|
من اليقظة إلى العقلاني: مركز الدراسات النقدية للأديان يسير على الخط نفسه 4-5 مختار اللخمي
|
مجلة العقلاني و نقد الأديان: ما هو نقد الأديان؟ و هل من الممكن نقد الأديان؟! و هل هناك منطقة في الدين فوق مستوى النقد؟ و كيف قوبلت محاولة نقد الأديان من قبل رجال الدين، و المتدينين؟ هذه أسئلة تأسيسية مفتاحية، و سوف ترد الإجابة عليها تباعاً خلال هذه المقالة. بالطبع نقد الأديان بما فيها الإسلام ، لا يعني هدم الأديان و القضاء عليها نهائياً في حياة البشر. و صحيح هناك من يقوم بنقد الدين من أجل التحرر من الدين نفسه. و لكن هذا أمر غير أنه لا يمثل هدف للغالبية من نقاد الدين، و إنما لأنه أمر مستحيل من الناحية العملية. و كما ورد في العقلاني: " إن الأديان ظاهرة قديمة في تاريخ البشر و لعبت و ما تزال تلعب دوراً محسوساً في تشكيل وعي و سلوك الكثيرين". فالأديان أصبحت عنصر لا ينفصل من عناصر البنية الثقافية لكل المجتمعات البشرية، و تسربت بوعي أو بغير وعي للنسيج الثقافي و القيمي لكل البشر. و ذلك لأن قانون التصادم و الجدل بين الثقافات و الأفكار، بالشكل الهيجلي لا يسمح بالزوال المطلق للثقافة المهزومة، و إنما يتبقى الكثير من رواسبها في الجسد الثقافي الجديد. و هذا ينطبق على الدين الإسلامي نفسه الذي أخذ الكثير من رواسب الثقافات المحلية في المجتمعات التي دخلها، للدرجة التي يمكن أن نتحدث فيها عن إسلام آسيوي، و إسلام سوداني، و آخر أفريقي. فظاهرة غسل المولود في ماء البحر بعد أربعين يوماً من ميلاده في شمال السودان مثلاً، تشبه بشكل كبير ظاهرة "التعميد" في الديانة المسيحية. لذلك فإن مشروعية نقد الدين تنطلق من هذا الأساس، فهو مثله مثل كل معارف البشر، و يدرس كما تدرس كل عناصر ثقافات البشر، و يتعرض لما تتعرض له من نقد، و تطور. لذلك فنقد الدين على هذا الأساس لا يعني: "نقض عرى الدين عروة عروة"، كما عرفه أحد الإسلامويين السودانيين العصابيين، و إنما النقد بالمفهوم الكانتي الذي يعني مراجعة و مساءلة القيم و المفاهيم الدينية، و غربلة الدين، و الكشف عن مناطق القوة و الضعف فيه، و النافع و الضار، و ماهية الوحي و حقيقته، و مسألة وجود الإله، و ما هو الذي يواكب، و الذي لا يواكب قيم العصر من قيم الدين؟ فمثلاً هل من الممكن أن نتحدث عن تشريعات الرق في الإسلام الآن؟ و هل من الممكن أن نطالب غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، كالأقباط في مصر مثلاً بدفع الجزية نظير إعفائهم من ضريبة الجهاد كما يروج بعض رموز الجماعات السلفية؟ كما يجب علينا أن نشير هنا أننا عندما نتحث عن نقد الدين، لا نتحدث عنه كما نتحدث عن النقد الأدبي مثلاً. فالنقد الأدبي قديم قدم الظاهرة الأدبية نفسها، و تطور مع تطوراتها، و أصبح له رموز كبار، و مدارس أدبية كبيرة و متعددة، مثل الشكلانيين الروس، و حلقة براغ اللغوية، و مدرسة النقد الجديد، و البنيوية، و ما بعد البنيوية، إلى التفكيك، و السياقات و التلقي. و السبب هو أن الأدب لم يحط بقناع القداسة الذي أحيطت به الظاهرة الدينية، و لم يواجه الرفض الذي واجهه نقد الدين من قبل المتدينين، و بالتالي لم يصحبه العنف الذي صاحب الظاهرة الدينية. صحيح قد يكون النقد الديني في تاريخ اليهودية و المسيحية قد بدأ مبكراً مقارنة بالإسلام. فالنقد في المسيحية، قد بدأ منذ القرون الوسطى، و وصل النقطة الفاصلة في عملية رفض القسيس و أستاذ الثيولوجيا الألماني/ مارتن لوثر لفكرة صكوك الغفران التي كان يصدرها القساوسة و تؤيدها الكنيسة الكاثوليكية في روما. و في العام 1517م، أصدر إعلانه الشهير الذي احتوى على 95 بندا من الإصلاحات الدينية، و طالب البابا في روما بتنفيذها. و هذا مما قاد لاحقاً إلى انشقاقه عن المذهب الكاثوليكي الذي تمثله كنيسة روما، و أنشأ المذهب البروتستاني. لذلك اتخذ بعدها نقد الدين أبعاداً واسعة في عصر الحداثة و الأوربي، و ظهرت نظرية كثيرة لتفسير نشأة الظاهرة الدينية. ففرويد مثلاً، كان يرى أن ظهور الدين جاء نتيجة طبيعية لغريزة بحث الإنسان عن الأب السماوي، بعد أن فقد الحماية و الأمن من الأب الأرضي، بينما يرى فويرباخ أن الدين هو مجرد إسقاطات وهمية لصفات إنسانية على قوة غيبية خارقة خالقة لهذا العالم. كذلك يري دوركايم أن الدين جاء نتاج لرغبة المجتمع الذين يريد الهيمنة على أفراده، و شدهم برباط غيبي بغرض الحفاظ على التماسك و التلاحم الاجتماعي، بينما يرى ماركس أن مصدر الدين هو الطبقة المسيطرة التي تريد تخدير الطبقة المحكومة لمنعها من الثورة. يرى البعض من المتدينين أن نقد الدين يجب أن يقتصر على مناطق معينة دون الأخرى، أي يمكن أن يتم مثلاً نقد ممارسات المتدينين، أو الفروع من الدين، لكن يجب ألا يطال النقد أصل الدين، لأنه أمر إلهي، و غيبي، و بالتالي فهو فوق طاقة البشر. كما أن نقد أصول الدين وفق تصورهم يمكن أن يؤدي اهتزاز إيمان الناس، و فتح الباب واسعاً أمام الإلحاد و العبث و اللا أدرية. هذا الرأي يحتوي على مجموعة من المغالطات: أولاً لا يوجد اتفاق حول أصول الدين نفسها حتى داخل الدين الواحد، فهي غيرها عند الشيعة، أو المعتزلة، و عند من يسمون أنفسهم "بأهل السنة و الجماعة". كما أن هذا الرأي يحتوى على اتهام مبطن و شائع في أذهان كثير من المتدينين، خاصة المسلمين، و هو أن الملحدين بشر بلا أخلاق. و الرد على مثل هذا القول هو أن هناك قيم أخلاقية إنسانية يكاد يتفق حولها كل البشر، بما هم بشر. فالصدق و الأمانة، و احترام الآخر، هذه قيم إنسانية لا تنبثق بالضرورة من الدين، كما أن الأخلاق، أي أخلاق، كنسق قيمي داخل بنية ثقافية معينة، ليس بالضرورة أن يكون دائماً مصدرها الدين. و الحال أن هناك الكثير من الملحدين و اللادينيين أحسن أخلاقاً من الكثير من المسلمين. ( هذا أمر سوف أعود له في مقال منفصل ). و في السياقات الإسلامية، هناك تناقضات كثيرة حول هذا الأمر. "فرجال الدين" الإسلامي يقومون بدور كبير في نقد أصول الأديان، لكن دائماً ما ينصب هذا النقد على أصول الأديان الأخرى، لا أديانهم، مثل جهود الداعية/ أحمد ديدات في جنوب أفريقيا. فمنشورات و كتابات و فضائيات مشايخ الدين الإسلامي طافحة بنقد المسيحية. فالطفل في العالم الإسلامي منذ نعومة أظافره يلقن بأن الإنجيل محرف، و يردد هذا الكلام بلا تحفظ أو أدنى تقدير أمام أقرانه الآخرين من المسيحيين المساكنين له في الوطن، لكنهم مع هذا لا يتقبلون البتة أن يقول المسيحيون أن القرآن مثلاً محرف، و يتقبلون نقده من قبل المسيحيين. كما أن "أهل السنة" يمارسون نقداً علنياً مستمراً لعقائد الشيعة، و ينفونهم خارج دائرة الإسلام "الأورثوذيكسي"، و لكنهم لا يتقبلون مطلقاً مجرد أن يطلع أبناؤهم من أهل السنة مجرد اطلاع على كتب الشيعة. لاحظ الحديث المتكرر عن التغلغل الشيعي في السودان. أما في داخل الإسلام، في العالمين العربي و الإسلامي، فقد اتخذ نقد الإسلام مظاهر متعددة، طبعت تاريخ الإسلام كله، منذ ظهور واقعة الفتنة الكبرى التي قسمت المسلمين إلى فرق متعددة، مختلفة في تصوراتها العقدية، مثل الشيعة، و الخوارج، و المعتزلة، و أهل السنة، و غيرهم. لذلك أشارت العقلاني إلى مظاهر ذلك الصراع الفكري الذي لخصته في الصراع بين تياري التفسير و التأويل: "و يمكننا التعبيرعن مجمل الصورة بالقول إننا بإزاء صراع فكري بين تياري التفسير و التأويل، باعتبار التفسير محاولة لحصر الإسلام، و تقييده في في حدود أفق تراثه الموروث، و باعتبار التأويل محاولة لتوسيع و تمديد أفق الإسلام و كسر الكثير من أطواقه الموروثة". كما أن رواد الإصلاح الديني و الإجتماعي الحديث في العالمين العربي و الإسلامي، بدءً من عصر النهضة ( محمد عبده، الأفغاني، رشيد رضا )، إلى مالك بن نبي، و عبد الحميد بن باديس في الجزائر، و السنوسي الليبي، و المهدي السوداني، و غيرهم، كلهم قد جاءوا كنتاج طبيعي لنقد الإسلام. فانتقدوا ظهور بعض الشعائر في حياة المسلمين، و اعتبروها ليست من أصل الدين مثل بعض شعائر المتصوفة. و رأوا أن هناك الكثير من العادات و التقاليد التي تسربت لحيوات المسلمين واختلطت بتدينهم، و أصبحت كأنها جزء من الدين، و هي ليست كذلك. و طالبوا بناءاً على ذلك بضرورة الإصلاح الديني. و لكن هناك تيار آخر لنقد الإسلام لمم تتقبله المؤسسة الرسمية، و ظل منفياً، و واجه صنوف من القمع و التنكيل، و هو في جوهره تيار فلسفي، سوف نتعرض له في مقال آخر. و يتواصل الحديث
|
|
|
|
|
|