|
زيارة البشير للجنوب! الفاضل عباس محمد علي
|
زيارة الجنوب
زيارة البشير للجنوب! الفاضل عباس محمد علي سيتوجه الرئيس البشير لجوبا صباح الغد، و لا بد أن العديد من الملفات العالقة تدور فى مخيلته، وتحملها أضابير الوفد المرافق: مثل الاستفتاء الوشيك في أبيي... بشكل مشروع أو غير مشروع،... والديون البائتة من استحقاقات النفط علي الجنوب التى بلغت 3 مليار دولار،... ومشاكل الحدود التي لم يتم ترسيمها حتي الآن، ...والتجارة المتعثرة بين البلدين...إلخ. ولكن هذا ما يبدو علي السطح، أو ما يتطرق لذهن أي مراقب للأوضاع السودانية... حسب منطق الأشياء،...... بيد أني أزعم أن السبب الأساس مختلف تماماً: وهو المسألة الأمنية المتعلقة بصراع النظام مع الجبهة الثورية التى يبدو أن الحديث حولها قد دخل الحوش، وأنها البعبع الوحيد الذي يعمل له نظام البشير ألف حساب، فهو "الأسد الأطرش" الذى سيودي به فى نهاية الأمر. وسيقوم الوفد الشمالي بطرح البنود المذكورة أعلاه بكاملها علي طاولة قصر الرئاسة الجديد بجوبا.....مع التلويح بأن الشمال جاهز لقبول أي شروط جنوبية خاصة بها...فى مقابل مطلب شمالي واحد ظلت حكومة البشير حارنة لديه منذ عامين: وهو طرد قوات وقيادات الجبهة الثورية من الجنوب، وإيقاف الدعم لها......أما إذا تساءل أحد بجوبا عن الأزمة الاقتصادية فى الشمال الناجمة عن رفع الدعم عن المحروقات، وعن الحراك الشعبي الذي تسببت فيه، وعن ردة فعل النظام المبالغ فيها...،....فإن الرد سيكون: ليس السائل بأفضل حالاً من المسؤول، والفيكم يكفيكم، وهذه فقاعة صابون سرعان ما خمدت...دعونا نركز علي شل قدرات الجبهة الثورية..."حكّوا ظهرنا وسنحكّ ظهركم". وحسب التوازنات السياسية التى تشهدها الخرطوم فى هذه اللحظة، فإن كل الرياح تهب في أشرعة الجبهة الثورية،... ولقد تحرك قطارها، ولن يستطيع سلفا كير أن يفعل شيئاً بصدده....فسوف يتم اليوم التوقيع علي الوثيقة النهائية للاتفاق بين الجبهة والقوي السياسية الشمالية المعارضة،...وتشمل الوثيقة الدستور والترتيبات الانتقالية،...والتنسيق بين الجناح المدني والعسكري للانتفاضة التى بدأت قبل شهر من الآن....وتم حقنها الآن بهذا الاتفاق، فزادت عنفواناً واقتربت من النصر المؤزر بإذن الله تعالي... خاصة وأن كل شروط الثورة قد نضجت: • فقد بلغت أزمة النظام السياسية والاقتصادية ذروة ليس بعدها إلا الانهيار،... ووصلت البلاد إلي درك ليس بعده إلا الصعود نحو النور. • فقد النظام مصداقيته الدولية (محكمة الجنايات)... والإقليمية بانحيازة لمحور الشر الإيراني "الحماسي" القطري، فى مقابل الدول الصديقة الصدوقة التى تقف حالياً فى الجانب الصحيح من التاريخ: السعودية والإمارات والنظام المصري الجديد. • وأخذ الحزب الحاكم يتصدع، بين جماعة المذكرة (قوم غازي صلاح الدين)،... وفلول المتقافذين من السفينة الغارقة،... إلي الململة فى صفوف العسكريين،...حتي اجتماع الحركة الإسلامية بعطلة العيد الذي قررت فيه التخلص من البشير by hook or crook. • ولقد كسرت الجماهير حاجز الخوف وتدفقت بشوارع الخرطوم والمدن الأخري....مما أربك النظام وفت في عضد قوات الأمن وجعلها تارة تلوذ بالعنف المفرط وتارة تحاول الاعتذار والنكران وادعاء البراءة....وستستمر الإنتفاضة بسبب الدفع الجديد الناجم عن ذكري ثورة أكتوبر وزخم الاحتفاليات. • والمحطة الأهم التى تناهت إليها الثورة السودانية هي التوافق بين الحركة السياسية المعارضة والجبهة الثورية التى ستشكل فصيلاً مسلحاً قوي الشكيمة...سيقوم بحراسة الانتفاضة وانجاز بعض المهام التأمينية الخاصة بها،... إلي أن يتم القضاء المبرم علي المؤتمر الوطني بكافة مؤسساته،... ثم الشروع في وضع اتفاق الترتيبات الانتقالية فى حيز التنفيذ.
واضح جداً أن حكومة البشير تخشي وتتحسب لمثل هذا الإتفاق بين الجبهة الثورية وممثلي الشارع السوداني،... ففي ذلك مقتلها....وعندما أبرمت إتفاقية "الفجر الجديد" بكمبالا قبل عدة شهور، فقد النظام وقاره، ونسي حديثه عن حرية التعبير والتنظيم، وألقي القبض علي كل العائدين من كمبالا، بمن فيهم الشيوخ الطاعنون فى السن الذين هدهم المرض، وأرغت أجهزة إعلام النظام وازبدت في ذم المؤتمرين بكمبالا ووصفهم بالخيانة والعمالة....مما جعل بعض الأحزاب الموقعة علي الوثيقة تحاول أن تتنصل منها وتتحفظ عليها...وهو موقف تكتيكي أملته الضرورة فى الغالب الأعم...ولكنه فى بعض الحالات مجرد استمرار لحالة الانبطاح أمام المؤتمر الوطني التى بدأت منذ اتفاقية القاهرة 2005....مروراً بانتخابات 2010 التي باركتها الأحزاب المعارضة...حتي قبولها المشاركة في النظام ولو بصفة رمزية: وظيفة مساعد رئيس الجمهورية لإبني رئيس حزب لأمة ورئيس الاتحادي الديمقراطي...وبضع وزارت ورتب بأمن الدولة....وهكذا. ومصدر خوف الحكومة من الجبهة الثورية أنها ظلت عصية علي الرشاوي التى بذلت فى ابوجا والقاهرة والدوحة...والخرطوم...تلك الرشاوي التى درج عليها النظام وأصبحت المبرر والضامن الرئيس لوجوده...والتى كان من نتيجتها القضاء (تقريباً) علي أكبر حزبين فى تاريخ السودان: حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي...والإتحادي بزعامة محمد عثمان الميرغني، اللذين رضيا بالفتات وتركا شعب السودان فى العراء أمام نظام قمعي متجبر لا يعرف الرحمة. ولكن، تشاء عبقرية الشعب السوداني أن تلفظ تلك القيادات المساومة، وتسمح للقواعد الآتية من صلب الشعب أن تعبر عن موقف مختلف....ولقد تجلي ذلك فى الهتافات التى قاطعت السيد الصادق بدار حزب الأمة:"موقف حازم ياإمام! الشعب يريد إسقاط النظام"....وفى مذكرة لجنة الثلاثين بالحزب الإتحادي التى طالبت بالانسحاب من الحكومة، قبل اسبوعين، والتي أرسلت لزعيم الحزب في منتجعه بلندن...فنام عليها نومة أهل الكهف. وهكذا، فإن الشعب السوداني الآن يلتف حول قوي الإجماع الوطني المتحالفة مع الحركة الثورية، ويتناغم مع وقع خطاها وهي تقترب من أوردة السلطة الأساسية بالعاصمة المثلثة....وما أن يتم قطع تلك الأوردة حتي تندلق الجماهير مرة أخري فى الشوارع...تثبيتاً لشرعيتها وفرضاً لإرادتها وسعياً لتلبية لرغباتها التى تنحصر فى الآتي: • القضاء التام علي البنية الكادرية الإخوانية بمفاصل الدولة وأجهزة الأمن والإعلام...واستبدالها فوراً بأبناء الشعب الذين أفرزهم النضال ضد هذا النظام طوال ربع القرن المنصرم....وتفكيك أوصال دولة الحزب الواحد المنغلقة والمترهلة وباهظة التكلفة...وإحلالها بالحكومة الانتقالية المتفق عليها بين قوي الإجماع والجبهة الثورية، مع تحويل موارد البلاد باتجاه التنمية الإقتصادية علي المستوى القريب والبعيد ...بعيداً عن البنود الأمنية والتفاخرية التى تسمرت إزاءها الحكومة الحالية. • إحلال الدستور الإنتقالي مكان الوضع الدكتاتوري الراهن، مع كفالة الحريات الكاملة منذ أول يوم، وتلك هي الضمانة الوحيدة لسير الثورة في خط مستقيم، فالثورات كثيراً ما تنحرف وتأكل بنيها وتنقلب علي عاقبيها....و لا بد من مراقبتها عن طريق الجماهير الحرة ومنظمات النفع العام الصحيحة والصحية والنقابات الممثلة لعضويتها تمثيلاً لا خلاف حوله والصحافة غير المكبلة. • التحسن الفوري لصورة البلاد أمام الجيران، بدءاً بالجنوب، ثم السعودية ومصر...وغيرها من الدول ذات المصالح المشتركة...حتي يتم استئناف التعاون الاقتصادي والإنساني مع تلك البلدان. • الإعلان عن نفير دولي لإعادة النازحين والمهجرين لقراهم بدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق...والجنوب نفسه....مع خطة محكمة للتشييد الفوري لبنية مؤسسية تسمح بعودة أولئك النازحين لديارهم، لا ستئناف زراعتهم ورعيهم بغرض تنشيط الاقتصاد مرة أخري....بدءاً بمصادره ومنابعه الأصلية...وتخفيفاً للضغط علي المدن...(ونقل الدينة للريف، حسب التصور الذى كان يبشر به الراحل الدكتور جون قرنق).
وربما يحسب الرئيس البشير أنه سيحقق صفقة ما بجوبا تسمح له بتنفس الصعداء بين خازوقين...خازوق الإنتفاضة التى بدأت في 23 سبتمبر....والخازوق القادم لا محالة علي أيدي الجبهة الثورية...ولكنه لن ينجز شيئاً فى هذا الصدد...وسيعود بخفي حنين...وسيكون فقط قد أخذ إجازة لبضع أيام بجوبا...خاصة وهو محروم من باقي بلاد الدنيا الموقعة علي إتفاقية روما الخاصة بمحكمة الجنايات الدولية...وليس هنالك أي شيء يجعل الجنوبيين يفضلون مصالح الإخوان المسلمين السودانيين علي الشعوب الأفريقية السمراء القاطنة بأبيي ودارفور وجبال النوبة وجبال الإنقسنا بجنوب النيل الزرق...والحركات السياسية التى تمثل تلك الشعوب، خاصة الحركة الشعبية قطاع الشمال، هي استمرار لكيان الحركة الشعبية الحاكمة بالجنوب، وعلي ذؤابتها سلفا كير ميارديت رئيس حكومة الجنوب.......إن الإلحاح علي حكومة الجنوب من قبل المؤتمر الوطني ليقلب ظهر المجن لقومه الأفارقة المطحونين بأبيي ودارفور وغيرها...هو بمثابة طلب غير طبيعي، ويشوبه كثير من الشذوذ والثقة الزائدة بالنفس والغطرسة العرقية...كأنا لا زلنا فى عصر تجارة الرقيق...وفي زمان النظرة الدونية للشعوب التي كانت مرتعاً خصباً للعاملين فى تلك التجارة السخيفة، والتى كان لأهلنا الشماليين نصيب وافر فيها منذ معاهدة البقط عام 651 حتى عام 1936 عندما حّرمت الإدارة الاستعمارية البريطانية تلك التجارة بشكل قاطع في السودان. ومن ناحية أخري، فإن البشير يحاول أن يصرف نظر الرأي العام المحلي والدولي... والإعلام.... عن الأحداث الزلزالية التى تشهدها الخرطوم الآن؛ فلأول مرة منذ أربع وعشرين سنة تتحدي الجماهير ماكينة القمع الإخوانية...وتخرج للشوارع بأغصان النيم مثلما فعلت إبان ثورة أكتوبر 1964،... وبصدور مفتوحة جلابيبها وخماراتها... لا تضع حساباً للذخيرة الحية...وباستمرارية دامت لفترة أطول من ثورة أكتوبر...ولكن، هنالك فروق شتي بين الأمس واليوم....بين ثورة أكتوبر وانتفاضة سبتمبر: • شهيد واحد فى أكتوبر – أحمد القرشي – تفطّر له قلب الجنرال إبراهيم عبود، وأمر بوقف الضرب فوراً ونادي القوي السياسية المعارضة للقصر الجمهوري، ثم انتقل الإجتماع للإستراحة الملحقة بضريح الإمام محمد أحمد المهدي بأم درمان، ربما لرمزيتها الثورية، وتم تسليم السلطة للمدنيين، ومكث عبود كرئيس رمزي بلا سلطات لبضع أسابيع ثم غادر القصر لبيته المتواضع بالعمارات كمواطن عادي... لم يترك جراحاً بالنفوس... و لا ضغائن أو ثارات...بل كان الناس بعد حين يهتفون عندما يشاهدونه بسوق الخضار يبتاع شيئاً من أغراض البيت: (ضيعناك وضعنا وراك!). • بلغ شهداء سبتمبر 230 حتى الآن، ولقد توعد البشير بإبادة ثلث السودانيين قبل أن يفكر في تسليم السلطة...فهو من صنف بشار...او علي الأقل علي عبد الله صالح الذى بدى كأنه ملصق بالسلطة ببوستيك من نوع خارق...وهنالك المنتفعون وأصحاب المصلحة فى نظام البشير ممن سيذودون عنه بالنفس والنفيس. • إزاء كل ذلك، ليس أمام الثورة السودانية أن تنساب بالطريقة التقليدية التى درجت عليها فى أكتوبر 1964 وفي انتفاضة أبريل 1985 ضد نظام النميري....بل يتعين عليها أن تحمل السلاح فى وجه الإخوان المجربين فى سيناء وتمبكتو وأفغانستان والعراق وجنوب اليمن....فهم لا يعترفون بالقوي السياسية الأخري، ولا سبيل البتة لعقد صلح سلمي معهم يتم بموجبه اقتسام السلطة...فهم برون فى أنفسهم الفئة الناجية ...وغيرهم الكفرة والجاهلية كما علمهم حسن البنا وسيد قطب. • فى عام 1964 و1985 كانت القوي السياسية كلها، بما فيها الإخوان المسلمون، فى جانب....وثمة نظام عسكري دكتاتوري في الجانب الآخر.......أما الآن، فالقوي السياسية الممثلة لغالبية الشعب تقف بمواجهة نظام حزب الإخوان المسلمين المرتبط بالتنظيم العالمي وبدول معينة داعمة لذلك التنظيم، وهي بالتحديد تركيا وقطر (رغم أن قطر تبدو كأنها قد تنصلت من التنظيم الدولي...وذلك ما يشكك فيه تبنيها لقناة الجزيرة الناطقة باسم التنظيم الدولي)...وعلي كل حال، فكما أثبتت التجربة المصرية الحية...إن الإخوان ليسوا إلا نمور من ورق...وإن إرادة الجماهير أكبر وأقوي من الإخوان المسلمين بكل العالم، حتي لو وقفت معهم حكومة الولايات المتحدة.
تلك دروس يتلقاها الشارع السوداني من تاريخه الثوري، ومن السيرة المعاصرة للشعب المصري الشقيق بحق وحقيق...ولقد تحدث الكثير من المراقبين فى الأيام الفائتة عن ضرورة الاستفادة من المساحات المتاحة بالإعلام المصري وبالقنوات الصديقة لشعب السودان كاسكاي نيوز أرابك والعربية وإي إن إن...إلخ...ومن كافة الإمكانيات المتوفرة إقليمياً وعالمياً وسط الدوائر المتضررة من تنظيم الإخوان المسلمين وحلفائه بمنطقة الشرق الأوسط. وعموماً، يدرك الرئيس البشير ورهطه أن حربه مع الشارع السوداني بها كر وفر....ومهما يجوب الآفاق، من جدة لجوبا...فإن العرجاء لمراحها...والليالي من الزمان حبالي....وما هي إلا بضع أسابيع حتي يجد نفسه فى نفس المكان الذى يقبع فيه صمويل تيلور. فالنصر معقود لواؤه بشعب السودان. والسلام.
|
|
|
|
|
|