|
جدل الرواية والتاريخ بقلم عماد البليك
|
01:56 PM Mar, 30 2015 سودانيز اون لاين عماد البليك -مسقط-عمان مكتبتى فى سودانيزاونلاين
لا يحكى
ثمة جدل حول علاقة فن الرواية بالتاريخ، وهل توجد بالمعنى الجلي رواية تاريخية، وهو ما ينفيه البعض في حين يثبته البعض الآخر. الرواية هي استعارة مغلقة على ذاتها حتى لو أنها استندت على العالم الخارجي إلا أنها لا تفسر إلا من داخلها، فأي محاولة لربطها بما هو خارجها يعني أنها تسقط في فخ الواقع والمباشرة وبالتالي تكون ذات علاقة بالتاريخ أو الراهن أو أي إحالات للوقائع الإنسانية وما يعتمل في حياة الناس من تفاصيل وقصص. لكن هذا التعريف لا يكون صحيح المعنى إلا في حال وفاء الرواية لشروطها كرواية، وهي شروط في حد ذاتها معقدة وغير واضحة بالمعنى الدقيق. وهي أيضا متغيرة ومتجددة مع التجريب والحراك الإنساني الذي لا يتوقف، مع رغبة الكائن المبدع في أن يخلق من كل تجربة جديدة رؤية مختلفة واستثنائية. قد تكون هناك قواعد مدرسية عامة مثلا أن الرواية لها حكاية تأخذ بعودها وهي صلبها ومرتكزها الهيكلي، وأنه لابد من شخوص يتحركون داخل فضاء العمل الروائي، كذلك لابد من مكان وزمان أو حيز مكاني يتسع للأفكار والرؤى والإحالات الثقافية وغيرها. وزمان هو التاريخ الخاص بالرواية داخل سياقها الذاتي. وغير ذلك من الأصول أو الوصايا كما يسميها كونديرا، لكن أول خطوات كتابة رواية جديدة تتقاطع مع الراهن والمعاصرة وتتجاوز التراث المتراكم في هذا الفن، هي أن يقوم الكاتب بالتمرد على هذه الوصايا. لكن التمرد لا يعني القطيعة مع التراث ولا يعني الانطلاق من الفراغ ومجرد الرغبات، إذ لابد من استيعاب الماضي والكلاسيكيات بل والتمرين على كتابة التقليد قبل الانتقال إلى كتابة التجديد، هذا الأسلوب البدائي نوعا ما لابد منه قبل يكون للكاتب الانتقال إلى مساحة جديدة من وعي العالم عبر هذه المنظومة الفنية المسماة بالرواية. وهنا يكون السؤال الذي كثيرا ما يطرح متى أكتب رواية جيدة؟ هل أكتبها لأن لي تجربة حياتية زاخرة بالتفاصيل والقصص والخبرات وكوني إنسانا استثنائيا في حياتي، وهذا يعني أن حياتي وما بها من وقائع ومحطات هو الزاد الذي يشكل رؤيتي للعالم وبالتالي يقودني لكتابة عمل جيد، وإذا حدث أن حياتي فقيرة من حيث المغامرات والتجارب لن أكون قادرا على الكتابة بالشكل الذي يمكن أن يشكل إضافة للمحتوى الإبداعي والفني. يربط البعض إذن بين فن الرواية وتجارب الحياة، لكن هنا يجب أن نفرق بين مضمون الفن وتجلياته وبين السيرة والمذكرات وفنون الكتابة عن التجارب الشخصية. قد تستفيد الرواية من الخبرة والتجربة الذاتية لكنها ليس هذا المركز أو المحور الذي يصنع الرواية الجيدة أو يجعل العمل المعين ثرياً من حيث الإفادات والغرابة والدهشة وغيرها من أمور تتعلق بجودة الرواية بمنظور القارئ. دائما هناك مسارين في أي عمل روائي، خط يوهم القارئ بأن هذه التجربة هي الكاتب نفسه، وخط آخر يقول العكس تماما أن هذا النص ليس له علاقة بكاتبه، وبين هاتين المساحتين يتحرك التوهيم في الرواية الجديدة، مع أن الوضع في الاعتبار بعض الكتاب يقوم بزج اسمه مباشرة في النص أو التعريف بذاته أو يضع من الإشارات ما يربط بين استعارة الرواية والعالم الخارجي، وهذا يخالف نوعا ما التعريف المعتاد للرواية ويجعلها تقترب من ناحية شكلية من السيرة مثلا. لكن بقراءة ثانية فهذه المسألة لو تم إنتاجها بشكل جاذب وتقنية متمكنة فإن ذلك يعني الاقتراب بالنص من فضاء تجريبي يفتحه إلى مساحة ثانية من وعي النص الروائي والتجريب. إن أبرز تنظيرات الرواية "ما بعد الجديدة" هو التركيز الدائم على أن النص ينتج واقعه الذاتي بحيث لا يعيد تشكيل المكان الخارجي فحسب، بل يعمل على إنتاج افتراضه الفريد للأمكنة والأزمنة حتى لو حملت مسميات معروفة للمدن أو الشخوص، فقد تقوم رواية على شخصية معروفة مثلا سواء في التاريخ أو الراهن، وفي كل الأحوال فإن هذا التنظير لم يصل بعد إلى نهايات محددة لنقول إن المسألة مغلقة أو ذات تحديدات نهائية يجب الأخذ بها، فالمثير دائما في فن الرواية أنها مفتوحة للاحتمالات والتوقعات وهذا ما يجعلها ابنة العصر الراهن، حتى لو أنها في بعض الأحيان تواجه عصفا ذهنيا يشير إلى أنها قد تتعرض للفناء والموات سريعا. قد يحدث ذلك، ولكنه يجري بمعنى أن يتطور منظور الفن الروائي ليكون أكثر كثافة باتجاه الحياة والإنسان والوجود، ليس كقيمة شاعرية أو غنائية بل كسردية لها القدرة على رؤية الطبقات المختلفة والمتعددة من الوعي والخيارات التي يمكن أن تمنحها الحياة للكائن لكي يرى ويتعلم ويميز ويكون له وضع الصانع لا المتلقي فحسب، وهي مسائل ذات طابع تنظيري ينجح اختبارها مع الأعمال سواء في شكل الكتابة أو تجربتها أو مع القراءة والنظرة غير المباشرة لمغزى النص أو دلالاته. مع أن الحديث عن المغزى والدلالة المحددة، في حد ذاته، يعتبر ثيمة تقليدية يتم الآن التخلص منها ونفيها بحيث يصبح الكلام حول الفضاء الكلي الذي يحتمل أكثر من دلالة وأكثر من معنى، بل فيض من الدلالات المتضاربة وغير المتفقة أساسا، وهي طريقة عالمنا الخارجي الذي تتكاثف فيه الصور والمشاهد وتتداخل أنظمة الوعي والاستنارة ويتوه الإنسان أكثر المرات لدرجة أنه لا يعرف موضعه بالضبط من الزمكان، أين يقف وإلى أين يتقدم، وهو السؤال نفسه الذي يطرحه فن الرواية بوصفه احتمالية للحياة البديلة بشكل أو بآخر. إن التخييل الذي يعني اللعب في المساحات غير المخلقة أساسا أو المعاني غير المرئية من قبل هو شأن التجريب الروائي الجديد، وهو بخلاف الخيال يظل منفتحا وليس له قواعد وأصول معينة تقوم على خارج نظام الوعي داخل النص. في حين أن الخيال غالبا ما يحتاج إلى أنظمة الوعي الخارجية لنقوم بتفسير النص وفهمه، وهو السائد في أغلب النصوص الكلاسيكية أو الرواية التي تقوم على الحبكات التقليدية في البناء والشخوص والأمكنة والوصف وغيرها من الأصول والمرتكزات. كل هذا التقديم وهذا التنظير حول فن الرواية، يقودنا للسؤال الذي بدأنا به هل الرواية هي التاريخ، وهل تصور لنا وقائع فترة معينة مثلا.. وهل هناك رواية تاريخية.. الإجابة المباشرة وإلى حين.. هي لا.. فالرواية إذا ما كانت تاريخا بأي معنى آخر بمعنى جعلت القارئ يفكر في الروابط الخارجية التي تعطي وعيا بالدلالة الموجودة داخل النص أو الرموز والإشارات، فهي لن تكون رواية أبدا.. بل نص آخر لا أعرف ماذا يُسمى بالضبط. mailto:[email protected]@gmail.com
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- حنين القواديس ! بقلم عماد البليك 03-28-15, 02:21 PM, عماد البليك
- توثيق الفنون والتراث بقلم عماد البليك 03-27-15, 01:01 PM, عماد البليك
- رد الاعتبار للعرفان بقلم عماد البليك 03-25-15, 02:27 PM, عماد البليك
- إشكاليات الذائقة الجمالية بقلم عماد البليك 03-24-15, 02:16 PM, عماد البليك
- ابن عربي الهندي ! بقلم عماد البليك 03-23-15, 02:01 PM, عماد البليك
- صندوق "بنو حنظل" بقلم عماد البليك 03-19-15, 03:47 PM, عماد البليك
- ما بعد ريلكه ! بقلم عماد البليك 03-17-15, 03:27 PM, عماد البليك
- طقوس فنية في الحياة السودانية بقلم عماد البليك 03-16-15, 01:09 PM, عماد البليك
- الطبقات مرة أخرى ! بقلم عماد البليك 03-15-15, 01:13 PM, عماد البليك
- جهل كونديرا وفلسفة الاغتراب ! بقلم عماد البليك 03-12-15, 02:40 PM, عماد البليك
- الانتقام الرباني ! بقلم عماد البليك 03-11-15, 01:44 PM, عماد البليك
- أزمة النشر في السودان بقلم عماد البليك 03-10-15, 05:15 PM, عماد البليك
- الفاسد والمفُسِد بقلم عماد البليك 03-09-15, 01:44 PM, عماد البليك
- الاختلاف والهوية ! بقلم عماد البليك 03-08-15, 03:30 PM, عماد البليك
- الـديستوبيا ! بقلم عماد البليك 03-07-15, 02:15 PM, عماد البليك
- حقيقتي.. إرهابي ؟! بقلم عماد البليك 03-05-15, 12:37 PM, عماد البليك
- الساحر ينتظر المطر ! بقلم عماد البليك 03-04-15, 02:01 PM, عماد البليك
- سعة الأحلام وعبادة الصبر ! بقلم عماد البليك 03-03-15, 03:47 PM, عماد البليك
- عن سليم بركات والكرمل وعوالم أخرى! بقلم عماد البليك 03-02-15, 10:39 PM, عماد البليك
- وزارة الفلسفة! بقلم عماد البليك 03-02-15, 05:32 PM, عماد البليك
- صناعة الوهم ! بقلم عماد البليك 02-26-15, 03:02 PM, عماد البليك
- سينما.. سينما !! بقلم عماد البليك 02-25-15, 01:40 PM, عماد البليك
- واسيني والمريود بقلم عماد البليك 02-24-15, 02:57 PM, عماد البليك
- المدن الملعونة ! بقلم عماد البليك 02-22-15, 01:26 PM, عماد البليك
- نهاية عصر البطل ! بقلم عماد البليك 02-19-15, 01:24 PM, عماد البليك
- ما وراء الـتويوتا ! بقلم عماد البليك 02-18-15, 01:24 PM, عماد البليك
- حوار مع صديقي مُوسى ! بقلم عماد البليك 02-17-15, 04:44 AM, عماد البليك
- شياطين الحب وأشياء أخرى ! بقلم عماد البليك 02-15-15, 02:12 PM, عماد البليك
- الحداثة المزيفة وما بعدها المتوحش بقلم عماد البليك 02-14-15, 03:32 PM, عماد البليك
- ما بين السردية السياسية والمدونة الأدبية بقلم عماد البليك 02-13-15, 01:31 PM, عماد البليك
- قوالب الثقافة وهاجس التحرير بقلم عماد البليك 02-11-15, 01:50 PM, عماد البليك
- لا يُحكى..أزمة السودان الثقافية بقلم عماد البليك 02-10-15, 05:15 AM, عماد البليك
- لا يُحكى فقر "سيتوبلازمات" الفكر السياسي السوداني بقلم عماد البليك 02-09-15, 05:13 AM, عماد البليك
- عندما يُبعث عبد الرحيم أبوذكرى في "مسمار تشيخوف" بقلم – عماد البليك 07-26-14, 08:31 AM, عماد البليك
- إلى أي حد يمكن لفكرة الوطن أن تنتمي للماضي؟ بقلم – عماد البليك 07-06-14, 00:32 AM, عماد البليك
- المثقف السوداني.. الإنهزامية .. التنميط والدوغماتية 07-02-14, 09:33 AM, عماد البليك
- بهنس.. إرادة المسيح ضد تغييب المعنى ! عماد البليك 12-20-13, 03:08 PM, عماد البليك
- ما بين نُظم الشيخ ومؤسسية طه .. يكون التباكي ونسج الأشواق !! عماد البليك 12-16-13, 05:11 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (2- 20) عماد البليك 12-05-13, 06:01 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (1- 20) عماد البليك 12-02-13, 04:48 AM, عماد البليك
|
|
|
|
|
|