▪مالذي يميز المعرفة المتخصصة عن المعرفة الثقافية ، المعرفة المتخصصة ذات شقين اولهما منهجي والآخر موضوعي ؛ أما الشق المنهجي فهو أنها معرفة استيثاقية ، أي انها تخضع للتجريب والملاحظة من خلال أسلوب منظم ، يعمل على ضبط المقدمات قبل كل شيء حتى ولو لم تكن المخرجات على المستوى المأمول. أما الشق الموضوعي فهو توجيه التركيز نحو حقل معرفي معين ، بحيث يكون هما للباحث العلمي. وهذا التركيز (التخصص) يعني إلماما أكثر عمقا من الناحية النظرية والعملية بالشيء. وهذا الشق الأخير كان محل نقد مستمر باعتباره يهمل ضرورة التوسع المعرفي بحيث تتكون لدى الباحث حصيلة معرفية تعينه على تكامل العلوم. ومن هنا راهن الكثيرون على الثقافة المعرفية وطالب بها من خلال استصحاب بعض مواد العلوم والفنون الأخرى داخل المنهج الدراسي. ومن جانب آخر فالثقافة كمعرفة شيء من كل شيء ووجهت بانتقادات عدة ، حيث انها معرفة في كل الأحوال ناقصة ، وهي معرفة يصعب ان تواجه اي نقد تخصصي ، كما أنها معرفة غير منتجة علميا ، بالاضافة الى كونها غير مؤسسة منهجيا. لا نرغب هنا في الاستمرار في تبيان صلاحية او تفوق ايا من المعرفتين ، ولكنني ارغب قبل كل شيء ان ابين الفائدة التي يتزود بها التكوين الثقافي من خلال التفكير العلمي الممنهج. وذلك في كل الاداب والفنون. كما ان التكوين الثقافي يلعب دورا هاما في دعم القدرات التحليلية للمعرفة العلمية المتخصصة . فالعقل العلمي يتدرب على خاصية هامة وهي تنظيم المعطيات ، والتنظيم هو اول بدايات تماسك الموضوعي لمحل الدراسة ، عبر المنهج الوصفي ، تليه مناهج أخرى كالمقارن والتحليلي وخلافه ، ولكن الاهم هو التدريب على تنظيم المعطى الخبري أو المعلوماتي أولا ، فالتنظيم هو ما يكشف عن الشواذ من المعلومات ، ويفصل ما هو مجمل منها ، ويخلق منها نسقا مرتبا تنكشف من بين ثناياه عدة احتمالات ونتائج وتوقعات وتأويلات وفرضيات. المعرفة الثقافية تحتاج بدورها الى ذات التنظيم المنهجي ، حتى تتجنب الاضطراب والعشوائية ، وانعدام الغاية والهدف ، وبالتالي تتجاوز هذه المعرفة اول مساوئها وهي ضعفها أمام حجج المعرفة المتخصصة ، بالتأكيد لا يعني ذلك تجاوزا مطلقا لكنه تجاوز في إطار الاستخدام المعقول للمعرفة الثقافية داخل بنيات اخرى واهمها الآداب والفنون والاعلام. وهي أطر تخفي الضعف في بنيان المعرفة الثقافية لأنها تستفيد من عوالق الكثير من العلوم المتعددة ، لتبني عليها أدبا أو فنا. يمكننا هنا ان نضرب لذلك مثالا ببعض الأعمال الأدبية ، وأهمها بالتأكيد رواية العطر لباترك زوسكند ، فرواية العطر هي رواية مفتوحة ، ليس فقط من ناحية البدايات وصلب متنها وانما حتى في نهايتها الغرائبية. الا ان الكاتب استفاد من المعرفة العلمية المنهجية في تكثيف البعد الفلسفي لمقولة قديمة جدا وهي أن لكل انسان رائحته الخاصة. هذه المقولة بالتأكيد دفعت بزوسكند الى البحث والتنقيب عن علم التقطير والعطور ، مما مكنه من تجسيد قوة البطل الخارقة في التمييز بين الروائح الى درجة ارتكاب جريمة القتل لصنع رائحته الخاصة من تقطير جثة الفتاة. زوسكند لم يتعامل بسطحية او بشكل هامشي مع المعرفة بهذا العلم بل درسه دراسة منهجية ، وهذا واضح من المعلومات شديدة الدقة التي استطاع ان يدبج بها المناخ العام للرواية ليثري قابلية الرواية للتأويل. كذلك الحال في رواية الكهف لجوزيه سارماغو ، حين استفاد الكاتب من أحد المهارات الدقيقة وهي صناعة الخزف. كذلك يعتبر استخدام المعرفة العلمية المنهجية هاما جدا فيما يتعلق باستخدامها الثقافي في الأعمال الأدبية التاريخية كاسم الوردة لايكو أو الجبل الخامس لكويلو ، او شوق الدرويش لحمور زيادة ...الخ. فالعقل العلمي اذن هو عقل له دربة كبيرة بتنظيم المعطى ، والمعرفة الثقافية تستفيد من هذه الدربة في تمظهراتها المختلفة. وفوق ذلك فالعقل العلمي المنهجي يحث المثقف على خلق هم محدد يسعى المثقف لاشباعه بقدر المستطاع ؛وهكذا تتجاوز المعرفة الثقافية النقد الموجه لها بكونها معرفة فسيفسائية ناقصة وفوضوية. عموما نحن نمارس المعرفة العلمية حتى ولو لم نكن قد تدربنا كفاية على أدواتها المعتمدة ، فالاستيثاق والتركيز ثم ترتيب المعلومات ، أمر يقوم به الجميع ولكن بمستويات مختلفة. بدءا من الحلاق وحتى ربة المنزل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة