|
شهران على رحيل الصديق الدكتور بيتر نيوت كوك بقلم د. سلمان محمد أحمد سلمان
|
07:53 PM Aug, 28 2015 سودانيز اون لاين سلمان محمد أحمد سلمان-واشنطن-الولايات المتحدة مكتبتى فى سودانيزاونلاين
1 غيّبَ الموتُ في يوم الأحد 28 يونيو عام 2015 بدولة ألمانيا الدكتور بيتر نيوت كوك بعد صراعٍ دام سنواتٍ طويلة مع المرض. حزنتُ كثيراً لفقده. وحزنتُ أكثر أن وفاته مرّت دون نعيٍ أو مقالاتٍ عن حياته وإنجازاته المتعدّدة وعمله الدؤوب من أجل السودان الموحّد. لم يكتب عنه أيٌ من أصدقائه وزملائه الشماليين العديدين في تنظيمات وأحزاب التجمع الوطني الديمقراطي، وتنظيمات المحامين، أو كلية القانون بجامعة الخرطوم (وأنا واحدٌ منهم)، أو من طلابه الكثر الذين درّسهم وأحبّهم وأحبّوه، وقضى معهم الساعات الطوال في مكتبه أو في مقهى كلية القانون. كان بيتر شخصيةً فذّة، امتاز بالذكاء والمعرفة، وشغفه غير المحدود للقراءة والاطلاع. وكان سياسياً بارعاً ذا رؤيةٍ وحدوية للسودان، حتى عندما دقت أجراس الانفصال (تحت مظلّة حقِّ تقرير المصير) داخل أحزاب وتنظيمات الجنوب والشمال السياسية. وكان صديقاً ودوداً ومخلصاً للذين التقوا به أو عاشروه خلال محطات حياته المتعدّدة والمختلفة. 2 وُلِد بيتر عام 1947 في مدينة رومبيك من أسرةٍ ثرية ومشهورة في الأوساط الجنوبية. كان والده أحد أثرى وأقوى وأشهر سلاطين الدينكا. تلقّى بيتر تعليمه الأولي والأوسط في مدينة رومبيك، وانتقل إلى الشمال والتحق بجامعة الخرطوم عام 1966. ثم بدأ دراسة القانون عام 1968 بنفس الجامعة، ليتخرّج منها على رأس دفعته عام 1971. التقينا في جامعة الخرطوم عام 1967، وبدأنا منذ ذلك العام رحلة صداقةٍ متينة امتدت لقرابة الأربعين عاماً، وتواصلت حتى اختطفه الموت هذا العام. درسنا القانون معاً في جامعة الخرطوم، ثم انتقلنا من أجل الدراسات العليا في القانون إلى جامعة ييل في الولايات المتحدة الأمريكية. كنتُ قد سبقته في الدراسة بجامعة ييل بسبب تفرّغه لبعض الوقت لمفاوضات أديس أبابا إبان السنوات الأولى لحكم الرئيس الأسبق جعفر نميري. 3 كان بيتر وحدوياً يؤمن دون تردّدٍ أو تحفظاتٍ بأن الشمال لن يُكتبَ له البقاء موحّداً دون الجنوب، كما أن الجنوب سوف يتفتّتْ إلى دويلاتٍ دون الشمال. اختلفنا وتجادلنا طويلاً عندما قرّر الوقوف مع نظام النميري، وقَبِلَ ترشيحه عضواً بمجلس الشعب في حكومة نميري. ظلّ يردّد لي ولأصدقائه وزملائه الذين اختلفوا معه "دعونا نوقف نزيف الدم والموت والدمار والقصف العشوائي في الجنوب، ثم نلتفت إلى نظام الحكم في كل البلاد." لم تكن مشكلة الذين اختلفوا معه في الفرصة التاريخية التي أتاحتها اتفاقية أديس أبابا لحل مشكلة الجنوب والسودان. كان الخلاف حول النظام الاستبدادي القاسي الذي تبنّى تلك الاتفاقية. وكان واضحاً أنه كانت لكلٍ منا أسبقياته، وأننا لم نعش القتل والدمار الذي قام به الشمال في جنوب البلاد كما عاشه بيتر، ولم نشاهد بأعيينا ما شاهده هو بعينيه ولمس بيديه من عمقٍ للمأساة الإنسانية هناك. غير أن بيتر عاد إلى ساحة أصدقائه السياسية في الشمال عندما مزّق الرئيس جعفر نميري، في غطرسةٍ وعناد، اتفاقية أديس أبابا. وكان بيتر أحد أعضاء تنظيم أساتذة جامعة الخرطوم الذين قادوا العمل ضد النظام، وساهموا في انتفاضة أبريل عام 1985. 4 حاولت الأحزاب الجنوبية والشمالية، تلك التي كانت في الحكم أو في المعارضة، ضمَّ بيتر إلى صفوقها. فقد كانوا يعرفون جيداً الكسب السياسي والإعلامي الذي سيدرّه عليهم انضمام بيتر لهم. غير أن بيتر كان أقوى من إغراءات الوزارة ومالها وجاهها وإعلامها، وظل مشغولاً في رحلاتٍ مكوكية بين الحكومة والمعارضة والحركة الشعبية على أمل الوصول إلى حلٍ يُبقِي السودانَ موحّداً. وعندما وقع انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو عام 1989، لم يلتحق بيتر، كما فعل جلُّ أبناء الجنوب المتعلمين بالحركة الشعبية، بل كان أحد مهندسي التجمع الوطني الديمقراطي، وأبرز قادته. 5 في شهر أكتوبر عام 1993، قام السيد هاري جونستون، النائب الديمقراطي عن ولاية فلوريدا بمجلس النواب الأمريكي، ورئيس اللجنة الفرعية لأفريقيا بالمجلس، بدعوة الحركة الشعبية الأم، والفصيل المنشق عنها، والتجمع الوطني الديمقراطي، وحكومة السودان، إلى اجتماعٍ تشاوريٍ بواشنطن. قاد الدكتور قرنق وفد الحركة الشعبية، بينما قاد الدكتور لام أكول والدكتور رياك مشار وفد الفصيل المنشق عن الحركة الشعبية. مثّل الحكومة الدكتور كمال عثمان صالح. كان وفد التجمع الوطني الديمقراطي ضخماً، وشمل الدكتور عمر نور الدائم، والسيد مبارك الفاضل المهدي، والدكتور أحمد السيد حمد، والسيد التوم محمد التوم، والأستاذ فاروق أبو عيسى، والدكتور أمين مكي مدني، والدكتور تيسير محمد علي، والدكتور بيتر نيوت كوك. كان وجود الدكتور بيتر ضمن وفد التجمع الوطني الديمقراطي مثار دهشة الجميع – الحكومة والإعلام الأمريكي والمراقبين السودانيين. تحدّث الدكتور بيتر في ذلك اللقاء بهدوئه المعهود، وعمق كلماته وذكائها، عن حلِّ السودان الموحد الذي يجب أن ينبني على الاعتراف بتعدّدية السودان العرقية والدينية والثقافية. كان ذلك الحديث هو صدى لصوت الأب سترنينو لوهوري أمام البرلمان السوداني في شهر يونيو عام 1958، ولكلمات السيد ويليام دينق أمام مؤتمر المائدة المستديرة في شهر مارس عام 1965. لكن كلمات الدكتور بيتر كانت موجّهةً ليس فقط للشعب السوداني، بل لكل العالم، وباللغة الإنجليزية، وفي مبنى البرلمان الأمريكي، لكي يكون العالم، كل العالم، شاهداً عليها. عندما التقينا بعددٍ من أعضاء الوفود بمنزلي عقب نهاية اجتماع واشنطن، كان السؤال الذي طغى على ذلك اللقاء هو حضور الدكتور بيتر كعضوٍ بوفد التجمع، وليس وفد الحركة الشعبية. كان رد الدكتور بيتر سهلاً وواضحاً "الشمال هو الذي يحتاج إلى الاقتناع بتعدّدية السودان العرقية والدينية والثقافية وتنوّعه، وليس الجنوب. إنني أعتقد أنني استطيع أن أحقّق قدراً من ذلك بعملي من داخل التجمع، بدلاً من الحركة الشعبية." وعندما حاول أحد الشماليين الغمز بأن بيتر "مزروعٌ" بواسطة الحركة الشعبية داخل التجمع، كان رد أحد الشماليين الذين يعرفون الدكتور بيتر قاسياً وحاداً "بيتر أكبر وأنبل من أن تزرعه أيّةُ جهةٍ داخل جهةٍ أخرى." 6 لكن بيتر ترك التجمع بعد أن اشتعلت نيران الخلافات بداخله، وانضم إلى الحركة الشعبية الأم، وأصبح من قادتها وسفيرها في أوروبا. لم يكن من السهل للحركة الشعبية أن تجد شخصاً أكثر كفاءةً منه لذلك المنصب. فذكاؤه الحاد، وعلمه الغزير، ومعرفته العميقة بقضية الجنوب والشمال أهّلته لذلك المنصب. لكن بنفس القدر فقد كان بيتر يتحدث اللغتين الفرنسية والألمانية (بالإضافة إلى اللغة العربية، وبالطبع الإنجليزية) بطلاقة. كان اجتماع وفد الحركة الشعبية الضخم بممثلي الاتحاد الأوروبي عام 1999 موضوعاً هاماً للصحف الأوروبية. فقد كان الدكتور بيتر يلتفت ليوضّح باللغة الألمانية إحدى المسائل التي اختلطت على متحدثي اللغة الألمانية، ثم يفعل نفس الشيء بعد دقائق باللغة الفرنسية. ثم ينتقل بعد ذلك إلى اللغة العربية عندما يريد الحديث فقط لأعضاء وفده الجنوبيين. ويواصل بعد ذلك حديثه بإنجليزيته الطلقة الممتعة لجميع الحضور في ذلك اللقاء. 7 لم تكتفِ الحركة الشعبية بتعيينه سفيراً لها في أوروبا، بل كان بيتر رجل المهام الصعبة. فقد عاد إلى أمريكا التي درس بها ويعرفها جيداً على رأس عدة وفود لمقابلة المسئولين في الكونقرس الأمريكي، أو وزارة الخارجية الأمريكية، أو المؤسسات السياسية والأكاديمية الأمريكية. ظلّت لغته هادئةً، وتفكيره مرتّباً، ومنطقه متناسقاً ومترابطاً. ورغم الجدّية التامة التي ظلّت إحدى أبرز سمات بيتر، إلا أنه لم يخلو من الدعابة. أذكر دعوتي له ولوفده الزائر من أبناء وبنات الجنوب للعشاء بمنزلي في أمريكا في شهر يونيو عام 2001. بعد النقاش الطويل وتناول وجبة العشاء، وعند خروجهم من منزلي التفت الدكتور بيتر إلى أعضاء وفده وقال لهم مازحاً "آمل أن تجعل هذه الأمسية الجميلة وهذه الدعوة الكريمة الوحدةَ جاذبةً." 8 لم يكن الدكتور بيتر سياسياً استهلكته اجتماعات التجمع والحركة التي كانت تستمر لأيام وأسابيع كل شهر. كان الدكتور بيتر أكاديمياً ثري المعرفة وعميق التفكير. أحبه طلابه في جامعة الخرطوم لتواضعه وتواجده معهم طوال اليوم والمساء وهو يحاول تبسيط مادة فلسفة القانون التي كان يقوم بتدريسها. وأحبه أيضاً أساتذته الذين قاموا بتدريسه في جامعة ييل. فقد ظل البروفيسور مايكل ريزمان يسألني من وقتٍ لآخر عن بيتر وعن صحته منذ أن أقعد بيتر المرض. وقد نشر الدكتور بيتر عام 1996 كتابه: Governance and Conflict in the Sudan, 1985 – 1995, Evaluation and Documentation (Hamburg: Deutsches Orient Institut, 1996). وقد أصبح هذا الكتاب أحد المراجع الأساسية للصراعات العرقية والدينية والثقافية في العالم الثالث، ولقضية جنوب السودان خاصةً، في عددٍ من الجامعات الأوروبية والأمريكية. كما قام الدكتور بيتر مع الأستاذ بونا ملوال بتحرير كتاب: The Drift to Separation in the Sudan, 1993. ونشر الدكتور بيتر عدّة مقالات في دوريات أكاديمية، كانت واحدةً منها أولى المقالات التي تعرّضت بالتحليل والنقد لدستور السودان لعام 1998 (المعروف بدستور التوالي، والذي قام بكتابته الدكتور حسن الترابي) . 9 ثم اختلف الدكتور بيتر مع قيادات الحركة الشعبية، وترك منصبه كسفيرٍ للحركة في أوروبا وعاد إلى مدينة رومبيك، مسقط رأسه، لينشئ معهداً للتدريب في قضايا التنمية والبيئة. وظل هناك حتى أصابه المرض الذي أودى بعد سنواتٍ بحياته. كانت وصيته أن يتم دفنه بمدينة رومبيك، وقد حدث ذلك بالفعل. سألته في إحدى المكالمات الهاتفية عن خلافاته مع الدكتور قرنق وخروجه من الحركة الشعبية. صمت طويلاً، ثم قال لي أنه يفضّل أن لا يناقش مثل هذه القضايا على الهاتف أو البريد، وأنه يود أن يؤجل نقاشها حتى نلتقي. لكننا لم نلتق إلّا بعد سنواتٍ من تلك المكالمة، وبعد أن أنهكه المرض. 10 كان ذلك اللقاء بعد أسابيع من تعيينه وزيراً للتعليم العالي في حكومة الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، بعد أشهر من توقيع اتفاقية السلام الشامل. كان واضحاً لي وله خلال ذلك اللقاء أن صحته قد تدهورت إلى غير رجعة، وأن المرض قد نال منه ما نال، وأن ذاكرته قد تآكلت كثيراً. نظر إليّ بصمتٍ حزينٍ نظرةً طويلةٍ حملتْ دلائلَ الودِ والصداقة الطويلة التي عشناها عبر أكثر من أربعين عاماً. غير أن تلك النظرة نفسها كانت تقول لي "لقد هزمنا الزمانُ ياصديقي، وولّى السودانُ الذي عرفناه وجاهدنا طويلاً من أجله، وانتهى العمرُ الذي عشنا جزءاً منه معاً." mailto:[email protected]@gmail.com http://http://www.salmanmasalman.orgwww.salmanmasalman.org
أحدث المقالات
- دورٌ إيجابيٌ للأزهر الشريف (1) قضية كبري لشعب النيل بقلم محجوب التجاني 08-28-15, 06:32 PM, محجوب التجاني
- Rio Di Maria الشاعر الإيطالي ريو دى ماريا بقلم د.الهادى عجب الدور 08-28-15, 05:43 PM, الهادى عجب الدور
- حكايات الحلة شقاوة عيال حكاية جديدة بقلم هلال زاهر الساداتى 08-28-15, 05:28 PM, هلال زاهر الساداتى
- جرائم كبيرة ضد الخادمات !! بقلم أحمد دهب 08-28-15, 02:53 PM, أحمد دهب
- من يسئ لدارفور بالشلاليت ؟! بقلم حيدر احمد خيرالله 08-28-15, 02:49 PM, حيدر احمد خيرالله
- الإنقلاب الثالث ..!! بقلم عبدالباقي الظافر 08-28-15, 02:47 PM, عبدالباقي الظافر
- شكراً جميلاً !! بقلم صلاح الدين عووضة 08-28-15, 02:43 PM, صلاح الدين عووضة
- الغُلُوُّ والتَّطَرُّف.. حدود المفهوم وضوابطه 2 بقلم الطيب مصطفى 08-28-15, 02:41 PM, الطيب مصطفى
- إحدى عشرة رسالة لوالي الخرطوم .. (8) أخرجوا لسانهم للولاية !! بقلم توفيق عبد الرحيم منصور 08-28-15, 06:31 AM, توفيق عبد الرحيم منصور
- الزول الوسيم: عبد الخالق محجوب في ربيعه الثامن والثمانين (3-4) بقلم عبد الله علي إبراهيم 08-28-15, 05:41 AM, عبدالله علي إبراهيم
- الرفاق فى حزب البعث العربى .....الرؤى الإقصائية لن تجلب الوحدة فى السودان بقلم حسين اركو مناوى 08-28-15, 05:38 AM, حسين اركو مناوى
- ألف عام وعام عربي روسي بقلم د. أحمد الخميسي 08-28-15, 05:35 AM, أحمد الخميسي
- الإداري و الفقير و الحذاء و الأصبع بقلم عمر عثمان-Omer Gibreal 08-28-15, 00:37 AM, عمر عثمان-Omer Gibreal
- إسرائيل تستدعي القوة الناعمة وسلاح المصالح بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي 08-27-15, 10:55 PM, مصطفى يوسف اللداوي
- هل كان الوطن حقلا للنهب و الفساد طيلة السنوات الماضية .. ؟؟ بقلم حمد مدنى 08-27-15, 10:52 PM, حمد مدنى
- نكتة حقيقية (مواطن سوداني يهرش الرئيس)!! بقلم فيصل الدابي/ال 08-27-15, 10:50 PM, فيصل الدابي المحامي
- اعادة قراءة متانية فيما بين سطور اجتماع القائد العام 1/7/2014م (الحلقة الثالثة) بقلم طالب تية 08-27-15, 10:49 PM, طالب تية
- القائد ..للتفضل بالعلم بقلم الشيخ عبد الحافظ البغدادي 08-27-15, 10:46 PM, الشيخ عبد الحافظ البغدادي
- المناضل الجزائري جلول ملائكة .. ثورة في رجل بقلم سري القدوة 08-27-15, 10:44 PM, سري القدوة
|
|
|
|
|
|