|
علمياً وعملياً: الماء والأرض هما الداء والدواء للصراع فى غرب السودان
|
علمياً وعملياً: الماء والأرض هما الداء والدواء للصراع فى غرب السودان د. أحمد هاشم/جامعة لندن هذا المقال يسعى للمساهمة فى رسم خارطة طريق للمستقبل بعد أن تضع الحرب أوزارها فى غرب السودان، ويناقش إمكانية إستغلال البحث العلمى الحديث فى الوصول إلى طرق جديدة للتفكير والإبداع الذى يؤدى إلى التنمية المستدامة التى يقودها العلم، وإستئصال أسباب الحروب من جذورها. فى خلال السنوات القليلة الماضية توصل البحث العلمى إلى نتائج مهمة يمكن حصرها كالآتى: إكتشاف بحيرة دارفور العظمى القديمة، نشرخارطة إحتياطيات المياه الجوفية فى أفريقيا، نشر أطلس تربة أفريقيا، مشروع جدار أفريقيا الأخضر العظيم، دور المحاصيل المعدلة وراثياً فى حل مشاكل الفقر والمجاعات فى الدول النامية، إستحداث نظم الزراعة المائية (بدون تربة) فى المناطق الصحراوية، وإستغلال الطاقة الشمسية لتنفيذ مشاريع الصحراء.
بعد إنفصال الجنوب إنحصر السودان الشمالى بين الصحراء شمالاً والسافنا الغنية جنوباً، وتضيق المساحة الغنية بالمياه والمراعى عام بعد عام بفعل الزحف الصحراوى والجفاف وتدهور البيئة، بينما يتزايد عدد البشر والماشية التى تقطن هذه المساحات المتناقصة. وهذا بالطبع يؤدى فى النهاية إلى إستمرار الحروب بين المجموعات الزراعية المستقرة والرعوية المتجولة من أجل السيطرة على الأرض والموارد. السؤال المحورى هنا: كيف يمكن التوسع شمالآ وإستصلاح التربة الجدباء والصحراوية لتخفيف الضغط على الأراضى الغنية لمقابلة زيادة عدد السكان والماشية وبالتالى تفادى الحروب فى المستقبل؟
بحيرة دارفور العظمى القديمة، مارس 2007 إكتشف الباحثون بقيادة د. إيمان غنيم ود. فاروق الباز فى مركز الإستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية بجامعة بوسطن فى أميركا وجود بحيرة قديمة مغمورة تحت طبقات رمال الصحراء فى الجزء الشمالى الغربى من دارفور. تغطى البحيرة مساحة 30750 كيلو متر مربع وتسع حوالى 2530 كيلو متر مكعب من المياه. كانت هذه البحيرة تعج بالحياة قبل 11 ألف عام وتغطى جوانبها الأشجار والحشائش الخضراء. وخلصت الدراسة إلى أن معظم مياه البحيرة قد تسربت خلال الطبقات الرملية وتراكمت فوق الحجر الرملى النوبى الذى يشكل أكبر شبكة طبقات للمياه الأحفورية تحت الأرض ويغطى جنوب غرب مصر، شمال غرب السودان، جنوب شرق ليبيا وشمال شرق تشاد. أول إكتشاف لبحيرات الحجر الرملى النوبى كان فى عام 1953 أثناء التنقيب عن النفط فى ليبيا وتم إستغلال هذا المخزون المائى حديثاً فى النهر الصناعى العظيم الذى يتكون من 1300 بئر جوفية بعمق 500 متر، وينتج أكثر من 6 مليون متر مكعب من الماء يومياً ليوفر مياه الشرب لعدة مدن ليبية أهمها طرابلس، بنغازى وسرت. فى الجزء الشمالى من شبكة البحيرات الجوفية إكتشف د. فاروق الباز وفريقه سابقاً حوض بحيرة شرق العوينات الجوفية وتم حفر 500 بئر قادت إلى زراعة 100 ألف فدان فى الصحراء.
مبادرة حفر ألف بئر لدارفور فى يوليو 2007 إلتقى د. فاروق الباز بالحكومة السودانية وأفصح عن تبرع الحكومة المصرية بحفر 20 بئر تجريبية وإمكانية الحصول على دعم مالى من بعثة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الناشطة فى دارفور لدعم مبادرة حفر 1000 بئر وإيصال المياه إلى مدينة الفاشر فى خلال ستة أشهر. ووعد كذلك بأجراء مسوحات فى كافة ولايات دارفور لمعرفة مخزون المياه الجوفية فى المناطق المأهولة بالسكان. ولكن للأسف قوبلت هذه المبادرة بالتبخيس وعدم المبالاة ليس من الحكومة فحسب بل أيضاً من الحركات ومثقى غرب السودان.
خارطة إحتياطيات المياه الجوفية فى أفريقيا، أبريل 2012 قام الباحثون فى الكلية الجامعية لندن بدراسة وتحليل كافة المعلومات الجيولوجية ورسم خرط دقيقة لإحتياطيات المياه الجوفية فى أفريقيا. أظهرت الخرط بأن أفريقيا تطفو فوق كميات هائلة من المياه الجوفية تعادل 100 مرة كمية موارد المياه العذبة الموجودة على السطح، وأن أكثر إحتياطات هذه المياه يوجد فى المناطق الأكثر جفافاً فى شمال أفريقيا: ليبيا، الجزائر، السودان، مصر وتشاد. يتراوح عمق هذه المياه ما بين 100 إلى 250 متراً تحت سطح الأرض ويبقى التحدى فى صعوبة الوصول إلى هذه المياه لإستخدامها فى أغراض الرى لإنجاز مشاريع زراعية ورعوية ضخمة تحد من النزاعات حول الموارد الطبيعية. أكد هذا البحث صحة نتائج دراسة أكتشاف بحيرة دارفور العظمى التى لاقت نقداً من بعض الجهات الأكاديمية. لكن أهم ما جاء فى هذه الدراسة هو زيادة المساحات التى تحوى كميات هائلة من المياه الجوفية تربط بين الصحراء والسافنا الفقيرة والغنية فى غرب السودان، وإمكانيتها فى تحويل الزراعة المطرية الموسمية إلى زراعة مروية على مدار العام وتفعيل نظم الثورة الخضراء الجديدة لتخفيف وطأة الجوع والفقر ومضاعفة إنتاج الأغذية والأعلاف والألياف. جدار أفريقيا الأخضر العظيم، فبراير 2011 ناقشنا فى مقال سابق مبادرة هذا الجدار الذى صادق عليه الإتحاد الأفريقى فى ديسمبر 2006 وتم دعمه فى مؤتمر إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر فى بون، ألمانيا فى فبراير 2011 حيث رصد مبلغ 2 مليار دولار لتنفيذ المرحلة الأولى. يمتد الجدار الأخضر بعمق 15 كيلو متر وبطول 7800 كيلو متر، من القرن الأفريقى شرقاً إلى السنغال غرباَ (مروراً بالسودان). تتم زراعة الجدارالأخضر بالأشجار الملائمة للبيئة الجافة ويشمل خليط من الزراعة والرعى المستدام مع الإلتزام بمبدأ "لا للفأس ولا للنار". يهدف المشروع إلى وقف تقدم الصحراء جنوبا وتدهور التربة، وتوفير مصادر المياه، الزراعة، الرعى والوقود. كما يهدف أيضاً إلى تنمية البنية التحتية والإجتماعية والإقتصادية وإبتكار نظم فعالة لتوفير الدخل المالى وخلق فرص عمل إضافية تساهم على إستقرار الشباب الذى يميل للهجرة إلى المناطق الحضرية. يضم الجدار الأخضر عدة مشاريع متخصصة مثل إدارة التربة والتنوع الأحيائى فى السودان وأثيوبيا ومالى. (كامل المقال فى منبر كردفان).
أطلس تربة أفريقيا، أبريل 2013 قام باحثون وإختصاصيون فى دراسات التربة بدعم من الإتحاد الأفريقى، الإتحاد الأوروبى ومنظمة الأمم المتحدة للزراعة والأغذية بوضع أطلس دقيق لتربة أفريقيا. تبين خرائط الأطلس الطبيعة المتغيرة للتربة والتهديدات الرئيسية والخطوات التى يمكن إتخاذها لحمايتها ويهدف أيضاً لمساعدة المزارعين والرعاة والمؤسسات التعليمية وخبراء التربة وصناع القرار السياسى. فى معظم الحالات فى السودان لا تحسب التربة بأنها جزء أساسى فى قائمة الموارد الطبيعية، لذا لم يجد أسلوب إضافة الأسمدة للتربة المتدهورة أى حظ وسط مزارعى الحيازات المطرية. ولكن تمثل التربة حجر الزاوية فى توفير الأمن الغذائى، خدمات البيئة، الإقتصاد والتماسك الإجتماعى. أثرت موجات الجفاف المتلاحقة على معظم تربة السودان بالإضافة لإفتقار بعضها للعناصر الغذائية الأساسية والمواد العضوية، خاصة بعد إزالة الأشجار والغابات مثلما تم فى مشاريع الزراعة الآلية فى شرق السودان وجنوب كردفان. يوفر الأطلس معلومات دقيقة عن خصائص التربة فى كل مناطق السودان ويعطى المزارع الفرصة فى إختيار أنواع المحاصيل والأسمدة المناسبة لمضاعفة الإنتاج. ويساعد أيضاً أصحاب الماشية والرعاة فى إختيار الأعلاف التى تناسب خصائص التربة وتحديد الوقت المناسب لإضافة سماد الماشية الذى يحد من إنجراف التربة وتحسين إمتصاصها للماء وخلق بيئة جديدة للنمو وزيادة إنتاج المراعى. إعتماد المحاصيل المعدلة وراثياً ونظم الزراعة المائية فى المناطق الصحراوية ناقشنا فى ثلاث مقالات سابقة دور المحاصيل المعدلة وراثياً فى مقاومة الجفاف و الأمراض والآفات والحشائش ومضاعفة الإنتاج ودورها المحورى فى وقف موجات المجاعات والفقر وجعل السودان بحق وحقيقة سلة غذاء السودانيين ورفع مستوى الحياة واللحاق بالدول المتقدمة. فشل السودان فى سبعينات القرن الماضى من إعتماد الثورة الخضراء التى أدخلت إستخدام الماكينة والبذور المحسنة والأسمدة ومبيدات الحشائش والآفات. وساهمت هذه الثورة فى توفيرالأمن الغذائى و المحاصيل ذات القيم الغذائية العالية فى الدول الغربية بينما أخرجت دول آسيا من قبضة المجاعات وادخلت الأرز كغذاء رئيسى لمئات الملايين. وعلى النقيض إكتفى السودان النرجسى فى ذلك الوقت بإطلاق عبارة "السودان سلة غذاء العالم". ومضى على هذه العبارة حوالى نصف قرن لم يستطع خلالها السودان من توفير الذرة لمواطنية الذين يموتون جوعاً فى قلب العاصمة!
بدأت الثورة الخضراء الحديثة قبل سبعة عشرة عاماً حينما إعتمدت الدول الأمريكية وبعض الدول الآسيوية وثلاث دول أفريقية زراعة وتسويق المحاصيل المعدلة وراثياً. وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك سلامة هذه التقنية على الإنسان والحيوان والبيئة مما أسال لعاب وزير الزراعة البريطانى حديثاً وطالب مع إتحاد المزارعين الإنجليزى بإدخال هذه التقنية وإعتمادها فى بريطانيا والإتحاد الأوروبى. هذه النظم الزراعية الحديثة كفيلة بتوفير الأمن الغذائى ليس للدول الفقيرة فحسب بل أيضاً لضمان مستقبل البشرية على الكرة الأرضية التى فاق عددها سبعة بليون شخص. (للمزيد طالع ثلاث مقالات عن المحاصيل المعدلة وراثياً فى منبر كردفان).
هل تساءل القارئ الذى يتابع القنوات الفضائيةً، لماذا يبلغ سعر كيلو الطماطم 30 ألف جنيه فى الخرطوم بينما يلهو ويتقاذف ويدوس الأسبان بأرجلهم عشرات الأطنان من الطماطم فى مدينة بنول نهاية أغسطس من كل عام فى مهرجان هدفه البهجة والسعادة؟ إعتمدت أسبانيا فى العقود الماضية طريقة الزراعية المائية بدون تربة فى إقليم الميريا الجاف فى مقاطعة الأندلس فى مساحة تبلغ أكثر من 75 ألف فدان وتنتج أكثر من 3 مليون طن مترى من الخضر أهمها الطماطم، الخس، البطيخ، الفاصوليا والخيار. وحولت هذه التقنية الإقليم الفقير إلى ثانى أغنى مقاطعة فى أسبانيا. تعتمد الزراعة المائية على إذابة العناصر المعدنية التى يحتاجها النبات فى الماء لتمتصها الجذور مباشرة دون الحاجة إلى تربة. أهم خصائص هذا الأسلوب الزراعى هو مضاعفة الإنتاج ، إستخدام كميات قليلة من المياه ويمكن إستغلاله فى الصحراء والمناطق الجافة التى لا تصلح للزراعة النمطية. يمكن إعتماد وتوطين هذه التقنية فى صحارى شمال السودان مما يؤدى لترشيد إستخدام المياه الجوفية فى الزراعة ومضاعفة الإنتاج وتأسيس الصناعات الغذائية وتوفير فرص العمل للشباب.
دورالطاقة الشمسية فى تنمية الصحراء والمناطق النائية يعتمد نجاح التخطيط المستقلى على توفرالبنيات التحتية وأهمها الطاقة، لكن فشلت حكومات الخرطوم المتعاقبة فى توفير أرخص انواع الطاقة المائية (القومية) وتوزيعها بعدالة لكافة أقاليم السودان. البديل المناسب فى الصحراء والمناطق البعيدة عن نهر النيل هو الطاقة الشمسية لضمان نجاح مشاريع التنمية المستدامة فى الصحراء والأرض الجدباء القاحلة. بدأ التخطيط لأضخم مشروع للطاقة الشمسية فى الصحراء الكبرى بين الإتحاد الأوروبى وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ويعرف بمشروع تقنية الصحراء (ديزيرتيك) ويهدف إلى بناء محطات الطاقة الشمسية لتطوير شبكة الكهرباء الأوروبية والمتوسطية. يقود تنفيذ هذا المشروع مركز الفضاء الألمانى مع عدد من المؤسسات بتكلفة تبلغ حوالى 400 مليار يورو ويهدف أيضاً إلى تسريع نشر تقتية الطاقة الشمسية فى أفريقيا وآسيا وإيجاد وسائل بديلة للطاقة النووية خاصة بعد إنفجار مولدات فوكوشيما فى اليابان. يمكن للسودان الإستفادة من هذا المشروع العملاق وتدريب الكوادر فى هذه التقنية التى يسهل تطبيقها مستقبلاً فى الزراعة المروية فى الصحراء ومناطق إستقرار الرحل ومزارع تربية الحيوان الحديثة.
البحوث العلمية الحديثة التى أُستعرضت أعلاه تؤكد على توفر عنصرين أساسيين للتنمية فى غرب السودان هما الأرض والماء. توفر الماء يؤدى إلى مضاعفة الأرض التى يمكن إستخدامها لتمليك وتوطين البدو وإستقرار الرعى والترحال وإدخال مورثات جينية جديدة ونظم التلقيح الإصطناعى لزيادة إنتاج الألبان واللحوم. إستصلاح أرض الصحراء يقود للتوسع الزراعى وإدخال المحاصيل المعدلة وراثياً ونظم الرى الحديث مما يقلل الضغط على السافنا الفقيرة والغنية ويوفر فرص التوزيع العادل والملكية الحرة الفردية والجماعية للأرض، وبالتالى إزالة التنافس الشديد على الموارد الطبيعية المتناقصة التى أدت إلى إستمرار حروب الموارد التى أججتها الحكومات المركزية لمصالحها الذاتية الضيقة.
التنمية المستدامة فى هذا المقال تعنى التنمية التى تلبى إحتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية إحتياجتاتها الخاصة، وتحتوى على مفهومين أساسيين: مفهوم الإحتياجات الأساسية للمواطنين فى غرب السودان (السلام، الأمن، الغذاء، محاربة الفقر، الصحة، التعليم، السكن، توفير فرص العمل وملكية الأرض). ومفهوم القيود التى فرضتها الدولة (تأجيج وإستمرار الحروب) وعدم قدرة البيئة على تلبية الإحتياجيات الحالية والمستفبلية للمزارعين وأصحاب الماشية والرعاة. نحن نؤمن بأن هنالك لفيف كبير من العلماء والزراعيين والبيطريين والمهندسين والتقنيين والمثقفين من أبناء غرب السودان، قادرون على التصدى لهذه التحديات، فقط ينقصهم التوحد وتكوين مراكز فكرمدنية قادرة على الإبداع وتوفير دراسات مفصلة لمشاريع التنمية وتدريب الكوادر فى كافة المجالات بالتعاون مع المؤسسات العلمية والبحثية العالمية التى تعنى بنقل التقنية والمعرفة لدول العالم الثالث. يجب أن تكون أولويات هذه المراكز الفكرية تشخيص وإزالة أسباب التناقس على الموارد الطبيعية من جذورها بوسائل مبتكرة يقودها العلم الحديث لتلبية متطلبات المستقبل والزيادة المتوقعة فى أعداد البشر والماشية وإجتثاث جذور النزاعات المتكررة ونقل إنسان المنطقة من البداوة والقبلية إلى الحضارة والمدنية. الناس للناس من بدو وحاضرة ........ بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم. (المعرى) د. أحمد هاشم/ باحث فى كلية الملكة ميرى للطب وسكرتير مؤسسة كردفان للتنمية مراجع هذا المقال ومزيد من المقالات فى منبر كردفان www.kordofan.co.uk
|
|
|
|
|
|