|
مغالطة الإنسحاب من غزّة بقلم ألون بن مئير
|
لقد نشرت حكومة نتنياهو بشدّة وبتشبّث فكرة أنّ انسحاب إسرائيل من غزّة في عام 2005 واستيلاء حماس بعدها على القطاع والعنف الناتج عن ذلك يوحي بشدّة بأن هدف الفلسطينيين هو تدمير إسرائيل وليس استرداد المناطق التي خسروها. ويقول نتنياهو بأن على إسرائيل أن تأخذ درسا ً من هذه التجربة وألاّ تنسحب لهذا السبب من الضفّة الغربيّة الأقرب بكثير على مراكز إسرائيل الحضريّة من غزّة. ويواصل نتنياهو حجته بالقول أنّ استيلاء حماس على الضفّة الغربيّة سيجعل منها أرضيّة لمنصّة أخرى تنطلق منها هجمات صاروخيّة تقطع إسرائيل إلى نصفين وتلحق خسائر لا تحصى بالأرواح والممتلكات.
ومع الأسف وقع الكثير من الإسرائيليين في شرك مغالطة هذه الحجّة. فبالفعل، إذا انسحبت إسرائيل بتسرّع من الضفّة الغربيّة كما فعلت في غزّة قد تحدث نتيجة مماثلة من الناحية النظريّة.
لقد استُخدمت الحروب الدمويّة الثلاثة ما بين حماس وإسرائيل، وبالتحديد: عمليّة “الرّصاص المصبوب” (حرب الفرقان) في عام 2008 وعمليّة “عمود السّحاب” (حرب حجارة السجيل) في عام 2012 وعمليّة “الجرف الصامد” (العصف المأكول) في هذا العام الجاري من طرف نتنياهو لكي يبيّن بشكل ٍ مخادع نتائج الإنسحاب من قطاع غزّة بدلا ً من إظهار عواقب الإبقاء على الأوضاع الهشّة ما بين إسرائيل والفلسطينيين.
واستخدام عبارات نبيلة رنّانة لوصف هذه العمليّات ضد حماس ليس بالجواب. وتصوير سلوك حماس وعقيدتها في التحريض على تدمير إسرائيل لتبرير معاملة إسرائيل تجاه الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة لا يخدم سوى المتطرفين الفلسطينيين.
نتنياهو يضلّل بقصد الجمهور الإسرائيلي لتبرير رفضه العنيد في الشروع بانسحاب جوهري من الضفة الغربيّة وذلك بإعادة كتابة تاريخ وسيناريو الإنسحاب من قطاع غزّة وربطه مباشرة ً بالمخاوف الأمنيّة القوميّة.
كانت الإستخبارات الإسرائيليّة في ذلك الوقت على علم ٍ بشعبيّة حماس من الناحية السياسيّة وبأنّ لديها قدرات عسكريّة يمكنها أن تطغى في أية مواجهة على قوّات الأمن الداخلي التابعة للسلطة الفلسطينيّة برئاسة محمود عبّاس. ولكن رغبة رئيس الوزراء آنذاك، آرئيل شارون، بتخليص إسرائيل من عبء منطقة فلسطينيّة ذات كثافة سكانيّة عالية واعتقاده، كما ورد في برنامج حزب كاديما السياسي بأنّه”…وللإبقاء على أغلبيّة يهوديّة يجب أن يتمّ التخلّي عن جزء ٍ من أرض إسرائيل للحفاظ على دولة يهوديّة وديمقراطيّة” قد أعطى الدّافع لإخلاء غزّة أوّلا ً.
ولبيان نواياه بأن الإنسحاب لن يكون مقصورا ً على قطاع غزّة، أمر شارون في شهر آب (أغسطس) 2005 بالإنسحاب من سانور وحومش في شمال الضفّة الغربيّة، واضعا ً الأمّة بذلك على مسار ٍ كان بمقدوره أن ينهي الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
لقد تجاهل شارون آنذاك على أية حال ضرورة التنسيق الكامل مع السلطة الفلسطينيّة لإخلاء غزّة وأخفق في وضع خطّة مدروسة جيّدا ً لتنفيذ الإنسحاب على مراحل، الأمر الذي تسبّب في عواقب أمنيّة قوميّة خطيرة. كان ينبغي على الفلسطينيين – من الناحية المثاليّة – أن يشرعوا بعد الإنسحاب فورا ً ببناء البنية التحتيّة للدولة ووضع برنامج اقتصادي جادّ لتوفير أماكن عمل وفرص لعشرات الآلاف من الشباب الفلسطيني، وفي نفس الوقت إظهار التزامهم بالعيش بسلام جنبا ً إلى جنب مع إسرائيل.
وواقع أن لا شيء من هذا القبيل قد حدث في قطاع غزّة ينبغي ألاّ يؤثّر على الوضع في الضفّة الغربيّة، خصوصا ً وأنّ السلطة الفلسطينيّة بعد نهاية الإنتفاضة الثانية في عام 2005 قد نبذت بشكل ٍ رسمي استخدام القوّة لتحقيق هدفها السياسي المتمثّل في إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة.
لقد شرعت السلطة الفلسطينيّة جديّا ً في بناء أسس الدولة من مدارس ومستشفيات وشبكة من الطرق ومؤسسات خاصّة وأخرى حكوميّة. وأطري عليها حتّى من طرف كبار المسؤولين الأمنيين في إسرائيل لتعاونها التامّ مع إسرائيل في جميع القضايا الأمنيّة، حتّى في فترات التوتّر المتزايد بين الجانبين.
إذن كانت خبرة غزّة بطريقة ما إيجابيّة وبنّاءة لأنها بيّنت الأخطاء التي ارتكبها شارون وكيفيّة تجنّب مثل هذه الأخطاء عند فكّ أي ارتباط من المناطق في الضفّة الغربيّة مستقبلا ً.
أيُعقل إذن أن يترك الأمر على أية حال لنتنياهو لاستغلال تجربة غزّة لتبرير استمرار الإحتلال بدلا ً من أن يقوم بوضع خطط مدروسة ومحكمة جيّدا ً مع السلطة الفلسطينيّة ينبثق عنها إجراءات أمنيّة تضمن بألاّ تصبح الضفّة الغربيّة أرضية انطلاق لهجومات على إسرائيل.
وبالّرغم من أنّ شارون ونتنياهو يعتقدان على حدّ سواء بأن “للشعب الإسرائيلي حقّ قومي وتاريخي على كلّ أرض إسرائيل” أدرك شارون بأنّ عليه أن يتخلّى عن جزء منها للحفاظ على الهويّة القوميّة اليهوديّة للدولة.
وعلى عكس ذلك، يعتقد نتنياهو مدفوعا ً بايمانه بأن إسرائيل ليست قوّة محتلّة وبأن قيام دولة فلسطينيّة على نفس الأرض يلغي حقّ إسرائيل المتأصّل على الأرض بأكملها.
وبناء ً على ذلك، فإن إسرائيل في وضع ٍ مثالي للإنسحاب من معظم أراضي الضفّة الغربيّة بدون المخاطرة بأية ناحية من نواحي أو قضايا الأمن المشروعة. لا بل انسحاب يعتمد على خطط وخطوات مدروسة مسبقا ً سيعزّز أمن إسرائيل القومي بدلا ً من تقويضه.
لن يقترح أحد سليم العقل بأن تنسحب إسرائيل من الضفّة الغربيّة بشكل ٍ متهوّر مثلما فعلت بانسحابها من غزّة ومن جنوب لبنان في عام 2000 في جنح الظلام تقريباً و بدون تنسيق واتفاق مع السلطة الفلسطينيّة أو الحكومات اللبنانيّة والسوريّة على التوالي.
يجب أن يعتمد الإنسحاب على عدد ٍ من المراحل يتفق عليها وتنفّذ على فترة ٍ تتراوح ما بين خمسة إلى عشرة أعوام تستلزم اتخاذ تدابير متبادلة وواضحة المعالم يتمّ تنفيذها من قبل الطرفين طبقا ً لجدول زمني وبآليات مراقبة لضمان الإلتزام التامّ بها ولمنع أيّ تصعيد.
أضف إلى ذلك، يجب وضع إجراءات وترتيبات أمنيّة متبادلة مقدّما ً وأن يكون هناك برنامج تنمية اقتصاديّة شاملة لأية اتفاقيّة بحيث ينمّي الفلسطينيّون مصالح هامّة ويصبح لهم حوافز للإبقاء عليها.
وما تجده حكومة نتنياهو مناسب جدّا ً لها هو أن تستغلّ أعمال العنف الحاليّة في القدس وموت إسرائيليين وفلسطينيين أبرياء مشيرة ً إلى “حكمة” سياسة نتنياهو للإبقاء على الإحتلال ورفضه القيام بتنازلات إقليميّة بسبب اعتبارات أمنيّة قوميّة على حدّ زعمه.
وبصرف النظر عن أسباب موجة العنف الحاليّة، فإنها تكشف فقط استحالة الدفاع عن الوضع الحالي، فالإحتلال الإسرائيلي احتلال تحت أي تعريف أو مسميّات وهو أصل كلّ الشرور التي تبتلي بها العلاقات الإسرائيليّة – الفلسطينيّة.
وإن كان لإسرائيل حقوق توراتيّة أو تاريخيّة على الأرض أم لم يكن، هذا لم يعد ذات صلة بالموضوع مقابل حقيقة وجود الفلسطينيين التي لا تتزعزع، غير أنّ نتنياهو وشركاؤه مهووسون لدرجة أنهم لم يعد يرون الحقيقة.
لقد حان الوقت للمجتمع الإسرائيلي الذي تمّ تضليله بصورة منهجيّة أن يتخلّص من المغالطة الكامنة وراء الإنسحاب من قطاع غزّة وأن يطالب باستقالة حكومة نتنياهو وانتخاب قادة جدد ملتزمين كليّا ً بإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
أنا أعلم بأن هذا ليس أمرا ً سهلا ً، ولكن هناك دائما ً لحظة من الزمن يرتقي فيها الشعب إلى ما فوق ضعفه البشري. وأعتقد بأنه حان الوقت لكي يخلق الإسرائيليّون تلك اللحظة.
|
|
|
|
|
|