|
الباشكاتب بقلم شوقي بدرى
|
عنما اتي عبد العظيم افندي الي مكتب بريد امدرمان ، او ما عرف بالبوستة كان السودان يمر بمرحلة مفصلية . فلقد نعمت البلاد بالاستقلال . ولكن لم يتغير الكثير . فالسودان لم يكن مستعمرة تابعة لوزارة المستعمرات البريطانية . بل كان تحت الادارة البريطانية وعن طريق وزارة الخارجية . ولم يكن هنالك استيطان بريطاني . وكان ممنوعا علي الاجانب امتلاك اراضي في السودان . وتعامل البريطانيون بكثير من الاحترام مع السودانيين . واشادوا بهم في تقاريرهم وكتبهم . وتأثر السودانيون بالانضباط البريطاني , وكان بعضهم اكثر انضباطا من البريطانيين . عبد العظيم افندي كان من النوع الذي لم يحدث في كل سنين خدمته ان حضر متأخرا الي عمله . وكان قد عمل في اماكن عديدة في كل انحاء السودان . وعندما نقل كباشكاتب الي امدرمان ، كان يعرف ان المسئولية كبيرة جدا . فال مكتب يخدم اكبر عدد من السكان في كل السودان .ومن ذالك المكتب انطلقت اول اذاعة سودانية . وعبد العظيم افندي كان يتهيب ذالك المكتب . وبما انه قد ولد وعاش في الاقاليم ، فلقد تكونت عنده فكرة انه قد يتعرض لبعض الاستخفاف او عدم الاحترام وعدم والتقبل في المدينة التي يحسب سكانها انهم شئ خاص جدا. وقام سلفه باعطائه صورة قاتمة عن الشلليات في البوستة . والحقيقة ان من عرف بانصار السنة كانوا متمركزين في قسم الطرود ، وكان قسم التلغراف يضم مجموعة بمن عرفوا باعضاء الجبهة المعادية للاستعمار . وهؤلاء كانوا يسمون بالشيوعيين . وحتي رجال البريد الذين يوصلون الخطابات والاخطارات منظمون في النقابة وكانت للجميع المام معقول بالسياسة وكانت الاغلبية تناصر الحزب الاتحادي او حزب الشعب الديمقراطي . والقليل ينتمي الي حزب الامة . وكان بعض سعاة البريد يسيرون بدون دراجات . ويعرفون كل السكان حتي من ترك المدينة او من انتقل الي قسم آخر من المدينة . فكثير من الشوارع لم تحمل اسمائا . واصحاب صناديق البريد كانوا يتكفلون بايصال خطابات معارفهم من الاقاليم . وبعض اهل الاقاليم يعطي رقم صندوق بريد تاجر في امدرمان من منطقته قبل الانضمام الي سكان امدرمان . وكان يكفي ان يتقبل الوافد بايقاع المدينة وروحها ويصير من اساطينها . . ولا يتضايق التاجر ويعتبر الامر تشريفا له . وسعاة البريد يستخدمون الدراجات المصبوغة باللون الرمادي . واطاراتها لا تحتاج للنفخ . وكان هنالك عمال الصيانة الذين يصلحون كل شئ . وفي قسم الحوالات البريدية يصرفون الآلاف من الجنيهات الي المواطنين بدون هويات . فالهويات لم تكتشف بعد في ذالك الزمان . ولكن الموظفون بعرفون اغلب المترددين علي البوستة . ويحضر البعض لاضافة مبلغا لمدخراتهم في البوستة ، او لسحب بعض المال من دفتر التوفير . وكان كل شيئ يسير بدقة . الصراف ومساعدوه يجردون الخزينه كل يوم . ولا تزيد الخزينة او تنقص مليما. . واراد عبد العظيم افندي ان يحس الجميع بانه علي قدر تلك المسئولية . ورسم لنفسه خط سير لم يحد عنه . ولم يكن يتبسط مع الناس . وكان يحاسب اي موظف اذا تأخر لبضع دقائق . ويطالب بكتابة استجواب . واذا تكرر الامر يطالب بلجنة محاسبة . وينتهي الامر بقطع جرء من الراتب الهزيل . ولم يكن يشفع للناس ان الامطار قد اعاقت المواصلات ، او لاي سبب قد يكون خارجا عن ارادة الموظف . وكان عبد العظيم افندي يصر علي الظهور بهندام رائع . وكان يصر علي بنطلونات الصوف الانجليزي في بلد صحراوي . ويحب الاقمشة ذات لاسماء البراقة ، مثل البمبيتشي والجبردين . ويكون حذائه لامعا طيلة اليوم . وكان البعض يسخر من ان له منديلان . منديل لمسع عرقه ومنديل لمسح حذائه . وكان ينتقد ملابس بعض الموظفين . وكانوا يسكتون علي مضض . وكاغلب السودانيين قديما كان يتبع احد الطرق الصوفية . وكان لا يستطيع ان يفهم الود والمزاح الذي كان يحدث بين الشيوعيين وانصار السنة .وهو كصوفي بعتبر المجموعتين من الخارجين عن الدين . ولم يكن خافيا علي الجميع من انها قضيية وقت فقط قبل ان يصطدم الباشكاتب بالكاتب حسين . الذي كان يترك طاولته بانتظام . وكان قد تعرض لخصم مرتب بسبب تأخره . وعندما ابدي الباشكاتب ملاحظة علي سروال حسين الذي لم يحظي بمصافحة المكواة لمدة . كان رد حسين انه بسبب قطع المرتب فان ميزانيته قد ارتبكت . ثم سأل ساخرا اذا كانت هنالك لوائح في الخدمة التي وضعها البريطانيون ، ويحفظها عبد العطيم افندي ، تلزم الموظف المسكين بكي بنطلونه كل صباح ؟ وبعدها بيوم كان الجميع في حالة دهشة ، لان حسين اتي يرتدي جلبابا انيقا للمكتب . وقام البعض بتعزيته فلقد حسبوا انه قد اتي لاخذ اذن بسبب مأتم في اسرته . ولكنه كان يقول بصوت عال بما انه يعاني من الفقر بسبب القطع فليس في امكانه اخذ بناطلينه الي المكوجي , وليس هنالك في لوائح الخدمة المدنية ما يلزمه بارتداء ذي معين . فهو ليس بساعي بريد وليس من السعاة في المكتب الذين صاروا يلزمون بالوقوف عندما يمر امبراطور المكتب . المشكلة الكبيرة والتي جعلت الصراف ووكيل البوستة يتضايقون ، هو ان الكثير من المواطنين كانوا ياتون بدون هويات وكان حسين يعرف الجميع لانه ولد في ادرمان . وكان الاغلبية يطالبون بحضورة لتأكيد هويتهم . واذا لم يتعرف عليهم مباشرة كانت بعض الاسئلة كافية لتحديد هويتهم . وكان والده واعمامه تجارا ولهم معرفة بسكان امدرمان التي هي بالرغم من انها اكبر مدينة في السودان الا ان سكانها يعرفون بعضهم البعض . . وعندما يستدعي الصراف او مو ظفي الشباك حسين كان يقول ، انه قد وضع في بيت الطاعة . ولن يترك مكتبه. وفي امكان الامبراطور ان يحل تلك المشاكل . قبل حضور عبد العظيم افندي ، كان حسين يذهب لقضاء كثير من الخدمات لرؤسائه وزملائه في المجلس البلدي وفي مصلحة المخازن والمهمات كلما تاخرت الدفاتر والمقاعد والطاولات والاقلام وكل ملزمات مكاتب البريد في امدرمان . وهو الذي يذهب الي النقل الميكانيكي لاسترجاع السيارة التي تأخر تسليمها بعد اصلاحها . وبسبب مقدرته علي تكوين صداقات كان الامر يتم بسهولة . والآن صار حسن لا يغادر طاولته . والجميع يشتكون . وفي يوم من الايام يأتي عبد العظيم افندي متاخرا . وكان يرتدي بنطلونا من قماش الكاردروي القطني . ولم يكن حذائه لا معا . وصار حسين يصدر اصواتا مسموعة وكانه يشكو من الم في حلقه . ووعد الجميع بأن لن يكن ابن امدرمان اذا لم يعرف سبب تاخر الباشكاتب . بعدها بيوم كان بعض الموظفين يأتون الي عبد العطيم افندي ويصافحونه ويهنئونه علي سلامة بناته . ويتوقفون للدردشة والتبسط . وعندما لم يقف سيل الزوار ، ينتفض عبد العطيم افندي ويتقدم من حسين ويسبه بكلمات لم يكن الجميع يحسبون ان عبد العظيم افندي يعرفها . وكلها تطعن في رجولة حسين . وطالب الباشكاتب الكاتب بان يتبعة خارج البوستة كرجل لكي يحسموا الامر خارج اسوار المبني الحكومي . وحسين كان يبدي الدهشة . ويؤكد انه لا يعرف السبب لتلك الثورة والتغير الذي طرأ علي الرجل المهذب المتزن . وتدخل البعض حتي رئيس السعاة العم ادريس الذي عاني من الزامه بالوقوف عند حضور الباشكاتب . وانتهر العم ادريس حسين الذي تقبل الامر بخضوع تام . وكان يؤكد للعم ادريس بانه اذا كان قد اخطأ فسيكون علي استعداد لان يقبل رأس الباشكاتب . وينتهر العم ادريس حسين قائلا انه قد اخطأ . ولن يقبل منه كلمة واحدة . ويطالبة بأن يعتذر للباشكاتب امام الجميع وان لا يعود لمعاكسة الباشكاتب مرة اخري مادام العم ادريس موجودا والا سيلتزم بتاديبه . ولدهشة الباشكاتب يقوم حسين المشاكس العنيد باظهار الانكسار، ويقوم بالاعتذار للباشكاتب ويقبل راسة. ويؤكد للباشكاتب بانه سيكون مطيعا في المستقبل . والعم ادريس يرمقه بنظرات نارية . بعدها بايام كان حسين مصحو با بوالدته ووالده وعمه في زيارة الباشكاتب .ويعرف الباشكاتب انه تربطهم علاقة نسب . وانهم يعرفون والده واسرته . وكانوا ينتطرون ان ياتي به حسين اليهم . تعرضت ابنتا الباشكاتب لعملية ختان . وكما يحدث كثيرا بعد تلك الجريمة لا تستطيع الفتيات الصغيرات التبول لفترة قد تطول . ومن العادة ان ياخذوا الفتيات الي مكان منعزل في النيل . ويضعونهن في الماء لعملية تسهيل التبول . الباشكاتب كان قد قضي ليلة قاسية وسط تألم بناته وبكائهن . كان هنالك الكثير من النسوة من يقدمن النصائح والاستشارات ، ولكن بدون جدوي . وقبل الفجر اخذ الباشكاتب بناته واثنين من النساء الي النيل . وبعد جهد تمكنت الفتيات من التبول . ولاول مرة يحضر الباشكاتب متاخرا الي عمله . ولم يكن يرتدي بنطلون البمبتشي والقميص الابيض والحذاء اللامع . ويعرف الباشكاتب ان حسين كان يعرف الصلة الاسرية التي تجمعه مع الباشكاتب . ولكن خشي ان يظن الباشكاتب انه يستجدي رضائه بسبب تلك العلاقة . وعرف كذالك ان العم ادريس كبير السعاة كان صديق طفولة والد حسين . وعمل جنديا في قوة دفاع السودان واشترك في الحرب العالمية وحارب في اثيوبيا وليبيا . وعندما تقاعد تحصل علي عمله في البوستة ، بواسطة رئيسة البريطاني الذي كان يحترمه لادبه وخلقه . وكان يدعوه لمنزله ، وتنازل له من كثير من اثاث منزله ومعدات مطبخه . والجميع يحترمون العم ادريس . ولا ينادونه الا بكلمه الخال او العم . ويعرف الباسكاتب ان امدرمان القاسية لها قلب عطوف . ولكن ايقاعها قد يختلف . الباشكاتب كان يستأجر منزلا من سيدة طيبة الا انها تحشر انفها في خصوصيات الآخرين ، وتكثر السؤال . وكانت تحتفظ بغرفة مغلقة في المنزل . ولهذا كانت تكثر الحضور لاخذ اغراض او لارجاعها . وكان هذا يزعج الباشكاتب كثيرا . وعن طريق اهله الجدد استطاع ان يستاجر دارا علي بعد خطوات من البوستة وبسعر اقل من الدار السابقة وهي اكثر اتساعا . وصارت زوجته ووالدته التي تشاركهم السكن تتمتع بعلاقات واسعة . واتخذت حياة الباشكاتب بعدا جديدا . فلم يعد يطالب السعاة بالوقوف . وصار يتبسم ويهش في وجوه الموظفين . وعادت روح الزمالة والود الي البوستة . ولم يعد كاتبي العرضحالات ينظرون الي الارض عندما يمر الباشكاتب وكانهم يتوقعون شرا . فهم يضعون اغراضم داخل البوستة بعد انتهاء عملهم قي كتابة الخطابات وبيع طوابع البريد بزيادة طفيفة بعد ساعات الدوام . في التسعينات سمعت خبر وفاة الباشكاتب بالصدفة , فاحد معارفي كان يستأجر مكتبا في عمارة ابنه في حي البوستة . فلقد اشتروا تلك الدار التي كانوا يستأجرونها . وعندما انتعش الاقتصاد تحولت الي عمارة من عدة طوابق . الرحمة للباشكاتب الذي عرف كرجل بشوش بعلاقات واسعة ، كامدرماني رائع . ملحوظة ،هذه قصة .
|
|
|
|
|
|