|
السودان سمح بناسه و لا يطاق بغلائه بقلم : د. عمر بادي
|
[email protected] د. عمر بادي
عمود : محور اللقيا سألني الكثيرون : ( كيف وجدت السودان ؟ ) فأجبت : ( وجدته سمحا بناسه , ووجدته لا يطاق جراء الغلاء الفاحش ) ! الكتابة السياسية النقدية تتطلب حيزا من حرية الرأي و التعبير , فإذا إنتقص هذا الحيز أو صار في حكم العدم , تدخلت الرقابة القبلية في حالة الصحف التي تصدر داخليا بالحذف و الحجب حتى يتم تقويم المادة المكتوبة , و أحيانا يتمادى الأمر فيشمل تقويم الصحفيين أنفسهم ! في حالة الصحف الإلكترونية السودانية نجد الرقابة البعدية و فيها ينحى التقويم منحى آخر ليشمل التعليقات الإنصرافية و التكذيبية و المبهتة و المهددة و التي تبعد الموضوع عن غايته , و هذا ما صار معروفا أن مصدره في بعض الأحيان شعبة الجهاد الإلكتروني و يشمل فيما يشمل التهكير الذي يصيب البريد الإلكتروني للكتاب و يصيب تلك الصحف الإلكترونية بالتخريب . لذلك فقد لجأ بعض الكتاب و الكثيرون من المعلقين إلى الأسماء المستعارة تفاديا لعواقب الكتابة في حالات كثيرة أو تفاديا لمعرفة شخصياتهم في حالات قليلة إن كانوا من المعروفين , أو حبا في كتابة التعليقات غير المسؤولة و المسيئة لمن يرتاحون نفسيا من ذلك و هؤلاء للأسف ليسوا بالقليلين ! لذلك إنني أرى أن الشجعان هم من يكتبون و يعلقون بأسمائهم الحقيقية و يتحملون نتيجة كتاباتهم المسؤولة .هذا الأمر ينطبق أيضا على الصحف الإلكترونية , فتلك التي لديها مديرون معروفون يتحملون نتيجة ما ينشر في صحفهم , بالتأكيد هم خير من المواقع التي يتخفى مديروها حتى يؤثروا السلامة ! الغرض من الكتابة عامة هو نشر الوعي و المعرفة , و ليس إزجاء الوقت و ملأ الفراغ , و على الإخوة الكتاب و المعلقين الإبتعاد قدر الإمكان عن العنصرية و التعنصر , فالعنصرية تتمثل في التمسك بالقبلية و الجهوية و المناطقية , و شيء من هذا نراه في الأسماء المستعارة للإخوة المعلقين كالدنقلاوي و الشايقي و الجعلي و الزغاوي و ود النوبة و الجلابي و ما إلى ذلك . أما التعنصر عند الكتاب و المعلقين فهو التمسك بوجهة النظر و نبذ وجهات النظر الأخرى في عدوانية في بعض الأحيان , غير عاملين بمقولة أن ( إختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ) , و بحديث الرسول الكريم صلوات الله عليه و التسليم أن ( من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) . لذلك على الكتاب و المعلقين أن يراعوا قيم مجتمعنا السوداني حتى يرفدوها و يعززوها بالتمسك بها في كتاباتهم , و على القائمين على أمر الصحيفة أو الموقع الإلكتروني أن يفعلوا فعل الرقابة القبلية أخلاقيا و أن لا يساعدوا في نشر الأساليب التي تتعارض مع قيم مجتمعنا . لقد كتبت قبل هذا عن تفشي روح القبلية عن طريق النكات المسمومة كما قد هاجمها كثيرون غيري , و الآن أرى مروجيها قد توقفوا عنها و قد وعوا الدرس بعد أن ووجهوا بإعتراضات الجمهور في بعض المواقف . على الرقباء القبليين في الصحف و المواقع الإلكترونية مراعاة الصالح السوداني و ليس مراعاة مصلحتهم في كسب أعداد أكبر من المشاركين حتى ولو كانوا متفلتين أو كانوا يسعون – كما أحس أحيانا – لتأجيج المجادلات على طريقة ( المديدة حرقتني ) ! و هذه طريقة كنا نستعملها و نحن صغار لتحمية المتخاصمين و شحذهم للشجار , و كنت قد كتبت عن هذه الطريقة في التحريض قبل عقدين من السنين و الآن صارت مصطلحا مطروقا من الكتاب و المعلقين . سماحة الإنسان السوداني تتجلى في أخلاقه الفاضلة و الملائكية و التي تحلت بروح الأديان السماوية و بالتطور المجتمعي منذ سالف الحضارات , و رغم أن هذا الإنسان السوداني قد إكتسب بعض التغييرات السالبة جراء الظروف الإقتصادية القاهرة التي ضيقت عليه الخناق , فإنه غير ملام في ذلك لأن الإقتصاد كما هو معروف له تأثير كبير على الإجتماع و السياسة , لذلك و كما ذكرت في المقدمة أنني قد وجدت السودان سمحا بناسه ووجدته لا يطاق جراء الغلاء الفاحش ! لقد أحالت المعيشة الصعبة الناس إلى الإنزواء في بيوتهم و الإكتفاء بوجبة واحدة في اليوم و الإعتذارات من التقصير في الدعوات و المجاملات ( العزومات و الموجبات ) بأن العين بصيرة و اليد قصيرة . إن الخوف الأكبر الذي يسيطر على الناس في بداية العام الجديد يتمحور في التوقع بزيادات جديدة في الأسعار تقصم ظهر بعيرهم , و الزيادات صارت غير معلنة ما دام سعر العملة الصعبة في إزدياد و ما دامت الضرائب غير مستقرة . لقد أشار السيد وزير المالية الجديد أن لا زيادات في الضرائب و الأسعار و أن العجز في الميزانية سوف يتم سده من الإستدانة ! لقد فاقت ديون السودان الخارجية الأربعين مليارا من الدولارات و هذا مؤشر لإزديادها , لكن ما يحز هنا أن المال المستدان لن يصب في تعزيز الإستثمار لصالح المواطن و الوطن و إنما يصب في أوجه الصرف و يظل عبئا على الإجيال القادمة ! الإنسان السوداني صار مقهورا و يزداد قهرا , فهجرات الشباب و أصحاب الكفاءات في إزدياد و صارت الأسر تعتمد في تغطية نفقات المعيشة على تحويلات مغتربيها , و صارت أخبار الفساد المالي من المتنفذين و الدستوريين تملأ الصحف و المجالس حتى أضحت و كأنها تنفيس للضغوط النفسية بسبب القهر و الإحباط و اليأس . لقد كثرت أخبار الإنتحارات و ( الطفش ) بسبب ضيق ذات اليد , أما أخبار الفساد الموثق فقد صارت متوفرة و هذا يحتاج إلى وقفة , فقد كانت وثائق الفساد ترسل قبل عامين إلى الكتاب الوطنيين على بريدهم الإلكتروني أو بواسطة صديق , و الآن صارت المعلومات و الوثائق متوفرة بكثرة إما عن طريق الإصلاحيين أو عن طريق الوطنيين في الأجهزة الأمنية أو صارت معروضة رسميا كإثبات للتغيير المرتقب , و لكن بدون محاكمات و إدانات الفاسدين و إرجاع للأموال المنهوبة لن تكون هنالك شفافية و سوف نظل في قاع الدول التي تنعدم فيها الشفافية . الأمر اللافت هنا أن معظم الكتاب و الإعلاميين الذين يكشفون الفساد بالتفصيل هذه الأيام و يبرزون وثائقه هم ممن كانوا محسوبين يوما ما من النظام ! لقد أدخلت أخبار الفساد حزب العدالة و التنمية في تركيا في متاهات عدة و قد إستشرت حتى وصلت أردوغان نفسه في إبنه مالك رغم إستقرار النظام الديموقراطي في تركيا , فإلى أين سوف توصلنا حملة كشف الفساد الحالية ؟ لا بد من إرجاع الأموال المنهوبة حتى تساعد في فك أزمة المواطن السوداني , و لا بد من ضم دخولات البترول و الذهب و الكهرباء و الشركات الحكومية إلى ميزانية العام 2014 و ضم كل تلك المؤسسات إلى مظلة المراجع العام حتى يشملها تقريره السنوي و لا بد من المساءلة عن أوجه صرفها طيلة الأعوام الماضية و يقال أن دخولات تلك المؤسسات تذهب إلى الصرف على المليشيات كالجنجويد و المجاهدين الأفارقة و قوات الدفاع الشعبي و الكتائب الخاصة و إلى الصرف على المؤتمرات و الهبات و المساعدات لتنظيم الإخوان العالمي و للمؤلفة قلوبهم و للأقربين . دخل البترول يقدر بملياري دولار , و دخل الذهب يعادل قيمة إنتاج ثمانين طنا ( مع حذف نصيب الشركات و الأفراد ) , أما دخل الكهرباء فهو معتبر مع تطبيق نظام الدفع المقدم و تتصرف فيه وزارة الكهرباء و السدود بدون تدخل من شركات الكهرباء الثلاث و هذا ما أفقرها و أفقر مهندسيها حتى طرقوا أبواب الهجرة بكثرة و عادت قطوعات الكهرباء حتى في الشتاء ! و سوف أتطرق إلى هذا الأمر بشيء من التفصيل في مرة أخرى إن شاء الله . إن سؤ الأحوال الإقتصادية و معاناة المواطنين من الفقر و الحرمان قد أديا إلى تفاقم الإنفلاتات الأمنية , فقد كثرت حوادث الكسر المنزلي و خطف أجهزة الجوالات , و نشطت عصابات ( ال(.........)ز ) و التي كانت قد بدأت نشاطها الإجرامي وسط اللاجئين السودانيين في مصر و تم إبعادهم إلى السودان و نسبة لتواجد أعداد كبيرة من جنوب السودان في تلك العصابات , فقد إنتقل معظم أفرادها إلى جنوب السودان بعد الإنفصال , و لكنهم عادوا ثانية إلى السودان و إنضمت إليهم مجموعات من الفاقد التربوي و هم مشهورون بإشهارهم للسواطير التي يخفونها داخل ملابسهم ليهاجموا بها الضحايا و قد ظهرت لهم عصابة تسمى نفسها ( ميامي ) و تأثرهم واضح بالعصابات في الأفلام الأمريكية . أخيرا أكرر و أقول : إن الحل لكل مشاكل السودان السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية يكون في العودة إلى مكون السودان القديم و هو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . قبل ألف عام كانت في السودان ثلاث ممالك افريقية في قمة التحضر , و طيلة ألف عام توافد المهاجرون العرب إلى الأراضي السودانية ناشرين رسالتهم الإسلامية و متمسكين بأنبل القيم , فكان الإحترام المتبادل هو ديدن التعامل بين العنصرين العربي و الأفريقاني . إن العودة إلى المكون السوداني القديم تتطلب تغييرا جذريا في المفاهيم و في الرؤى المستحدثة و في الوجوه الكالحة التي ملها الناس !
|
|
|
|
|
|