قد تجتمع في المرأة النزوة الجامحة والحكمة معاً.. بل هما مجتمعتان في كل إنسان.. فالحكمة لجام النزوة وسبيل الصواب، والنزوة قوة العقل الكامن المطبوع التي تجعل الخليقة تستمر فتعوّض بها ما يموت منها، ولكنها أقوى في الرجل منها في المرأة، أما إذا حسبها المجتمع وسد منافذها في المرأة تصبح عاتية لا يقدر العقل على لجمها، وذلك لتراكم قوتها وراء السد، إلاّ إذا كان الإيمان قوياً والإرادة صلبة.
ولكن في جزيرة «تريبليون» يختلف الحال فتبدو النساء رجالاً ويقوم الرجال بكافة أعمال النساء.. هذا ما شاهدناه في الرحالة المكسيكي «كريسناندس» الذي طاف الدنيا كلها ودرس عادات وتقاليد الشعوب.. ففي تلك الجزيرة التي بلغ عدد سكانها 500 نسمة نصفهم من النساء حيث لا يستطيع الرجل القيام بأي عمل مهما كان نوعه إلاَّ إذا أمرته امرأة كأمه أو زوجته أو أخته أو على الأقل جارته، وذلك لأنّ هذه الجزيرة تديرها وتحكمها المرأة بحكم تقاليد ودستور الجزيرة.. فالرجل لا يملك حق التفكير واستعمال حريته كما يريد، فالمرأة هناك الكل في الكل، تدير شؤون الرجل الخاصة والعامة كما يحلو لها ولا يستطيع حتى أن يأكل ويشرب إلاَّ بإمرتها، والرجال هناك يقومون بخدمة المنازل والأكواخ من تنظيف وترتيب وحمل الأطفال وإعداد الطعام في الوقت التي تكون فيه النساء مشغولات في الخارج بأعمال تتعلق بعش الزوجية أو بإدارة شؤون الجزيرة.
وإذا حملت المرأة وولدت ذكراً تقيم في نفس اليوم مناحة لمدة أسبوع كامل تتقبل فيه التعازي في المصيبة الفادحة الجلل.. وإذا وضعت أنثى تقيم حفلات الرقص والغناء لمدة شهر كامل تقدم فيها ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات، ويقوم الرجال في هذا الاحتفال بخدمة النساء بكل أدب وطاعة عمياء.. ويهنئونهن بالمولودة السعيدة التي زادت عدد نساء القرية واحدة وذلك بالانحناء وتقبيل الأرجل.
أما المرأة عزيزي القارئ في وطننا العربي الشامخ وبالتحديد في سنة 2020م هي التي تختار شريك حياتها، فإذا رأت شاباً هماماً عظيم الخلق ذهبت مباشرة إلى أم العريس وأخوته وعماته لطلب يده ولا يكون ذلك إلاَّ بعد مراقبتها له في ذهابه وعودته من العمل، وفحص سلوكه وتصرفه أثناء الطريق، وفي الجامعة أو الكلية إذا كان طالباً يافعاً نافعاً دون تدخل من الأب والأسرة والإخوة والأعمام.. هنا يدخل العريس الصالة متأنقاً بأبهى حلله وزينته حاملاً «الشربات» لخاطبته، يكسوه الخجل الشديد ويقول لها مبتسماً «تفضلي الشربات».. فتقول له بعد نظرة ثاقبة من رأسه حتى قدميه «من يد ما نعدمها».. وتهمس لأمها «شو مليح كتير ماما».. وتجيب الأم بابتسامة عريضة «الزلمة كله أدب وذوق عيوني» وهنا تقاطع عمة العريس الحضور قائلة «تصدقوا أن عمره 19 سنة وكتير مزيان».. بعد ذلك يسود الصمت الجميع وتقول أم العريس لأهل الخاطبة «أديني فرصة استشير العريس وبعدين أرد ليكم الخبر» وهنا يقوم العريس ويقعد ويخبر أمه غاضباً بأن هذه العروس موظفة «كحيانة» لا تملك قوت يومها وسوف تجعل حياته نكداً وعذاباً... فتقول الأم «يا ولدي تزوجوا فقراء يغنيكم الله.. أنا خلاص أعطيتهم كلمة وما عندنا أولاد يعصوا أمرنا».. بعدها يخضع صاحبنا للأمر المحتوم.. وتقوم العروس بإحضار«دزة» العريس وتكون كالآتي:
12 دشداشة بيضاء، 12 عقال أحمر وأبيض وأسود، 12 شحاطة لزوم السهرات والخروج، 3 هون لأغراض المطبخ والكسكسي والمنسف والمقلوبة، 6 عمم سودانية أصلية مع عطر بنت السودان الفاخر، 6 بِدَل كاملة متنوعة الألوان.
ويدخل العريس قفص الزوجية لابساً جلباباً أبيض وتبدأ الحياة الزوجية الأبدية.. وقبل ذهابها للعمل تصدر أوامرها لصاحبنا المسكين بأن يغسل الأطباق وينظف الحمامات ويرتب الصالة ويزيح الغبار من على مقاعد الجلوس، ويرمي الأوساخ خارج الشقة، بعدها يبدأ في عملية الطبخ ولابدّ أن يكون الطبخ من عدة أصناف مختلفة، بدون شطة وبهارات وذلك لأن صاحبتنا مريضة بالقرحة بسبب الهموم وكثرة التفكير في لقمة العيش.
وهنا يستشيط صاحبنا غضباً، ويطالب بخادم ممتاز للمنزل.. فترد عليه بنبرة حادة قوية «إنت جنيت وللاّ شنو، في بيت أهلك كان عندك خدام»؟ يجيب الزوج غاضباً «والله العظيم دي عيشة تطهأ أنا حامشي بيت أهلي».. حينها تدخل الوساطات النسائية فقط من بنات العم والجيران.. إلاَّ أن الزوجة تصر على رأيها وتطلبه للدخول في بيت الطاعة..
وبعد مشاورات ونصائح كثيرة يوافق صاحبنا على العودة مرغماً لا بطل.. فتبتسم صاحبتنا حتى يظهر طقم أسنانها الاصطناعي وتقول له «متزعلش مني يا روحي حقك عليّ.. أُمال الأولاد ديل حيربيهم مين، على كل حال عملت لك الأكلة اللي بتحبها «كوارع بالخضار» بس إيه تجنن..!
بعدها تعود المياه لمجاريها ويظل الرجل دائماً وأبداً الأقوى والأنبل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة