في الذكرى الحادية والتسعين لميلاد المرحوم الأستاذ عبد الخالق محجوب، 1927-2018
لا أعرف من استشعر خطر الحداثة على وظيفته السياسية مثل الناظر بابو نمر. فمن طرفه المتداولة أنه قال الشيوعي يركب القطر من عطبرة منقول بابنوسة كارس طوال السكة. فما نزل بقدمه في بابنوسة حتى هتف: "تسقط الإدارة الأهلية". عَرِف الناظر بالقاطرة أن ظهره انكشف ودخلت "الرجل الغريبة" داره/ ولها في وظيفته رأي سلبي في سياق مشروعها للدولة الحديث. وعرضت في الكلمة الأولى لبصمة عطبرة الشيوعية على المرحوم الطاهر عبد الرحيم بمدينة الرهد أب دكنة كما عرضها علينا السفير خالد فرح. واتناول في هذه الكلمة ما كتبه الشاعر عالم عباس عن الشيوعي مأمون ود الوكيل بمداد العرفان لفضله عليه في "ارتكاب" طريق الشعر، وعلى ولاية دارفور ب"رسالة دارفور" الأسبوعية التي حررها لتذاع بإذاعة أم درمان. جاء مأمون مع والده إبراهيم محمد وكيل البوستة منقولاً للفاشر. ولما نزل والده المعاش في 1963 ترك ابنه، الذي تعين بوزارة الاستعلامات والعمل، ليقيم بدار صديقه والد عالم. ووصفه عالم فقال إنه كان وسيماً، قمحي اللون، مع اكتناز في الجسم وضخامة في الرأس، بشعر كثيف مجعد. وسَمته في اللبس أنه كان لا يحشر قميصه نصف الكم في بنطاله، بل يتركه طليقاً. كان بدء عمله في التحرير بالنشرة الإخبارية التي كان يصدرها مكتب الاستعلامات بالفاشر. وجعل من هذه المطبوعة على الرونيو، التي اقتصرت على أخبار المصالح الحكومية، صحيفة مقروءة ومُنْتَظرة من القراء كل ثلاثاء. فقد أعاد تبويبها، وجعل لها غلافاً صقيلاً، ونوّع موادها. ووظف هوايته المقاربة للحرفية في التصوير لإخراج النشرة على ذلك النحو. ثم وجد لمواهبه منفذاً في "رسالة المديريات". وهي رسالة إذاعية استنتها إذاعة أم درمان في أوائل الستينات. فحددت يوماً في الأسبوع لكل مديرية لإذاعة أخبارها وبعض ثقافتها وفنونها. وتوافر مأمون على تحرير رسالة دارفور فخرج بها من الضيق إلى الرحابة بجعلها برنامجاً توعوياً تثقيفياً وتوثيقياً من الدرجة الأولى. لم يدخر وسعاً لتكون الرسالة أداة لعرض ثقافة دارفور وحياتها. كان يسهر عليها الليالي مع عالم وخاصة ليال الخميس والجمعة والسبت لتجهز بالأحد، وتحملها طائرة ذلك اليوم إلى الخرطوم لتذاع الساعة السابعة من مساء الثلاثاء. وكانت مما ينتظره أهل دارفور لأنهم وجدوا أنفسهم فيها. اختار مأمون لموسيقي الرسالة الافتتاحية شئياً من إبداع دارفور. فبدأ بمعزوفة "النغم الحزين" للشاب حافظ عبد الرحمن بصفارة الأبنوس. ولم يكن حافظ، الذي كان بنيالا، شيئاً مذكورا. ثم جدد الافتتاحية بمعزوفة على آلة "الكُرّبي" للمغني "البصير" سنين رزق. وجاب مأمون سهل دارفور وجبلها ليسجل حوارات مع حملة تراثها. فأظهر فن "الهدايين" من أمثال على قماش حلو، وراضي عبيدهن "نبال هوسا" وغيرهما. وقدم غناء الحكامات يعرضن مواضيع غنائهم، وأسرار المراحيل، وصفات السعية، وأماكن النشوق والدمر. وجاذب النظار والمشائخ الحديث عن الأعراف وتاريخ مجتمعاتهم. وعرض عليه سنين رزق معارفه السخية عن تاريخ شعب المساليت بغنائه العذب. وقصّ ملحمة "دروتي" والسلطان تاج الدين. ووصف الآلات الموسيقية المحلية، وصناعتها، وطرائق عزفها، ووظائف أوتارها التي لكل استخدامها بحسب الفصول. ووثق مأمون في رسالته لذكريات فضل موسى الذي جاء في جيش غزو دارفور الاستعماري. وهي مذكرات شغلت الناس وأمتعتهم. فلم تكن رسالة دارفور بفضل مأمون الوكيل "رسالة وتفوت". كانت مستودعاً لثقافة دارفور. وتأسف عالم عباس كثيراً أن مأمون لقي خلال خدمته تلك لدارفور عنتاً ممضاً من بيدهم الأمر وإن سره بعضهم أحيانا. نهل عالم عباس من موارد مأمون الغراء. ونسب له الفضل في ما كان وما سيكون بإذن الله. فقال: "لمأمون هذا أثرٌ كبير في تشكيل حياتي الثقافية، وعلى المنحى الذي اتخذته في كتابة الشعر، وله عليَّ فضلٌ، لا أفتأ أذكره". ووصفه بسعة الاطلاع. اشترك في مجلة الآداب البيروتية، والمجلات المصرية: الطليعة، والكاتب، وروز اليوسف، وصباح الخير. وقال إن مأمون هو من عرّفه على أشعار البياتي، وصلاح جاهين، وناظم حكمت. وأنتاب مأمون حُزْنٌ عميق حين سمع بموت ناظم. وكان يعزي نفسه بترداد أبيات صلاح جاهين: عَمِّ ناظِمْ، بعد ما طابْ وقاعِدْ في الجنينة، يقرا في الجُورْنالْ ويكتُبْ جواباتْ، قالوا مات! وحدُث مأمون الشاعر عالم، وهو في سنوات الثانوية الأولى، عن صلاح أحمد إبراهيم، وعن بركات موسى الحواتي، وعن صديق محيسي، وعن عبد الله علي إبراهيم. واطلعه على "مجلة الخرطوم"، التي صدرت عن وزارة الاستعلامات وحررها قيلي أحمد عمر. وقرأ فيها لمحمد المكي إبراهيم، ومصطفى سند، وعبد الله شابو، وسبدرات. وذكر عالم من سبدرات قوله: يا نهدها اشرأبَّ ناطح القميص ما انكسر. وذكر من قول الجيلي عبد الرحمن: الليل ينيخ على أفق مدينتنا والشارع مربد، ماذا تلد الهرة سوداء الأبوين سوى هرٍّ أسود! وحدثه عن كوبا وفيدل كاسترو. وكان عندما يحكي عن جيفارا كأنه كان يحلق معه فوق جبال سيرا ماديرا. وحدثه عن ماو والثورة البلشفية، وعن بوشكين وتولستوي. وقال عالم إنه تعجب كثيراً متى توفرت لمأمون هذه المعارف في سنه تلك. ووقف مأمون مع عالم عباس وهو يعثر في طريق الشعر حتى الإحسان. كان عالم يكتب شعراً تقليداً لما يقع في يده. ووجد في ثورة أكتوبر 1964 مادة لقصيده. وكان مأمون، متى سمع من عالم، راجعه فيما وصفه ب"التقريرية" في شعره، أي المباشرة في القول. وكان يريد له أن يكون أخفى وأوقع. ولم يدر عالم مأخذ مأمون عليه. فكان يطلعه على نماذج من الشعر للقدوة. فأطلعه على نص قال عالم إنه ربما كان من وضعه. قال فيه: يا ابن الوليد صدأُ السيوف أعداؤه النيران والكلم المجلجل والسيوف ودل عالم لينجو من المباشرة بقراءة البياتي الذي عسر عليه. وأطلعه على الفيتوري. وتناوشت مأمون المصائب بعد نقله لموطنه في عطبرة. فتوفي والده الوكيل وصهره نجم الدين الشريف المدير الثاني لمصلحة الآثار. وزاره عالم في حلة الحصايا بعطيرة. ثم حملت عالم الغربة فلم يعد يراه إلا من خلال رسائل متباعدة علم منه أنه جاء الخرطوم في وظيفة مصحح بأحد صحف الإنقاذ. وختم عالم كلمته بقوله: " في إحدى الإجازات صعقتُ بنبأ وفاته، ويا شدَ ما حزنت ولفني الأسى. فلو أن أهل دارفور، وبالأخص هذه الأيام، يقيمون تمثالاً لأحد وفاءً وعرفانا لكان لهذا المحسي النبيل، الذي عشق أهل دارفور، ونبش وأجلى أجمل ما في تراثهم فَعَرَّفَ الناسَ بها، دون مَنٍّ أو أذى".
حاشية: ذكرني شغل مأمون الوكيل هذا بشغل عوض محمداني، مدير مكتب استعلامات الأبيض، برسالة مديرية كردفان. وذكر معاوية يسن في كتابه عن الغناء إحسان محمداني مثل ذكر عالم إحسان مأمون ود الوكيل. فظل الرجل على مدى 11 عاماً يحرر هذه الرسالة من استوديو بدائي. وكان نافذة للأغنية الكردفانية. بل كان برنامج "ربوع السودان" نفسه من وحي مغن من المسيرة فرض على الإذاعة الاستماع إليه فألهم يسن معني التقدم باقتراح برنامج الربوع فأجازه الخانجي مدير الإذاعة. توقفت عند هذه الرسائل الإذاعية ومحرريها لكي أراجع شكاة ًكثيرين في حركات الهامش من المركز الذي أهمل ثقافاتهم. ومع اتفاقي معهم أن المركز لم تتفق له استراتيجية ثقافية أو تربوية بعد لاستيعاب تلك الثقافات إلا أنك تجد مثل محمداني وود لوكيل ممن انتهزوا ثغرة في المركز فخدموا ثقافات الهامش بعزيمة وقوة ومحبة الوطن. وأذكر أنه لما جاء وفد المقدمة من الحركة الشعبية إلى الخرطوم بعد اتفاق نيفاشا في 2005 كتبت كلمة أسألهم أن يضعوا معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم ضمن جدول زياراتهم. وقلت لهم أنكم، متى وقفتم على ما قام به المعهد من توثيق لثقافات الهامش، ربما خففتم وطء نقدكم للمركز في شيء واحد: بالعرفان لمثل محمداني وود الوكيل ويوسف فضل حسن ممن أدخلوا جَملاً من ثقب إبرة كما كنا نقول في الحزب الشيوعي على عهد الفريق عبود. وكنا نعني توظيف كل مساحة يخليها النظام تحت الضغط لتمرير شغل سياسي كبير. وسأنشر الكلمة لاحقاً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عبدالله علي إبراهيم
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست