة الاستمرارية الحضارية). وقد شارك الاستاذ احمد الطيب مجموعة من المثقفين الذين اسهموا في الاستمرارية و النظرة التطورية للثقافة السودانية د. حريز و د. نور الدين ساتي و د. احمد محمد علي حاكم و د. عبد الهادي الصديق و كثيرون دعموا فكرة مشروع السودانوية منهم د. منصور خالد الذي قال " السودانوية ليست نتاج عوامل عرقية و ثقافية يصطفيها المرء من بين جميع المكونات لشخصيته وفق منطق ذاتي بل هي كينونة تولدت عبر تراكم تاريخي ثم عن طريق التمازج و التلاقح ولو ترك هذا التراكم يسير سيراً طبيعياً لا نتهي إلي تخليق وطن موحد الوجدان متصالح مع النفس . أن السير الطبيعي هو الذي لا يبرز تنافر النقائض بل يعمق و شائج الاثراء المتبادل . التمازج ليس ظاهرة مبتدعة في السودان و أنما هو العامل الحاسم في توحيد السودان منذ العهد الوسيط بالرغم من تنوع اصول اهله و تعدد ثقافاتهم و دياناتهم هذه الصيرورة التاريخية لا ينكرها إلا القائلون بالبعد الاحادي للشخصية السودانية ذلك البعد عربيا إسلاميا أو أفريقيا غير مسلم و ما تبقي ليس إلا حواشي لا تضيف كثيراً للمتن . بل لعل وضع الثقافات الافريقية في موضع التضاد مع الثقافة العربية الاسلامية فيه تعمية علي الواقع . فالاسلام السوداني تأثر بعوائد أفريقية موروثه أضفت علية أبعادا لا تراها في اسلام أهل المشرق وثقافته العربية ( اللغة – الموسيقي – الغناء ) ثقافة لاقحة احبلتها طيوف من المؤثرات النوبيــــة و الحامــوية و الكـــــــوشية و النيلوية و البانتوية. ذلك الطابع السودانوي الخالص يبدو جليا في الغناء السوداني السائد الذي لايهتز له العرب رغم إنه يعبر عننفسه بعربية فصيحة و لا يهتز له افارقة الوسط الجنوب أفريقيين رغم طبوله الافريقية التي تقرع الاذان .
    من كل ذلك نجد أن مشروع الهوية السودانوية أذن هي تجاوز الخصوصيات الاقليمية و العرقية و الدينية بهدف الارتقاء بالهوية الوطنية سياسيا بإحترام خصائص التنوع فلا وحدة بلا أحترام للآخرين و ثقافيا بإتاحة النوافذ لثقافات المتعددة حتي تري النور ويتم التلقي و التمازج وخير نموذج مركز كواتو الثقافي المهتم بترسيخ الثقافات المتباينه لجزء كبير من هذا الوطن ولخلق جسر السلام و الوحدة من خلال ما يقدم من اعمال. مثل هذه الفرص هي التي تدعم الشعور القومي الوحدوي لما للفنون من قدرة علي خلق جيل قادر علي التفاعل الثقافوي و الانسجام الاجتماعي بعيدا عن الاصطفائية الثقافية التي مورست ردحاً من الزمان لحساب الهوية العربيةوهنا يكون دور المثقفين و المفكرين في انهاء الفصام المنهجي بين الافكار و السياسات و الممارسات وقد قيل أن الرئيس الافريقي و المعلم نايريري كان قد اعطي طلاب الجامعة أجازة 6 أشهر ليعودوا الي مناطقهم و الي قراهم ليعد كل منهم بحثاً حسبما يري عن منطقته و مشاكلها عن إنسانها و إبداعها و عن القبائل التي تقطنها وعن سبل كسب العيش فيها و في نهاية الامر تجمعت مادة ثقافية تاريخية شاملة عرفت بالانسان التنزاني و ثقافته و تاريخه و تقاليده فما أحوجنا الي هذه الفكرة الصائبه حتي نرفد العالم بخصوصيتنا الحضارية التي هي تفردنا كسودانيين .



    المراجع :

    1- مجلة كتابات سودانية (ملف احمد الطيب زين العابدين ) – اصدار مركز الدراسات السودانية .
    2- جنوب السودان في المخيلة العربية – منصور خالد .
    3- مجلة الخرطوم ( اعداد متفرقة)
    4- السودان الحديث (مقالات من منظور سودانوي ) احمد الطيب زين العابدين .

                  

01-03-2004, 10:00 AM

Giwey
<aGiwey
تاريخ التسجيل: 09-03-2003
مجموع المشاركات: 2130

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    الاخ / المامون

    سلام وتحية

    وشكرا لك وانت تذكرنا بأحد اهراماتنا
    الثقافية ونحن الذين جبلنا على نسيانها

    الراحل د.احمد الطيب زين العابدين فنان ومثقف
    استثنائى وافر ومتميز العطاء كنت اتلهف لقراءة
    ملحق جريدة السودان الحديث لاقرأ ابداعات هذا الرجل
    وسعيه الدؤب لتكريس مشروعه المبدع (السودانوية)
    والذى ارتحل دون ان يخط النقطة الاخيرة فيه.

    الف رحمة ونور عليه

    وتسلم يا اخى
                  

01-03-2004, 10:29 AM

Elmamoun khider
<aElmamoun khider
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    حجة ونيس


    كان البحر ينصت إليها, و قد نام الحجيج, و صمت الضجيج, و انقلبت زرقة السماء سوادا و ضلمة لو القي فيها بحجر لتعلق بأهداب الضلام و بدت نجوم الليل كفجوات مضيئة كأنها غرست غرسا وضئ علي هذا الظلام الثخين كان "السمبك" الخشبي العتيق يمخر البحر في خرير هادي هدوء البحر نفسه بعض النواتي البجاة يسيرون علي حوافه خفافا صامتين فكأنهم أشباحا كانا يستلقيان علي ظهريهما جنبا إلي جنب و قد اطمأنا إلي هذا المركب الضعيف تحدثا في شجن عميق طوال اليوم عن الآهل و الديار كبارهم و الصغار قال"صاغه" بعد نفس عميق لرفيقه "ونيس".
    - الحي بلاقي .
    - نعم بلحيل الحي بلاقي.
    - انحنا وقت قمنا من الدار انتو عيال صغار خلاص , قومتنا منها كانت سنة جية الفكي الفوطاوي الكبير الأحمر داك يوم جا نزل في ديوان آبا الحاج مرضي قاعد يدرس الناس الرسالة , رسالة الشيخ عثمان بن فوده " وجوب الهجرة علي العباد " ها .. ابهاتنا فروا بدينهم من الفرنسيس لي بحر النيل ارض الميعاد خليناكو صغار أطفال وكت " لومي " كسر دار وداي و حكم شاد , خلاص انحن ا مرقنا دخلن السودان قلنا نحجوا الا الله ما طلق الا هسع . زمانا داك نصاري الملكة "اللنجيتيرا" دخلوا بحر النيل ذاته. ما قلت نلقاك نوريك..
    ألا الحي بلاقي .
    - نعم بلحيل الحي بلاقي .. الا انحنا قمنا قومة قاسية .. ربينا في زمن قاسي حار الفرنسيس ملكوا
    - البلد من جميعا – كتلوا الفقرا و فسدوا النسا .
    - وآي .. سمعنا .. انتوا جيتو كيف يا ونيس؟!
    - تنحنح الفكي ونيس وشد حوله غطاءه و كأنه يخشي برد الذكريات ذكري رفان عصيب اقشعر لذكراه بدنه , و قال ما معناه : دانت البلاد تماما الا تلك الحلة الكبيرة التي تعرفها بمساجدها و خلاويها, مبانيها الطينية العتيقة تتوزع علي التلال و أهلها ذوي الجبب الواسعة و العمامات الضخام , و كلهم حجاج من انتوي منهم من حج وزار رفضوا الكنيسة و البو العوام علي" القفرنير" فارسل اليهم اكثر الجند فسأله وعلي راسهم " ببشير" ابوراس كما يسميه أهل " ابشي" و معه "ماكسويل" الرهيب الذي يتكلم العربية و قد عاش في المغرب و كان يخالط الناس و يجالس النساء و يأكل طعامهم الخشن الوخيم قالوا انه رئس الاستخبارات و هو السبب في ذهاب اعداد ضخمة من الرجال العظام إلي"فور تلامي" لا يعودون منها أبدا .. ومن بعدها يقول للناس شامتا .." فلان وين ؟ دخل بيت حقايا؟! ها زين الراسا قوي كلا يمشي"دبر الفتن بين الآهلين – علم الصبيان التجسس و الوسوسة, و علم الصبايا التلصص و تقليب العيون. و علم الكبار الخضوع والخوف و الازورار. كرهه الناس اجتمعوا علي الخلاص منه دون أن يقتلوا خشية تنكيل الفرنسيس بهم , تركوا امره للشباب , عرف كبار المشايخ اسم ام "ماكسويل " فانقطعوا للدعاء عليه في الخلاوي و المساجد . آما نحن فقد دبرنا كل شي في دقة متناهية رسمنا خطط الانتقام منه . واستعنا في ذلك علي العسكر من أولاد البلد , رسمنا خطط الهرب مسبقا . أرسلت آنا إلي ابنة عمي و مطلقتي في الجنينه بارض السودان اعلمها متي و كيف يكون مجيئنا و في ليلة الأول من رمضان و قد جلس الناس في الطرقات حلقات حلقات يفطرون , وخلت الطرقات من كل مدلج , كان ماكسويل جالسا إلي أوراقه يكتب و علي المنضدة مصباح غازي ضخم اسقط منه ظلا ضخما علي الحائط و هو جالس في صحن الدار كان فراسة من أهل البلد علي علم بما سيجري فشغلوا زملائهم الفرتسيس بطعام افطار مخصوص – اتيناه من خلفه من حيث الاسطبلاط كنا نزحف كالقطط في الظلام و انقضينا عليه اربعه كالنمور الأفريقية الجائعة آنا و حزام و دتم و رزق قاوم الكلب المسعور و لكن هيهات . رتقنا ساقيه واوثقنا يديه خلف ظهره كممنا فاه وعصبنا عينيه ناولناه لاخرين من خلف حائط الدار سحبوه علي ظهره فوق " عنقريب" معد طرحوا عليه ثوبا ابيض ناصع البياض كالكفن , حمله أربعة , وتبعه الباقون كمشيعين . تقبلوا فيه الفواتح و العزاء في المنعطفات و الدروب و هم يضحكون . انتهي به الأمر في المقابر وقف حوله الشباب ازالوا عصابة فمه و قالوا له انه حر في أن يبكي او يصرخ و لكنه لم يفعل فلقد كان قاسي القلب غليظ المرار قالوا له انه سيدفن حيا وبداوا بحفر قبر و هو يسمع ولا يري و لكنه لم يأبه بل جعل يذكر أسماءهم واحدا واحدا .... و يهددهم بأنهم سيدفعون الثمن .. قال انه يحب هذه البلاد و أهلها . أطلقت هذه الجملة فكرة مجنونة لدي " دتم" فقال له : انك متهم و لكنك لاتشبههم و لابد من تعديل وجهك لتصير واحدا منا سنشلخ وجهك شلوخ "السارا" و اخرج من جيبه مصلا حادا و امسك اثنين بشعر رأسه الأشقر الطويل فبدا ماكسويل في الصراخ و العويل و النذير بالويل و الثبور و عظائم الأمور .. و في سرعة فصده ثلاث فصدات علي الخدين و اختلط دمه بدمعه و تلطخ الثوب الابيض بالدم .. و تفرق الجميع و هم ممتلئون هولا مما فعلنا. تركناه حيث هو . ولكن " دتم" لم يكتف بما فعل , عاد إلي دار ماكسويل عبث بأوراقه وأشيائه . و فرق بيننا بعض السلاح – و الفرنكات و الريالات " القشالي" و ماريا تريزا و شلنات إنجليزية , اخذ حصان ماكسويل الأشهب و انطلق إلي بحر شاري حيث خؤولته.
    كنا ثلاثتنا حزام و رزق و آنا نفس الليلة في طريقنا إلي الجنينة تصببت خيولنا عرقا في برد الشتاء
    تجنبنا " ادري" شرقا لم نقف لطعام فقد كنا صياما ليل نهار دخلنا الجنينة من شرقيها و هي مليئة بعيون و جواسيس الفرنسيس فقد كانوا طامعين فيها ما كنت اعرف أين تقيم " ورنينقا" و لكني حسبت أنها ستكون في فريق الآهل بقي رزق مع الخيل خارج المدينة . اخدنا الواحنا و سرنا مهاجرين في طرقات المدينة نتسقط الاخبار تبعنا حركة البيوت إلي أن سمعت الصوت الذي اعرفه تماما صوت " ورنينقا" ابنة عمي وهي تغني علي المرحاكة الرحاة القديمة تعد الطحين , و ترمز منادية :
    اوري لي رونينقا خلي ليا سيبي
    اوري لي ورنينقا در دقي جيبي
    شتتي ورنينقا شوكتي لمي
    انتي يا ورنينقا ريدي داك تمي
    انت بت عمي يا فرجي همي
    كان صوتها رخيما دافئا حنونا صادقا لمس شفاف قلبي .. و أعاد أيام صباي , وقفنا عند باب الدار نحاكي صغار المهاجرين يحملون ألواح الشرافة إلي أبواب الدور فما يأبه بهم أحد بل يتعاطف معهم الجميع .. بدأنا ننشد :
    ست البيت سلام عليكي
    لينا و ليكي ولي والديكي
    شحدنا الله عيال يديكي
    سبعة حاجين ... سبعة داجين
    سبعة بيقروا في ربع ياسين
    تامين تامين مازول ناقصين
    - هم تامين؟!
    - مازول ناقصين
    - مرحب حباب المهاجرين ... ابقوا قدام
    أوشكت أن اسقط في حضنها من المحبة و الشوق و الحنين .. ابتعدت عني وهي تمد يدها بالتحية ادخلنا الدار و عاد " حزام" ليعود " برزق" و الخيل ... سألتنا .
    -تتعشوا حلو؟!
    لامر و عيفون
    مرس و عطرون؟
    قالت : (سنة و كتاب) فعرفت انها لا تريد بقائي في بيتها الا بالحلال, و كان عندي شاهدي عدل و بعض الريالات , فرددت زوجتي القديمة و أقمنا شبة متخفين عاما بحاله إلي أن تكاثف وجود العيون في الجنينة , سمعنا أن " ماكسويل" عاد إلي فرنسا و أن بعض الشباب ذهبوا إلي فورتلامي و لم يعودوا و أن " دتم" قد اعدم .لفتت حمحمة الخيول أنظار بعض جواسيس الفرنسيس و جعلوا يحومون حول البيت , فقررنا التوغل في تراب السودان , فخرجنا في ليله ماطرة بثلاثة خيول كنت أردف زوجتي خلفي , وصلنا وادي " كجا" منتصف الليل و كان الوادي يغلي كما المرجل و قد احدودب الماء يحمل الشجر و حيث البهائم الغرقى , أجفلت منه الخيل وازورت عنه فقلنا لورنينقا زغردي و صوت الجميع يضربون "الرورة" وزغردت "ورنينقا" كما السحلاة فوقفت الخيول متحمسة في لجة الماء , عامت مع التيار القوي منجرفة بشدة تعلو أنفاسها و آهاتها إلي أن وصلنا الشاطي الشرقي , وقع رزق و الحصان يحاول الصعود إلي اليابس وأوشكت زوجتي علي الانزلاق من ورائي ولكن الله ستر , سرنا بقية ليلنا و يوم آخر قبل أن نطمئن , اشتريت حمارا " لورنينقا " في الطريق لاريح الحصان.و في منطقة كاورا تابعنا ضبع جاسر " آبو حجل " مرعفين ضخم كان مهتما بالحمار يتابعنا من بعيد اسماه " حزام " " طلوباري" و في ليلة حالكة الظلام سمعنا انه الحمار و عراك الذئب و فقدنا الجحش إذ بقرت بطنه وصرت رديفا مرة أخرى آنا وزوجي إلي زالنجي حيث اشتريت حمارا آخر , سرنا في سهول ممرعة واوديه خضراء إلي أن دخلنا فاشر السلطان وياله من بلد , كان جميع الأهل كانوا في الفاشر , نزلنا ضيوفا علي أهلنا ثم افردوا لنا منزلا و صرت اعلم القران , بلد عجيب و كبير خيره وفير و أمنه كثير و علمه غزير , قال أهله " آلما قرا ابن عاشر ما يشق الفاشر " .هيا .. هنا انجمينا , ورنينقا جابت ثلاثة , ولدين وبت البيت عمر .. الحمد الله .. هيا السنه نويت الله يتم و بعد باكر إحرام الله يزورنا البيت ويمسكنا الشباك .. والله زمتكو مر و كلامو قاسي الا كلام النصراني الشلخو دا , سمعنا , جانا في أم شوكة فوق بحر ازرق , قالوا من يوما الفرنسيس رفعوا أيدهم من " ابشي " دار المسلمين و عمروا فور تلامي و دار سارا في الصعيد , هاي السوو كثير بعدكم الا الله يعلم بيه .استمرا يتآنسان يهدرهما البحر و تحرسهما النجوم , ناما و لكن مشوار السفر داخل الذات استمر في أحلام الرجعة إلي الطرف الآخر البعيد .. إلي وداي و لكن السمبوك العتيق كان يسير شرقا عكس مشوار الأحلام والذكري باتجاه الانتماء و الشوق القديم , وفي ضحي الغد كان ونيس يتكي علي مقدمة المركب يرقب الزرقة الصافية المتصلة ما بين البحر و السماء يريد أن يري كيف ينفصل هذا المتصل الأزرق , وفجأة بدا خط ابيض رقيق بين السماء والأرض , يتسع وينفرج كلما تقدم المركب القديم الراقص , بدا الساحل كابتسامة وئيدة ما تزال تتسع شيئا فشيئا و بدا ازرق البحر و ازرق السماء و بينهما الشاطي الرملي اللالاء كابتسامة فتاة ممراح من " دار صليح " اسنان بيضاء براقة بين شفتين موشومتين , و تذكر " ورنينقا " و ترددت داخله اصداء اول الرحلة ...

    انت يا ورنينقا ريدي داك تمي
    انت بت عمي فرجي همي
    و امتلا من الداخل فرحا و لم يتمالك نفسه فانحدرت دمعتان لم تنزلا منذ أيام المسيد وصاح في صوت مفعم مخنوق آبا " صاغا " وصلنا يا آبا صاغه داكو الحجاز بلد الرسول .. مبروك ليك ..

    احمد الطيب زين العابدين
    منظور سودانوي – السودان الحديث 6/ديسمبر/1994 م



                  

01-03-2004, 10:32 AM

Elmamoun khider
<aElmamoun khider
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    حجة ونيس


    كان البحر ينصت إليها, و قد نام الحجيج, و صمت الضجيج, و انقلبت زرقة السماء سوادا و ضلمة لو القي فيها بحجر لتعلق بأهداب الضلام و بدت نجوم الليل كفجوات مضيئة كأنها غرست غرسا وضئ علي هذا الظلام الثخين كان "السمبك" الخشبي العتيق يمخر البحر في خرير هادي هدوء البحر نفسه بعض النواتي البجاة يسيرون علي حوافه خفافا صامتين فكأنهم أشباحا كانا يستلقيان علي ظهريهما جنبا إلي جنب و قد اطمأنا إلي هذا المركب الضعيف تحدثا في شجن عميق طوال اليوم عن الآهل و الديار كبارهم و الصغار قال"صاغه" بعد نفس عميق لرفيقه "ونيس".
    - الحي بلاقي .
    - نعم بلحيل الحي بلاقي.
    - انحنا وقت قمنا من الدار انتو عيال صغار خلاص , قومتنا منها كانت سنة جية الفكي الفوطاوي الكبير الأحمر داك يوم جا نزل في ديوان آبا الحاج مرضي قاعد يدرس الناس الرسالة , رسالة الشيخ عثمان بن فوده " وجوب الهجرة علي العباد " ها .. ابهاتنا فروا بدينهم من الفرنسيس لي بحر النيل ارض الميعاد خليناكو صغار أطفال وكت " لومي " كسر دار وداي و حكم شاد , خلاص انحن ا مرقنا دخلن السودان قلنا نحجوا الا الله ما طلق الا هسع . زمانا داك نصاري الملكة "اللنجيتيرا" دخلوا بحر النيل ذاته. ما قلت نلقاك نوريك..
    ألا الحي بلاقي .
    - نعم بلحيل الحي بلاقي .. الا انحنا قمنا قومة قاسية .. ربينا في زمن قاسي حار الفرنسيس ملكوا
    - البلد من جميعا – كتلوا الفقرا و فسدوا النسا .
    - وآي .. سمعنا .. انتوا جيتو كيف يا ونيس؟!
    - تنحنح الفكي ونيس وشد حوله غطاءه و كأنه يخشي برد الذكريات ذكري رفان عصيب اقشعر لذكراه بدنه , و قال ما معناه : دانت البلاد تماما الا تلك الحلة الكبيرة التي تعرفها بمساجدها و خلاويها, مبانيها الطينية العتيقة تتوزع علي التلال و أهلها ذوي الجبب الواسعة و العمامات الضخام , و كلهم حجاج من انتوي منهم من حج وزار رفضوا الكنيسة و البو العوام علي" القفرنير" فارسل اليهم اكثر الجند فسأله وعلي راسهم " ببشير" ابوراس كما يسميه أهل " ابشي" و معه "ماكسويل" الرهيب الذي يتكلم العربية و قد عاش في المغرب و كان يخالط الناس و يجالس النساء و يأكل طعامهم الخشن الوخيم قالوا انه رئس الاستخبارات و هو السبب في ذهاب اعداد ضخمة من الرجال العظام إلي"فور تلامي" لا يعودون منها أبدا .. ومن بعدها يقول للناس شامتا .." فلان وين ؟ دخل بيت حقايا؟! ها زين الراسا قوي كلا يمشي"دبر الفتن بين الآهلين – علم الصبيان التجسس و الوسوسة, و علم الصبايا التلصص و تقليب العيون. و علم الكبار الخضوع والخوف و الازورار. كرهه الناس اجتمعوا علي الخلاص منه دون أن يقتلوا خشية تنكيل الفرنسيس بهم , تركوا امره للشباب , عرف كبار المشايخ اسم ام "ماكسويل " فانقطعوا للدعاء عليه في الخلاوي و المساجد . آما نحن فقد دبرنا كل شي في دقة متناهية رسمنا خطط الانتقام منه . واستعنا في ذلك علي العسكر من أولاد البلد , رسمنا خطط الهرب مسبقا . أرسلت آنا إلي ابنة عمي و مطلقتي في الجنينه بارض السودان اعلمها متي و كيف يكون مجيئنا و في ليلة الأول من رمضان و قد جلس الناس في الطرقات حلقات حلقات يفطرون , وخلت الطرقات من كل مدلج , كان ماكسويل جالسا إلي أوراقه يكتب و علي المنضدة مصباح غازي ضخم اسقط منه ظلا ضخما علي الحائط و هو جالس في صحن الدار كان فراسة من أهل البلد علي علم بما سيجري فشغلوا زملائهم الفرتسيس بطعام افطار مخصوص – اتيناه من خلفه من حيث الاسطبلاط كنا نزحف كالقطط في الظلام و انقضينا عليه اربعه كالنمور الأفريقية الجائعة آنا و حزام و دتم و رزق قاوم الكلب المسعور و لكن هيهات . رتقنا ساقيه واوثقنا يديه خلف ظهره كممنا فاه وعصبنا عينيه ناولناه لاخرين من خلف حائط الدار سحبوه علي ظهره فوق " عنقريب" معد طرحوا عليه ثوبا ابيض ناصع البياض كالكفن , حمله أربعة , وتبعه الباقون كمشيعين . تقبلوا فيه الفواتح و العزاء في المنعطفات و الدروب و هم يضحكون . انتهي به الأمر في المقابر وقف حوله الشباب ازالوا عصابة فمه و قالوا له انه حر في أن يبكي او يصرخ و لكنه لم يفعل فلقد كان قاسي القلب غليظ المرار قالوا له انه سيدفن حيا وبداوا بحفر قبر و هو يسمع ولا يري و لكنه لم يأبه بل جعل يذكر أسماءهم واحدا واحدا .... و يهددهم بأنهم سيدفعون الثمن .. قال انه يحب هذه البلاد و أهلها . أطلقت هذه الجملة فكرة مجنونة لدي " دتم" فقال له : انك متهم و لكنك لاتشبههم و لابد من تعديل وجهك لتصير واحدا منا سنشلخ وجهك شلوخ "السارا" و اخرج من جيبه مصلا حادا و امسك اثنين بشعر رأسه الأشقر الطويل فبدا ماكسويل في الصراخ و العويل و النذير بالويل و الثبور و عظائم الأمور .. و في سرعة فصده ثلاث فصدات علي الخدين و اختلط دمه بدمعه و تلطخ الثوب الابيض بالدم .. و تفرق الجميع و هم ممتلئون هولا مما فعلنا. تركناه حيث هو . ولكن " دتم" لم يكتف بما فعل , عاد إلي دار ماكسويل عبث بأوراقه وأشيائه . و فرق بيننا بعض السلاح – و الفرنكات و الريالات " القشالي" و ماريا تريزا و شلنات إنجليزية , اخذ حصان ماكسويل الأشهب و انطلق إلي بحر شاري حيث خؤولته.
    كنا ثلاثتنا حزام و رزق و آنا نفس الليلة في طريقنا إلي الجنينة تصببت خيولنا عرقا في برد الشتاء
    تجنبنا " ادري" شرقا لم نقف لطعام فقد كنا صياما ليل نهار دخلنا الجنينة من شرقيها و هي مليئة بعيون و جواسيس الفرنسيس فقد كانوا طامعين فيها ما كنت اعرف أين تقيم " ورنينقا" و لكني حسبت أنها ستكون في فريق الآهل بقي رزق مع الخيل خارج المدينة . اخدنا الواحنا و سرنا مهاجرين في طرقات المدينة نتسقط الاخبار تبعنا حركة البيوت إلي أن سمعت الصوت الذي اعرفه تماما صوت " ورنينقا" ابنة عمي وهي تغني علي المرحاكة الرحاة القديمة تعد الطحين , و ترمز منادية :
    اوري لي رونينقا خلي ليا سيبي
    اوري لي ورنينقا در دقي جيبي
    شتتي ورنينقا شوكتي لمي
    انتي يا ورنينقا ريدي داك تمي
    انت بت عمي يا فرجي همي
    كان صوتها رخيما دافئا حنونا صادقا لمس شفاف قلبي .. و أعاد أيام صباي , وقفنا عند باب الدار نحاكي صغار المهاجرين يحملون ألواح الشرافة إلي أبواب الدور فما يأبه بهم أحد بل يتعاطف معهم الجميع .. بدأنا ننشد :
    ست البيت سلام عليكي
    لينا و ليكي ولي والديكي
    شحدنا الله عيال يديكي
    سبعة حاجين ... سبعة داجين
    سبعة بيقروا في ربع ياسين
    تامين تامين مازول ناقصين
    - هم تامين؟!
    - مازول ناقصين
    - مرحب حباب المهاجرين ... ابقوا قدام
    أوشكت أن اسقط في حضنها من المحبة و الشوق و الحنين .. ابتعدت عني وهي تمد يدها بالتحية ادخلنا الدار و عاد " حزام" ليعود " برزق" و الخيل ... سألتنا .
    -تتعشوا حلو؟!
    لامر و عيفون
    مرس و عطرون؟
    قالت : (سنة و كتاب) فعرفت انها لا تريد بقائي في بيتها الا بالحلال, و كان عندي شاهدي عدل و بعض الريالات , فرددت زوجتي القديمة و أقمنا شبة متخفين عاما بحاله إلي أن تكاثف وجود العيون في الجنينة , سمعنا أن " ماكسويل" عاد إلي فرنسا و أن بعض الشباب ذهبوا إلي فورتلامي و لم يعودوا و أن " دتم" قد اعدم .لفتت حمحمة الخيول أنظار بعض جواسيس الفرنسيس و جعلوا يحومون حول البيت , فقررنا التوغل في تراب السودان , فخرجنا في ليله ماطرة بثلاثة خيول كنت أردف زوجتي خلفي , وصلنا وادي " كجا" منتصف الليل و كان الوادي يغلي كما المرجل و قد احدودب الماء يحمل الشجر و حيث البهائم الغرقى , أجفلت منه الخيل وازورت عنه فقلنا لورنينقا زغردي و صوت الجميع يضربون "الرورة" وزغردت "ورنينقا" كما السحلاة فوقفت الخيول متحمسة في لجة الماء , عامت مع التيار القوي منجرفة بشدة تعلو أنفاسها و آهاتها إلي أن وصلنا الشاطي الشرقي , وقع رزق و الحصان يحاول الصعود إلي اليابس وأوشكت زوجتي علي الانزلاق من ورائي ولكن الله ستر , سرنا بقية ليلنا و يوم آخر قبل أن نطمئن , اشتريت حمارا " لورنينقا " في الطريق لاريح الحصان.و في منطقة كاورا تابعنا ضبع جاسر " آبو حجل " مرعفين ضخم كان مهتما بالحمار يتابعنا من بعيد اسماه " حزام " " طلوباري" و في ليلة حالكة الظلام سمعنا انه الحمار و عراك الذئب و فقدنا الجحش إذ بقرت بطنه وصرت رديفا مرة أخرى آنا وزوجي إلي زالنجي حيث اشتريت حمارا آخر , سرنا في سهول ممرعة واوديه خضراء إلي أن دخلنا فاشر السلطان وياله من بلد , كان جميع الأهل كانوا في الفاشر , نزلنا ضيوفا علي أهلنا ثم افردوا لنا منزلا و صرت اعلم القران , بلد عجيب و كبير خيره وفير و أمنه كثير و علمه غزير , قال أهله " آلما قرا ابن عاشر ما يشق الفاشر " .هيا .. هنا انجمينا , ورنينقا جابت ثلاثة , ولدين وبت البيت عمر .. الحمد الله .. هيا السنه نويت الله يتم و بعد باكر إحرام الله يزورنا البيت ويمسكنا الشباك .. والله زمتكو مر و كلامو قاسي الا كلام النصراني الشلخو دا , سمعنا , جانا في أم شوكة فوق بحر ازرق , قالوا من يوما الفرنسيس رفعوا أيدهم من " ابشي " دار المسلمين و عمروا فور تلامي و دار سارا في الصعيد , هاي السوو كثير بعدكم الا الله يعلم بيه .استمرا يتآنسان يهدرهما البحر و تحرسهما النجوم , ناما و لكن مشوار السفر داخل الذات استمر في أحلام الرجعة إلي الطرف الآخر البعيد .. إلي وداي و لكن السمبوك العتيق كان يسير شرقا عكس مشوار الأحلام والذكري باتجاه الانتماء و الشوق القديم , وفي ضحي الغد كان ونيس يتكي علي مقدمة المركب يرقب الزرقة الصافية المتصلة ما بين البحر و السماء يريد أن يري كيف ينفصل هذا المتصل الأزرق , وفجأة بدا خط ابيض رقيق بين السماء والأرض , يتسع وينفرج كلما تقدم المركب القديم الراقص , بدا الساحل كابتسامة وئيدة ما تزال تتسع شيئا فشيئا و بدا ازرق البحر و ازرق السماء و بينهما الشاطي الرملي اللالاء كابتسامة فتاة ممراح من " دار صليح " اسنان بيضاء براقة بين شفتين موشومتين , و تذكر " ورنينقا " و ترددت داخله اصداء اول الرحلة ...

    انت يا ورنينقا ريدي داك تمي
    انت بت عمي فرجي همي
    و امتلا من الداخل فرحا و لم يتمالك نفسه فانحدرت دمعتان لم تنزلا منذ أيام المسيد وصاح في صوت مفعم مخنوق آبا " صاغا " وصلنا يا آبا صاغه داكو الحجاز بلد الرسول .. مبروك ليك ..

    احمد الطيب زين العابدين
    منظور سودانوي – السودان الحديث 6/ديسمبر/1994 م



                  

01-03-2004, 11:01 AM

Elmamoun khider
<aElmamoun khider
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    بير جبرين
    يجري مع الأطفال كما يجرون لا يتعثر أبدا. قرا معهم القران. كتب و خطط علي الرمل كما يفعلون نصب للطير شراكه, حاضر هو عند كل شي وان لم يكن شاهدا علي كل شي.
    لا يعرف كثير من الناس انه اعمي. رغم رأسه التي يرفعها إلي اعلي قليلا و يميل بها يسارا و كأنه بتصنت لشي كان يساعده في بعض أشيائه صديقه ( أبو دوكه ) و لو لا حديث الناس لبعضهم بعضا واشارتهم أليه وهو يجري مع الأطفال بأنه ضرير لما عرف أحد عنه شيئا.
    كان عالي الصوت صخابا. كثير الحركة قوي البدن منذ صباه الباكر. أن ركبوا الحمير ركب معهم, وان مشوا مشي, وعندما كبر قليلا صار يأخذ الخيل و الحمير, بمنح الماء يصبه في الحياض, يسقيها و يعود بها كما لو كان سليما معافى لا يشكو علة أبدا.
    قالوا أن عرب الريح قد تركوه عند الناظر. ناظر الديار, ولا أحد يعلم لماذا ثلمت عيناه. وقالوا أيضا أن قوافل الحجيج التي تمر بالمورد قد تركته نائما قرب إحدى الآبار و رحلت.. لا أحد يعلم من أين أتى. كان كما لو انه خرج من البئر. وقد بني عندها قطية أمامها عريشة جميلة و بني حول مسكنه زريبة متينة. وصار يعيش هناك. لا آم لا آب و لا أقرباء و منذ أقامته هناك تبدل اسم البئر بدلا من اسمها القديم ( بير الناظر ) صار اسمها ( بير جبرين).
    لقد كانت هذه البئر قبله قاعا صفصفا. مهملة تتناوح فيها الرياح. تقوم بعيدا علي حافة المورد الذي تزيد فيه الآبار الحية عن الأربعين بئرا آتاها فجددها و عمرها, بني بها حوضا أسمنتيا ضخما قريبا من فوهة البئر حتى لا يسير بالدلو بعيدا. وبجنبات الحوض الثلاث التي لا تلي البئر بني مشارب للماشية و الأغنام, أحواض أسمنتية طويلة خفيضة لتشرب منها( السعيه ) و هي متصلة بالحوض الرئيسي بفتحات يمكن التحكم فيها. صارت البئر لبعدها, ولا تساع الساحات حولها, مفضلة كمورد للبهائم . ولكن نساء الديم و فتياته صرن يفضلن ( بير جبرين) لصفاء مائها و عذوبته, و لا نهن يختلين لا نفسهن بعيدا عن زحام المورد يتآنسن و يتبادلن أخبار ( الديم ) و جبرين يتشاغل بعمله فكأنه لا يسمع شيئا . و هو يعرف كل حكاية تحدث في الديم سبع صيغ اعتمادا علي الواردات و من صدرن .
    قال بعض أهل الديم أن الكد و العمل المتواصل قد انضجه مبكرا و انه امتلا رجولة و صارت رائحته و هو يعمل مثل التيس الفحل . الأمر الذي يجعلهن يذهبن لبير جبرين دون الآبار الأخرى يقفن قريبا منه يتحدثن أليه و هو لا يبصرهن فيزيد تحررهن و شعورهن بالطمأنينة عنده خاصة و انه كان صموتا طول الدهر – يتصنت و كأنه كان يملا نفسه و دواخله بالمدينة التي لا يذهب إليها كثيرا , وفي المساء كان يواصل العمل في نسائم المساء الباردة . يتفجر صوتا عميقا رخيما حزينا و هو يتغني ( الشاشاي) و هو يعمل . وكأنه يرتب مشاعره بالليل شعرا جميلا ما أن يصيح به حتى تتخاطفه أفواه السقاة المانحون . ترده الأربعين بئرا تملا به الحياض ليلا لتأتى السعيه غدا لترتوي ماء زلالا . فكأنها تشرب الشعر و ليس الماء . صارت (بير جبرين) موردا للماء و منبعا للشعر و ساحة للغناء – لفن عظيم – وغدا صباحا يردد سكان الديم كلمات جبرين و هو يشدو بفتيات الديم الواردات فتعلق بهن الأحاديث و الأفئدة .
    كانت الصبية التي لا تلغو و لا تتحدث كثيرا , ولا تتفاصح عند البئر هي ( نعمة) بنت (أم خريف) تأتى أليه كل يوم ضحي تحمل الغداء و لم يكن (الغداء) سوي شيئين جره فخارية واسعة الفوهة مملوءة بسوائل مصنوعة من الدخن ذات أسماء كثيرة . سمنيه اللون مائلة إلي الخضرة ذات روائح نفاذة و قد غطيت الفوهة بصحن من العاج المدهون مغطي بطبق صغير به لحم مطهو بطريقة يفضلها هو . تدخل العريشة تضع هذه الأشياء في مكان معلوم لا تغيره أبدا لاربع سنوات و هي لا تتخلف عن هذه الزيارة . و لا تقول الا جملة واحدة (غداك في بكانة يا جبرين) تقولها منذ أن كانت طفلة غضه إلي أن كبرت و غلبتها الأنوثة فصارت تقولها في دلال محبب إلي قلبه , و ما تزيد عليها شيئا مهما تحايل . أربع سنوات ما تغير فيها المشوار ولا الطعام و لا المكان ولا الناس , ولكن تغيرت فيها الأنفس و القلوب .. أربع سنوات تدخل العريشة .. تري داخل الكوخ سريره المفروش , أشياءه القليلة و الدلاء المعلقة .. ولا تدخل مخدعه , وفي نهاية عامها الرابع حدث تحول , صارت تبقي عنده قليلا تتحدث أليه في خفر محاذر عن أمور شديدة الاعتبارية . وصار هو يشتم منها عطور الكبار فربما كانت تستعمل عطر والدتها خلسة .
    آما هو فقد صار في الخامسة و العشرين رجلا ضخما , واسع الصدر تكورت منه الزنود . يقف كمارد اسمر . مشرق المحيا , وضاء الابتسامة لو لا عيناه المثلومتان اللتان صارتا كجرحين قديمين . بلا بياض ولا إحداق , بئران عميقان في هذا الوجه الصبوح .
    كان يعتني بنفسه عناية فائقة , كان يطهو لنفسه عندما يشتهي و يختار, و خاصة عندما تكون هناك بالبئر ذبيحة تكوم أكواما فيشتري لنفسه كوما لا يطهو في العريشة حيث يراه الآخرون . كان حساسا جدا لان يراه الآخرون , رغم انه لا يري انطباعاتهم وردود أفعالهم ولكنه يحسها ,يخفي أشياءه و مواعينه و بعض سلوكه ,انشا الأثافي الثلاث في وسط القطية حتى تكون النار بعيدة عن كل شي – يعرف مكان كل شي , صندوق أدوات الطهو و البهار و الملح و الثقاب , يشتم كل اشتماما , أطراف أصابعه حساسة مثلما لسانه – يلمس الريال فيعرفه ويعرف القرش و المليم و التعريفة و البريزة . وان تعذر الأمر باللمس وضع النقد علي طرف لسانه – يشاركه طعامه في بعض الاحيان (آبو دوكه ) يمشي كل مساء إلي بيت الناظر حاملا معه محصلة اليوم من النقود , ويعود بمستحقاته يدفنها في داخل القطية حيث لا أحد يعلم – مرهف شديد الإحساس بالوجود محبا له – يعرف كيف يؤانس الناس يميز بينهم بروائح أجسادهم و عطورهم –
    زارته تحمل أليه غداءه و برفقتها هذه المرة – مستورة ابنة عمها التي هي مخطوبة لأخيها (ضلمة) و كانت عزباء مطلقة قليلة الحياء – دخلت (نعمة) لتضع الأشياء في العريشة وقفت مستورة تتحادث مع جبرين و هو مشغول بدلوه يصلحه و كأنه يراه .
    - عليك الرسول شوفي المصيب البلا دا , آت ظني ابتراعي و ماك عميان !
    - قهرتك بي القاهر و النبي الطاهر يا سحارة
    - يسحروا فيك شنو يا الضرير
    - كان ضرير أخير من أخوك ( ضلمه ) قعيد بيت آمو
    - ( ضلمه) سيدك يا آبو عنقرة .. آت سمنت كيف دا ابتاكل شنو
    - بأكلك أنتي يا النعجة آم سعين .. ادني قريب خل اتكرفك زين .
    - تكرف حشاك مقلوب
    قالتها و ابتعدت تريد الرجوع لحقتها (نعمة) و قد سمعت كل ما دار – اضطربت ( نعمة ) كثيرا .. ما كانت تعلم قبلها أنها تتعاطف معه بهذا القدر .
    - مستورة دا كلام شنو يا أختي . ما كان تقوليلو متل الكلام دا .
    - خليني غادي .. أنتي الراجل دا ما بتعرفيوه . مصيبة منو مافي .. ما سمعتي قال في ضلمه شنو ؟! الزول دا لا تراعي مسكين كيف دي .. دا راجل خطوان و جاسر و اني ما نقول و الله ما عميان .. هو كان عميان ما لا و مال العوين ؟!
    صمتت .. طويلا تفكر في هذا الأمر .. تذكرت كثيرا من الاحتدام معه و هي تدخل العريشة و هو يحاول الخروج منها . وكثيرا ما ظنت انه يفتعل هذه الحوادث الصغيرة و تذكرت كثيرا من أحاديثه التي يمكن تقبل بتفاسير أخرى . ولكنها صمتت . وهي تحس أن حديث مستورة كان غيظا .. لا يليق بها و لا هو يستحقه .
    عادت بعد الغداء – جلست علي طرف الحوض الأسمنتي تحادثه و هو يعمل .. سألته عن أهله .. فضحك ضحكة خفيفة حزينة – كرر ما يقوله دائما عندما يسال هذا السؤال ( البير دي أمي و أبوي , جيت من حشاها , منها آكلي و شرابي و سترة حالي القاسية و فوقها نموت ) احست برغبة في البكاء لو لا الابتسامة الخفيفة الساخرة التي كانت علي وجهه السمح المعافى – تمنت لو انه لم يكن عميانا تأملت حفرتي عينيه مليا . فواصل و كأنه يري او يحس اثر حديثه علي وجهها .. أنا هامل يا .. هامل تب .. تبقي ليا أهل ؟! .. يا نعمة ؟!
    ودون أن تفكر قالت نعم ... فاشرق وجهه وازداد لمعان ضوء الشمس علي حبيبات العرق علي وجهه – و قال : و لكن كيف مع ضلمة ؟!
    نزلت من الحوض .. جمعت أشياءها , الجرة الفخارية و الصحن المعدني في جلبة عالية قليلا و اضطراب احسه .. قالت و هي تذهب و ضلمة ماله ؟!
    و بدا الغياب , أسبوعا بحاله و هي لا تأتى , صارت أمها تحضر الغداء و غلبه الصبر فسألها يوما : عمتي أنتي نعمة عيانه ؟!
    ضحكت العجوز ضحكة خبيثة و قالت حبسوها .. منعوها المروق . جاها ولد عمها و الخميس الجاي صفاحها يا ولدي – قالتها في صوتها رنة حزن ..قالتها و كأنها ليست طرفا في أمر زواج ابنتها قالتها و كأنها تعلم إحساسه بها , آما هو فقد توقف فجاءة عن العمل و اندفع إلي داخل القطية و استلقي علي قفاه ..تبعته في هدوء ووقفت فوقه – تنظر أليه مليا رأت في قاع حفرتي عينيه بعيدا هناك كما في قاع البئر بريق ماء .. إذا فهذه الحفر بها حياة بها دمع قد يجري ..
    - ( مسكين يا ولدي ) قالتها بصوت مسموع و خرجت ظلت و لمدة ثلاثة أيام لا تنقطع عنه ,تعطل العمل بالبئر . وبقي في فراشه كالمريض . كانت تري ضرورة شديدة لمعاودته رغم مشاغلها الكثيرة بالبيت . ذلك لعزوفة عن الطعام نحضره لنرده كما هو لعله كان يعد لنفسه طعاما و لكنها كانت تخاطبه في حنو و امومه مفرطة بان يأكل و يشرب .
    - كيف دي حالك بتلف يا ولدي .
    - أنا حالي تلفان من زمان يا والده .
    - عاد نسووا شنو , ولد عمها دارها – وأبوها آداه أنا و الله كارهاه من قلبي , و البنية ما تريده – لكن أبوها قال : يعمر بيت و يخرب بيت كان أبينا . و شال و خطا فوقي أنا .
    - ضلمه ضلم عليا حياتي . هي من يومها ضلمه في بصري . قام ضلمها ليا في نص رأسي . الله يضلمها عليه .. الله يضلمها عليه .
    - الله يضلمها عليه .. لكن امرق علي خدمتك .. في شأني أنا دي يا وليدي
    - ندور نسمعكن تشاشي فرحان متل أول .
    - سمح يا والدة ... قالها بين أسنانه بحزم شديد و في مساء ذلك اليوم , خرج إلي فوهة البئر اخذ البكرة التي عليها الرشا , جعل يجذبها نحوه و يتغني بصوت عميق.
    الليلة غب باكر ضماها
    قالوا تجي و جبرين رجاها
    تلاته يوم ما شم نداها
    سال رويحته البت وراها
    ينشل ضحي لي عن عشاها
    عميان ضرير فاقد ضياها
    مسكين وحيد رجا غداها
    قالوا الخير راجلها جاها
    ازرق تلم راجلا دلاهة
    الليل هجع قام ضلمه جاها
    يا ناس حرام دا يكون غطاها
    و في المساء اليوم التالي صاح السقاة يمتحون الماء و يشاشون – الليلة غب – باكر ضماها – وترد صدي الأغنية الحزينة قيعان هذه الحفرة العميقة و سكت الديم ينصت مبهورا بهذا الفن الحزين العظيم و تسامعت المدينة نهارا و تهامس الناس و جاءت أمها تجري .
    - دي شنو السويتا دي يا وليدي .. البنية عروس . ما كان واجب تشيل حسها .
    - لا يا والده البنية بيني و بينها الله و كتب الكتاب هي لليلة ما عروس – و يوم الخميس يوم موتي .. آنا امنقع في البير دي .
    - يا رسول .. يا كافي البلا يا حايد المحن .. فوقك الله و الرسول يا وليدي .
    - الكلام و أنا قلته .. الا كان تجيب الغدا باكر .
    - عيب يا وليدي .. البنية .. بنية قبيلة .. أهلها حضور و شهود مآلين عليا البيت تجي كيف و عليها الحنة و الضريرة
    - ما تجرحي قلبي .. خلاص امشي يا ولية – فزار كما الأسد بهذا القول .. و لكنه لم يخف أحدا – صاحت فيه العجوز
    - جبرين .. امسك لسانك يا وليد – ارعي بي قيدك أني ماني وليتك .. أنى ولية البغطو الارض
    - ما تهينوني يا ناس
    - ضيمك اتا براك هاسي عليا – كيف ضيم القبيلة .
    - أنا ميت ميت الموت حق – شوفي عليكي الرسول قوة عينه قالتها و انصرفت غاضبة – وفجاءة أحست بخطئها – كان لا ينبغي أن تذكر عينه – امتلأت ندما و حسره لم تستطيع السير . تثاقلت قليلا .. ابطات خطاها ثم توقفت تماما , ورجعت إلي أن وصلت حافة الحوض .
    - جبريل العفو يا وليدي .. ترا ما قصدي .. ولم تكمل لله و الرسول .. امشي يا والده .
    ذهبت محنية الرأس منكسرة الخاطر – نادمة و متحسرة وفي مساء ذلك اليوم لم يكن في ( بير جبرين ) أحد جفت الأحواض – و هجرت البئر – فلا ابل و لا رغاء – و لا ضان و لا ثقاء – حتى نار الشاي الخفيفة اطفئت و لكن المورد كان ما يزال يردد أغنية الشاشاي
    الليلة غب باكر ضماها
    قالوا تجي و جبرين رجاها
    حضر عنده ( أبو دوكه ) نهارا غائظا يوم الأربعاء – لم يجده عند البكرة بفوهة البيت دخل القطيه فوجده نائما علي قفاه كانت علي فمه ابتسامة سعيدة فكأنه في حلم جميل غارقا في عروقه . علي جبينه و خديه حبات عظيمة من العرق سالت إلي عينيه . فامتلأتا إلي نصفهما عرقا. انحني عليه صديقه ليتأكد انه مازال يتنفس فاشتم فيه رائحة نفاذة لم يعهدها في كوخه هذا من أبدا – كأنها رائحة امرأة – هز رأسه في استغراب و ذهب إلي الجرة و شرب كأسا مما تبقي فيها و خرج قابله في نفس ذلك المساء ذاهبا إلي منزل الناظر – تحادثا قليلا – لاحظ أن هناك شيئا في نبرات صديقه ( أبو دوكه ) سأله أن كان ذاهبا لتوريد القروش – و لكن جبرين قال أن البئر قد انقطع فيها دلو كبير , و انه ذاهب ليطلب من الناظر أن يرسل غدا من ينزل البئر ليخرج الدلو , وطلب منه أن يحضر في الصباح لانه يحتاجه و افترقا.
    وفي الصباح حوالي السابعة و الأطفال ذاهبون إلي المدرسة و العمال إلي أعمالهم و التجار إلي متاجرهم ذهب ( أبو دكه ) إلي جبرين – رآها موحشة من بعيد .. و بمحاذاة المحكمة الأهلية وجد جمعا من أصدقائه يتهامسون – فعلم منهم أن (قنعت) و لما سألهم ماذا تعني الكلمة قالوا أنها قد رفضت الزواج من (ضلمة) وهددت بإلقاء نفسها في البئر أن حاولوا إرغامها .. صفق يديه و استمر في مسيرة كان مهرولا أوشك أن يجري ليوصل الخبر إلي صديقه وهو يقول لنفسه أتلقى بنفسها في بئر جبرين .
    و عندما اقترب من البئر شعر بوحشة و انقباض شديدين لم يكن هنالك أحد لم يكن هناك شي سوي (العنقريب) عاريا من كل فرش وفجاءة لاحظ نعلي جبريل وقد رتبتا بعناية عند فوهة البير – امتلا قلبه خوفا و جزعا .. فصاح صيحة النجدة المعلومة – كان (الكوراك) داويا عاليا جزعا , علي أثره أطلق الناس دلاءهم وجروا وتجمع حول البئر خلق عظيم – أعدت الحبال و نزل اثنان , هزوا الحبل و استعمل الناس البكرة في سحب الدلو و علي قمة فوهة البير ظهر جسمان جبرين خطفه صديقه واخرون و دخلوا به الكوخ سجوه علي ظهره انحني أبو دكه .. أبو دكه عليه يتأمل ذاهلا وجهه – وفي هذه المرة امتلأت حفرتا عينيه ماء حتى متابت الرموش .

    الأستاذ/ احمد الطيب زين العابدين
    السودان الحديث – من منظور سودانوي – 11/أكتوبر/1994

                  

01-04-2004, 04:39 PM

Elmamoun khider
<aElmamoun khider
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    دبيب يايا


    للوصول الي (شرف حسين) عليك الخروج من الديم الكبير من أتجاه الشمال تماماً . وما ان تسير مسافةساعة حتي تري أمامك الجبل الاسود الضخم يغيب مرات خلف الغمام و يظهر مرات , تتقدم قليلا فيظهر لك المنحدر الطيني , تحت اقدام الجبل الرابض , يظهر المنحدر مخضرا اخضراراً شديداً ,ينصفه جدول عميق ينتهي عند قاعدة الجبل , حيث العين الجارية , صيفا و شتاء . لا تجف ولا تنضب , يميل المنحدر كأنه كتاب أخضرمفتوح منمنم نمنمة خضراء , داكنة جميلة , عندما تقترب من اول المنحدر صاعداً من نهاية السهل المنبسط , تلاقيك "البلدات " مزارع الذرة الكبيرة تليها "الجباريك" وهي بساتين الخضر الصغيرة , في الطرف الجنوبي للقرية تماماً , بعدها تدخل قرية منظمة واسعة الطرقات تتسلق النباتات العالقة قطاطيها , عرائشها و اسوارها , نباتات مثل الليف و القرع المر و الشعلوب و الفقوس و التوت و العليق . و تضفي علي المكان جواً اسطوريا باهر الجمال . تجوس خلال القرية فتري حظائر الحيوان خلف البيوت ولصقها تماما . وصغار البهم مطلقة بين الدور تستمر بالسير أتجاه الجبل حيث بداية السرف فتلقاك بساتين الفاكهة أشجار الجوافة ... أشجار المانجو و البرتقال .. جنة لا يزيد عدد القاطنين فيها صغاراً و كباراً عن المائة .
    وشيخ القرية هو "يايا" و لعل المقصود يحي . ولكن هكذا يناديه أهل القرية , رجل في الاربعين بدين مهزار كثير الضحك , تبدو عليه الدعة و راحة البال و اليسار . و نادراً ما يعمل , يوزع نفسه بين زوجاته الثلاث وهن و أطفالهن يرعون كل شي يشغل نفسه بالصيد بعض الاحيان , يجمع الجلود النادرة ويبيعها في الديم الكبير , حيث يقيم العمدة خصمه الاول و شريك طفولته و صباه و الذي كان خاطباً لزوجته الاولي أم اولاده الكبار "اليما" التي تزوجها هو فقط لانها قريبته . ولضغط الاهل عليها للقبول به زوجاً, فقد كان شأنها و ابكر "العمدة" معلوما آنذاك .. وقد كان رجلا شجاعا ماهراً بالزرع , ذو همة و اقتدار , صار بحزمه و عزمه عمدة ثرياً قوياً , يحكم الديم الكبير . لهذا السبب حرم "يايا" علي "اليما" نزول الديم و اضطرها للبقاء الدائم في برد الجبل , كما حرم عليها حتي نداء الاطفال في الطريق ممن يدعون أبكر .
    حدث ذلك بالذات عندما دخل عليها "جبراكة" وهي ما تزال زوجة جديدة في عامها الثاني فوجدها تعزق الارض وتغني وتقول وهي لا تري :
    الله اوري لي سابي تولي
    الله خلي لي ابكر ديي
    الله زيدي لي أبكر ديي
    جوه شاشا لعب محاشا
    جوه شاشا لعب محاشا
    ضربها كما تضرب الحمارة , و اقسم لو أنه سمعها تقول "أبكر" مرة ثانية لطلقها . ومن يومها وهي لا تشير اليه الابقولها "العمدة" وحتي هذه لا ترضيه ..
    وفي يوم شاتٍ كان يجلس في بيت "اليما" عصراً يستدفي بشمس "السحرايا" الفاترة الدافئة, يحجبه من وراء ظهره "صريف" دقيق يمنع عنه الرياح الشمالية الاتية من الجبل , فاذا بابنه من زوجته الثانية وراعي غنمه يقتحم علية خلوته صائحاً:
    شالا شالا .. شالا يا "يايا"
    فأعتدل "يايا" في جلسته وقد قطب جبينه قائلاً
    - شنو الشالا ؟!
    - التيس .. دابي شالا.
    - دابي شالا ؟! دابي شنو .. قالها واقفاً.
    - دابي الكبير داك .. اصله شالا .
    صمت وهو يحملق في الغلام . يوشك ان يضربه فتدخلت اليما قائلة و هي ما تزال جالسة تنفض شعرها القصير
    - انت وين وكت شالا ؟
    - أنا قاعد . لكن خفتا منه . اصله كبير .كبير . من الله ما خلقاني ما شفتا اصله قدر دا.
    و بهدوء وبطء شديدين . وهو ما يزال واقفا مقطب الجبين جلس "يايا" علي السرير الخشبي العاري . واضعا كلتي يديه علي رأسه .. سال ولده الذي يقف بعيدا عنه خشية ان يناله اذي .
    - ياتو تيس شالا
    - التيس الابيض . الانت بعت اخوه في السوق الفات.
    - قريب محلو ولا بعيد .
    - قريب في طرف الجبل لكن دخلا كركور .
    خرج "يايا" مع أبنه وهما ما يزالان يتحدثا.هذا وقد بدأت كلمة (شالا) تتردد في جميع أنحاء القرية , الاطفال يصرخون في الطرقات شالا .. شالا .. مما خلق عن "يايا" شعورا بان هدوءه الرائق تحول الي شعور فضائحي و مناخ تحريضي مستمر , واحساس بحنق عميق غير محدد .
    عاين "يايا" المكان و أثار المعركة بين التيس و الثعبان و المغارة التي زحف اليها الثعبان الضخم . و عاد لداره وقد أوقفه العشرات يسالون . فمن قائل انها حبة "حقارة" لماذا تيس الشيخ دون الاخرين و من مذكر له بهول اعظم حجبه الله عنه – (بركة الما بقت في الوليد) و قد تجرأ يوسف ليقول أن الاصلة صبورة ما بتعرف الهزار , تعرف وين تأكل بأمان , فهم "يايا" معناه و شعر بمهانة شخصية عظيمة.
    وفي الصباح خرج الي الديم الكبير .. و معه سيف اسود قصير قديم لم يستعمله طول عمره .. وقد مات عنه ابوه . وقف في اول السوق عند شجرة سبيل الحداد . وهو من أبناء شرف حسين رفيق صباه صديقه
    - سبيل .. السيف دا دكم , ادي مبرد
    - سيف .. يا ساتر يارب , الله يستر .. وانت مالك ومال السيف .
    امسك منه السيف العاري – و استمر سبيل يقول , دا يا شيخنا ما سيف دا جوقودي , دائر نار قبال المبرد .. شنو .. دائر تطهر بيهو العمدة ولا شنو .
    ضحك "يايا" ملء اشداقه , وقال وهو مايزال راكبا علي حماره
    - هو العمدة هناي ولا شنو ؟!
    - واتا ماك عارفو هناي .
    دلف الي السوق ليشتري بعض حوائجه من التاجر أبراهيم وكان أيضا صديقا قديما وبعد أنس قليل قال له ابراهيم : الناس الجو حلتكم قالوا الاصله كانت دايره تخطف ولدك؟ وفي غيظ عظيم أخبره شيخ يايا بالقصة وان الاصله لم تخطف الا أخو التيس الذي اشتراه هو وان الاصلة ستاتيك في سوق الجمعة القادمة جلدا يشتريه . فضحك ابراهيم ضحكة متهكمة لما يعلمه من هذا الامر علي "يايا" و في عفوية و صدق ان جلود الاصلة يحضرها له العمدة أبكر فهو الذي يخرج لاصطيادها اما انت فلو خرجت لها اصطادك .. صمت يايا مليا وقام غاضبا ليركب حماره .. دون ان يحس ابراهيم كيف تبدل صديقه .. غشي سبيلا ليأخذ سيفه . فأخبره سبيل ان العمدة أبكر قد مر عليه لنفس الغرض . قال ان الاصلة ستكون خلال اليومين الاولين من التهام فريستها في (أمر ضيق) وقال انه خارج اليها في اليوم الثالث من اليوم .
    - بكضب .. هو ارجل مني ؟ .. خطفت تيسه ولا تيسي ؟ والله ما يشوفها بعينه.
    - تمنعو كيف ؟ .. دي صيده في الخلا .
    - دي صيدتي .. والله ما يشوفا بعينه .
    صعد الشيخ يايا الي شرف حسين و هو قد ملكته علي طول الطريق فكرة واحدة ان تعرض العمدة أبكر للاصلة هو طعن في رجولته , و مهانة لا تغتفر و فضيحة لن يسمح بها . وقر رايه علي مداهمة الثعبان الضخم قبل يوم من موعد العمدة غداً عصراً . وصل الشيخ يايا الي منزل زوجته الكبري اليما . دون ان يري شيئا او يسمع شيئا علي طول الطريق لم يشعر الا و هو هناك .. ترجل يسلمها الحاجيات وفي مهابة و حزر وضع السيف الابيض اللامع علي راحتيها الممدودتين . اخذت اليما السيف وهي تتامله . وعند باب القطية وقد عرفت نيته من الوهلة الاولي وقفت هنيهة ثم التفتت اليه لتقول :
    - يا ابو محمد الدبيب خليه غادي .. الشغل دا عنده ناسو البعرفو.
    التيس و راح , كرامتك و فدايتك . الله يهديك الدبيب خليه .
    - اليما خلي عندك أدب . دا كلام عوين .
    - انا نخاف عليك انتا . الشغل دا صبره ولا بعشوم , يقدروا ليه الموالفنه مثل العمدة اب...
    - اليما .. علي الطلاق خلي الاصله .. انا الزول نكتله.
    - ضحكت ضحكة خبيثه مكتومه .
    لم ينم ليلته تلك عند اليما .. وفي عصر اليوم التالي حضرليأخذ سيفه اعطته السيف وهي تحدق في عينيه كان صامتا وقورا وقارا لم تعهده فيه – لا يبدو عليه الجزع وان كان مهموما , وبعد خروجه وجهت ابناءها الثلاثة الكبار بمتابعته من بعيد , وفي وقت أقصر مما يظن وصل المغارة خلع جلبابه تركه بسرج الحمار الذي ربطه عند الحرازة الكبيرة وأخذ سيفه واتجه الي فوهة المغارة. انها المرة الاولي التي فيها يواجه الثعبان . لقد سمع كثيرا عن ينبغي فعله . ولكنه ما فعل ذلك فقط ولكنه كان ثابت الجنان كانت فوهة المغارة ضيقة جداً فأنبطح علي بطنه ينجر تماماً كما تفعل الاصلة يدب دبيبا يقدم سيفه . كان المكان مظلماً جداً ولم ير شيئا في البداية . ولكن رائحة المكان كانت كرائحة الكنيف . فضلات الاصلة و الوطواط و غيرها , جعل يزحف في بطء ويقراء سورة الاخلاص . وقليلا قليلا الفت عيناه الظلام فراي امامه الجسم الاملس اللماع ممدداً علي طول المغارة بلا تعاريج ولا ان صار بمحاذاة راسها . فجلس القرفصاء و عند جلوسه أحس برجليه ترتعشان. بدأ يغني بصوت خفيض كأنه يطمئن نفسه .
    كايو مدنقايو. كايو مدنقايو
    ولكن هذه اغاني الاطفال يغنونها و هم يجرون وراء الجراد . وهذه مصيبة .. هذه أصله و بدأ من جديد ..
    كايو دبيبايو – اميكي اليمايو
    ضعت ليكي شغلايو
    قال تمشي تشربايو
    كايويتي دبيبابيتي – امكي اليمايتي
    ضعت ليكي سفولايتي
    قال تمشي شربايتي
    بداها بصوت خفيض رخيم , صار يعلو قليلا قليلاً و هو يمسح علي راسها بأصابعه البدينه اللينه بأتجاه ظهرها كانت هنالك رعشة ناعمة لا يعرف ان كانت في يديه او في عنق الثعبان الذي بدأ نائما التفت الي داخل المغارة ليري بطنها المنتفخة حيث يرقد التيس الابيض .. وفي لحظة .. وكانما قد سئم هذه المداعبة المرعبة ثبت قدميه علي الارض تماما و هوي بكلتي يديه و السيف الحاد علي عنقها .. وبعدها كان الطوفان و هاجت المغارة و ماجت كانت كسيل عارم يحمل الحجر و الشجر و الدم و البعر و تركزت رائحة الزرنيخ و البول . فزحف ودب يريد المخرج في جنون .. شعر كان اكياسا من الرمل البارد المبلل تلقي عليه تباعا علي صدره . ظهره و جنباته جعل يصيح و يصيح و المغارة ترد صياحه و أذا بأبنائه الثلاثه عند الفتحة يصيحون جميعا يايا .. يايا ..يايا صارت الفوهة اضيق من سم الخياط كانت المغارة ما تزال تمور عندما سحبه ابناؤه الي الخارج يغطيه الدم و التراب , كانما قد رضت عظامه رضاً.. سحبوه سحباً الي حيث الحمار .. رفعوه فوقه دون ان يلبسوه جلبابه . ركب خلفه محمد يسنده .. انحدروا الي القرية و قد بدا آذان المغرب سالوه عضاك ؟ ..لا .. لولوت فوقك .. لا .. عصراك .. لا ثم أمرهم بالصمت و أن ياخذوه الي بيت "اليما" ثلاثة ايام لم يخرج فيها من بيت "اليما" ولم يذكر انه غادر السرير ماأنقطعت عنه رائحة المغارة و الزرنيخ . هاجمته في احلامه الحية ثلاث مرات اعتصرته مرة حتي تكسرت ضلوعة و تقاطر دماً حاراً .. ايقظته ليلها حليمة لتقلب المرتبة وتعيد ترتيب الفراش . ولكنه عاد لنفسه وقد أمتلات الدار بالمهنئات و المباركات . سئل عن الاصلة فاراه أبناؤه جلدا طريا طويلا امتد من سريره الي خارج القطية فاشرق وجهه اشراقة لم تنطفي الي يوم الجمعة القادمة غسلت له "اليما" جلبابه الخاص و عمامته و طاقيته البيضاء طبق الجلدالضخم الطويل تطبيقا ناعماً. وضعه علي السرج و جلس علي قمة حماره الابيض بأتجاه الديم الكبير . و لاول مرة سارت خلفه ممسكة بالسرج "اليما" و علي رأسها "ريكة" مملوءه ثماراً يانعة – انحدرا الي المدينة يتأنسان و يضحكان .. اقتلعت له عنكوليبة من زراعه عندما مرا عليه كسرت القصبه نظفتها و اعطتها له قضمها و ماذاق في عمره احلي منها.


    احمد الطيب زين العابدين
    من منظورسودانوي
    8/فبراير / 1994 م
                  

01-06-2004, 11:24 AM

Elmamoun khider
<aElmamoun khider
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    قرون و جرون

    من بعد زلة ابينا ادم , وسقطته المهلكة , و نزوله للفانية , بدأ عمران اليابسة . وكانت الدنيا غضة يانعة رطيبه . كانت في اول ايامها , ما فقدت حساسيتها الشديدة .. واحساسها بالحياة رغم صمتها البادي فقد كانت الطبيعة تستجيب للانسان تحس احاسيسه . وتدرك بعض مقاصده و تستجيب له.
    في هذا الزمان سكن احد احفاد ادم تلا عاليا , بني داره في قمته . واسكن ابنه الاكبر (جرون) علي السفح الايمن للتل . واسكن ابنه الاصغر (قرون) علي السفح الايسر للتل . وكان حفيد أبينا ادم هذا . شيخا حكيما من حكماء الله الاقدمين. ذو بصر بالدنيا , و معرفة باهله , يرقب من علياء داره كيف تنامي و يزيد بنوه وكيف يتعلمون علوم الدنيا . كان ابناه قرون و جرون يخرجان سويا كل صباح باكر يضربان في الارض يجوبان السهول والاودية . ويأتيان آخر اليوم وقد جمعا خيراً كثيراً ثماراً ولحم طير و اسماكاً . يأتيان بكل ذلك للشيخ الكبير ليوزعها بينهم بأعلي التل . ولم يكن هذا الشيخ الكبير يسعد بما يجمعان .. كان يقول دائما عندما يريدان الذهاب لأهلهما.. أنتما مازلتما جزءا من الطبيعة و الحيوان .. كونا بشرا .. كونا بشرا.. و ما كان الولدان يدركان معناه. ولكنهما يفرحان بجمعهما الذي يجمعان . ينحدر (جرون) يمينا الي رهطه و معه الطعام . وكذلك ينحدر (قرون) شمالا الي رهطه و معه الطعام وكلاهما سعيد ..
    و هكذا أستمر الحال زمانا ولكن طبائع الاشياء لا تدوم وطبائع الانسان تتغير ..فتغيرت طبائع الاخوين ..
    صار (جرون) محبا للنبات , راصدا له . متحدثا اليه عارفا به.. عرف عن النبات أنه يمكن ان يستزرع . وصار (قرون) محبا للحيوان راصدا له .متحدثا اليه عارفا به .. عرف عن النبات انه يمكن أن يستزرع . وصار (قرون) محبا للحيوان راصدا له يكمن له يمسك صغاره عرف ان صغير الحيوان يمكن أن يربي وأن يستانس .
    وفي يوم من الايام دعا (جرون) اخاه الي واد ممرع , فإذا هما أمام مزرعة زاهية للذرة البيضاء . بيضاء ناصعة البياض مستوية أوشكت علي النضج . قال لاخيه هذه (مزرعة) وهي جماع حكمتي و علمي الذي لا تعرفه أنت . ذق هذه النبته . ذاقها (قرون) فاستطابها و استحلاها جدا واراد أن يأخذ منها لرهطه فمنعه أخوه.
    وفي اليوم التالي دعا قرون أخاه جرونا الي منطقة حصينة بين جبلين بها حظيرة متينة. و ذهل (جرون) عندما رأي بها غنما كثيرة , صغارا و كبارا- دخل قرون الحظيرة فإجتمعت حوله الاغنام وقد علا صوتها .. جلس و حلب لبنا قدمه لأخيه .. شرب جرون اللبن و استحلاه . اراد ان يأخذ منه لأهله فمنعه أخوه .. أتفقنا علي أن يأخذ كل ما لديه اليوم الي الشيخ الكبير والدهما . وان لا يجمعا من الخلاء شيئا .. شوي (جرون) لوالده كوزا من الذرة وسقاه قرون لبنا حليبا. فرح الشيخ الحكيم حتي دمعت عيناه .. هز رأسه وقال لقد صرتما بشراً لقد امتلكتما ما بين الميلاد و الموت ... الحياة ... كانت قبل هذا صدفه .. صارت فعلا .. لقد لقد أختلفتما .. فتعلما كيف تصبران.. أذهبا الان ولنا لقاء .. لم يفهم الولدان مقصد و الدهما ولكنهما فرحا لفرحه و انصرفا سعيدين بحديثه الطيب .
    حصد جرون زرعه ورأي أن يدفن الغلة ليخزنها فطلب منه قرون أن يعطيه قليلا من حصاده لرهطه فإعطاه . وساق قرون بعضا من أغنامه لاخيه ففرح بها . ولكن قرونا ترك الغلة بجوار الحظيرة فوقعت عليها الاغنام و ولتهمتها بشهية فائقة مما أثار دهشة قرون .
    وفي العام التالي , عند وقت الحصاد , جاء قرون مبكرا يطلب شيئا من الذرة لرهطه و غنمه فرفض جرون وقال لأخيه أعطيك لنفسك و أهلك .. ولا أعطي غنمك شئيا .. ولكن قرونا كان محبا لغنمه فثأر بينه وبين أخيه شجار حاد في المزرعة أمام كل سنابل الزرع . التي حزنت فأصفر لونها و انحنت رقابها و تدلت و جوهها خجلا باتجاه الارض . وعندما حمل (جرون) محصوله الي اعلي التل الي ابيه قال الرجل الحكيم القديم . أن النبات قد تغير .. فهل تغيرتما؟! فطبائع الناس تؤثر علي طبائع الاحياء .. قال جرون نعم وحكي الحكاية و عندما حضر قرون باللبن زجره ابوه ولاومه . فغضب و اضمر شيئا.
    وفي الموسم القادم و عندما استوي الزرع . جاء قرون بكل قطعانه يضربونها بالعصي علي قرونها ورؤوسها حتي التوت القرون الي الخلف كما هو حال قرون الضأن و المعيز الي يومنا هذا . لقد كانت معركة دامية .فأشعلت سنابل الزرع و ادمت و احمرت خجلا لما كان . و عندما حمل (جرون) حصاده الي لوالده بأعلي التل فزع الشيخ فزعا عظيما لما راي السنابل الحمراء .. وصاح فيه لقد أدمت السنابل ماذا حدث ؟! حكي جرون لوالده كل الحادثه .. وكيف تشوهت قرون الحيوان و احمرت السنابل فقال الشيخ و هو واقف يرتعد .. لقد اختلفتما جدا .. لقد اختلفتما جدا .. لابد من يوم الوفاق .. وطلبالشيخ الحكيم كل عياله و أختلي بجرون و قرون كلا علي حده .. فخرجا صامتين و انحدرا يمينا و شمالا .
    أعد الشيخ الحكيم هو عياله الصغار ليوم الجمع العظيم أناء خشبيا ضخما يشبه المركب و منذ الصباح الباكر جاء من ايمن التل رهط (جرون) رجالا و نساء يلبسون الكتان الابيض و يحملون الدقيق .يتغنون و يعزفون الحانا رقيقة حزينه علي مزامير قصبية رقيقة . وحال وصولهم الي اعلي التل بداوأ في اعداد الخبز (عصيده ضخمة) يملأون بها الاناء الخشبي الذي صنعه الجد الشيخ الحكيم .. استمر العمل طوال النهار و تل الخبز يرتفع الرجال يحتطبون النساء يطبخن وتل الخبز يعلو ويعلو.. و جاء رهط (قرون) من ايسر التل عصرا جاءوا في جلبة يقعقعون عصيهم و يضربون الارض بأرجلهم و يصدرون أصواتا وحشية عجيبة و كانوا يلبسون الفراء .. جاء كل واحد منهم يحمل قرعه ضخمة من لبن صبوه علي تل الخبز (العصيدة) و جعلوا يعدون يحضرون مزيدا من اللبن . كان الناس علي جانبي التل العظيم كما النمل صعودا و هبوطا وعند مغيب الشمس خرج الشيخ العظيم و توقف كل شئ .. امرهم بالجلوس الي الطعام قائلا .. اجلسوا الي زادكم الخبز واللبن و جلس كل رهط الي ما يليهم من جانب تل العصيدة فلم يروا أبناء عمومتهم لضخامة الخبز و بداوأ الاكل في تلذذ شديد وبعد برهة برزت الرؤوس من وراء تل العصيدة وراي أبناء العمومة أهلهم بعضهم لأول مرة وكانت هنالك فتيات رائعات الجمال و رجال بالغي القوة و الوسامة ..وبداوأ يتحدثون لبعضهم البعض و يضحكون و يسالون عن الاسماء و هم ياكلون .. و عندما أنهار تل الطعام تماما قام الجميع يتغنون و يرقصون . و عند منتصف ليلة مقمرة رجع رهط (جرون) ومعهم كثير من الازواج الاقوياء لبناتهم و رجع رهط (قرون) و معهم كثير من الزوجات الجميلات لابنائهم . وفي قمة التل العتيق وقف الشيخ الحكيم يضحك ملء أشداقه يتلفت تارة يمينا و تارة يسارا .ولم يقل شيئا هذه المرة .

    أحمد الطيب زين العابدين
    من منظور سودانوي
    25/10/1994 م
                  

01-06-2004, 11:38 AM

Tumadir
<aTumadir
تاريخ التسجيل: 05-23-2002
مجموع المشاركات: 14699

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    مامون...

    ما اضخم هذا الجهد الذى قمت به هنا..لتوفى اهل الوفاء الوفاء...

    لك التحيه...والخلود لمبدعنا الراحل..
                  

01-15-2004, 10:01 AM

Elmamoun khider
<aElmamoun khider
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في زكـــري رحـيل الاستاذ المـبدع المفـكر احـمد الطيب زين العـابدين (Re: Elmamoun khider)

    الاستاذعبد القوي
    شكرا للمشاركة في ذكري الراحل الاستاذ احمد الطيب صدقني يا عزيزي ان لدي من القصاصات الكثير عن الراحل كنت اود انزالها حتي تكون ارشيف لهذا الاصيل ولكن ولكن ولكن تبقي لقمة العيش لها القدر المعلي من وقتنا الجميل رغم انفنا..

    الاستاذه تماضر
    لن اشكرك علي واجب وانت خريجة الصرح الجميل الذي لايزال يصيغ وجدان شعب لازلنا نراهن علي تفرده في جغرافية كوننا ذلك المجهول وما بين كلية الفنون و المسرح نسب منذ قديم الزمان .
    مزيدا من المساهمات
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de