أدارت السيدة الأربعينية الجميلة بصرها حول أرجاء المتجر الفخيم.. ثم حملت لفافة من الخبز الذي يستخدمه مرضى السكري.. عند (الكاشير) فوجئت أن السعر قد تضاعف.. احتجّت بصوت ناعم لكن وتيرة الغضب ارتفعت حينما أشار إليها المحاسب أن تشتري خبزاً عادياً وتترك ذاك لأهل اليسر.. رمت بلفافة الخبز ورفعت يديها تسأل الله أن يعجل بيوم القيامة لأن في ذلك رحمة للناس.. السيدة كانت أرملة وأماً لنصف دستة من الأطفال.. أوسطهم مصاب بالسكري.
أمس سرت في الخرطوم موجة من الهلع.. حاول عدد من المواطنين سحب أكبر قدر من النقد من المصارف إثر تواتر إشاعات أن هنالك قيوداً ستُفرض على حركة النقود.. جاء ذلك بالتزامن مع الارتفاع الجامح في أسعار الدولار.. بعض المتاجر المعروفة أوقفت البيع خوفاً من الخسارة.. شائعات تتحدث عن دولة أجنبية ضخّت عملات سودانية مزوّرة.. تلميح صريح أن الدولة ربما تستخدم سياسة الأيدي الباطشة مع بعض رموز القطاع الخاص الذين تحملهم الحكومة مسؤولية التردي الاقتصادي.
فقدان الأمل هو أسوأ ما يواجه الاقتصاد السوداني هذه الأيام.. إن لم تتحرك الحكومة بأسرع ما تيسر لإحداث تغيير سياسي واقتصادي ستتعقد الأزمة وتصبح تكلفة الحل أعلى وربما غير متاحة.. من الممكن أن يهجر الناس المصارف إن لم تُحَط بسياج من الثقة.. ومن المتوقع أن يسعى المواطنون لمخازن بديلة تستوعب ثرواتهم إن لم يستعِد الجنيه عافيته بسرعة.. كل تلك السيناريوهات تتطلّب التحرّك بسرعة.
من حسن الحظ أن مثل هذه الظروف مرّت باقتصاديات أقوى من الاقتصاد السوداني.. ومن حسن الحظ أن خارطة الطريق للخروج من الأزمة متاحة للنظر وأخذ العِبر ثم السير في الطريق الآمن.. في آخر أيام جورج بوش الابن حدثت الأزمة المالية الجارفة في أمريكا.. انهار سوق العقار.. توقفت المصانع.. لكن الرئيس أوباما تمكن من بث روح الأمل عبر شعار (نعم نستطيع).. النمور الآسيوية مرت بتجربة أليمة تجاوزتها بالاعتراف بالأزمة وطلب العون من الأصدقاء.
في تقديري.. تكمن الحكمة في ضرورة الاعتراف بالأزمة بدلاً من رمي كرة اللهب في اتجاهات بعيدة.. استيراد تجربة بن سلمان في التعامل مع رموز القطاع الخاص أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث في السودان.. سنذهب للعنوان الخطأ إن حسبنا أن مشكلتنا الحالية سببها جشع التجار أو مضاربة السمسارة.. أو أن الحل يكمن في أن تتحول الحكومة لتاجر قطاعي يبيع حفاظات الأطفال وصابون غسل الأواني.. كل ذلك ضرب من التنجيم من غير أهل الخبرة والاختصاص .
بصراحة.. الأزمة الحالية هي أزمة سياسية بامتياز.. التردي الاقتصادي واحد من أعراض هذه الأزمة.. كان بإمكان الحكومة أن تتنبأ بكل ذلك وتتحسّب له إن كان هنالك بعد نظر سياسي.. المطلوب بث الأمل بإجراءات سياسية واقتصادية عاجلة وإلا فالطامة الكبرى في الطريق.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة