|
المدن الملعونة ! بقلم عماد البليك
|
01:26 PM Feb, 22 2015 سودانيز أون لاين عماد البليك - مسقط-عمان مكتبتي في سودانيزاونلاين
لا يُحكى
ثمة خطاب ناقم هذه الأيام في شبكات التواصل الاجتماعي ضد مدينة الخرطوم باعتبارها بطن السودان المتكرش والمترهل الذي يحمل "القاذورات" وقد آن الأوان لبقرها لكي يخرج هذا الوسخ. وقد كتب الناقد والمفكر محمد الجيلاني بشكل موجز عن فكرة يمكن التوسع فيها عن كيف أن هذه المدينة تحولت إلى وبال وصارت سببا في جراح السودان وإنسانه وألمه بل أغلقت الطريق إلى المستقبل الجميل. اليوم هناك مراجعات تتم وفي أكثر من موقع ومن خلال أفكار عديدة تطرح في شبكات التواصل ومواقع الانترنت وبعضها في مواضع متناثرة من الصحافة المطبوعة. تتعلق كلية هذه المراجعات بإعادة رؤية التاريخ السوداني ومواضعاته وأدواره في بناء اللحظة الراهنة التي بدأت تتضح على أنها شوفينية، مفارقة للمجموع الذي يحاول أن يرى الحقيقة ويحاول كذلك أن يبحث عن المنطق والجميل. بمعنى أنها لحظة باتت سمتها تكريس قيم القبح والتحزب والفوقية الجائرة التي ترى نفسها على أنها المعنى والكمال وما سواها هو المنهزم والجاهل. هذه المراجعات رغم أنها لم تأخذ إلى الآن طابعا مؤسسيا أو ذات استقراءات موسوعية في إنتاج فكري منظوم، إلا أنها مهمة في بناء حركة فكرية ذات مسار ناقد لجملة حراك الدولة السودانية الحديثة ومآلاتها.. الإشكاليات الراهنة التي تعاني منها والأزمات وصور الممكن واللاممكن. بمحاولة أن ينطلق العقل نحو مراجعة القائم وغربلة الأمس بهدف الوصول إلى الأفضل من خلال التفكير العلمي والناقد. فنمو العقل النقدي هو خطوة سليمة باتجاه تأسيس معطى جديد للحياة الإنسانية في المجتمع السوداني. إعمال النظر بنحو جديد في التقاليد والممارسات والأصول الثقافية وبلورة نقد وفكر يكون له أن ينفي الأزمة من خلال الوعي لا من خلال الاستمرار في التجهيل أو قمع العقلنة. إن الخرطوم كمثال لأزمة السودان، ليست بالأطروحة الجديدة حيث سبق الكلام حول دور الخرطوم السيء في تشكيل خارطة العمل السياسي والإبداع الثقافي بحيث كانت المترتب عن ذلك ركيكا للغاية. جملة من الحروب المستمرة. والاستمرار في فوضى ما يسمى بالمركز والهامش وغيرها من هذه الكلاسيكيات التي ما فتئت تفرض ظرفياتها وسردياتها المنهكة على الراهن. بالإضافة إلى التردي المريع في البنى الاقتصادية والتجارية والصناعية والعقل الإنتاجي الذي يقوم على فهم البنى الوطنية والأنساق الحضارية للإنسان والمكان. وهي مجموعة من الاستفهامات والأسئلة المركبة التي تكشف في عمومياتها عن انهيار في الدولة بالمفهوم المدرسي لها، بحيث صار التجييش وهاجس الإيلاف مبتورا وغير مكتمل يركز على الشكلانيات دون النفاذ إلى العمق المعرفي لما يجب أن يكون عليه المستقبل السليم. إن الشعوب تنهض بالمراجعات الكبيرة والنقد المستمر للذات وليس بالاتكال على صور متوهمة من الماضي على أنه يمثل حقيقة اليوم، أو أن الحلول تكمن هناك لا هنا والعكس صحيح. ولهذا فصورة الخرطوم التي هي مسار جدل اليوم وقبل ذلك. هي واحدة من الصور الذهنية التقليدية التي أدمنها السياسيون والاقتصاديون والعقل الجمعي. حيث كل شيء ممركز ابتداء من فكرة أن العاصمة لأي بلد لابد أن تكون في مركز الدائرة، أي في الوسط الجغرافي.. وهذا غير سديد.. تماما. فالعاصمة ليست فكرة أو مفهوم جغرافي بل هي سياق فكري عميق لتجليات الممكن في حيز هذا المكان وانساقه المختلفة من سياسة لفكر لثقافة من خلال الابتكار والتوليد لا من خلال ما هو قائم ومتوارث فحسب. لأن التراثي قد يكون خاضع للتضليل والتعمليات ولا يتضمن الحقيقة المفترضة. لقد قامت بعض الدول بتغيير عواصمها بحثا عن الممكن الجديد. وهذا لا يتم بناء على اعتباطية ورغبات جوفاء بل استنادا على مراجعات متسلسلة زمنيا تفضي في خلاصاتها إلى مركب جمعي يقود لهذا الفعل. لا يحتاج الأمر إلى حشد جماهيري على شاكلة ثورات ما عرف بالربيع العربي وزعيق في الشوارع ليهتف الناس نريد ذلك. ولكن البدء في تقليب الفكرة من خلال الإحساس بالأزمة يقود إلى التفكير في الفعل الجديد الممكن. وهذا ليس حادثا الآن على المستوى السياسي، فمشروعات التوسع الهيكلي في الخرطوم قائمة وهو توسع أفقى على المستوى الحضري أو الأنساق الثقافية لا يعالج العمق. إذ لا توجد حلول مبتكرة لتحويل المدينة إلى بناء رأسي سواء على صعيد العمران الذي يمكن أن يحل إشكالات عميقة في مشاكل كالسكن والمواصلات والخدمات مثلا، أو على مستوى إعادة ترقية الأصول الثقافية مؤسسيا والبنى الحضرية في تشكيل وبلورة عمق معرفي لها. فالخرطوم مدينة جافة ليس فيها من صفات المدن.. لا هي بادية ولا حضر.. ينطبق عليها قول الشاعر توفيق صالح جبريل عن الدامر "لا أنت قرية بداوتها تبدو ولا أنت بندر".. الخرطوم اليوم تدار بعقلية السمسار والمراهنات والعقارات الآيلة للسقوط التي تجني الأموال التي ليس لها قيمة سوى أنها ورق.. قيمة افتراضية. الخرطوم اليوم هي مدينة الافتراضات الذهنية المختالة والمخادعة وليست مدينة الحقائق أبدا. فليس فيها من سمات التحضر سوى برج واحد تفاخر به الفضائيات ساعة يرتسم في الخلفيات على الشاشة. وهو معطى أساسا لا ينتمي لتركيب المكان الجغرافي وتطوره الحقيقي. فعمارة الخرطوم التقليدية هي مأخوذة من البناء الفيكتوري والإنجليزي الذي لا يشبهنا أيضا. وحتى القصر الجمهوري الجديد في عمارته جاء بشكل ارتجالي لم يعبر عن هوية الخرطوم ولا تاريخ السودان، بحيث تم استلاف الصورة القديمة نفسها، وهذا جزء من الخيبات المعمارية التي هي أساسا امتداد للفشل في أنماط الحياة المختلفة. تحتاج الخرطوم لزعزعة المركزة عنها. ابتكار عواصم بديلة ذات مسارات أو تخصصات مختلفة. عاصمة للتجارة وأخرى للصناعة. عاصمة للسياحة وأخرى للسياسة. عاصمة للثقافة وهكذا.. هذا التوليد ضروري في عصر جديد من سمته التنوع والتخصصية والاتجاه نحو إعطاء المكان حقه بحيث توزع الأزمة بدلا من تمديد سطوتها في الاستمرار بحشر الناس في بقعة صغيرة تفتقد للذكاء الاصطناعي والمستقبل الذي لن يقوم منقطعا عن الأمس في ظل تكلس العقل الجمعي عن إبداع صور جديدة وبديلة وابتكارية للحياة. إن البحث عن خرطوم جديدة.. أو نسف الخرطوم نفسها هو الحل. الجديدة تكون من خلال ابتكار للموقع وتوظيفه بشكل بنائي خلاق.. والنسف من خلال إعادة إنتاج المكان بتفتيت مركزيته بالعواصم المتعددة. المهم هو التفكير والعمل على المزيد من النقد لهذا الفضاء المخلوق الذي صار وهما أكثر من حقيقته المضللة والتي تتسم بالفراغ أحيانا، حيث لا مغزى لكثير من الأشكال والتوهمات. فليس في الخرطوم سوقا حقيقية ذات معيار حداثوي في الوقت الذي لم تطور فيه مثلا الأسواق التقليدية لتكون ذات صبغة جديدة. وهذا مثال أول.. والأمثلة تنطبق على كل شيء لما في ذلك تشكيل الشوارع والبيوت التي لم تغادر نمطها منذ نصف قرن وأكثر. mailto:[email protected]@gmail.com
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- نهاية عصر البطل ! بقلم عماد البليك 19-02-15, 01:24 PM, عماد البليك
- ما وراء الـتويوتا ! بقلم عماد البليك 18-02-15, 01:24 PM, عماد البليك
- حوار مع صديقي مُوسى ! بقلم عماد البليك 17-02-15, 04:44 AM, عماد البليك
- شياطين الحب وأشياء أخرى ! بقلم عماد البليك 15-02-15, 02:12 PM, عماد البليك
- الحداثة المزيفة وما بعدها المتوحش بقلم عماد البليك 14-02-15, 03:32 PM, عماد البليك
- ما بين السردية السياسية والمدونة الأدبية بقلم عماد البليك 13-02-15, 01:31 PM, عماد البليك
- قوالب الثقافة وهاجس التحرير بقلم عماد البليك 11-02-15, 01:50 PM, عماد البليك
- لا يُحكى..أزمة السودان الثقافية بقلم عماد البليك 10-02-15, 05:15 AM, عماد البليك
- لا يُحكى فقر "سيتوبلازمات" الفكر السياسي السوداني بقلم عماد البليك 09-02-15, 05:13 AM, عماد البليك
- عندما يُبعث عبد الرحيم أبوذكرى في "مسمار تشيخوف" بقلم – عماد البليك 26-07-14, 08:31 AM, عماد البليك
- إلى أي حد يمكن لفكرة الوطن أن تنتمي للماضي؟ بقلم – عماد البليك 06-07-14, 00:32 AM, عماد البليك
- المثقف السوداني.. الإنهزامية .. التنميط والدوغماتية 02-07-14, 09:33 AM, عماد البليك
- بهنس.. إرادة المسيح ضد تغييب المعنى ! عماد البليك 20-12-13, 03:08 PM, عماد البليك
- ما بين نُظم الشيخ ومؤسسية طه .. يكون التباكي ونسج الأشواق !! عماد البليك 16-12-13, 05:11 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (2- 20) عماد البليك 05-12-13, 06:01 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (1- 20) عماد البليك 02-12-13, 04:48 AM, عماد البليك
|
|
|
|
|
|