التراث الشعبي هو خبرات الناس ومعارفهم ومعتقداتهم وقيمهم وفنونهم وآدابهم الناتجة من تفاعلهم مع بيئتهم التي يعيشون فيها، والتي يتم تناقلها من جيل لآخر شفاهيا أو من خلال الممارسة والمشاهدة والتي تبقى معهم وتميزهم عن غيرهم، ومنذ أمد بعيد وحتى اليوم لا تزال كثير من المجتمعات خاصة في المناطق الريفية تستغل الإمكانيات الموجودة في معارفها الشعبية لحل المشكلات التي تواجهها أثناء ممارستهم لحياتهم اليومية وأعمالهم التي يقومون بها لكسب عيشهم. التراث الشعبي بهذا المعنى يسهم في تقديم الحلول للناس في المجتمع ليتمكنوا من الإستمرار في حياتهم والتكيف مع البيئية التي يعيشون فيها وهذا ما يقوم به العلم الآن وهذا ما نسميه بالتكنولوجيا ، فالتكنولوجيا في مبتداها عبارة عن مفاهيم تتحول بالتطبيق إلي أساليب والات وأدوات لتلبي حاجات المجتمع وتحل مشكلاته ، والتراث الشعبي بما يحويه من معارف وخبرات لديه هذه الإمكانيات وهي ما يسمي بالتكنولوجيا الشعبية أو التقليدية ، صحيح أنها بسيطة لكن لها نفس المفهوم والمعني فآلات رفع المياه مثل الشادوف والساقية وأدوات الزراعة مثل المحراث الذي تجره الدواب والفأس والنبال والسهام التي يستخدمها الإنسان في بداية حياته والصناعات الصغيرة مثل دباغة الجلود والنسيج وغيرها كلها من التكنولوجيا التقليدية . التكنولوجيا هي نتاج لحاجة إجتماعية ملحة ، فالحاجة أم الإختراع كما يقولون ، وبدون هذه الحاجة الملحة لا تتهيأ الفرصة للإختراع . سأتعرض لمعرفة تقليدية لأحد المجتمعات وهو مجتمع الحمر (بفتح الحاء والميم) في إقليم كردفان بغرب السودان ، وكيف استفاد من المعارف والخبرات الموجودة في تراثه الشعبي ليتغلب على أحدى المشكلات التي تواجهه في فصل الصيف ، وهي نقص المياة وذلك بالإستفادة من جذوع أشجار التبلدي الضخمة التي تنمو في البيئة إستخدامها كخزانات للمياه ، حيث يقوم الناس بتجميع المياه أثناء موسم الأمطار في هذه الخزانات لإستخدامها في أيام الندرة . مجتمع الحمر مجتمع زراعي رعوي يستفر معظم أفراده في قرى منتشرة في الجزء الغربي من إقليم كردفان حيث يمارسون الزراعة في موسم الأمطار الذي يبدأ في شهر يوليو ويستمر لمدة ثلاثة أشهر ، ويزرعون خلال هذا الموسم محاصيل الدخن والفول السوداني كما يزرعون السمسم والذرة وتنمو في هذه المناطق أيضاً أشجار الهشاب التي تنتج الصمغ العربي وتسمح كميات الأمطار في فصل الخريف بنمو العشب مما يمكنهم من تربية الأغنام والجمال حيث تشتهر المنطقة بأجود أنواع الضأن ، وبعد إنتهاء موسم الأمطار يواحهون فترة جفاف طويلة تبدأ من شهر أكتوبر حتى شهر يوليو ، وتعتبر مشكلة شح مصادر المياه من أكبر المشكلات التي تواجه المنطقة حتى وقت قريب حيث بدأت الدولة في حفر الأبار وتوفير مصادر دائمة للمياه ومن قبل ذلك كان الناس يعتمدون على أنفسهم لحل مشكلات مجتمعهم البيئية ، فالأرض رملية لا تحتفظ بالماء لمدة طويلة عندما تهطل الأمطار في فصل الخريف ودرجة الحرارة عالية تبخر أي مسطحات مائية مكشوفة ، ولتوفير المياة في أيام الصيف لابد من تخزينها ،وجدوا المعين في تراثهم فكان الحل هو شجرة التبلدي . شجرة التبلدي (Baobab) وأسمها العلمي Adansonia Digitata )l) من الأشجار المعروفة في السودان وهي تنمو في مناطق معينة خاصة المناطق الغربية وهي منطقة الصحراء وحزام شبه السافانا ، وذكر الرحالة المعروف ابن بطوطة في إحدى رحلاته إلى أفريقيا أنه وجد هذه الأشجار في غرب أفريقيا بالقرب من نهر النيجر ، وذكر أن بها كوة من أعلى تتجمع فيها مياه الأمطار ، وأن الناس يستخدمونها كبئر وأعتبر أن هذه الكوة ( الحفرة ) ظاهرة طبيعية . وأشجار التبلدي من الأشجار الضخمة حيث يمكن مشاهدتها من مسافة بعيدة وتبدو كأنها قلاع منتشرة في البرية ويبلغ قطر جذعها أكثر من عشر ياردات وهي تتفاوت في أحجامها ولونها رمادي تسقط أوراقها في فصل الصيف وتنمؤ الأوراق في أول فصل الأمطار . هذه الأوارق ملساء داكنة الخضرة وتزهر في هذا الفصل لتكوين الثمار البيضاوية الشكل والتي يبلغ وزن الثمرة الواحدة منها رطلا وأكثر ، وفي داخل هذا الغلاف البيضاوي الذي يصبح صلبا بعد النضج نجد الثمار التي تؤكل ، ويحتوي داخل الغلاف على عدد من النوى الصغيرة تصل إلى العشرات وهي مغلفة برحيق أبيض يميل الي الحموضة مع بعض الحلاوة في الطعم وتنقع هذه الثمار بعد فضها من الغلاف في الماء وتُصفي ويضاف إليها السكر لتصبح مشروباَ لطيفاً له لون ابيض وقد أصبح هذا المشروب في الأونة الأخيرة يقدم في أماكن بيع المرطبات ويسمي السودانيون ثمار التبلدي (القُنقليس) بضم القاف الأولي والثانية وكذا يسمى مشروبه وفي أماكن تواجد هذه الشجرة يعتقد السكان المحليون أن ثمارها لها فوائد طبية خاصة للمعدة إذ يقال إن كوباً من المشروب المركزي من هذه الثمار يشفي من مرض الزحار (الدوسنتاريا) والسكان في غرب السودان يستخدمون الأوراق الخضراء وتسمى في بداية نموها وهي لا تزال طرية (العفوس) في عمل السلاطة كما يستخدمونها في الطبخ. خزانات للمياه: في منصف القرن الماضي كانت كثير من التجمعات السكانية في غرب السودان تعاني من شح المياه وهي المناطق التي شملها حزام شبه الصحراء وشبه السافانا وكان مجتمع الحمر من هذه المجتمعات التي كان الإنسان فيها يجد صعوبة في الحصول على الماء له ولحيواناته في فصل الصيف مما يضطره أن يذهب إلي مسافات بعيدة قد تصل إلى مسير يوم كامل ليجلب الماء لنفسه وليسقي حيواناته هذه العملية كانت تجعل من حياته معاناة يومية طوال أشهر الصيف حتى يحل فصل الأمطار ويأتي معه الفرج ليضع حداً لهذه المعاناه. الإنسان في كل مكان وزمان وبما حياه الله سبحانه وتعالى من عقل يحاول أن يطوع بيئته ويتكيف معها ويستفيد من إمكاناتها وقد إهتدي الإنسان في هذه المناطق إلى طريقة لحفظ كميات المياه التي يوفرها فصل الخريف عندما تسقط الأمطار بكميات وفيرة ولكن طبيعة الأرض الرملية في هذه المناطق لا تساعد في الاحتفاظ بالمياه لمدة طويله ، فوظف الناس معرفتهم بالبيئة للإستفادة من أشجار التبلدي بإستخدامها كخزانات تحفظ لهم المياه في فصل الصيف ، حتى يقلل من معاناته في هذه الفترة ، إن جذع شجرة التبلدي هش ولذلك كان الناس يقومون بعمل تجويف في هذا الجذع الضخم من أعلى عند بداية تفرع الفروع ويصل عمق هذا التجويف لعدة أمتار في إتجاه أسفل الجذع ، ولا تتأثر الشجرة بهذا الحفر في جذعها ذلك لأن تكوينها الليفي يجعلها تتحمل ذلك الفعل وتظل كما هي . وفي الأرض التي حول الشجرة يُبنى حوض من الطين أو تحفر حفرة سطحية كبيرة لكي تتجمع فيها مياه الأمطار ، وعند هطول الأمطار يسرع الناس إلى الشجرة يتسلق بعضهم فوقها والبعض الآخر يقف تحتها ومعهم دلاء وأوان يستخدمونها لرفع المياه المتجمعة في أسفل الشجرة في الحوض للذين في الأعلى ليصبوها في الخزان ، وتستمر العملية كلما هطلت الأمطار حتى يمتلئ الخزان فيقفل حتى وقت الحاجة ، يسع الخزان حوالي ثلاثة آلاف جالون من المياه وتحتفظ الشجرة بالماء لفترة طويلة وتساعد الألياف الداخلية في الجذع على تنقية المياه فتكون المياه صافية ، وعند الحاجة يفتح الخزان ليأخذ كل من أصحاب الشجرة نصيبه اليومي ثم يعاد إغلاق الخزان مرة أخرى . أشار أحد الإداريين البريطانيين وهو المستر ريجينالد ديفس، وهو من الذين عملوا في هذه المناطق ، أن كثيرا من المنازعات كانت تحدث بين سكان القرى حول ملكية أشجار التبلدي بسبب منفعتها كخزانات للمياه وهذا متوقع ، خاصة إذا وضعنا في الإعتبار ندرة المياه ، فحتى عهد قريب كان ثمن برميل المياه الذي يجلب إلى هذه المناطق بواسطة الشاحنات أغلى من ثمن برميل البنزين . وفي عهد الحكم الثنائي سعت السلطات إلى حل هذه النزاعات التي كثيرا ما كانت تتحول إلى حوادث دامية بين سكان القرى ، فقامت بتسجيل ملكية الأشجار فأصبح لكل قرية شجرة كما كان لكل شجرة إسم تعرف به . ومن الأشياء الطريفة التي ذكرها مستر ديفس أن الحكومة الإستعمارية إستأجرت عددا من هذه الأشجار من أهالي القرى على طول الطريق إلى دارفور أثناء حملتها للقضاء على سلطان دارفور على دينار وذلك لتضمن توفر المياه لجنود الحملة . منافع أخرى لشجرة التبلدي: صناعة الحبال: تمتاز شجرة التبلدي بوجود كمية وافرة من اللحاء أو الألياف في جسمها ويصنع السكان من هذه الألياف الحبال، ويتم الحصول على هذه الألياف من أي جزء من أجزاء الشجرة الضخمة سواء من الجذع الأساسي أو الفروع وذلك بإذالة اللحاء الخارجي بعد القيام بقطع أوجرح في المكان المطلوب بآله حادة ، ثم يبدأ في نزع الالياف وبعد الحصول علي الكمية المطلوبة توضع الالياف في الماء لمدة يومين أوثلاثة لإزالة العصارة منها ، بعد إخراجها من الماء تعرض للهواء ليتبخر منها الماء وتسخدم بعد ذلك لعمل الحبال ، تستخدم هذه الحبال في نسج (العناقريب) الاسرة المحلية ، وكذلك في ربط الدواب وغيرها من الاستخدامات الاخري مثل حبال الدلاء والأرسنة للجمال والبناء وهلم جرا..... مكان للاجتماعات شجرة التبلدي إذا ما وجدت داخل القرية يسعد من حولها بوجودها ،فرغم انها تظل بلاأوراق في فترة الصيف شأنها شأن النباتات الصحراوية حتي تحتفظ بأكبر قدر من الماء في جسمها ، رغم ذلك فإن جذعها الضخم يوفر ظلاً لمن يجلس تحتها ، وتصبح المتنفس الذي يلجأ اليه جيرانها في أوقات الهجير وفي فصل الامطار تصبح وارفة الظلال بعد ان تنمو الاوراق من جديد ، وفي كثير من الاحيان يختارها مسؤولو الادراة الاهلية سواء كان نظاراً او عمداً أو شيوخاً حتي - لوكانت خارج القرية - مكاناً لجلسات المحاكم والنظر في قضايا الناس . كذلك يستخدم العرب الرحل اشجار التبلدي لتخزين البُسط التي تسمى عندهم ب (الشمال جمع شملة ) وهي بسط من الصوف يستخدمونها في بناء بيوتهم ــ وذلك في فترة الصيف حيث لاحاجة لهم بها إذ أن أشجار السافنا الغنية التي يرحلون اليها في هذه الشهور من السنة تغنيهم عن حمل الكثير من هذه البسط . بقي أن نشير الي أن شجرة التبلدي من الاشجار المعمرة إذ تصل أعمال بعضها الي مئات السنين .
مراجع : ــ ابن بطوطة رحلة ابن بطوطة المسماه تحفة النظار في غرائب الامطار ــ دار الشرق العربي ، بيروت ، ص، 526 بدون The camels Back, Reginald Davie,s London 1957,p 88-90
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
د.الصادق محمد سلمان
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست