|
وجهة نظر في الربيع العربي/د. مصطفى يوسف اللداوي
|
د. مصطفى يوسف اللداوي
أنا لا أريد الربيع العربي، ولن أشيد به بعد اليوم، فقد بت نادماً على ما حدث، وأتبرأ مما جرى، وليت ما صار ما كان، وما حدث لم يقع، فقد كنا في نعمةٍ ونحن لا ندري، كنا نستظل بالاستبداد، ونحتمي بالظلم، ونأمن الاستعمار، ونأكل من الحصار، ونعيش في سلمٍ وأمنٍ وأمان، لنا بيوتنا البسيطة، وحياتنا العادية، ومن ضاق به العيش يسكن خلف الجدران، نزيلاً في السجون والمعتقلات، يأكل ويشرب، وبعد حينٍ يخرج، يجلد ولكنه لا يموت، ويعذب ولكنه يعود، يجوع ولكنه بعد حينٍ يشبع.
أما الربيع المزهر فلا نريده، والغد الواعد فلن نحلم به، والأمل الكبير فلن نتمسك به، لا نريد شيئاً يلمع ولو كان ذهباً، ولا نريد بريقاً آخاذاً ولو كان ماساً، نريد بيوتنا الآمنة، وبلداتنا المطمئنة، ولحمتنا الطيبة، وودنا الرحيم، وتآخينا الرفيع، نريد ماضينا الجميل، وذكرياتنا الحلوة، وأيامنا السعيدة، وجمعتنا البسيطة، ورحلاتنا الترفيهية إلى البحر والجبل، وإلى الوادي والسهل، فهذا هو ربيعنا الذي فقدناه، وما عدنا نحلم باستعادته.
قد يقول لي البعض أنك استخذيت، واستمرأت الذل، ولم تعد تعشق الحرية، ولا تحب أن تعيشها، ولا أن تسعى لها، فكيف تضحي من أجلها، وتقدم في سبيلها، وتصبر على ابتلائها، فلا حرية دون دم، ولا انتصاراتٍ بالمجان، ولا تغيير إلا بالقوة، ولا يوجد في عالمنا العربي من الأنظمة والحكام، من يترك كرسيه بالشعارات، أو يتخلى عن منصبه بالمظاهرات، أو يخضع للمسيرات والاعتصامات، فيقدم استقالته، أو يتخلى لغيره عن سلطاته، ويترك الشعب حراً يختار، وسيداً يقرر، فهذه الأنظمة الجائرة المستبدة، لا تعرف هذه السبل، ولا تؤمن بهذه الخيارات، وهي في سبيل تمسكها بالسلطة، فإنها تقتل الآلاف، وتعتقل الشعب كله وتجوعه، وتحاصره وتحرمه، وقد تقصفه وتدمره، وتخرجه وتطرده، إذ لا يعنيها غير السلطة، ولا يهمها غير الحفاظ على الذات والمصالح، ولو كانت عائلية أو فردية.
وقد يقول قائل إن الذي يسعى إلى العلى، ويتطلع إلى المعالي، ويطمح أن ينعتق من الذل، وأن يتحرر من القيد، وينتصر على السجان، ويقطع يد الجلاد، ويكون له رأيٌ حرٌ، ومكانةٌ سامية، وتقديرٌ بين الناس، واحترامٌ بين الأمم، فإنه لا يبالى بالجراح، ولا يقف عند التضحيات، ولا يستعظم الابتلاءات، ولا يبالي بمن يسقط على الطريق، أو يضعف ويتخلى، أو يتنازل ويتراجع، فهؤلاء لا يمثلون في مسيرة الثورات، ومسيرة الانتفاضات شئ، إنما البقاء للأقوى، ولمن يصبر أكثر، ويتحمل العنت والعذاب والأذى، ولا يبالي بما يصيبه ويلحق به.
لست ضد هؤلاء جميعاً، بل إنني معهم أؤيدهم، وأمضي معهم، وأتقدم فلا أتراجع، وأضحي ولا أجبن، وأعطي ولا أخاف، فأنا لست عبداً ولا أتوق إلى حياة العبيد، ولا أندم إن سعيت إلى الحرية، ورفعت راياتها، وأعليت أسوارها، وآمنت بمنطلقاتها، ورددت شعاراتها، فأنا حرٌ وأعشق الحرية، وأرفض الذل، وأثور على الظلم، وأنتصر للحق، وأساهم ما استطعت في مسيرة الشعوب، وانتفاضات الأمم، فالثائرون يحفظهم الزمان، ويذكرهم التاريخ، وتخلد الأجيالُ ذكرهم.
لكني بت أشفق على شعبي وأمتي مما أصابها، فما أصابها كثير، وما لحق بها شديد، وما ينتظرها أصعب، وقد واجهنا من الأنظمة الحاكمة أكثر مما لاقينا من قوى الاستعمار، بل لعل ما قاسيناه وذقناه أنكى وأشد، وأصعب وأقسى، ولعل الناظر إلى شعوبنا العربية، التي تبعثرت وتمزقت، وهاجرت ولجأت، وقد قُتِلَ منها أحبة، وسُجِنَ لها أعزة، وفُقِدَ لها الكثير، بعد أن هُدمت بيوتهم، ودُمرت مساكنهم، وأصبح الآلاف منهم رهن السجون ينتظرون القتل والتصفية والإعدام، بكل وسائل القتل التي نعرف، وتلك التي نجهل، إذ يموتون في الأغلال، ويقتلون في الأصفاد، وتنشر أجسامهم بالأسلاك الشائكة، وتقطع أطرافهم بالمعاول والفؤوس، وتنزع عيون بعضهم بعد أن تفقأ، وتسلخ جلودهم دون العظم، وتنزع فروة رؤوسهم، ومنهم من يفرم، وغيرهم يسحل، ومن رحمه الله يقتل رصاصةٍ، أو تنتهي حياته بانفجارٍ، أو نتيجة غارة.
شعوبنا بعد كل هذه الابتلاءات التي يشيب لهولها الأطفال، وينكسر لها ظهر الشيوخ والرجال، قد كفرت بعروبتها، وتخلت عن قوميتها، ولم تعد تفكر إلا في ذاتها، وفي نجاتها وعائلاتها، وفي العودة إلى بيوتها ومساكنها، واستعادة ما كان لها في وطنها وعلى أرضها.
لكنها وإياي قطعاً لا ننسى الظلم، ولا نتخلى عن الأوطان، ولا نساوم على الحقوق، ولا نفرط بما قد تفضل الله به علينا كبشر، فالإحساس بالألم لا يعني الاستسلام والخضوع، والقبول به والمساكنة معه، بقدر ما يعني مراجعة النفس والذات، ونقد المنهج والطريق، ومحاسبة المسؤولين، ومعاقبة المخطئين، وقد كان حرياً بمن تقدم وقاد، وتصدر وتحكم، بعد كل هذه التضحيات، أن يحققوا أهدافهم، وأن يصلوا إلى غاياتهم، ولكنهم إما تأخروا أو فشلوا، أو عجزوا ولم يتمكنوا من الحفاظ على المنجزات، وصيانة المكتسبات.
الحرية كما يقولون لها ألف بابٍ وباب، والثورة لها أشكالٌ وهيئات، ووسائل التغيير والتبديل لا تقتصر على شكل، ولا تجمد على حال، لكن يجب البحث عن الأفضل، وسلوك الأنسب، وحساب المكاسب والخسائر، والتعرف على نقاط الضعف وعوامل القوة، فلنعد ترتيب أنفسنا، وحزم أمورنا، ودراسة أوضاعنا، ولنفكر من جديد، كيف نطرق أبواب الحرية، ولو كانت تدق بكل يدٍ مضرجة بالدماء، فلن نبالي.
لست نادماً فأجلد ذاتي، وألعن ماضي أيامي، بل أشعر بحزنٍ شديد، وألمٍ كبير، وآمل في انعتاقٍ جديدٍ، وميلادٍ آخر، فيه دماء، وفيه ضحايا، ولكن قد تكون نتائجها أضمن، وأكثر يقيناً، ويكون فيها الخير لهذه الأمة العظيمة.
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected] بيروت في 12/3/2014
|
|
|
|
|
|