اذا كان الجهل بالقانون ليس عذرا مقبولا لتبرير اي سلوك ضده فإن هذا المبدأ قد شهد رافضين له بحجة قوية جدا وهي ان القوانين قد تضخمت بحيث لم يعد القاضي نفسه ملم بها ، ناهيك عن الاشخاص العاديين . للاسف يعتبر التضخم التشريعي أزمة كبيرة بدلا عن ان يلعب القانون دوره في زيادة السلام العام عبر تنظيم العلاقات الانسانية ، لقد ادت كثرة القوانين الى عدم معرفة الفرد بحقوقه والتزاماته على نحو دقيق ، فقد يتم نفض التراب عن قوانين غريبة جدا ، لم تكن معروفة او قوانين قديمة ، بحيث يفقد الشخص ثقته القانونية ، كما ان تضخم التشريعاته يؤدي الى استغلال الحكومة لهذا التضخم عبر طمر القوانين تحت النسيان واستخدامها فجأة ضد خصومها السياسيين ، وتؤدي كثرة القوانين الى زيادة احتمال تعارضها وتضاربها ، مما يضعف دورها التنظيمي ، ويخلخل استقرار المراكز القانونية كما يزيد من البيروقراطية . لكن في المقابل فان انصار التشربع يقولون بأنه لابد مما ليس منه بد ، فمن ايجابيات كثرة القوانين عدم ترك وظيفة التشريع للقضاء وهو غير متخصص في مسائل تحتاج الى جوانب فنية ، وفوق هذا يضمن التشريع الاحاطة بكل الظروف والتصورات الممكنة ومن ثم يزيد من حالة استقرار المراكز القانونية ، مما يشيع السلام الاجتماعي ، وان كثرة القوانين تقلل من اي خيالات لدى السلطة لانتهاك حقوق وحريات الافراد حينما تجد الحكومة نفسها محاطة بقوانين كثيرة تضبط سلوكياتها . ان الجدل بين الاتجاهين لا ينتهي في الواقع ، فما بين الداعين الى التدخل التشريعي المستمر وما بين الرافضين له يسيل مداد كثير ، والواقع انا من المناصرين للاتجاه الاول ، اي ذلك الرافض للتضخم التشريعي ، وذلم بناء على موقف ايدولوجي ثابت ، وهو احترام الحريات الفردية ، فكثرة القوانين تؤدي الى مزيد من القيود على الحرية الفردية باعتبار ان القانون هو عبارة عن قواعد سلوك تخاطب الافراد قبل كل شيء وباعتبار ان القانون هو مجموعة قيود ترسم حدود كل حق ، وهذا ما يجعل كثرة التشريعات مؤد بلا شك الى كثرة القيود على الحرية الفردية ، هناك قاعدة في الفقه الاسلامي اراها مهمة جدا وهي قاعدة يتجاهلها المختصون ، رغبة منهم في التدخل المستمر عبر التحريم والاباحة ، وهي قاعدة أن الاصل في الاشياء الاباحة ماعدا الدماء والنساء ، الاصل في الاشياء الاباحة مبدأ عظيم جدا لأنه ينطلق من قمة الليبرالية ، اي قمة الحرية الفردية ، بحيث يجعل هذه الأخيرة هي الاصل فلا يمسها قيد الا بنص ، الأصل في الاشياء الاباحة مبدأ هام جدا لفهم ان عملية التقييد لابد لها من نص صريح وواضح ولا يحتمل اي ظنية سواء في ثبوته او في دلالته. لكن طبعا الكثير من رجال الدين لا يحبون هذا المبدأ لأنه يصادر على نفوذهم في التدخل في كافة شؤون الناس ، لذلك هم يحاولون بقدر الامكان عكس هذا المبدأ فعندهم الأصل في الاشياء الحظر ، ومن ثم فإن فك الحظر لابد له من فتوى من رجل دين ، وهكذا يتمكن رجال الدين من السيطرة على الجميع فبيده مفاتح الامر والنهي.. ربما لم يحاول كثير من المستنيرين تناول هذا المبدأ الاصولي بالتشريح والتفكيك ، واعادة وضعه على الواجهة ليكون منارة حركة اي خطاب ديني او توجه تشريعي او ايمان ليبرالي ، ومع ذلك فاننا نستعير هذا المبدأ لندعم رأينا المناهض لكثرة التدخل التشريعي ، مسلمين بأن الأصل في الاشياء الاباحة وان قلة التشريعات تعني انضباطها وعدم تعارضها وعدم تدخلها في الحريات الفردية بشكل متعسف ودائم. هنا يجب التأكيد على ان القضاء حينما يمارس دوره الحتمي في سد اي نقص تشريعي فإنه لا يلعب دور المشرع ، بل هو يمارس وظيفته الاساسية وهي تحقيق العدل ، كما ان يده ليست مطلقة في عملية سد الفجوة التشريعية والواقع ، فهو محكوم بمبادئ كثيرة تمنعه من التعسف في استخدام سلطته التقديرية هذه (والسلطة التقديرية هنا تنصب حول تحديد اتساع او ضيق استحقاقات العدالة في مسألة معينة) .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة