|
الصادق المهدي آخر زعماء المهدية خالد موسي دفع الله
|
الصادق المهدي آخر زعماء المهدية
خالد موسي دفع الله
ظل السودان يشهد علي نحو دارج في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر من كل عام إحتفالية خاصة بعيد ميلاد الإمام الصادق المهدي أطال الله بقاءه ،وتطور ذلك المشهد من إحتفالية خاصة بأسرته الي حدث عام أصبح يشهده الضيوف ويتوافد الي ساحاته المهنئون من الساسة والدبلوماسيين ووجهاء المجتمع والثقافة. وقد تميزت سلسلة الإحتفالات الخاصة ببلوغه سن السبعين في عام 2006 بألق خاص. وذلك تقليد استنه محبو الاديب الكبير الراحل الطيب صالح، حيث اصدروا سفرا بمناسبة سبعينيته وضمنوه بحوثا ومقالات، اشرف عليها الدكتور الراحل حسن ابشر الطيب وتباري فيها النقاد والمحبون و أقرباء الأديب الكبير لتقريظ موهبته وانسانيته وقلبه الكبير.كما إحتفي من قبلهما شاعرنا الكبير محمد سعيد العباسي ببلوغه سن السبعين في قصيدته الشهيرة: سبعون قصرت الخطي وتركنني امشي الهويني ظالعا متعثرا من بعد ما كنت الذي يطأ الثري زهوا ويهوي الحسان تبخترا وهذه مناسبة للإحتفاء بهذه السيرة السياسية الزاخرة، وإجالة النظر و التفكر في الكسب السياسي والفكري الذي خلفه السيد الصادق المهدي. حيث أزعم ان السيد الإمام هو آخر زعماء اسرة المهدي الذي يجمع بين السلطتين الزمنية والروحية.وهو نهج خالف فيه سلفه من لدن المهدية. فالإمام المهدي إكتفي بالسلطة الروحية وترك إدارة السلطة الزمنية لساعده الأيمن وخليفته عبد الله ود تورشين.. كما إحتفظ من بعده السيد عبدالرحمن المهدي بالسلطة الروحية، وترك تدبير شئون السلطة الزمنية والإدارية لمساعديه مثل البك عبدالله خليل والمحجوب وأبنه الإمام الصديق.وعلي ذات النهج أسس السيد الصادق المهدي إنشقاقه الشهير عن عمه الامام الهادي الذي طالبه برعاية السلطة الروحية والتخلي عن السلطة الزمنية، بدافع تجديد الحياة السياسية وتحديث حزب الأمة. هذا الإنقلاب الفكري في نهج أسرة المهدي، أدي الي تكريس سلطة أبوية قابضة تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية مما أغلق باب التجديد في الكيان وسد الرافد الحيوي الذي كان يمده بالمبدعين المستقلين الذين جاءوا للحزب من خارج دوائر ولاءاته التقليدية من أمثال البك عبد الله خليل ومحمد احمد المحجوب. أعتبر أن الصادق المهدي هو آخر زعماء المهدية حيث جمع بين السلطة الروحية والزمنية ، والطاقة الفكرية للتجديد المعرفي مما وفر له فرصة سانحة لإجتراح تجديد وتغيير جذري في فكر المهدية وتوجهاتها الكلية، لكنه إكتفي بتخريجات منطقية مست الشكل وتركت الجوهر..ونزعم ان الإمام الصادق المهدي اذا لم ينهض بمهمة البعث والتجديد الفكري المطلوب فستستحيل علي من يخلفه للمزايا والخصائص وروح الزعامة التي يتمتع بها وسط محبيه ومؤيديه. فهل يستجيب للنداء التاريخي ام يكتفي بتخريجاته التفسيرية التي طلق فيها المهدية العقدية واكتفي بالمهدية الوظيفية. وهي ذات السانحة التي لاحت للإمام الخميني حيث كان هو الوحيد المؤهل الذي يملك سلطة الغاء فكرة الامام الغائب، فبدلا من رميها في غيابت الجب تمحل بنظرية إمامة الفقيه . ولم يجرؤ أحد من بعده علي الإجتراح الموضوعي. شخصية الصادق المهدي يميزها فاعلان: فاعل سياسي يعبر عن كسبه الذاتي في الفكر والثقافة والممارسة والإنتاج المعرفي وخصائص القيادة والزعامة. وفاعل روحي يستمده من ينبوع المهدية التاريخي وهو الذي يمنحه الشرعية والولاء الشعبي .ولا تكاد تستقيم للدارس شخصية الصادق المهدي دون إعتبار جدي لهذين الجانبين. وقد مازج بفرادة مدهشة بين ثلاث مفردات هي موروث الثقافة الدارفورية، التي يغتني منها بمخزون كبير ،و ثقافة الوسط النيلية، وتراث المهدية الزاخر بالأقوال والقصص والأشعار والأمثال. فقد قال معبرا بلسان اهل دارفور عن رفض حزب الامة للمشاركة الديكورية حسب وصفه في حكومة الوحدة الوطنية سابقا "انحنا يا جماعة أبينا دوت كي". وعندما أراد تبخيس إستخراج البترول في ذروة معارضته للإنقاذ قال انها " احلام ظلوط" وعندما عارض التوسيع في الجامعات من غير روية ودراسة كافية قال " إنها كمن يحاول ان يطعم برميل موية بملعقة سكر" . وقال عن إنشقاق مبارك الفاضل وانضمامه للحكومة قبل أن تعود المياه الي مجاريها بينهما انه "كمن استبق أكل الفطيس قبل الذبيح " . وقال مستشهدا بمقولة الامام عبدالرحمن عندما طالبه البعض بالقصاص السياسي ضد الانقاذ "الفشي غبينته خرب مدينته". هذه المزواجة بين التراث والتقليد من جانب، والحداثة والمعاصرة من جانب آخر، هي إحدي دوافع الإفتتان الشديد به من قبل المثقفاتية من شيعته الذين يغالبون نزعات الولاء الطائفي علي الولاء الفكري. وفي هذا الصدد فقد وصفه الصديق الدكتور علي حمد القيادي في حزب الأمة في مقال نشره قبل سنوات خلت، بأنه فكي خواجة حيث يلبس جناح ام جكو ويتحدث بلسان أهل الغرب ويجادلهم في آخر نظريات الفكر الانساني بثقة عالية وثقافة موسوعية وافرة.و تكشف مقالات بعض المثقفين في السودان عن الخلل الجسيم الذي يصطنعه المثقف الملتزم سياسيا فقد يتنازل عن سلطته المعرفية في الجدل والنقاش بحثا عن الحقيقة ليصبح حوارا يتلقي البركات من شيخه بعد ان شحبت روحه طارت شفقا ولم تشع غيما وسنا كما أرادها الفيتوري. فيلغي بذلك أعز ما يملك المثقف وهو عقله و سلطته المعرفية. وشبيه بذلك المقولة الشهيرة التي رددها أحد انصاره وهو أستاذ في جامعة الخرطوم أثناء فترة الديمقراطية الثالثة أن الصادق المهدي لو امره بالتصويت لحمار لفعل دون تردد. وفاق هذا ما نسب مؤخرا لإحدي ناشطات المؤتمر الشعبي التي قالت في مقابلة صحفية شهيرة أن الترابي لو أمرها أن تكفر لكفرت.والسودان للأسف لا يعرف سقفا للمكاجرة السياسية بين النخب المتناحرة لأنها مبنية علي الذاتي لا الموضوعي. وحسب وصف أحد الساسة فإن الظل الفكري الثقيل للدكتور الترابي الذي فرضه قسرا علي الآخرين قد حجب ضوء الشمس عن النباتات الفكرية الواعدة فماتت سهوا وترصدا. هذا الظل الفكري الثقيل أيضا فرضه الصادق المهدي علي حزبه، حيث لم تنبت قامة فكرية مستقلة من الحديقة النباتية لفعاليات هذا الحزب .و أنتج هذا المناخ كوادر فكرية متميزة إرتضت لنفسها أن تكون صورة مستنسخة من الصادق المهدي . ورغم البروز الفكري للشيخ عبدالمحمود ابوه إلا أنه يبدو مقلدا لا أصيلا .ولكن تتراءي أمامه مؤشرات القيادة الفكرية لهذا الكيان في المستقبل القريب.هذا التكلس المعرفي والضمور الفكري الذي أصاب جميع الأحزاب ، بما فيها حزب الأمة يتحمل مسئوليته قادة الأحزاب وكذلك الامام الصادق لأنه سد الرافد المبدع الذي كان يرفد حزب الأمة بالأفكار والشخصيات الخلاقة وهو تيار المستقلين من غير الانصار. وهو قد إرتد بذلك عن السياسة التي رسمها وإختطها الامام عبدالرحمن الذي كان يفتح أبواب الحزب للشخصيات المستقلة ذات العطاء المبدع، بل ويقلدها المسئوليات والمناصب القيادية. في ظل قيادة الصادق المهدي إنحسر هذا الرافد وعمد الي ترفيع الكوادر ذات النفوذ الطائفي والقبلي لحفظ التوازنات الجهوية وكان طبيعيا ان تفرز تلك السياسة نظاما ابويا قابضا . وإنتقل بالحزب من بوتقة ينصهر فيه دعاة التيار الإستقلالي الي كيان طائفي مترهل يقوم علي التحالفات العشائرية والجهوية مع الرأسمالية المحلية.وهو بذلك قد أفرغ العملية السياسية داخل الحزب من فعاليتها التاريخية وأستبدلها بنظام أبوي ترتفع فيه قيمة الولاء الطائفي والسياسي للقيادة ويقل فيه الحراك الفاعل المبدع. وبالطبع فان مثل هذه القيادات ليست حريصة علي الإصلاح والتغيير، لأن ذلك يناقض مصالحها في التمثيل الجهوي في السلطة السياسية للحزب. والحق فإن هذا أبرز أمراض السياسة السودانية. وربما يكون حزب الأمة أفضل تعافيا من غيره في هذا المجال. ولكن النقد يتجه الي أن سياسة تجفيف الحزب من المثقفين الحقيقيين والإستعاضة عن ذلك بعناصر تستنسخ شخصية زعيم الحزب الفكرية، وتستهلك مقولاته وأفكاره أدي الي حالة من الضمور الفكري والتكلس المعرفي، وخمود ملكة التجديد والإبتكار للإعتماد علي مصدر واحد للإلهام الفكري الذي مهما تدفق عطاؤه فانه لا يفي بتطلعات الظامئين . بتحليل كثير من النماذج المماثلة في الساحة السياسية السودانية يزعم البعض بأن الصادق المهدي صمم هذا النموذج بوعي كامل ليظل هو علامة العرفان والفذ الملهم في خضم الجهل السائد لتظل مقاليد سلطته الروحية والفكرية والسياسية في غير محل نزاع من العامة و الخاصة. يمتاز الإمام الصادق المهدي بخصيصة نادرة وسط السياسيين في السودان وهي موهبته الثرة في إجترار الأمثال الشعبية وتشقيق التشبيهات الساخرة . ففي موقف المفارقات الكاريكاتورية كثيرا ما يستشهد بديك المسلمية الذي يصيح ويعوعي في الوقت الذي يحمر فيه أهل البيت بصلته إستعدادا لأكله. ويستفيض في شرح أنواع الديوك الأخري ذات الشهرة والصيت مثل ديك العدة. وللأستاذ نقد السكرتير السياسي للحزب الشيوعي الراحل ذات النزعة في إستخدام الأمثال الشعبية اما للسخرية أو لتقريب المعني وشرح المواقف لجمهور المستمعين. فقد سبق للأستاذ نقد ان شبه موقف الجبهة الاسلامية في مناداتها بتطبيق الشريعة الاسلامية مثل "المرأة الغلفاء التي تمسك بالموسي لتطهر النساء" اي ان فاقد الشئ لا يعطيه، ورغم طرافة المثل وغلظة عباراته إلا أنه قوبل بحملة شرسة حيث رماه البعض بالسوقية وكساد بضاعته وعجز بيانه عن التعبير الحاذق والمعني الأدق في إجترار التشبيهات . ورغم ميل الزعيمان لإستخدام الأمثال الشعبية الا أن الامام الصادق المهدي قد سجل تفوقا واضحا وبلغ فيها شأوا بعيدا وصارت تشبيهاته مثار تندر وتداول بين النخبة المثقفة والجمهرة العامة لطرافتها. إن نزعته للمزاوجة بين التراث والمعاصرة في شخصيته الفكرية تكاد تصبغ طبيعة تصرفاته السياسية التي تفضل كذلك المزاوجة بين المتناقضات والجمع بين المتوازيات. لا شك أن بيئة التنافس السياسي تفرز كثير من الأوصاف علي القادة والزعماء.والصادق المهدي ليس بدعا من ذلك، فقد وصفه الدكتور منصور خالد، وهو من أبرز مناوئيه بانه رجل وقواقة مرتبك في نفسه مربك لغيره..يتوهم في نفسه القدرة علي حل مشاكل العالم وهو لا يستطيع حل أبسط خلافات اسرة المهدي . ووصفه الدكتور حسن الترابي بانه كان يحلم بلعب دور شبيه وموازي للدور الذي لعبه تروتسكي في تصحيح وإصلاح الفكر الماركسي ..هذا التصريح أدلي به الترابي عندما كان علي سدة حكم الإنقاذ، ولكن بعد الخلع السياسي تغيرت اللهجة والتصريحات..ويقول الترابي إن به يقينا ثابتا بانه ولد سيدا وفي فمه ملعقة من ذهب، لذا فعلي الناس أن يقدموا التضحيات من أجل أن تكتب البطولات بإسمه.وكان يصفه رفيق دربه المرحوم عمر نورالدائم لخاصته بأنه رجل مشغول بالفكر أكثر من السياسة و كان يتمني أن يتفرغ السيد الإمام كلية للعمل السياسي. ووصفه الدكتور الراحل جون قرنق زعيم الحركة الشعبية بأنه رجل توفرت له كل أسباب النجاح من أرومة أصل، وعراقة نسب وفرصة لحكم السودان مرتين إلا أنه أفشل حاكم في تاريخ السودان الحديث، كما أنه ساهم في صنع الكارثة التي يعاني منها الجميع، أولا بإبتداره مع حسن الترابي لمشروع الدستور الإسلامي وثانيا، لأنه دعا في منشوراته الفكرية الي أسلمة وتعريب جنوب السودان بالقوة كما أنه غذي الصراعات القبلية بتسليحه للقبائل العربية أثناء فترة حكمه الأخيرة.وفي المراسلات المشتركة بين الصادق المهدي والراحل قرنق مندوحة لمن أراد التوسع. وفي ذات السياق وصفه الدكتور علي الحاج القيادي في المؤتمر الشعبي أثناء فترة الديمقراطية الأخيرة قائلا: إن الصادق المهدي مثل الطفل الصغير الذي يبكي بحرقة لإمتلاك اي لعبة أطفال تقع علي عينه ، وعندما تعطي له ليكف عن البكاء يقوم بتكسيرها علي الفور..وهو وصف كما يبدو للقارئ موغل في ظلال الغيرة السياسية. لذا فأن أقوال وشهادات الساسة في بعضهم لا تستوفي معايير الأحكام الصحيحة، لإنطوائها علي أغراض سياسية عابرة. ويصفه أستاذ جامعي مرموق عكف علي دراسة بعض فترات المهدية بأنه يدعي تقمص روح الإمام المهدي وإلهاماته الغيبية أكثر من الإمام عبدالرحمن الذي تميز بالواقعية وحسن المناورة السياسية. ووصفه الرئيس الأسبق جعفر نميري بأنه لا يصلح لحكم السودان، اذ تتحكم فيه ذهنية أهلية لا تتناسب ورجل الدولة المسئول.وصفه أستاذ جامعي متخصص في العلوم السياسية بأنه شخصية إختزالية اذ تميزت فترات حكمه بإختزال الحزب في رئيسه وإختزال الحكومة في رئيس الوزراء، كما أنه عمل علي إنتاج ديمقراطية عشائرية تقوم علي تحالفات قبلية وعشائرية مع الرأسمالية الإنتهازية فأبعدها عن حركة الحداثة. وصفه السفير الامريكي الأسبق في السودان دونالد بترسون بأنه شخصية مترددة في إتخاذ القرارات الحاسمة، وقد فشل في قراءة الأسباب الحقيقة لمشكلة الجنوب لأنه كان يعتقد أن الحركة الشعبية هي الذراع العسكري لحكومة مانغستو في أثيوبيا متناسيا أن لمشكلة الجنوب جذورا تاريخية معلومة. يصفه سياسي مخضرم بأنه أفضل نموذج للسياسي الذي يستسلم لغريزة حب البقاء، ويؤثر علي الدوام السلامة الشخصية علي التضحية، وشبهه بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي عرف بقدراته المتميزة في إستشعار مكامن الخطر. وساق الأمثال علي ذلك اذ قطع دراسته بكلية غردون وسافر للدارسة بالإسكندرية خوفا علي نفسه عقب الأحداث التي صاحبت زيارة الرئيس المصري محمد نجيب للسودان.كما أنه خرج من الجزيرة أبا قبل أيام قلائل من قصفها، حيث ترك الإمام الهادي لمصيره المحتوم.ضمن لنفسه الخروج بعد فشل الحركة الوطنية في عام 1976 لأنه كان آخر الداخلين وأول الخارجين اذ آثر السلامة الشخصية علي تضحيات القيادة . قال عنه سياسي مخضرم أيضا أن الصادق المهدي رغم تسامحه الظاهري، إلا أنه رجل لا ينسي ثاراته ولديه إستعداد فطري لسحق كل من ينازعه سلطانه الحزبي والسياسي ويميل الي التشفي وإقصاء خصومه بالضربة القاضية. وقال وليم باتي سفير بريطانيا السابق في السودان " كنت عندما أطلب مقابلته يحرص علي أن يكون بجانبه عدد كبير من أنصاره وكانوا جميعهم يتحدثون معقبين علي كلامه. لهذا كثيرا ما يختلط علي حقيقة موقفه وموقف المتداخلين من أنصاره".يقول عنه السياسي د. غازي صلاح الدين أنه يحاول دائما تربيع الدائرة. يصفه الكاتب الصحفي عثمان ميرغني بأن الصادق المهدي رجل يحتاج الي من ينقذه من نفسه، اذ إرتضي أن يعلق من المدرجات علي مباراة كان يمكن أن يكون لاعبها الأول. قال عنه محمد أحمد المحجوب الذي أجبر علي التنحي لإنتخاب الصادق المهدي رئيسا للوزراء، أنه حاول إقناعه بالتروي والتدبر وإكتساب مزيد من التجربة، لأن إسماعيل الأزهري سياسي محنك يستطيع أن يلوي ذراع أقوي سياسي، إلا أنه رفض نصيحته فقال عنه: إن الغرور الذي أعتلي به المنصب الرفيع سيكون هو ذاته من يهوي به الي أسفل سافلين. ومن ثم إرتجل مقولته الشهيرة في البرلمان: إن من حاول الدفاع عنهم طيلة حياته كسروا سيفه الفولاذي وأستبدلوه بسيف من خشب وقال: "لا أريد أن أفسد علي رئيس الوزراء بهجة يومه هذا ولكن أتنحى لمقعد المعارضة لأعلمه كيف تكون المعارضة". وقال معرضا به وبصهره الدكتور حسن الترابي الذي ناصره علي المحجوب، أن بينهما وصال. فرد عليه الدكتور حسن الترابي الذي كان يكنيه المحجوب بالشاب الملتحي قائلا "من أول رئيس علا الي آخر صنم هوي- مشيرا للمحجوب- فهذا أول رئيس للوزراء ليس له رئيس خارج قبة هذا البرلمان" سئل مسئول ليبي كبير زار السودان في نظام القذافي البائد في بداية عقد التسعينات، في ندوة عامة عن مناصرة الجماهيرية الليبية للعقيد جون قرنق فرد قائلا: لا تسألوا القيادة الليبية بل أسألوا الصادق المهدي، الذي قدم قرنق للعقيد القذافي عام 1983 وطالب بدعمه وتسليحه لإسقاط نظام نميري ووصفه بأنه رجل وطني مخلص. وأضاف قائلا: لولا الصادق المهدي ماعرفنا قرنق ولولا توصيته لما دعمناه. و أوضح بأن الصادق المهدي عاد إليهم بعد الانتفاضة مطالبا بأيقاف الدعم العسكري لقرنق. يقول كثير من المراقبين أن اميز سلبيات الرجل، أنه متردد في إتخاذ القرار، يلجا الي الحلول الوسطية والتوفيقية التي تجمع المتناقضات وذلك لمنهجه الذي يحاول التوفيق بين الأشتات ويجمع بين المتوازيات. يقول عنه الدكتور قطبي المهدي وقوله مرجوح بحكم الإعتبارات السياسية ، إن الامام المهدي لو بعث اليوم لما إختار الصادق لخلافته لأنه أضاع أهم ما يميز الأنصار وهو روحهم الجهادية وإعتزازهم بالعقيدة وموتهم في سبيل إعلاء رايتها.يري الإنجليزي المخضرم توماس غراهام صاحب كتاب "موت حلم" الذي خصصه لذكرياته مع الإمام عبدالرحمن المهدي ولمناصرته للسيد الصادق المهدي أثناء فترة نضاله ضد جعفر نميري، أن الصادق المهدي يدرك دائما حقيقة وضعه كزعيم لذا فإن سقف المساومة السياسية دائما بالنسبة له محدود، لأنه لا يستطيع أن يذهب أبعد من الأفق الذي يتوقعه الأنصار. عقب انتفاضة ابريل 1985 دعا الباحث التراثي الطيب محمد الطيب ثلة من الشعراء والمثقفين للقاء الصادق المهدي في منزله للتعرف علي رؤيته وآرائه في الساحة الثقافية والفكرية، وقد إندهش الحضور من دقة متابعته للتطورات الحادثة في الفضاء الثقافي والفني خلال فترة غيابه المتطاولة في الخارج. فقام عبدالقادر الكتيابي أحد فحول الشعراء وهو مطرز بكل ألق الشعر ونفحة البنفسج وكبرياء الشعراء وارتجل قصيدة "علي الطلاق": علي الطلاق... مكاء صلاة اليمين عليك.. وحج اليسار اليك نفاق.. واقطع حد ذراعي رهانا ستصبح ثم تراهم سمانا .. وثم يشد عليك الوثاق لتعرف ان المنابر سوق .. وان البضاعة انت وليس هناك امام .. وليس هناك رفاق ستعرف اني صدقتك نصحي .. واني احبك ، علي الطلاق فما أن أكملها حتي تسلل الصادق المهدي الي داخل منزله، ولم يعد بعدها الي مجلس الشعراء، وليته جلس لأن نبوءة الشاعر قد صدقت، ولم يحنث بطلاقه.. يقول الصادق المهدي عن نفسه إن ميلاده إرتبط ببشريات عظيمة لأنه صادف يوم ميلاد المسيح عليه السلام في الخامس والعشرين من ديسمبر، وكذلك بالرؤية الصالحة اذ رأي أحد أطفال الأسرة في المنام أن مهاجرا سياتي من كبكابية يوم الخميس.ثم ما لبث ان ولد يوم الخميس، مما فسر الرؤية بالبشريات العظيمة. قال عنه الناشط السياسي غازي سليمان في مهرجان عودته من الخارج أنه لولا مانديلا لأطلقنا عليك لقب أبو الديمقراطية في أفريقيا. يقول عنه أكاديمي بارز أن أميز إجتهادات الصادق المهدي الفكرية هي كتابه "سيألونك عن المهدية" الذي إستطاع ان يقدم فيه أجابات ذكية عن فكرة المهدية وأصولها بإستشهادات موثقة من الكتاب والسنة والتاريخ الإسلامي. كما أنه فرق في أطروحته تلك بين المهدية التاريخية والمهدية الوظيفية. ودعا الي التركيز علي المهدية الوظيفية وهي المعنية بأمر الاصلاح والتجديد الديني . يقول الطيب صالح في ذكرياته مع طلحة جبريل في سفره القيم " معا علي الدرب مع الطيب صالح" انه فكر في عقد الستينات أن ينضم الي حزب الأمة بعد أن جذبه الطرح الفكري والعقلاني للسيد الصادق المهدي الذي كان يمثل رمز الحداثة والإستنارة في القيادات السياسية آنذاك، وشبهه بالرئيس الأمريكي كيندي. وأشار الي أنه سبق وان تسلل للإستماع الي أحاديثه ومحاضراته. وحتي وفاته كان يكن للرجل إحترام وتقدير كبيرين.يقول عن نفسه أن أهم إنجازاته هي أنه حول الحزب من مساره التقليدي وإنتقل به الي آفاق التحديث حيث كادت الفكرة المهدية أن تتلاشي ويقل كسب المنتمين إليها، ولم يبق منها إلا التراث والطاقة الجهادية الكامنة. فجدد بعث الفكرة المهدية وإستطاع أن يعيد للحزب جماهيرته حيث ظل الرقم الإنتخابي الأول خلال عهد طويل لا سيما فترة الديمقراطية الثالثة. الصادق المهدي شخصية مثيرة للجدل. يحبه أقوام ويتدلهون به، ويكرهه آخرون ويغتاظون منه ولعل ذلك الجدل هو من سمت الشخصيات ذات الأثر في التاريخ. فرغم الشهادات الواردة في هذا المقال، وهي مزيج من النقد الموضوعي والنقد الجزافي جراء الغيرة السياسية ، إلا أن الصادق المهدي لا يختلف شخصان في إيمانه المطلق بالديمقراطية كنظام سياسي ناجع لحكم السودان.كما لا يختلف الناس علي طهارة يده، وعفة لسانه وديناميكيته الفكرية، وقدرته علي المبادرة السياسية . وتبقي صفته الأكبر هي شخصيته الأبوية و سودانيته الأصيلة ، ونزعته الدائمة للتجديد، لأنه ظل يخاف علي السودان من أي فعل أحمق يجر عليه الفوضي والدماء..إن الإتهام للصادق المهدي بأنه متردد في إتخاذ القرار ، ربما يكون إتهام ظالم لأن تردده ينطوي علي حكمة..إذا يمكن للصادق المهدي بكاريزميته وسط حزبه ومجموعته الأنصارية أن يعبئ طاقاتهم الجهادية لنشر الفوضي، والمواجهات الدموية.ولكن أكثر الناس لا يدركون حكمته السياسية. وهو يدرك قدر الزعامة في نفسه كما قال عنه الإنجليزي غراهام توماس لأنه لا ينزلق الي الصغائر. عندما يترجل السيد الصادق المهدي عن الساحة بعد عمر مديد سيدرك أهل السياسة في السودان أي بحر طمي، وأي نور خبا ، واي ركن إنهد وأي فراغ ترك، وأي سماحة تلاشت. يكفيه أنه ممن يؤدبون السياسة ، ولم يسجل له التاريخ أنه حكم بغير صناديق الإقتراع. ويطرز خطابه السياسي بالحكم الشعبية، والإستشهادات الشعرية التي تتكامل مع محفوظاته من القرآن والحديث الشريف. ربما كان في مقدوره أن يحقق إنجازات أكثر وتحولات أعمق ، ولكنها أقدار زمانه ، وتحديات جيله .بيد أننا نعارض زعامة هذا الجيل للحياة السياسية طيلة أربعة عقود ، مما أقعدها عن التجدد، ولعل الذين يضيقون بزعامته من أهله ومناكفيه ، سيدركون ولو بعد حين أي نجم أفل، وسيبكون ممن كانوا يشكون منه ، ولعل قدر الزعماء أن تظل أفعالهم وتصرفاتهم محل جدل وإختلاف، ولكن سيبقي تأريخهم محفورا في ذاكرة الأجيال. وتنتهي بنا المقاربة في الإستشهادات الي أن الصادق المهدي زاد من حصيلة الكسب الذاتي السياسي والمعرفي أكثر من أي زعيم آخر مر علي كيان الأنصار وحزب الأمة، حيث لم يعتمد فقط علي أرومة أصله وتاريخ أسرته ومنبع وجدانها الروحي، بل زاد عليها من كسبه الذاتي و أطروحاته الفكرية وموسوعيته الثقافية .يواجه الصادق المهدي ذات النفق التاريخي الذي واجهه الأمام الخميني الذي أخرج الفقه الشيعي من طلاسم الإمام الغائب الي نظرية ولاية الفقيه، وكان بأمكان سلطته الروحية أن تسقط فصل الإمام الغائب من مقررات كتاب الفقه الشيعي الي الأبد، ولكنه آثر ان يحتفظ بسلطة الفقيه فأضاع فرصة ما زال يتحسر عليها قادة الإصلاح في المذهب الشيعي لأنه من النادر الآن ان تتوفر لأي آحد كارزما السلطة الروحية التي تمتع بها الخميني من قبل.أما الإمام الصادق المهدي فعليه أن يتعظ من تجربة الخميني، وأن يواصل مسيرة الإصلاح السياسي والفكري وألا يقف علي أعتاب التعليل السهل للظاهرة المهدوية وتجديدها تحت مبررات المهدية الوظيفية.لأن الصادق سيكون آخر مجدد يمتلك الجرأة الفكرية والكارزمة الروحية في أسرة المهدي وما لم يفعله الآن سيستحيل حتما علي من يخلفه.
|
|
|
|
|
|