|
من اليقظة إلى العقلاني: مركز الدراسات النقدية للأديان يسير على الخط نفسه 1-5 مختار اللخمي
|
"من الأفضل للشعب السوداني أن يمر بتجربة حكم جماعة الإخوان المسلمين، إذ لا شك أنها سوف تكون مفيدة للغاية، فهي ستكشف لأبناء هذا البلد مدي زيف شعارات هذه الجماعة التي سوف تسيطر على السودان سياسياً و اقتصادياً، و لو بالوسائل العسكرية. و سوف يذيقون الشعب الأمرين، و سوف يدخلون البلاد في فتنة تحيل نهارها إلى ليل، و سوف تنتهي هذه الفتنة فيما بينهم، و سوف يقتلعون من أرض السودان اقتلاعا." الأستاذ/ محمود محمد طه
صدر في شهر فبراير الماضي من هذا العام العدد الأول من "مجلة العقلاني"- مجلة غير دورية - عن مركز الدراسات النقدية للأديان بلندن للشيخ/ محمد محمود، الذي عمل في الماضي أستاذاً للأدب الإنجليزي بكلية الآداب، جامعة الخرطوم، ثم معهد الدراسات الشرقية بجامعة أوكسفورد، ثم أستاذاً و رئيساً لقسم علم الأديان المقارن بجامعة تفت بالولايات المتحدة الآمريكية. ثم تفرغ بعدها لتأسيس و إدارة مركز الدراسات النقدية للأديان بلندن. و صدرت العقلاني في شكل كتيب صغير الحجم أقرب إلى النشرة منها إلى الكتاب، أو المجلة، في تغليف جيد، و طباعة أنيقة، و أحرف واضحة. و بلغ عدد صفحاتها حوالي 115 صفحة من الحجم الصغير. و قد احتوى العدد الأول منها على مقالين طويلين: الأول منهما للأستاذ/ محمد محمود بعنوان: "قصة الخلق و العصيان في القرآن: غياب حواء و مركزية إبليس. و الثاني للبروفسير/ دانيال بالز، و هو أستاذ جامعي أمريكي، يهتم بالتاريخ الديني الأوربي الأمريكي المعاصر، و تاريخ المواجهة بين العلم و الدين، و طبيعة التفسير في الدين و التاريخ و العلوم الانسانية، و هو بعنوان: "نظريات الأديان: الأرواحية و السحر. و لعل القارئ الذي يتابع كتابات محمد محمود في مجال نقد الظاهرة الدينية في تجليها الإسلامي منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، و يقرأ هذا العدد من "مجلة العقلاني"، يدرك بوضوح أنه يسير على الخط نفسه، و أن "العقلاني" امتداد طبيعي لنشرة "اليقظة" التي كان يصدرها إبان عمله أستاذاً بكلية الآداب، جامعة الخرطوم. و قد عنيت تلك النشرة، و التي صدرت منها أعداداً محدودة، بدراسة المادة الإسلامية من ناحية إعمال مناهج النظر النقدي في دراسة الإسلام، و التأسيس لفكرة نقد الإسلام، مثل نقد مفهوم الدولة الإسلامية، ونموذجه التأريخي كما تجسد فيما يسمى "بدولة يثرب"، أو "دولة المدينة". هذا بالإضافة لإثارة إشكاليات النص القرآني، و فكرة تطبيق القوانين الإسلامية في المجتمعات المعاصرة، خاصة في مجتمع متعدد دينياً مثل المجتمع السوداني، و مشكلة المواطنة، و حقوق المرأة، و إنعكاس كل ذلك على واقع الناس. هذا بالإضافة أيضاً لمساهمتها في نقد مناهج التعليم الديني السائدة في أوساط مؤسساتنا التعليمية في السودان. ثم توقفت اليقظة بعد وصول الإسلامويين إلى السلطة في العام 1989م، و هجرة صاحبها إلى خارج السودان. و مما يميز محمد محمود هو الجدية، و روح المثابرة، و الصبر الدؤوب على العمل، و البحث الأكاديمي. لذلك تمكن رغم ظروف الهجرة القاهرة من مواصلة أبحاثه في الخارج، حيث أصدر لاحقاً كتاباً باللغة الإنجليزية بعنوان: البحث عن الألوهية: دراسة نقدية لفكر الأستاذ/ محمود محمد طه، و الذي ربما يعتبر أول دراسة رائدة في الساحة السودانية عن فكر الأستاذ/ محمود محمد طه، و مصادر إلهامه تأتي من خارج دوائر الجمهوريين. ثم أخيراً كتاب: نبوة محمد، التاريخ و الصناعة. و فيما بعد يتم تتويج هذا الجهد بتأسيس مركز الدراسات النقدية للأديان بلندن، لكي يتحول هذا الجهد الفردي المتناثر في نقد الظاهرة الدينية إلى جهد مؤسسي منظم، يتكامل و يتفاعل بشكل خلاق مع جهود الآخرين. و كان يمكن لكل هذا الجهد أن يبقى في الداخل، و يتفاعل مع جهود بعض الكتاب السودانيين مثل حيدر إبراهيم، و طه إبراهيم الجربوع، و جهود الجمهوريين، و يثري ساحة الجدل بما يطرحه من حوار جاد، و تحدي، و يكون أكثر تأثيراً و تخصيباً للحوار في الساحة السودانية. و يبدو أن الأستاذ/ محمد محمود قد اختار البحث و التوغل في المنطقة الوعرة. فالبحث و النقد في مجال الأديان في المنطقة العربية و الإسلامية، يعتبر إحدى أضلاع الثالوث المحرم، و الذي يختار الولوج إلى هذه المنطقة عليه أن يتحلى بشجاعة نادرة. و أقل ما يتوقعه هو الاتهام بالتكفير و التجديف، و أقصاها الحكم بالردة و الإعدام، و هذا ما حدث للكثيرين. و لذلك يطلق أركون على البعض من مناطق الوعي الديني مصطلح"الممنوع التفكير فيه"، حيث لا تقبل دوائر الوعي الديني التقليدي مجرد المساس بها و مساءلتها. و الدارس للتاريخ الإسلامي، و تاريخ الأديان بصورة عامة، يدرك بوضوح أن السجال الديني في تاريخ الأديان يسبح فوق بركة واسعة من دماء البشر، و مع أشكال مختلفة من التنكيل تفوق تصور البشر. فالحلاج أحرق جثمانه، و ذري رماده في نهر دجلة، و ابن المقفع تم تقطيعه عضواً عضواً حتى مات، بصورة تشبه مآسي أبطال التراجيديا الإغريقية. و هذه مجرد أمثلة لفظائع العنف الديني في تاريخ الدولة الإسلامية. و لا شك أن مشروع الأستاذ/ محمد محمود في نقد الأديان لم ينطلق من الفراغ المطلق. فقد سبقه آخرون في المنطقة العربية، حاولوا إخضاع الظاهرة الدينية لمناهج التحليل العقلاني و الفلسفي. و يبدو أنه قد استلهم رؤاه الأولى منها، و تغذي من مادتها الخام التي ساعدت على بلورة مشروعه. و يأتي على رأس هؤلاء الدكتور/ طه حسين، صاحب كتاب: في الشعر الجاهلي، و الذي اضطر تحت ضغط شيوخ الأزهر إلى تغييره إلى: في الأدب الجاهلي بعد حذف بعض محتوياته. ثم محمد أحمد خلف الله، صاحب القصص الفني في القرآن الكريم. و صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني، و نبيل فياض، و عبد الله القصيمي، و الصادق النيهوم،و شحرور، و الشيخ خليل عبد الكريم، و الذي قدم مشروعاً كاملاً في قراءة تقاليد العرب قبل الإسلام، و مقارنتها بالتحول الذي أحدثه الإسلام على هذه القيم. و قد واجه جل هؤلاء تهم التكفير و الطرد، و ظلت أعمالهم محظورة من قبل الرقابة العربية. هذا على الرغم من المقاومة العنيفة من قبل قوى التقدم و الاستنارة و العقلانية و الديموقراطية و دعاة حقوق الإنسان لممارسات المؤسسة الدينية التقليدية في المنطقة العربية و الإسلامية. لذلك أشارت "العقلاني" في صدر مقدمتها لذلك الرفض و الطرد من قبل دوائر الخطاب الديني التقليدي، و الذي تجاوز شكل الهيمنة على الخطاب، و تجسد في شكل قهر ديني، و سياسي، و اجتماعي. "إن هذه الهيمنة الإسلامية، و التي تتخذ شكل قهر ديني و سياسي و اجتماعي مباشر في بعض الدول، و تواجه الآن في مطالع القرن الحادي و العشرين مقاومة تتسع حثيثاً، خاصة وسط قطاعات الشباب الذين بدأوا يطرحون الأسئلة الصعبة عن الدين و عقائده و طبيعته و تاريخه و دوره في حياتهم." و لعل ظاهرة القهر و الهيمنة باسم الدين تلك، قد تجلت في أبشع صورها مجافاة للقيم الإنسانية، في السودان، و الذي شهد وصول أول جماعة إسلامية للسلطة منفردة في نطاق ما يطلق عليه "العالم السني". و العنف المادي غالباً ما يكون ترجمة للعنف الفكري. فقد تمت شيطنة الحركة الشعبية الجنوبية، و أعلن "الجهاد"، كعنف مقدس ضد الجنوبيين، و تم فرض هذه الرؤية الزائفة على كل السودانيين- و هي في الأساس رؤية تنظيم سياسي، و بصورة أدق هي رؤية الدكتور/ حسن الترابي- و على أساسها تمت مطاردة الشباب السودانيين في الشوارع، و وضعهم في مراكز إعتقال مؤقت، ثم الإلقاء بهم في محرقة الحرب. و تم استدعاء كل تراث الحروب العربية الإسلامية، فالذي يهرب من معسكر الإعتقال يتعرض لإطلاق النار عليه، باعتبار ذلك نوع من التولي يوم الزحف، مثلما حدث لطلاب الخدمة الإلزامية في معسكر العيلفون في العام 1998م. و انتهت المسألة بحسب الحاج وراق، بجرائم الإبادة، و جرائم الحرب، و اغتصاب النساء، و إلقاء الأطفال في النيران المشتعلة، و التعذيب، و الفساد، و استباحة المجتمع و الدولة السودانية بأسرها. همج رمت بهم الصحارى جنة المأوى.... تهر كلابهم فيها و تجأر في المدى قطعانهم. يسيرون في سحب الجراد ... فكأن أعينهم لذؤبان... و أرجلهم لثيران... يدوسون البلاد.. و يزرعون خرابهم في كل وادي. "محمد أبو دومة" و يتواصل الحديث
همج رمت بهم الصحارى جنة المأوى.. تهر كلابهم فيها و تجأر في المدى قطعانهم. يسيرون في سحب الجراد.. فكأن أعينهم لذؤبان.. و أرجلهم لثيران، يدوسون البلاد، و يزرعون خرابهم في كل وادي. "محمد أبو دومة"
و يتواصل الحديث
|
|
|
|
|
|