|
نصف قرن من غياب اخي الحبيب كاريل بقلم شوقي بدرى
|
عندما رجعنا الي امدرمان للدراسة في المدارس الثانوية ، كنا عصبة جميلة من اعالي النيل . في مدرسة الامريكان كان عبدالله خيري مدير بنك البركة الحالي وكبيرنا اجوت الونج اكول . وكنت انا وفقوق نقور ومحمد نور بابكر نميري حسب الرسول هجام في مدرسة الاحفاد . وبما ان مدرسة الري المصري كانت تستوعب الطلاب السودانيين، فلقد انضم الاخوة الشيخ ومحمد سعيد ومجموعة اخري الي المدارس الثانوية المصرية . وكان الاغلبية من شمال اعالي النيل خاصة ملوط الرنك والقيقر. من ابناء القيقر في امدرمان كان اخي الحبيب كاريل طيب الله ثراه . كان يكبرنا قليلا ولم يحظ بتعليم يذكر ، لان والده العم فضل تيا كان جزارا في القيقر وله ,,بلدات ,, لزراعة القطن والعيش. وكان محمد فضل تيا او كاريل يساعد والده منذ طفولته . كاريل كان نقاشا في امدرمان . وكان يسكن عند اقربائه ابو زيد والنيل. الاثنان من النقاشين ويسكنون خلف دكان جعفر الشهير في شارع الاربعين . ومنزلهم كان انيقا له الوان جميلة . وابو زيد كان نقاشا ويمتلك موتر فسبا يذهب دائما للتصليح ولقد اشتراة من الخواجة السوداني الايطالي وكان صاحب الشركة التي يعملون فيها. وكان الاخ النيل الفورمان الذي يدير كل العمل . وكان لكاريل بعض المعارف والاهل في فريق تقلي شرق الكلية او مدرسة امدرمان الاميرية التي خرجت الكثير من مشاهير السودان . والحي ينسب الي اهل تقلي في جبال النوبة . ومن مشاهير الحي لاعب الكرة الشاب اللطيف صبايا . بالرغم من ضخامة كاريل الاانه كان لطيفا وديعا له قلب كبير يحب كل الناس . كان يكره العنف وينفر حتي من المواجهات اللفظية. كان يطالبني دائما ان اقلع عن ارتداء السكين . وكان شعار البداوة السودانية وقتها . العصا للكلب والسكين للسلب . وعندما ذهب معي الي ناي المريخ لتمارين الملاكمة . انقطع ، وكان يقول لي ما صرت ادعو له فيما بعد :: دي رياضة شنو؟ كيف الناس تضارب وتسيح دم بعض ويقولو دي رياضة ؟ وعندما كان يذهب معي في الامسيات الي مدرسة الاحفاد كان شكله وعمره يعطي الاخرين بانه احد فتوات العباسية . ولكن بعد دقائق يذوب الثلج . فلكاريل ضحكة معدية ورح جميلة . وميل للدعابة . قال لامي مره متصنعا الجد .ملوخيتكم دي فيها شنو اهو غسلت ايدي بالصابون ابت تطلع . وبدا الهلع في وجه امي الي ان قالت لها اختي نضيفة ,, خدرة شنو دي بوهية . كاريل بكون ضارب بهية خدرا . واطلق كاريل ضحكته المعدية . وتلك الضحكة تخرج من حلقه خا خا خا لم اسمع تلك الضحكو الا من فتوة ومعلم قهوة شديد عبد الفتاح وامين مبارك ميرغني . وكانت تحببني في امين بالرغم من بعض الخلافات . فلقد كان يذكرني بكاريل وغفرت له اشياء . بالرغم من تلك الروح الحلوة كان كاريل يعرف شيئا لا يستطيع اقوي الرجال ان يتحمله . كان يعرف ان هنالك خطرا ينتظرة وذالك الوحش قد يفتك به في اية لحظة. وكان يذكرة عرضا ولم نكن نهتم . فذالك كان السودان الجميل وكان الجميع يحس اننا في سعادة وامن لن يزول .وواصل الجميع العيش في القيقر . وخلف سويرس احفادا في القيقر . وابنه صار متخصصا في اصلاح الثلاجات والادوات الكهربائية التي لم تتوفر قديما . عندما كنت في بركة العجب في اجازة في 1963 . كنا نذهب الي القيقر مشيا . وبالرغم من انني لا اشرب الشاي فلكن كنت ارافق الآخرين الي المقهي ونجلس ونحن نراقب النيل واعشاب النيل وهي تغطي اغلب الرقعة المائية . وكنا نمر بما عرف بحفر سويرس. ولان اعالي النيل ارض طينية لزجة ، فكان الناس يبحثون عن اماكن الرمل او السفاية لبناء المنازل . وانتزعت احشاء الارض وصارت اخاديد ممتدة .وفي احد الايام كان التاجر القبطي مع بعض اصدقائة وهو يقود اللاندروفر ووقع في احدي تلك الحفر . ولكنهم جلسوا علي انوار العربة وواصلوا الشرب والغناء . من العادات السودانية السخيفة هي اطلاق الرصاص في حفلات الزواج . وكان سويرس كاحد اعيان القيقر يطلق الرصاص ومن الممكن ان الخمر قد لعبت برأسة . وكان كاريل والاخ المساح يهزون ويبشرون فوق راس المغنية . . وكاريل كان يضع ساعده علي كتف الاخ المساح الذي كان يرفع يده عاليا. وخطف الخرطوش يد الاخ المساح واستقر قدر من الرش في ظهر كاريل طيب الله ثراه . وساعدت قوة كاريل الجسدية في شفائه . ولكن لم يكن هنالك التقنية لاخراج الرش من جسم اخي الحبيب كاريل رحمة الله عليه . وكان يقال ان ذالك قد يسبب مضاعفات في المستقبل . لم اري ذالك الفارس بالرغم من هذا الا هاشا باشا . ما ان يلج باب البيت الذي لم يكن يقفل كعادة امدرمان قديما حتي يطلق ضحكته المعدية . كان لنا منزلان ، منزل للعائلة ومنزل آخر للطلاب. وكان يسكن معنا الشقيق عبد المجيد محمد سعبد العباسي وحمودة ابو سن ابن الوزير وشيخ العرب ومعتصم وبدر الدين احمد الحاج وصلاح محمد التجاني وخالي ميرغني ابتر وابن العمة الذي كا مدرسنا في الاحفاد الطيب ميرغني شكاك والزوار الذين لا ينقطعون كعادة الناس قديما في السودان . وفي احد الايام يرتفع صخب وجلجلة كاريل في الحوش مما لفت نظر بقية الاسرة ووالدي في المنزل المجاور . وبين المنزلين نفاج كبير . وعندما خرجنا من الغرف وتركنا لعبة الوست . كان كاريل يستلقي علي احد الاسرة وهو يقهقه . ويتظاهر بانه سيخلع قميصه الجديد . فعلي الاسرة التسعة التي قام برصها الاخ اسماعيل كانت هنالك ملائات جديدة بمربعات باللون الازوق الفاتح والاسود . وكانت من نفس قماش قميص كاريل الجديد . كاريل كان يحلم بتوفير قدر كافي من المال لكي يتزوج في القبقر وقد يأتي بزوجته الي امدرمان او ان يستقر في القيقر . وكانت يوميته 65 قرشا في اليوم وكيلو اللحمة كان باربعة عشر قرشا . وكانوا كثيرا ما يعملون ,, سهرة ,, وهذا يعني العمل الي الرابعة او الخامسة ، ويكون الاجر جنيها . ولم يكن كاريل يدخن او يتعاطي اي مشروبات او مكيفات . وكان يوفر المال بالرغم من علمه بان الرصاص قد يغدر به يوما . تعلمت النقاشة علي يد كاريل . و كانوا يعملون في طلاء كل مستشفي الارسالية الذي صار التجاني الماحي الآن . وكان اصعب جزء من العمل هو صبغ السقف . لان يد الانسان تكون في وضع غيرمريح . ويتوقف الجميع بعد مدة قصيرة للراحة ثم المواصلة . ولكن كاريل كان اكثرنا صمودا . كريل كان فنانا ومنفتحا . تعلمت منه ما صرت اطبقه في منزلنا ومنازل الاهل والاصدقاء . فالجزء الاسفل من الحائط يعرف بالاسفال . ويصبغ بزيت اسود لكي يحمي البياض المصنوع من الرمل والصمغ من الماءزالاوساخ . والبعض يجعل لذالك الشريط عرضا وقد يزيد عن نصف المتر . وكاريل كان ينقص ذالك الشريط الي شبر واحد . وكان يجعل الوظرة او الجزء الاعلي وهو باللون الابيض من الاذبداج عريضا جدا وهذا يجعل الغرفة تبدو اكثر رحابة . ويصبغ الكتوف باللون الابيض .ويعطي هذا صورة جمالية للصالون او الغرفة . والكتوف هي الجانب الداخلي من النوافذ . وكنا نجعل الوظرة تعانق الاسفال في كل الاركان . وقد نعمل لها زيقا من زيت الاسفال كبرواز . من العادة ان يقوم الاسطي ,, بدق الخيط ,, وهو ان يوضع خيط طويل في الجير ثم يشد الخيط من الطرفين ويرفع قليلا ثم يفلت ويترك خطا مستقيما يتبعه النقاس في الطلاء . وكان كاريك والاخ حسن النمر من الوحيدين الذين لا يستعملون الخيط ؟ وباتي العمل مظبوطا . ونفرني كاريل من اللون الاصفر الذي يشاهده الانسان في اغلب البيوت السودانية . وكان يصر علي الالوان الجميلة . الغرفة اربعة في اربعة امتار تحتاج لثلاثة كيلو جرامات من الاذبداخ الابيض الناصع لكي يخلط باللون . وتأخذ الوظرة بكيلو كامل , الاذبداج كان يكلف عشرين قرشا للكيلو واللون عبارة عن كيلو واحد يساوي كذاك عشرين قررشا . ويثبت كل ذالك بنصف ركل من الصمغ المبثور بساوي 5 قروش وكان كاريل ضد الغش . لان التقاش لا يشتري الاذبداج بل يشتري جوالا مع جير امدرمان خمسة كيلوحرامات وينقعة في الماء ليوم كامل ويساوي 6 قروش ونصف. ونقوم بهرسه باليد وتصفيته بالنملية . وبدلا عن اللون الاصفر ويساوي عشرين قرشا. يمكن شراء ربع رطل من الزرنيخ بخمسة قروش . وتكون النتيجة مماثلة للاذبداج واللون العادي . لا يعرف الفرق الا التقاش المتمرس . وكنت اقوم بهذ العمل بدون اجر ولكي اوفر للاصدقاء والاهل بعض المال يفيدهم في العيد الذي يكون علي الابواب . وكل ذالك ببركة وروح الاخ الحبيب كاريل . الذي كان قد ذهب لاعالي النيل لفترة فاقت السنة . وطبقت نظرباته . وكان صالون توئم الروح بله يحمل اللون الوردي . وكان ذالك غير عادي. وغيرت لون صالون اخي مصطفي كتبا في فريق ريد من الاضفر الي الزرعي . وكانت الكراسي تصبغ قبل العيد بالجملكا . ولكن صار يضاف الاذبداج الي الجملكا وهي مسحوق وبعض السبيرتو . ويصير لها لونا فاتحا جميلا . كل ذالك تعلمته من كاريل طيب الله ثراة . وكان يحاول ان يعلمني الصبر والاناة في العمل . ويصر علي ملئ الشقوق بالرمل المخلوط بالصمغ المبثور قبل فترة حتي يجف تماما قبل الطلاء والا صارت هنالك ندوب في الجدار . وتعلمت من كاريل ان لا اجزع او اتهيب حتي الموت . وكنت انتظر عودته من القيقر لكي انعم برفقته الجميلة ولكي ازكي نفسي كنقاش بارع . وفي 1964 اتي كاريل لفترة بسيطة وكان يخطط للرجوع نهائيا الي امدرمان . وكنا قد رحلنا من العباسية ميدان الربيع الي السردارية . وعندما شاهدني جالسا علي رصيف منتزه الرفيرا بالقرب من الطابية . اطلق ضحكته الرائعة . وقال لي انه كان متأكدا من انه سيجدني في ذالك المكان الذي كنا نجلس فيه ونراقب النيل الذي كان قد لثم جبين القيقر قبل اسابيع . وفي ذالك المكان تفارقنا في يوم الجمعة لان القطار كان يغادر الي كوستي في السادسة مساء ويصل كوستي في الصباح وبعد اربعة ايام وفي يوم الاربعاء تصل الباخرة المحلي ملكال بعد ان تكون قد مرت علي القيقرباكثر من يوم . واظن ان اسم الباخرة هو فشودة . وقبل ان تصل الباخرة الي القيقر توقف ذالك القلب الكبير . وتوقفت تلك الضحكة المميزة , اتي من اخبرني بموت كاريل قبل المغرب نحن جلوس بالقرب من الريفيرا . واصابني نوع من الوجوم . وكان يجلس بجانبي توئم الروح بلة . واحترم المي ولم يتحدث . واتي انسان لم يحترم المناسبة حتي بعد ان اخبره بلة بسبب وجومي . وعندما لم يرعوي . اخذة بله بعيد وقال له انه قد يصيبه ضرر . لم استطع ان استوعب ان كاريل قد ذهب . كلما امسك فرشاة لادهن شيئا ويحدث هذا كثيرا ، اتذكر كاريل رحمة الله عليه . والآن عندما اري ما يحدث لاهلنا في جبال النوبة افكر لاول مرة ان كاريل نوباوي .واذكر عندما كنت اتكلم عن البرون في مركز المابان في شرق اعالي النيل ، ان كاريل كان يقول لي ان النوبة يقولون ان جد البرون هو اخوهم الذي اخذه الخور . فالخيران تأتي من الجبال مندفعة وقد تحمل كل شئ معها. وكان يقصد تقارب الشكل وكثير من العادات بين الشعبين .
|
|
|
|
|
|