|
مرحلة تسديد فاتورة الخلاف الغالي مع السعودية .. / مصعب المشرّف
|
مرحلة تسديد فاتورة الخلاف الغالي مع السعودية
بعد تسريب تفاصيل مفصلية لما جرى من أطروحات ونقاش في إجتماع رئيس الجمهورية بأركان نظامه داخل منزله عقب عودته من رحلة الحج السياسي .. فإن الذي يلفت النظر هو ؛ ودون حاجة للخوض في تقييم فشل مقاصد الزيارة من نجاحها يتثمل في الآتي: أن محاور النقاش والمداخلات قد تركزت في النقاط التالية: 1) الإعتراف بفشل الزيارة في الإتيان بالثمار المرتجاة منها جملة وتفصيلا . 2) أن الزيارة قد أوضحت أن هناك هوة عميقة متسعة الأرجاء بين حكومة المؤتمر الوطني ونظام الحكم في السعودية .... وقد تبدى ذلك في إحراق كلمة العاهل السعودي كل السفن وهدم كل الجسور التي يمكن أن تتسبب في إعادة التواصل بين الطرفين. 3) أن البديل المطروح الآن بالتوجه نحو القاهرة على نحو يبدو وكأنه الحل الأقل مرارة وعلقما من غيره .. فما هي الأهداف المرجوة من هذه الزيارة ؟ هل هي مجرد جبر خواطر وإستعادة الثقة بالنفس ؟ .. وهل يصلح السيسي ما أفسده خامئيني؟ لن يفلح السيسي ما أفسده خامئيني ... ومنتهى الذي يمكن أن يعود به البشير من القاهرة هو وعود مصرية قليلها ممكن ، وبعضها هلامي ... وأكثرها الأعظم مستحيل وعرقوبي.
وقبل الدخول في تحليل أقوال ومواقف بعض أركان نظام المؤتمر الوطني التي جرى طرح بعضها بشفافية أو ضبابية بحسب موقع صاحبها في التنظيم . فإنه يقتضي العودة لى الوراء بعض الشيء والحديث عن الآثار المدمرة التي تسببت فيها تلك الوثيقة المسربة عن إجتماع اللجنة السياسية والعسكرية مؤخراً . والتي كشفت عن أن حكومة المؤتمر الوطني تعتبر أن العلاقة مع إيران إستراتيجية .. وأن إغلاق المراكز الثقافية للطائفة الشيعية الإيرانية لم يكن سوى محاولة لبيع بضاعة مُزجاة وذر للرماد في العيون . أتى حديث الأمين السياسي للحزب مصطفى عثمان إسماعيل بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير .. وأوضحت للعرب بجلاء عدم الجدية والمصداقية التي تلازم السياسة الخارجية لدينا .. وذلك الفكر والإستنباط والمنحى القائم على الإستعباط والتبسيط لأفكار وعقل الآخر حين ظن وزير الإستثمار أن بإمكان حكومة المؤتمر الوطني أن تلعب على الحبلين ما بين إيران الخميني والخليج العربي .. أو كأنه يتحدث عن طبيعة علاقة جنسية سرية بين رجل وزوجتين في بيتين منفصلين.
ولا يدري المرء ؛ هل يتوقع أركان الحكم في الإنقاذ أن دول الخليج ومصر لا تملك لنفسها أجهزة إستخبارات ؟ وأن هذه الأجهزة تخترق بسهولة تحسد عليها كافة الوزارات والأمانات والتنظيمات السياسية والإدارات والإتحادات المهنية والطلابية .. إلخ إلخ على أعلى المستويات فيها أم ماذا؟ إذا كان أركان الحكم هؤلاء يدركون فتلك مصيبة .. وإن لم يكن ؛ فالمصيبة أعظم.
لقد تناول نافع علي نافع في حديثه وتعليقه الإستفزازي خلال الإجتماع الأخير في منزل البشير ، الذي تم تسريبه بسهولة هو الآخر وجرى نشره في موقع الراكوبة .... تناول واقع وحقيقة الفشل الذريع الملازم لأداء وزارة الخارجية .. وبما لايدع مجالاً للشك أن لا أحد فيها "فــاضي" لأداء مسئولياته الرسمية ؛ بقدر إنشغاله بالحديد والأسمنت ووالطوب والطابوق والإنشاء والتشييد والإعمار لنفسه وورثته.
والذي يستوقفنا هنا أن وزير الخارجية الحالي السيد علي كرتي ليس لديه خبرة تذكر في العمل الدبلوماسي .. وأن خبرته وتجربته تمحورت في مجال الإشراف على مناشط الدفاع الشعبي ومايستتبع ذلك من إنشغال بالقضايا الداخلية ... ويكفي أن علي كرتي لم يخلع رداء الدفاع الشعبي الأخضر ... وبدلة الباداماكا الكيزانية التقليدية ذات الكُم الطويل . ويلبس البدلة الأفرنجي الكاملة ويربط الكرافتة إلا بعد تعيينه وزيراً للخارجية.
وأخشى من كل ذلك أن التعيين في مناصب قيادية حساسة إنما يتم عفو الخاطر ؛ ووفق المزاج الشخصي دون إعتبار للخبرة والإستعداد الشخصي الفطري للفرد ... وهو ما يقتضي ضرورة العمل مستقبلا على ترك الخبز لخبازيه والإقتصار في تعيين وزراء الخارجية على الترفيع من بين ذوي الخبرات الطويلة في العمل الدبلوماسي . وليس لمجرد أن يعد أحدهم الرئيس عمر البشير بأنه يمتلك وصفة سحرية أو "فكي" كارب ، يستطيع أن "يبرك" بركة مدنكلة ؛ ويقفز به فوق أُخـدود المحكمة الجنائية الدولية.
ولعل الذي فضح سطحية السياسة الخارجية للعيان هو عرض حكومة المؤتمر الوطني المساهمة بثلاثة آلاف جندي للمشاركة في حرب برية ضد داعش ... يأتي هذا العرض في الوقت الذي تضع فيه الولايات المتحدة السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب .. وتطالب المحكمة الجنائية الدولية بمثول الرئيس البشير أمامها لمواجهة إتهامات تتعلق بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية .. وقد وضعت مصر ومعظم دول الخليج تنظيمات وأحزاب الإخوان المسلمين على قائمة التنظيمات الإرهابية ... فهل يأتي المؤتمر الوطني بعد كل هذه الحيثيات لعرض المشاركة في ضرب والقضاء على تنظيم آخر إرهابي ؟ ويتوقع أن يقبل الناس منه مشاركته؟
يتبقى بعد ذلك النظر في حديث نافع بعصبية عن العلاقة مع المصريين وإحتمالات العودة للوقوع (بمزاجنا هذه المرّة) في قيود إستعبادهم لنا .. وأحاديث البعض الآخر عن النظرة والمعاملة الإستعلائية لهم في مواجهة كل ما هو سوداني .
وواقع الأمر أن المصري الرسمي ينظر إلى السوداني الحزبي والرسمي ، والسياسي وكبار الموظفين وغيرهم على أنهم من السهل إختراقهم .
هناك نساء وخمر وفواحش وأموال وشقق وعلاج ، وتعليم في كليات الطب وحتى تذاكر سفر مرجعة ورحلات سياحية مجانية ... وكثير كثير درجت الإستخبارات المصرية على التعامل به في إصطياد الساسة والرسميين والصحفيين والعملاء السودانيين منذ توقيع إتفاقية الحكم الثنائي ... وإلى يومنا هذا .... ولكل إنسان ثمنه كما يقال.
وهناك وعود معسولة ومقالب وقعت فيها العديد من الحركات السياسية والعسكرية في الجانب السوداني ..... وربما (على سبيل المثال) ما كانت ثورة اللواء الأبيض ليتم سحقها بتلك الصورة الدراماتيكية ؛ لولا خيانة الفرقة المصرية لعلي عبد اللطيف وتقاعسها المفاجيء ؛ بعد أن قطعت له وعودا جازمة بالإنضمام والقتال إلى جانبه فور إنطلاق تحرك الحركة العسكري.
وربما ما كان لإتفاقية تقسيم أنصبة مياه النيل عام 1959م ليتم توقيعها بذاك الشكل والعفوية والقلب الأبيض من الجانب السوداني لو كنا قد أرسلنا وفداً من الخبراء الفنيين في مجال الري والثروة المائية ؛ لايعتريهم هوس بالملاهي والليالي الحمراء .... وممارسة الفواحش ماظهر منها وما بطـن.
لا نذهب إلى الزعم بأن المصريين ملائكة ... ولكنهم لديهم رقابة .... ويحسنون إختيار ممثليهم عند الجلوس للمفاوضات المصيرية والإستراتيجية المتعلقة بحاضر ومستقبل بلادهم ... وهو ما نرجو أن نحذو حذوهم في ميدان العلاقات الدبلوماسية والمفاوضات بيننا وبينهم.
واقع الحال أننا في الجانب السوداني نتعامل في إطار العلاقة مع مصر بنوع غريب من الدونية والسماحة البلهاء دون أن تعتريها هواجس أمنية مشروعة .. غير مدركين أن العلاقة بيننا وبينهم تربطها مصالح مشتركة متشابكة تعمل على التضاد .... تجعل من رفاهيتنا وقوة بأسنا ضعف لهم وتمثل قلقاً إستراتيجيا لديهم ..... وليس أدل على ذلك من أنهم ينامون ويستيقظون على حلم بتدمير مشروع الجزيرة لأجل أن يوفر لهم ذلك مزيد من مياه النيل .
كل مصلحة للسودان مباشرة أو غير مباشرة تشكل خسارة لمصر .. وكل خسارة للسودان تصب في مصلحة مصر ...... حتى توقف تصدير الأغنام والماشية إلى السعودية سيكون من مصلحة مصر ، كون ذلك يجعلها سوق الصادر الوحيد أمام السودان ، ويؤدي إلى المساهمة في رفد إستراتيجية الأمن الغذائي المصري بأسعار وتكاليف ضئيلة ؛ يتم تسديد ربعها بالدولار الحسابي والباقي على هيئة سلع مقايضة لمنتجات مصرية كاسـدة.
وها هي مصر تأخذ مننا حلايب وشلاتين أخذ من لا يخاف العاقبة بعد أن فقدنا أكثر من ثلث مساحة السودان بعد إنفصال الجنوب .. وهاهي تفرض قدراتها وآرائها على الخرطوم فيما يتعلق بسد النهضة .
ونستغرب أن الخرطوم بعد أن كانت تمدح السد . وقالت في فوائده وفضائلة المرتجاة للسودان ما لم يقله إبن تيمية في فضل الصلوات الخمس المفروضة .... إذا بنا نفاجأ بهذه الأصوات المادحة تنقلب مؤخراً رأساً على عقب بين عشية وضحاها ؛ فتقدح في السد وتردد كالببغاوات نفس الهواجس المصرية ..... فسبحان مغير الأحوال ومُقلِّب قلوب وألسنة النساء والرجال من حالٍ إلى حالْ كلما تعلق الأمر بمصر. إن الذي لا ينبغي أن يغيب عن ذهن القصر الجمهوري ؛ هو أن مصر ستستقبل عمر البشير إستقبال الفاتحين طالما أنها ستحصد منه الكثير مقابل منحه القليل .
هناك ملفات عالقة في مقدمتها قبول السودان بتكريس ضم حلايب وشلاتين لمصر. هناك ملف الإخوان المسلمين المصريين الذين تم منحهم حق اللجوء في السودان .. وما قد يعني التضحية بهم وتسليمهم لمصر أو إبعادهم لدولة أخرى تعرض علاقة حكومة المؤتمر الوطني لغضب الأصولية العالمية التي تدعمه في الخارج والداخل.
هناك ملفات تطمح مصر أن يتم فتحها بسرعة ؛ تتعلق بموقف سوداني حاسم معلن مناهض لإستكمال بناء سد النهضة الأثيوبي.
الأراضي الخالية من السكان في شمال السودان تمثل اليوم عمقاً غذائيا إستراتيجيا لمصر .... ويسيل لها لعابهم ...... وهناك ملف خطير يتعلق بدفع مصر لتنظيم سياسي نوبي متصالح لتكريس إمتداد له موالي لمصر داخل شمال السودان ، تعويضا لهم عن أراضي وأموال ومساكن فقدوها في مصر منذ إنشاء سد أسوان القديم ثم بناء السد العالي. وربما يتم إجبار الخرطوم للموافقة على مضض بإستيطان نوبي مصري في شمال السودان تحت شتى الذرائع الإستثمارية .... ولا مانع عندها من دفع بعض المبالغ بالجنيه المصري تدخل في حسابات بعض السودانيين في البنوك المصرية. والمشكلة في كل هذا وذاك أن مصر تبقى فعالة لما تريد في مواجهة السودان المهلهل الضعيف جراء عدم إستقرار نظام الحكم ؛ وشراسة المعارضة المسلحة في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان .. وحيث لا تزال ملفات أبيي مفتوحة .... وما لا يعد ولا يحصى من خيبات أمل في مجال السياسة الخارجية ... ومطالب المحكمة الجنائية الدولية.
وفي مجال طبيعة العلاقة مع السعودية . فإن الواقع يؤكد أن السودان لا يمتلك الكثير للضغط على هذا البلد الفاحش الثراء ..... ولقد رأينا الدراهم في المواطن كلها تكسو الرجال مهابة ووقار .. فهي اللسان لمن أراد فصاحة وهي السلاح لمن أراد قتال .. وقد كنا ولا نزال ننصح بعدم الذهاب بعيدا في إثارة العداء مع الأثرياء.
العلاقة المشبوهة بين الخرطوم وطهران لا تخيف السعودية بقدر ما أنها تغضبها. إيران تجاور السعودية شرقاً وليس بينهما سوى الخليج العربي .... والحوثيون يقيمون شمال غرب اليمن وجنوب السعودية تماماً .... ومن ثم لو كانت إيران تخيف السعودية أو لديها رغبة جادة في ممارسة أعمال عسكرية عدائية سافرة تجاهها ؛ لكان قد أمكنها فعل ذلك إنطلاقاً من شواطئها الغربية الطويلة المطلة على أمتداد الخليج العربي وهي على مرمى حجر من حقول وآبار البترول في المنطقة الشرقية. واقع الحال أن إيران الخميني ؛ وعلى هدي إعلان الخميني نفسه تهدف إلى نشر المذهب الطائفي الشيعي في منطقة أفريقيا كجزء من رسالة الثورة الخمينية المعلنة .. لكنها لاتملك إزاء علاقتها السياسية مع دول الخليج العربي سوى الإذعان للإرادة العالمية وعلى رأسها حلف الناتو ... وهذا ما يجب على أهل الحكم لدينا تفهمه والوعي به تماماً قبل المسارعة إلى الرهان عليه.
من جهة أخرى فإن السعودية قد وضعت تنظيمات الإخوان المسلمين في كافة أنحاء العالم على أنها منظمات إرهابية .. والسودان يحكمه اليوم حزب الإخوان المسلمين بشحمه ولحمه ... وقد أثبتت فعاليات "الوثبة" و "الحوار" مؤخراً أن العلاقة بين حزب المؤتمر الوطني وحزب المؤتمر الشعبي كانت ولا تزال ولا مندوحة من أن تظل علاقة "طلاق رجعي" ... وأن عــدّة النكاح فيه مفتوحة الفترة . وقد أوضح تصريح حديث للدكتور غندور ؛ كشف فيه عن دفع المؤتمر الوطني مبلغ ثلاث مليارات جنيه لحزب المؤتمر الشعبي .. أوضح طبيعة وجوانب هذه العلاقة ما يكفي ويقطع قول كل خطيب. ولأجل ذلك فلا يبدو أن البوابة المصرية قد تكون الأصلح لرأب عرى العلاقة بين الرياض والخرطوم ، وإعادتها على نحو مثمر تحلم به الأخيرة لجهة الخروج من مأزق الحصار الإقتصادي الذي بدأت حلقاته تضيق وتستحكم حول عنق المؤتمر الوطني. وبدلاً من تواصل مسلسل تقديم التنازلات الغير منطقية للجانب المصري ... وفي غياب أية بصيص أمل أمريكي .. فإن المخرج الواقعي الطبيعي في هذه الحال يبقى تهيئة الوضع الداخلي لسلام دائم عبر القبول بحوار جاد ينتج عنه مخرجات مثمرة وليس مجرد فض مجالس ومحاولة لكسب الوقت .... وأن يتم لجم ظاهرة الفساد الجامــح ، ورتق رقعته المتسعة إلى أضيق سَــمَّ خِـيَـاط ٍ ممكن. أستغرب أن يسعى البعض لإصلاح حالهم مع الجيران والخارج ؛ متجاهلين تماماً وبدرجة ركوب الراس ؛ أن بيتهم في الداخل خَــرِبْ ويتطلب إصلاحات عاجلة !! ألم يسمع أهل المشروع الحضاري في أمانة المؤتمر الوطني السياسية قوله عز وجل في الآية 11 من سورة الرعد :[إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم] ؟ ...... الله أعلم.
مصعب المشـرّف 14 أكتوبر 2014م
|
|
|
|
|
|