|
أشواق بروميثيوس السوداني ! بقلم عماد البليك
|
02:31 AM Jun, 15 2015 سودانيز اون لاين عماد البليك -مسقط-عمان مكتبتى فى سودانيزاونلاين
لا يحكى
تشير أسطورة بروميثيوس اليونانية إلى معان عديدة مرتبطة بفكر الخلق والتضحية والمعرفة، فبروميثيوس هو خالق البشر الذي أراد بحب أن يكون لهم المعرفة والمواهب والقدرات الخارقة في حين أن غريمه زيوس كان يريد العكس تماما، كان يريدهم ضعفاء غير قادرين على الفعل ولا الإرادة. والصراع بين زيوس وبروميثيوس لا ينتهي أبدا إنه صراع الخديعة والحقيقة، الإنسان الفاعل والمستقبلي والمطلق والإنسان المقيد العاجز، بل إن كل كائن منا يحمل في داخله المتضادين. والأسطورة طويلة ومليئة بالمغازي استخدمت كثيرا في الفنون والآداب العالمية عند غوته في قصيدة باسم "بروميثيوس" والفرنسي اندريه جيد وعند ابوالقاسم الشابي في قصيدة "هكذا غنى بروميثيوس"، وفي الموسيقى مثلا في باليه «مخلوقات بروميثيوس لبيتهوفن، وفي لوحات لفوغر وغرينييه، وفي السينما حديثا تم توظيف الأسطورة وآخرها فيلم "بروميثيوس" في عام 2012 وهو فيلم خيال علمي من إخراج ريدلي سكوت. في الثقافة السودانية وظف الشاعر الراحل النور عثمان أبكر أسطورة بروميثيوس في قصيدته "سيرة ذاتية" في ديوانه الأهم والأشهر "صحو الكلمات المنسية"، إذ يكتب: كأني في الهجير المر بروميثيوس في الأغلال، معصوب النوايا في الأسطورة نرى أن بروميثيوس بعد أن خلق الإنسان كان يريد أن يعرفه بالنار التي كانت من أسرار الآلهة، لكن زيوس لا يريد لبني البشر أن يعرفوا، وبنكوص العهد يعاقب زيوس بروميثيوس بأن يقيده بالسلاسل إلى صخرة جبل في مكان قفر بعيد في البرية وكان عقابا أبديا فالنسر يأكله كبد كل صباح لينمو من جديد ويستمر العذاب. تشير الأسطورة كذلك إلى قدرات بروميثيوس القوي القادر على التنبؤ بالمستقبل وعلمه أنه سوف يأتي يوم يتحرر فيه من العذابات إذ سيأتي من نسل زيوس من يفك قيده ويحرره ويقتل الجبار المتكبر. كتب الشابي قصيدة "هكذا غنى بروميثيوس" والتي عرفت باسم "نشيد الجبار" وبدأها بالبيت المشهور: سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء إلى أن ختمها قائلا: من جاش بالوحي المقدس قلبه لم يحتفل بفداحة الأعباء إن الإشارات التي تم بها توظيف الأسطورة تختلف وتتفاوت، لكنها تتماسك حول الأمل والقدرة على الصمود والتعافي، والصبر على الأذى. إنها صيرورة الإنسان القوي الذي يعرف نفسه جيدا لكنه يؤمن بالخلاص الأبدي والانتصار على الأعداء. في "سيرة ذاتية" يبدو النور عثمان أبكر مُصِّورا لقصة الضياع الأبدي الذي ربما هو تجربة الذات وربما تجربة شعب بأكمله، فيما يشبه الاستبطان المبكر لمأساة الإنسان والتراب في سبيل قيامة لا يمكن التكهن بها هل ستكون أم لا؟ أي قيامة المستقبل والنهوض عن اللحظة والانصياع للأعاصير والمتاهات. فقد كان الشاعر يرى أنه رغم كل الأعاصير وصور القتامة فثمة "نور" قادم من أعماق النفس القصية: وفي نفسي متاهات وأودية مداها نور فيا بشرى وكأنما هي إشارة إلى أن القوة موجودة تعيش في هذه الذات/ النفس التي سوف تكون قادرة على مفارقة اللحظة والرهان الآني إلى خلاصها وراحتها، لكن ليس الطريق سهلا ولا معبدا بالراحة. كما أن هذه النفس يجب عليها أن تغسل كل درن الأمس والتاريخ والصبغات التي طلت الوجه، أي الحاضر كي ترهف إلى صوت الذات بقوة ويكون لها أن تزيل غبش المتوارث. فلا نور سوف يشرق بلا إزالة للأقنعة والأوهام والحجب التي تقتل الرؤية. وهنا كان يرى الشاعر أن التحرر يكون بالعودة إلى الفطرة الأولى وفك التباس الوجه المزيف والمقنع، بل ممارسة عملية السلخ، إذ يكتب: سأسلخ وجهي المصبوغ، ألبس فطرتي الاولى إن بروميثيوس القوي والجبار لا يمكنه أن يخرج ليكتب التحرر لذاته ولمجتمعه بسوى المواجهة، بممارسة هذا السلخ "المعرفي" وغسل الألوان الطاغية والزائفة التي جعلت وجه اليوم غير وجه الحقيقة المرتجاة. إن "الفطرة الأولى" هنا لا تعني الأمس ولا التاريخ، بل تعني المركب الحقيقي للذات لبروميثيوس الذي يجب البحث عن بشدة عبر مراجعة الذات وتشابكات لحظتها مع ماضيها ومستقبلها. إن طاقة الشعر تفتح ما وراء التأويل للمعاني. إذ يكون التأويل قاصرا وضيقا في أغلب الأحيان، لأنه يرتبط بوعي التاريخ ومقارنة النص بالملاحظات الرهينة بالحراك الزمني المعين. في حين أن أفق القصيدة الحقيقي والساحر يتعدى المجال التاريخي إلى الانفتاح باتجاه القداسة والأسطرة، بأن نعي أن النص هو ابن "الفطرة الأولى" تلك التي لم تلوث بعد ولم تتلون بالغشاء. إنها وكما يفضح النص عوالم لا تربط نفسها بحدود المعاش المباشر، الذي يتصور لنا في: رفاقى في دروب الشمس قد نذروا بذار العمر لإخصاب الحقول الشاسعات البور ومنح الأرض والإنسان غدا يزهو بورد السلم، بالأفراح، بالإنسان فالحقل والشمس والنور والأمل ومن ثم السلم الإنساني.. والفرح الذي يصنع أمة. كل ذلك لكنه ما وراءه هو الحلم القديم والأزلي والفطري، والطاقة التي يبحث عنها "بروميثيوسنا" ويريد أن يفجرها في سيرته كإنسان، إذ هي: مجاهل عالم حارت به الرؤيا إنه الشوق الذي يضاهي ما وراء الأشواق ذاتها، لأن سيرة الحياة هنا لا تكون مجرد البحث عن الخلاص اللحظي ولا التلهي بالحقول والبذور والأفراح الفانية والمتبدلة، بل ما وراء ذلك من عظمة الرؤيا.. الغوص في مجاهل ذلك العالم اللذيذ والرائع الذي على الإنسان أن يكيف ذاته فيه وبه، إنه الحلم والإِشراق والأمل الكبير. وفي هذه القصيدة نلاحظ كيف أن طاقة الحلم والرؤية تطورت في مسارب الإبداع السوداني بما يفوق ما جاء به سلفا "محمد محمد علي" وهو ينشد سنة 1945 بالمهرجان الأدبي بالأبيض: أمة للمجد والمجد لها وثبت تنشد مستقبلها الفارق ليس في الإرادة ولا البيان ولكن في فضاءات تكثيف الترميز والرؤيا، ما بين جيلين.. ولا يعني ذلك ما يمكن أن نسميه بالتطور ولا التقدم، بل يعني بشكل أو بآخر حيز المعاني والرؤية ارتباطا بالتاريخ أو الوقائع الخارجية التي تؤثر على النص بل تساهم في تشكيله، ولكن بأثر غير مباشر لأن اللغة أعمق من أن تأخذ الأشياء على علاتها لدى شاعر يأخذ العالم وفق مرئيات تتجاوز أفق المرئي والكلاسيكي. فخطاب محمد محمد علي جاء في فترة الوضوح والمثابرة والأشواق بالتحرر من المستعمر، في حين أن النور عثمان كان يكتب قصيدته وهو يعيش فترة الاغتراب الذاتي العميق الذي دخلت فيه الذات السودانية بعد الاستقلال وكيف تعمق الجراح التصاقا بالجروح الكونية مع كثافة المعرفة كذلك بفعل الاحتكاك بالثقافات الإنسانية الأخرى وتجليات الفنون الجديدة. إن أشواق بروميثيوس السوداني تتجلى في سيرة عميقة لا يمكن اختصارها إلا بقراءات معمقة للنص لا يكفي لها حيز مقال. إنها رحلة اشتياق عميق للسر.. الذي يشكل الحياة، وقد قال: لعمرى لن نفض السر ما عشنا فنحن السر ما عشنا mailto:[email protected]@gmail.com
أحدث المقالات
- باب كبار الزوَّار..!! بقلم عبدالباقي الظافر 06-15-15, 01:58 AM, عبدالباقي الظافر
- دعوة خاصة جداً لوزير الداخلية!! بقلم عثمان ميرغني 06-15-15, 01:57 AM, عثمان ميرغني
- وصل يا عسل !! بقلم صلاح الدين عووضة 06-15-15, 01:51 AM, صلاح الدين عووضة
- بين مناوي ولوردات الحرب بقلم الطيب مصطفى 06-15-15, 01:50 AM, الطيب مصطفى
- ( أنا هو الحُثان ) بقلم الطاهر ساتي 06-15-15, 01:47 AM, الطاهر ساتي
|
|
|
|
|
|