|
ما بعد الكرونولوجيا بقلم عماد البليك
|
03:34 PM May, 04 2015 سودانيز اون لاين عماد البليك -مسقط-عمان مكتبتى فى سودانيزاونلاين
لا يحكى
تعرف الكرونولوجيا على أنها العلم الذي يهتم بترتيب الأحداث أو الوقائع وفق فضائها الزمني وتناسلها الهيكلي المتتابع، وإن كان ثمة فرع من هذا العلم يتصل بالعلوم الفيزيائية والذي يعرف بـ"كرونوميا" والذي يعني بقياس الزمن، وهو خارج مجال التفكير هنا حيث نهتم بالزمن بوصفه قيمة ذات ارتباط بالمعاش البشري والوقائع التي تؤثر بشكل يومي في حياة الناس، إي الأنسنة والتاريخ. الكلمة في أصلها اليوناني ذات مقطعين، هما كرونوس، أو خرونوس، وتعني زمن.. ولوغوس وتعني علم. وكان ثمة وما زال العديد من التفرعات في شأن الزمن فيما يتعلق بأنساق المعرفة والتجريب الإنساني المختلفة، مثل الموسيقى والفنون والكيمياء، وهي كلها ضرورية لفهم أي علم من حيث تطوره وتسلسله وكيف تأثر بالحركة التاريخية سواء داخل العلم أو الفن نفسه أو فيما يتعلق بالأطر الخارجية من موضوعات التاريخ والسياسة والحراك الكوكبي في كافة أشكاله. وإذا كان ثمة تأكيد سابق وإلى فترة قريبة على أن الكرونولوجيا مهمة في فهم السياقات العامة للمجتمعات وطرق تطورها والخلفيات التي تتحرك فيها، بإعتبار أن كثيرا من الدراسات كانت ترى أن التسلسل الزمني أبجدية في وعي الأمور، وأنه لابد لكي نصل إلى النقطة (ج) أن نكون قد مررنا بالنقطة (ب) في طريقنا من (أ) وهكذا. إلا أن الدراسات الجديدة أو ما بعد الحديثة توجه نقدا لهذا الشكل من وعي التاريخ أو الزمان، وتحاول أن تفهم الوقائع وأشكال الصراعات والحيثيات الإنسانية المختلفة في إطار يستبعد الكرونولوجيا الكلاسيكية، أو الخط الزمني المتسلسل القديم، لأن المعرفة الإنسانية وهي تتعقد مع تكاثفها الهائل أدت إلى وعي يقول بأنه لكي نفهم الأشياء يجب أن نزيحها عن التموضع الزمني المباشر بحيث نعيد بناءها وهيكلتها وفق ما يتجاوز الخطي والأحادي والشكلاني إلى القيم المستترة وأو ما يعرف بما وراء أو بعد الكرونولوجيا. وكما يرى المستشرق البريطاني روبرت أروين في محاضرة كان قد ألقاها سنة 2009 بمعهد العالم العربي في باريس، فإن بعض الأمور ولكي يتم فهمها بشكل مؤسس يجب علينا أن نزيح أو نجتاز بمعنى أوسع "الحدود الكرونولوجية والطبوغرافية التعسفية كلية"، حيث أن هذه النظرة التي وصفها بـ "التعسفية" تجعل الأحداث رهينة مسار خطي قد لا يكون مهما ولا مركزيا ولا يساعد في فهم القضايا بالشكل السليم، ونجد أن هذا الإشكال للأسف قائما وكثيرا في محاولتنا لفهم مواضعات حياتنا وتاريخنا وكذلك في نمط رؤيتنا لأنفسنا ذاتيا في سياق الحياة التي نعيشها أي التجارب الحياتية المباشرة لنا كأفراد، حيث يظن الفرد أن حركته الخطية في الزمن هي التي تهبه التجارب والخبرات وتجعله مميزا أو ناجحا وهذا ليس صحيحا بدرجة معينة، إذ لابد من بؤر يتم تمييزها تضيع في إطار القراءة الخطية والعكس صحيح إذ أن المرور التسلسلي في وعي العالم والتجارب ومراجعة الذاكرة بالشكل البدائي، يجعل الإنسان أسير النمو في شكله القسري وليس النمو الخلاق والإيجابي أو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ "الطفرات"، فهذه الطفرات هي التي تميز الصورة الشاملة وتوجد نقاط القوة والاختلاف الفاعل. إن المضي في محاولة تفسير أو فهم التاريخ وتجارب الإنسان على أنها قائمة في مسار خطي هو سبب كاف ليجعلنا نتأخر كثيرا في وعي الحياة وفي التماهي مع العالم ومفارقة الأفكار البدائية كذلك الغوص في بحار المتخيلات الواهية والقديمة، حيث يعتقد المرء أنه ما لم يجتز المرحلة المعينة لم يصل للمرحلة التالية، وهذا انعكس على النظر العام إلى مفهوم النماء والتطور لدى الشعوب والدول التي ترى أنه لكي تصل إلى مصاف متقدم لابد من التزام الخط الكرونولوجي لكن تجارب حديثة مثل سنغافورة مثلا أثبتت ما هو ضد ذلك من أن الزمن في قيمته الأساسية يتعلق بالإنجاز البشري وبقدرة الإنسان على الأخذ بتاريخه وفق النقاط الإيجابية التي تكمن فيه، أي عناصر القوة، بدلا من التمسك بمراحل الشر والانكسار والهزيمة، أي إنتاج ذاكرة جمعية إيجابية تعمل على تحفيز الكائن بدلا من جعله يعيش الإحباط والمرارات التي ليست وليدة اليوم. إن الإنسان في لحظته الراهنة وما يمر به من مآس هو أسير تراكمات الأمس بل الأمس القديم جدا، لكنه أبعد من هذا وفي تصور واع، هو أسير القراءات الخاطئة في مفاهيم التربية والقيم التي تم "شحنه" بها حيث تم تعطيل العقل عن القفز والموهبة والإحساس القوي بالذات الذي يشكل الانطلاق نحو الكينونة التي تمكن من بناء نقاط القوة لدى الفرد ليكون فاعلا، بدلا من أن يدور في أفلاك الوهن. فقضايا مثل العنصرية والتفرقة الطائفية وغيرها من أشكال التمييز البشري الذي يكشف التخلف، هي في جوهرها قائمة على الإحساس الكرونولوجي بقيمة الأشياء والعالم، أن التفوق يقوم على تراتبيات بدائية، مثل أن الأبيض أفضل من الأسود، أو الأطول أفضل من الأقصر وغيرها من تصورات عمل الذهن على حشدها. كذلك التصور القائم على تقسيم المجتمع وفق كرونولوجية العرق والأثنية التي ترى أن قيمة الإنسان في الإطار الجغرافي أو الحيز الزماني الذي أوجده، ما يجرده من إنسانيته الكونية التي تتجاوز هذه الحدود الضيقة والمتعسفة والبالية، فالإنسان هو قيمة ترتبط بالمعرفة والعطاء والمهارة والإبداع والإضافة أما أن يكون التفوق مبنيا على أي أشكال برانية أخرى فهو نوع من الجهل الذي يدمر تطور الشعوب ويعطل النماء الإنساني. إن المطلوب ليس سهلا في سبيل صياغة واقع أفضل من خلال تنقية الشوائب التاريخية وإنتاج وعي جديد يصوغ عقدا من التآلف بين المجتمعات يجردها من تلافيف الأمس وأغراضه "الدنيئة"، وهذا لن يتم إلا بالمعرفة ثم المعرفة والسمو بالإنسان ثقافيا وأخلاقيا وهذا لن يكون إلا ببناء عقد اجتماعي جديد يضع في الاعتبار الإنسان فوق أي قيمة، كذلك يجب أن نقوم بنفي مفهوم الزمن الكلاسيكي والتناسلي الذي دمر "أمتنا" لعقود طويلة وما زال يعمل على المزيد من النفي والإقصاء والتدمير القاسي الذي يجعل الإنسان ليس إلا قوقعة في سجن غير قادر على أن يقدم أي شيء مفيد. إن ممارسة التعسف في فهم الحقائق والتاريخ ومحاولة أن نمضي في كيل الاتهامات لبعضنا البعض، وترويع الذات قبل الآخرين بالخطيئة المستمرة التي تسكنها لن يجعلنا نتقدم إلى الأمام مطلقا، بل سوى يجعلنا دائما أسرى الماضي الذي سنتصوره وفق هوانا في صور قد لا تحمل الحقيقة وقد تحملها ليس هذا المهم، فالأكيد أننا يجب ولابد أن ننظر إلى واقعنا بطريقة جديدة، على الأقل بإطار قانون المصلحة المباشرة في كوننا راغبين في العيش والحياة الحسنة المشتركة، وهذا لن يكون إلا بالشروط التي تم التعرض لها. mailto:[email protected]@gmail.com
الدنيئة
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- عرس الزين والهوية بقلم عماد البليك 05-03-15, 03:05 PM, عماد البليك
- الطريق إلى خيال جديد بقلم عماد البليك 05-02-15, 03:12 PM, عماد البليك
- جدل الذات والمجموع بقلم عماد البليك 04-30-15, 02:36 PM, عماد البليك
- الميتاسياسة بدلا عن السياسة بقلم عماد البليك 04-27-15, 03:10 PM, عماد البليك
- الفيتوري والهوية البديلة بقلم عماد البليك 04-26-15, 03:37 PM, عماد البليك
- نحو مجتمع متحرر بقلم عماد البليك 04-25-15, 04:04 PM, عماد البليك
- المثقف والتنميط (2 – 2) بقلم عماد البليك 04-23-15, 02:22 PM, عماد البليك
- المثقف والتنميط (1 – 2) بقلم عماد البليك 04-22-15, 03:48 PM, عماد البليك
- القوة والإلهام والتفرد! بقلم عماد البليك 04-21-15, 02:34 PM, عماد البليك
- السودان 2050 ! بقلم عماد البليك 04-20-15, 02:22 PM, عماد البليك
- هل قرأ أوباما إدوارد سعيد ؟ بقلم عماد البليك 04-19-15, 02:45 PM, عماد البليك
- النظر إلى العالم بالمقلوب بقلم عماد البليك 04-16-15, 02:40 PM, عماد البليك
- صوتك الآخر! بقلم عماد البليك 04-15-15, 02:54 PM, عماد البليك
- بانسكي في السودان بقلم عماد البليك 04-14-15, 02:27 PM, عماد البليك
- نوستالجيا المثقف! بقلم عماد البليك 04-13-15, 02:52 PM, عماد البليك
- ترويض الفيلة بقلم عماد البليك 04-12-15, 03:45 PM, عماد البليك
- الجثة الطائرة ! بقلم عماد البليك 04-11-15, 02:39 PM, عماد البليك
- الزمن المفقود ! بقلم عماد البليك 04-09-15, 05:31 AM, عماد البليك
- معان لفلسفة السعادة ! بقلم عماد البليك 04-08-15, 02:42 PM, عماد البليك
- الشوفينية بقلم عماد البليك 04-07-15, 02:36 PM, عماد البليك
- أبريل في حيز المراجعة بقلم عماد البليك 04-06-15, 05:52 AM, عماد البليك
- التجربة الفنلندية بقلم عماد البليك 04-05-15, 03:17 PM, عماد البليك
- الطريق إلى تعليم جديد بقلم عماد البليك 04-04-15, 06:41 AM, عماد البليك
- في منهج بناء الشخصية بقلم عماد البليك 04-02-15, 02:22 PM, عماد البليك
- الاستشراق مرة أخرى! بقلم عماد البليك 04-01-15, 03:25 PM, عماد البليك
- الصور النمطية للسوداني بقلم عماد البليك 03-31-15, 03:02 PM, عماد البليك
- جدل الرواية والتاريخ بقلم عماد البليك 03-30-15, 02:56 PM, عماد البليك
- حنين القواديس ! بقلم عماد البليك 03-28-15, 03:21 PM, عماد البليك
- توثيق الفنون والتراث بقلم عماد البليك 03-27-15, 02:01 PM, عماد البليك
- رد الاعتبار للعرفان بقلم عماد البليك 03-25-15, 03:27 PM, عماد البليك
- إشكاليات الذائقة الجمالية بقلم عماد البليك 03-24-15, 03:16 PM, عماد البليك
- ابن عربي الهندي ! بقلم عماد البليك 03-23-15, 03:01 PM, عماد البليك
- صندوق "بنو حنظل" بقلم عماد البليك 03-19-15, 04:47 PM, عماد البليك
- ما بعد ريلكه ! بقلم عماد البليك 03-17-15, 04:27 PM, عماد البليك
- طقوس فنية في الحياة السودانية بقلم عماد البليك 03-16-15, 02:09 PM, عماد البليك
- الطبقات مرة أخرى ! بقلم عماد البليك 03-15-15, 02:13 PM, عماد البليك
- جهل كونديرا وفلسفة الاغتراب ! بقلم عماد البليك 03-12-15, 03:40 PM, عماد البليك
- الانتقام الرباني ! بقلم عماد البليك 03-11-15, 02:44 PM, عماد البليك
- أزمة النشر في السودان بقلم عماد البليك 03-10-15, 06:15 PM, عماد البليك
- الفاسد والمفُسِد بقلم عماد البليك 03-09-15, 02:44 PM, عماد البليك
- الاختلاف والهوية ! بقلم عماد البليك 03-08-15, 04:30 PM, عماد البليك
- الـديستوبيا ! بقلم عماد البليك 03-07-15, 03:15 PM, عماد البليك
- حقيقتي.. إرهابي ؟! بقلم عماد البليك 03-05-15, 01:37 PM, عماد البليك
- الساحر ينتظر المطر ! بقلم عماد البليك 03-04-15, 03:01 PM, عماد البليك
- سعة الأحلام وعبادة الصبر ! بقلم عماد البليك 03-03-15, 04:47 PM, عماد البليك
- عن سليم بركات والكرمل وعوالم أخرى! بقلم عماد البليك 03-02-15, 11:39 PM, عماد البليك
- وزارة الفلسفة! بقلم عماد البليك 03-02-15, 06:32 PM, عماد البليك
- صناعة الوهم ! بقلم عماد البليك 02-26-15, 04:02 PM, عماد البليك
- سينما.. سينما !! بقلم عماد البليك 02-25-15, 02:40 PM, عماد البليك
- واسيني والمريود بقلم عماد البليك 02-24-15, 03:57 PM, عماد البليك
- المدن الملعونة ! بقلم عماد البليك 02-22-15, 02:26 PM, عماد البليك
- نهاية عصر البطل ! بقلم عماد البليك 02-19-15, 02:24 PM, عماد البليك
- ما وراء الـتويوتا ! بقلم عماد البليك 02-18-15, 02:24 PM, عماد البليك
- حوار مع صديقي مُوسى ! بقلم عماد البليك 02-17-15, 05:44 AM, عماد البليك
- شياطين الحب وأشياء أخرى ! بقلم عماد البليك 02-15-15, 03:12 PM, عماد البليك
- الحداثة المزيفة وما بعدها المتوحش بقلم عماد البليك 02-14-15, 04:32 PM, عماد البليك
- ما بين السردية السياسية والمدونة الأدبية بقلم عماد البليك 02-13-15, 02:31 PM, عماد البليك
- قوالب الثقافة وهاجس التحرير بقلم عماد البليك 02-11-15, 02:50 PM, عماد البليك
- لا يُحكى..أزمة السودان الثقافية بقلم عماد البليك 02-10-15, 06:15 AM, عماد البليك
- لا يُحكى فقر "سيتوبلازمات" الفكر السياسي السوداني بقلم عماد البليك 02-09-15, 06:13 AM, عماد البليك
- عندما يُبعث عبد الرحيم أبوذكرى في "مسمار تشيخوف" بقلم – عماد البليك 07-26-14, 09:31 AM, عماد البليك
- إلى أي حد يمكن لفكرة الوطن أن تنتمي للماضي؟ بقلم – عماد البليك 07-06-14, 01:32 AM, عماد البليك
- المثقف السوداني.. الإنهزامية .. التنميط والدوغماتية 07-02-14, 10:33 AM, عماد البليك
- بهنس.. إرادة المسيح ضد تغييب المعنى ! عماد البليك 12-20-13, 04:08 PM, عماد البليك
- ما بين نُظم الشيخ ومؤسسية طه .. يكون التباكي ونسج الأشواق !! عماد البليك 12-16-13, 06:11 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (2- 20) عماد البليك 12-05-13, 07:01 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (1- 20) عماد البليك 12-02-13, 05:48 AM, عماد البليك
|
|
|
|
|
|