|
طلب الحكم الذاتي يفضح الحركة الشعبية بقلم مصعب المشــرّف
|
طرح وفد الحركة الشعبية الأخير خلال مفاوضات أديس بمنح منطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة خيار الحكم الذاتي ؛ كشف بداية عن مدى اليأس السياسي ، والإنهاك العسكري . وفداحة الحصار الغذائي الذي تعرضت له الأراضي التي تسيطر عليها هذه الحركة ..... وكشف هذا الطرح ثانيا عن نوايا قياداته الدفينة ، والوجه الحقيقي الذي كان يختبيء خلف مساحيق ومكياج القومية والمطالبة بالديمقراطية والقضاء على التهميش .. إلخ من دعاوى آمن بها البعض ؛ وصدقناها وتعاطفنا معها حتى الأمس القريب .. ولكن فوجئنا اليوم أن المطلب الحقيقي الذي تسعى إليه هذه الحركة الشعبية إنما هو الإنفصال في نهاية المطاف دون تقدير لمغبة العواقب التي ستنال منهم قبل غيرهم.
إذا كان أمين عام الحركة الشعبية ورئيس وفدها في محادثات أديس أبابا "ياسر عرمان" يراوغ لمنح جنوب كردفان ومنطقة النيل الأزرق الحكم الذاتي بمبرر "خصوصية المنطقتين" ..... فإن معنى ذلك أن يتم منح الحكم الذاتي لكل محلية من محليات السودان . لأن واقع السودان العام هو أنه رقعة جغرافية جامعة لأعراق وثقافات متعددة متباينة في كل كيلومتر مربع منه... لا بل وتمتد هذه الظاهرة الملموسة حتى داخل العاصمة المثلثة ومدن السودان الأخرى.
ونسأل ياسر عرمان هنا وبهذه المناسبة عن ما هية الإرتباط التاريخي والثقافي والعرقي الذي يربط بين أهالي النيل الأزرق من جهة وبين أهالي جبال النوبة ؟ .. ثم ما هي ملامح هذه الخصوصية التي تجمع بينهما ، وتجعلهما مؤهلتان للحياة معاً مستقبلاً؟ هل يظن ياسر عرمان أنه يستطيع إدخال البغلة في الإبريق بعد تكريس إنفصال المنطقتين عبر بوابة الحكم الذاتي الإقليمي المزعوم؟ واقع الحال فإنهما إن تركتا وحدهما فلن يرضى أحدهما بجوار الآخر لانه ببساطة لايوجد رابط بينهما ؛ سواء في الأرض أو اللغة أو الإثنية أو الثقافة ... أو التاريخ السلمي المنتج ، والحضاري المشترك .
والذي يبحث في التاريخ يكتشف كذلك أنه لايوجد بينهما رابط سوى الكثير من السبي والإختطاف والترويع وحروب الإحتواء التي كانت دائمة الإشتعال طوال الفترة التي سبقت سقوط دولة الفونج على يد إسماعيل باشا وإحتلال مصر للسودان عام 1821م... ولا نرغب هنا أن ننكأ جراح الماضي بالتفاصيل والأسماء ؛ ولكن نحب بقدر الإمكان أن نتغاباه ونتناساه.
وأما اليوم فإن الرابط الوحيد الذي يجمع بين ما يسمى بالمنطقتين هو حرب الحركة الشعبية ضد حكومة المركز .... وبإنتهاء مسببات ومبررات هذه الحرب سينفض سامرهما ويمضي كل منهما إلى حال سبيله . ثم أن أهل جبال النوبة من جهة ، وأهل النيل الأزرق من جهة ليس جميعهم أو حتى أغلبهم منضوون تحت راية الحركة الشعبية ... لكن دائما يظل صوت السلاح هو الأعلى والأكثر خرقاً لطبلة الأذن.
ولعل الذي حذر منه كثيرون من حكماء جنوب السودان من أن عقد الجنوبي ستنفرط حباته بعد إنفصاله عن السودان .. لعل هذا الذي حذروا منه ووقع بالفعل اليوم من حرب أهلية بين قبائله ما يؤكد سذاجة طرح ياسر عرمان فيما يتعلق بالنيل الأزرق وجبال النوبة . وأنه حل غير قابل للإستمرار مستقبلاً . ولأولئك الذين يتباكون اليوم على إنفصال الجنوب . نذكرهم بأن إتفاقية الحكم الذاتي التي توصل إليها جعفر نميري مع جوزيف لاقو عام 1972م ؛ لم نجني من ثمارها سوى إنفصال الجنوب لاحقاً.
ويظل نظام الحكم الولائي الساري هو الوحيد الذي أثبت جدواه في مجال الحكم والإدارة .. وهو على الرغم من عدم وصوله إلى مرحلة النضج بعد إلا أنه يبقى الحل الأمثل ... وغداً حين تتغير الظروف إلى الأفضل ويعم السلام ربوع البلاد سيصبح بالإمكان حتماً تطوير آلية تنصيب ولاته وإنتخاب أعضاء مجالسه النيابية والتشريعية لتصبح أكثر شفافية وديمقراطية بعيدا عن الشمولية والهيمنة المستديمة للحزب الواحد.
لا أحب مجاراة البعض في وصف ياسر عرمان بأنه "غُراب السودان" و "أحمق الحركة الشعبية المُطاع" ....... ولكن إذا كان ياسر عرمان يرغب في حل مؤقت أحمق إسمه "الحكم الذاتي" لحلحلة خلافات وصراع الحركة الشعبية مع حكومة المؤتمر الوطني . فإن الذي يجب على الحركة الشعبية وأمينها ياسر عرمان إدراكه هو أن حكومة المؤتمر الوطني زائلة ... وأن الحركة الشعبية هي الأخرى زائلة لا محالة .. وتبقى أرض السودان الموحد إلى ما شاء الله.
وبدلاً من كل هذه الرعونة في المطلب . فلماذا لا تقدم الحركة الشعبية مقترحات "الخط المستقيم" التي تتمحور في المطالبة بإجراء إنتخابات حرة نزيهة لمناصب الولاة والمجالس النيابية والتشريعية في مناطق الصراع تحت إشراف ورقابة آلية مباشرة منبثقة عن الإتحاد الأفريقي .. وأن تستمر هذه الرقابة والإشراف لأكثر من دورة إنتخابية ؛ إلى أن يتم الإطمئنان تماماً إلى تكريس إستقرار سياسي ومؤسساتية فاعلة عميقة في هذه الولايات الملتهبة خاصة .... ولا أظن أن حكومة المؤتمر الوطني ستجد مفراً من الإنصياع والقبول مجبرة بمثل هكذا مقترحات لو جرى صياغتها كورقة إضافية لمقررات باريس ؛ ثم تبناها الإتحاد الأفريقي . ولن يجد الشعب السوداني قاطبة غضاضة في ذلك . ولن يعتبره إنتقاص من حريته وسيادته على أرضه ، ولن يثير في النفس حساسية أو عقدة بالنقص طالما كان على يد آلية أفريقية خالصة.... وتحت سقف السودان الواحد.
ومن ثم نرجو أن ينأى ياسر عرمان بعقله ووجدانه عن الإمعان في المواجهة الإنفعالية وممارسة موهبة التحدي ، وشخصنة الخلافات السياسية مع الإخوان المسلمين منذ أن كان طالبا في جامعة القاهرة فرع الخرطوم .. فمثل هكذا تفاعلات نفسية تصبح مدمرة وتدفعه إلى الخلط بين جميع الأوراق ، ونسيان التاريخ ، وإبتسار الحاضر ، والسخرية من المستقبل.
إذا كانت الحركة الشعبية لا تعاني من إنكسار عسكري في مواجهتها العسكرية ضد حكومة المؤتمر الوطني كما تزعم . فلماذا يستعجل وفدها الحل بهذا الأسلوب والتكتيك المبتسر عبر طرح مبدأ الحكم الذاتي لمنطقتين لن يجمع بينهما داخل سلة واحدة مستقبلاً سوى ذلك الذي يجمع بين البيضة والحجر؟
والمضحك أن تتراجع الحركة الشعبية على لسان ياسر عرمان في مطلبها بإعادة ترتيب أوضاع الحكم والإدارة وتوزيع الثروة في عموم أرض السودان ؛ فتنزوي كطفلة عارية يتيمة أصبح أكثر ما تحلم به هو قدم مربع في ركن سحيق ؛ تضع عليه صلبها العاري ، وتضم إلى جسدها الهزيل المنهك يديها وقدميها... ثم تحشر بين ثنايا كل ذلك رأسها.
واقع الحال فإن طرح الحركة الشعبية هذه المرة قد جاء على عكس ما كان يظن فيهم المرء من حصافة وذكاء ودهاء... ونستغرب أنهم بعد أن صعدوا خلال السنوات الماضية إلى منصة التنظيمات السياسية القومية الفاعلة ؛ التي يشد إليها أمثال الصادق المهدي الرحال ، ويصافحها العتباني ، ويتغزل في سواد عينيها وبياض قلبها الميرغني ........ نستغرب أنهم وما بين عشية وضحاها يتدهورون إلى دوري الليق ؛ وتصنيف التنظيمات الجهوية المحلية.
ثم ويحق لنا أن نتساءل هنا عن مصير إعلان باريس .. وهل كان أعلى سقف فيه هو حصول المنطقتان على الحكم الذاتي أم خلع النظام الحاكم؟ وما هو مصير الجبهة الثورية في حالة أن حصلت الحركة الشعبية لنفسها على الحكم الذاتي في معقلها الحيوي؟ هو إذن طرح يأتي من جانب ياسر عرمان بوزن "لعب عيال".
وفي كل الأحوال يظل المستفيد الوحيد اليوم من هذا الطرح المستجد إنما هو حزب المؤتمر الوطني الذي يستعد لخوض إلإنتخابات ... وأن كل مواطن متردد بالأمس في التوجه لصناديق الإقتراع ؛ سيعيد التفكير اليوم في أمر إحجامه ... لا بل وحتى خياراته.... هذه الخيارات التي ستكون حتما لمصلحة المؤتمر الوطني.
ولولا أن بعض الظن إثم ؛ لذهبنا إلى الظن بن ياسر عرمان وبعض اللصيقين به في الحركة الشعبية قد قبضوا لأنفسهم ملايين الدولارات من خزينة المؤتمر الوطني ثمناً لهذا الطرح المريب في هذا التوقيت بالذات كجزء من حملة الأخير الإنتخابية التي يرجون أن تأتي نتائجها لمصلحتهم كاسحة.
وبالفعل فقد بدا رئيس الوفد الحكومي "إبراهيم غندور" وكأنه قد حصل على خبرة كافية في التفاوض وقطف الثمار ؛ حين إستثمر طرح ياسر عرمان الأحمق لينفي عن الإحوان المسلمين التهمة بتبني مثلث حمدي ، والتدبير لتقطيع أوصال السودان .... وليعطي الرأي العام الإنطباع بأن اليد العسكرية للحركة الشعبية قد أصيبت بالشلل التام ؛ وأن أمعاء الحركة خاوية وتتضور بطنها جوعاً .. ولم يبق من حل أمامها سوى إستبدال السلاح بالطعام.
عرفنا منذ فجر التاريخ "ثورة الجياع" ... ولكننا نسمع في بلادنا اليوم ؛ ونخرج للعالم بأسره غداً بمسمى جديد هو "ســلام الجياع".
مصعب المشــرّف 20 نوفمبر 2014م
|
|
|
|
|
|