|
أشجان الأرض وأهلها في يومها/د. مصطفى يوسف اللداوي
|
يوم الأرض، ذكرى كل الأرض، التي نحب ونعشق، وبها نهيم ونتعلق...
تعيش فينا ما بقينا، ونرويها بالروح والدم القاني دوماً ولا نبالي...
تكبر مع ثغاء الطفل، يرضعها حليباً من صدر أمه، تهدهده بأسماء الأرض ومعالمها...
ويحفظ من صغره بلسانها أغاني البلدة، وقصائد الوطن...
وحناناً من لدن والده، أصيلاً يرثه، وطاهراً يستمده، ينشأ معه ويكبر...
وتبقى مع الرجال، تقسو مع عودهم، وتشتد مع عزمهم، ويتنافس في فدائها أجيالهم...
لكن ما بال غيرهم أضاعوها قديماً، وفرطوا فيها سنيناً...
غفلوا عنها العمر الذي مضى، وتأخروا عن نصرتها العمر الذي بقى...
تركوها للعابثين، وأطلقوا فيها يد الفاسدين، وهم القتلة المعتدين...
الضالين المضلين، الغرباء الوافدين، المستوطنين الكاذبين...
طردوا بلابلها، وحمائم الخير فيها، وأسكنوا في الأرض غربانهم، واستوطنوا بلادنا وهم العقارب والأفاعي...
ما عادت عصافيرها القديمة تشدو نغماً عربياً، ولا تقف على دوحها، ولا على فنن أشجارها...
حلت بوديانها بومٌ لها نعيق، وغربان سودٌ تؤذي العيون ولا تسر نُظارَها...
باتوا بأسمالهم قذىً في العيون، حركاتهم مستفزة، ونظراتهم غريبة منفرة، وأشكالهم تعيسة تعافها النفوس...
دنسوها وهي القدس المطهرة، وعاثوا فيها فساداً وهي الحرم المقدس، ومنعوا السجود فيها وهي أول مسجد...
تركها حماتها وهي الأثيرة، وأذلوها وهي العزيزة، وأهانوها وهي عند الله الأكرم...
باعوها أو تخلوا عنها، أو تآمروا عليها، فالنتجية واحدة...
جبنوا عن حمايتها، أو تأخروا في الدفاع عنها فقد ضاعت...
لم تعد لنا، وما باتت أقدامنا تطؤها، حتى عيوننا ما عادت تقوى على أن ترنوا إليها...
إنها فلسطين الوطن والأرض والمقدسات، والأقصى والمسرى والبراق...
كلها فلسطين، لنا وطن، بحواريها القديمة قبل مدنها العريقة...
فهي الطيبة وقلنسوة وشفا عمرو وكفر قاسم والناصرة...
كما هي القدس والخليل وغزة ...
وهي يافا وحيفا وكل مدن الجليل والضفة ...
دعاتها وحماتها، المتحدثون باسمها، والناهبون خيرها، والمدعون نصرتها، وقادة الجيوش لاستعادتها ...
بغاثٌ وإن استنسروا ... وحملانٌ وإن استنوقوا ... نعاجٌ هم وإن ادعوا ...
فليسوا أسوداً وما كانوا ... وليسوا ديوكاً وإن صاحوا ... وليسوا رجالاً وإن صرخوا ...
تزينهم شواربٌ كزينة النساء ... لحاهم مزيفة كوصل رموش البنات ...
ثيابهم ناعمة في أبهى موضة ... ملونةٌ لافتة، براقةٌ لامعة ...
مظاهرٌ لا مخابر، وأشكالٌ وصور، وظلالٌ وأشباهٌ، وأثواب رجالٍ يلبسها غيرهم...
كخيالات المآتة تهوي مع الريح، وتسقط إن وقف على رأسها طيرٌ، أو اقترب منها شبح...
ليس فيهم من نمرٍ أو أسد إلا إن كان من ورق...
أصواتهم ناعمة فلا تظنوها أدباً ...
وحركتهم هادئة فلا تخالوا رزانة ...
وأراءهم بطيئة فلا تعتقدوها حكمة ...
فإن احمرت أوداجهم وعلت أصواتهم فلا تخافوا ...
وإن ارتعدت فرائصهم غضباً فلا تخشوا ...
وإن هم هددوا وأزبدوا فلا تراعوا ...
عبيدٌ هم وإن حملوا العصا ...
أتباعٌ هم وإن تقدموا الصفَ ...
فلا تخافوا من جعجعتهم ...
ولا ترتبكوا من غضبتهم ...
أتدرون من هم الذين عنيتهم ...
ومن قصدت بسابق حديثي عنهم ...
إنهم قادتنا وحكامنا ...
أنظمتنا وسادة بلادنا...
قصدتٌ عبيدنا الذين اشتريناهم...
لكننا نسينا العصا فلم نحضرها وإياهم ...
فلنحتمل بؤسهم ... ولنقبل بشرهم ... ولنرضى بشؤمهم ...
إنهم قدرنا أو نثور ...
إنهم ابتلاؤنا أو نغضب ...
إنهم قبورنا ... أجداثنا ... أقصد رفاتنا أو نرفض ...
يا ويلنا إن طال بقاؤهم ...
ويا خيبتنا إن قبلنا بهم ...
ويا هزؤنا إن تقدموا صفوفنا، وبقوا يحملون راياتنا...
ويا بؤسنا إن انتسبنا إليهم، وكنا تبعاً لهم ...
يا شؤم من كان هؤلاء رؤساؤهم وقادة بلادهم ...
ويا عار من حمل اسمهم أو رفع صورهم ...
إنهم بؤس ... بل رجسٌ وركسُ ...
تطهروا منهم وكونوا خيراً منهم ...
تخلصوا منهم ولا تبكوا عليهم ...
اشطبوهم من ذاكرتكم ومن صفحة تاريخكم ...
لا تبقوهم بينكم، فهم عارٌ عليكم ...
صدقوني لا خير فيهم يرتجى، إلا ما تمناه منهم عدوهم ...
ولا أمل يسكننا فيهم إلا لجاهلٍ لا يعرفهم ...
إنه يوم الأرض يحزننا ويبكينا، ويؤلمنا ويشجينا...
أما من غدٍ يكون يومُ الأرض فيه احتفالاً ومهرجاناً، وذكرى وعبرة، ودرساً وموعظة...
فقد والله سئمنا تعداد السنين، ومرِّ الليالي والأيام، وعفنا المرَ من الطعام، وتقنا إلى الشهي من المطعم...
وباتت أرضنا تشتاق إلى لونٍ أخضرٍ يانع غير الدم القاني...
وتتوق إلى يومٍ تتكلم فيها العربية، وتلبس أزياءها الوطنية...
وتزف فيها بأثوابٍ فلسطينية، عروسٌ من حيفا أو يافا أو الجليل والرملة...
ينتظرها بالدبكة والزغاريد الشعبية عريسٌ من غزة أو الضفة...
|
|
|
|
|
|