مساحاتُ الغياب/محمد رفعت الدومي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 00:18 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-10-2014, 05:19 AM

محمد رفعت الدومي
<aمحمد رفعت الدومي
تاريخ التسجيل: 12-09-2013
مجموع المشاركات: 112

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مساحاتُ الغياب/محمد رفعت الدومي

    مساحاتُ الغياب*

    كانت أكثر من مجرد صدي للألم ، ضحكاتُ "عصام" في ليلنا ، عقب عودته من رحلته العلاجية الأولي إلي القاهرة ، حكي لنا الكثير ، بروح ما زالت تحتفظ بلياقتها السطحية ، عن الذين يشبهونه في العجز من المرضي ، لقد كان الكثيرون منهم ، بحماية ادعاءاته هو ، يواجهون المرض باللامبالاة ، ويتزاحم الكثيرون أيضاً حول تبرعات الأنقياء غير المشروطة لـ "معهد الأورام" إلي درجة الشجار معاً ، ومعاً ومع الموظفين ، ومعاً ومع الموظفين والأطباء ، وقد يصل الشجار أحياناً إلي حدِّ التماسك بالأيدي والأسنان !!

    وتترهل الحكايا ، لا تخشي ضغط الزمن ، وكأنها بلا قيمة ..

    وكان لابدَّ ، لأنه "عصام" الذي لا أرتاب في أنه يفعلها ، أن تنزلق الحكايات في شرخ المبالغة ،،

    حكي لنا عن شريك ٍ له في الورم من "الشرقية" ، أجري له الأطباء ثلاثين عملية جراحية ، ليس هذا موطن الطرافة في ترجمته لذلك المريض المسكين ، إنما ادعاؤه بأنه يعيش بغير كليتين ، وكان لابد أن يواجه التعبير عنه سؤال من هنا أو هناك : كيف يا "عصام" يعيش إنسانٌ بغير كليتين ؟ ، وأجاب "عصام" جاداً :

    - بالبركة !!

    إنه اليقين يقوم مقام الرغبة لا أكثر ..

    طالت الحكايا الممرضات أيضاً ، حكي لنا عنهن الكثير ، هنّ ، بحماية ادعائاته أيضاً ، يعاملن مريض السرطان معاملة أيِّ ممرضة لأيِّ مريض بالأنفلونزا ، ولا أعتقد أن هذا الأمر ينطوي علي شئ من الغرابة ، فإنه من غير المعقول أن تتفاعل الممرضة مع مرض كلِّ مريض ، أو تشعر نحوه حتي بالقليل من التعاطف ، وإلا تحولت إلي أطلال ، إنها تؤدي عملاً ، ثم إنها بالإسراف في اختبارات الموت اليوميِّ ، لمست العمق الأليف للموت في إطاره ، وأصبح بالنسبة لها ، علي الأقل ، مجرد طقس مسرف في التكرار ،،

    أجد هذا تعبيراً حقيقياً عن حكاية قرأتها ، عن رجل ٍ استوطن بيتاً بالقرب من مدبغةٍ للجلود ، وظلت الرائحة الكريهة ، كعالمنا ، لسلةٍ من الأيام الأولي ، تثير غثيانه ، وخاصم صاحب المدبغة إلي السلطات ، وتلكأ دهاء صاحب المدبغة عن الذهاب أسبوعاً ، ومضي الأسبوع ، وماتت الشكوي !!

    لقد اكتسب الساكن الجديد بمعايشة الرائحة وعياً جديداً بإحساس الألفة ..

    قال لنا أنه اشتبك ذات صباح مع ممرضة في فاصل من السخرية ، فقالت له من بين ضحكاتها :

    - يبتليك بـ" محسن " !!

    وهذا الـ "محسن" بحماية ادعاءه هو "حلاق" المعهد ، وذهاب مريض السرطان إلي الحلاق ، يعني أحد البروتوكولات الطليعية لإعداده لجراحة نتيجتها المؤجلة ، والفريدة ، حتي أنها الوحيدة هي الموت ، هي تعني ببساطة :

    - يا رب تموت !!

    نضحك حتي تدمع أعيننا ، يظلُّ الألم باقياً ، لكنه يصبح خافتاً ، أو هو في الحقيقة لم يكن ضحكاً بقدر ما كان محاولة للفرار من مجرد استشراف الغيب بطريقة ركيكة ..

    الطبيب أيضاً ، ليس من المعقول أن يكون صديقاً ، أو رقيقاً إلي هذا الحد ،،

    عقب سلة من الرحلات بين الدومة والقاهرة ، صدمه الطبيب صدمة فاحشة ، طالت بتصرفات منخفضة صهره "أبوالوفا" أيضاً ، - لقد انخفض سريعاً حماسُ المتحمسين لمرافقة ورمه إلي القاهرة ، وواظب فقط أصهاره علي حراسة حماسهم حتي النهاية - ، لقد أعلنه الطبيبُ بتبني الأطباء المعالجين قراراً باللجوء إلي الكيماوي كممرٍّ وحيد نحو شفائه ، أدركت من الشوك في كلامه لحظتها ، أن الورم كان قد ترهل إلي حد أصبحت معه السيطرة عليه مستحيلة ، وأن الجراحة تتحد تماماً بالقتل المُيسَّر ، وربما استوعب "عصام" أيضاً أطراف الكلمات الحادة ، فلقد أخبرني صهرُه وهو يزيف ابتسامته ، أنه قال للطبيب ، وعيناه توقِّعان دمعهما :

    - استحْمده اللِّي جات فـ الطوَّاطة !!

    عبارة ليس من السهل تفسيرها ، أو حتي إلقائها علي أطراف جملة تستدعي عمل الذهن في مقاربة مرضية لتفسيرها ، هي لابدَّ بعض التكلسات المكدسة في جيوب ذاكرته المشتتة حالاً ، طفت ، فجأة ، بعشوائية ، والتحمت بعشوائية ، فجأة أيضاً ، فشكلت تلك الأخلاط اللغوية ..

    من الآن ، وحتي ابتلعه المنحني الحاسم ، ظلَّ "عصام" محتفظاً بروحه المتهكمة ، هذا أضفي عليه مظهر المستهين بالموت بشجاعةٍ صلبة ، غير أنَّ شجاعته الزائفة لم تنطلي عليَّ أبداً ، ولم يكن بالطبع من اللياقة اختبارها ، كنت أصغي لما لا يقوله ، لا ما يقوله ، هكذا تعوَّدت ، ثمَّ تحت السطح ، كأنني كنت أصغي إلي داخله المكتظ بالأصوات تماماً ..

    قبل انهياره ، بلا مبالاة ، بأسبوع وبعض الأسبوع ، كنا نجلس منفردين في بيتنا ، نشاهد فيلماً من الأفلام التي استعارت عالم الأستاذ نجيب محفوظ بإسراف ، حتي انزلقت في الجرح الذي لابدَّ لها منه ، التكرار ، وعدم معرفة المشاهد بالحقيقيِّ ، وبالمطليِّ بظلٍّ شاحبٍ من اللاشئ ، وانساب مشهدٌ لست أدري ماذا لمس بالضبط في جيوب ذاكرته ، كان المشهد يجمع بين الأستاذين "صلاح قابيل" و"محمود ياسين" وآخرين ، أتذكر الحوار علي نحو واضح ، لقد تساءل الفنان "محمود ياسين" من ردهة شلله الواضح ، بصوت يلائم العاجزين :

    - من إمتا كلابها عوت علي ديابها يا نوح يا غراب ؟!

    خفض "عصام" رأسه ، وقوَّس كتفيه أماماً ، وأطلق صوتاً هائماً وفريداً ، كأنه يفتش عن إدانة غامضة لشئ ما ، ثم انخرط في بكاء حاد ، مذعور ، حتي أنه نبَّه علي بعد غابة من الخطوات "أُمِّي" ، تنبه ذهني مبكراً إلي سخافة أيِّ محاولة مني لتهدئة قلبه ، بل لأحرضه علي استئناف البكاء ، شاركتُه بنصيب وافر من الدموع الحقيقية ، لقد دَرَجْتُ عليه يضحكنا فيريحنا ، فلماذا ، ليرتاح ، لا أتركه يدين الوجود بإيماءته الوحيدة المتاحة ، عينيه ؟!!

    إنَّ ساخراً أصبح ، فجأة ، مركز دائرة السخرية ، خليقٌ بأن يقوم مقام الدليل الذي لا مراء فيه علي عبثية الحياة ، وبساطتها أيضاً ، هل فوق حياة ؟!..

    استعاد هدوئه بعد دقائق من البكاء المتدرج صعوداً وانحداراً ، ثم اشتعل عزمُهُ ، فجأة ، علي الفرار ، لقد لمست بوضوح أكثر مما ينبغي ، خجله الشديد من عراء انزعاجاته الداخلية أمامي ،،

    لماذا ؟ ، إنني أخوك في العجز ، وخوابي الألم المشتركة ..

    طالبتني "أمِّي" ، بعد أن ابتلعه الشارع الخالي من العصافير ، بتفسير لجنازتنا القليلة الماضية ، يا "أمِّي" الطيبة ، إنَّ هكذا سؤالاً ، سؤالٌ يجري في يقين السخافة ، إنَّ شاباً تترنح الحياة في قامته ، وتتماسك عيناه هو السؤال المتطلب ، وتمسكتُ بالصمت الجارح ، لقد ردَّني الخجلُ أن أُحدِّثَ "أمي" عن .. "نوح الغراب" ..

    كانت هذه هي آخر مرة أري فيها "عصام" ، ولقد انخفضت بفضلها زرقة قلبي كثيراً ، حتي أنني وضعت مأساته عن عمدٍ في جيب مهملٍ من جيوب اهتماماتي ، كنتُ فقط لا أتسع لها ، وكان قلبي ليس به موطأٌ لخسارة إضافية ، وباهظة..

    علمتُ فيما بعد ، أنه ، وهو في طريقه الأخير إلي "القاهرة" ، هاجمه ، علي مشارف "الدومة" وقلبي ، نزيفٌ حاد ، أعاق رحلته الأخيرة من رحلات الدوران في الفشل ، وعاد ، عاد مستنداً علي ظلال الآخرين ، بملامح وجهه القادم ..

    استيقظتُ مذعوراً ، ذات صباح لا مراء في غربانه ، علي ضجةٍ أكيدة ، نظرت من النافذة القريبة ، فرأيت الخالة "جليلة" تندفع مهرولة من باب بيتها إلي الشارع السائل ، والخالي إلا من الغربان ، يتبعها عصبة من النساء المتشحات بسواد الحداد ، تتزاحمن علي تهدئة قلبها ، غرسَت عينيها في لحم السماء ، وصاحت في تحفز حقيقيٍّ ، ومروع :

    - يا ظُلْمكْ ، يا ظُلْمكْ !!

    كانت بحماية أكبر خسائرها علي الإطلاق معذورة ، لقد دخل "عصامُ" ، وحيدُها ، موتَهُ الذي اكتمل عند غروب ذلك اليوم تحديداً ، وتحوَّل "عصامُ" إلي حزمةٍ من مكعبات الثلج ، ثم .. ذاب في مساحات السفر الواسعة ،،

    الغروب ..

    جزيرة ٌ حقيقية ٌ من الجمال الخاطف ،،

    لكن ذاك الوجه المتغضن .. علي الرماد !! ..


    محمد رفعت الدومي


    * من " اسهار بعد اسهار"























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de