|
رمزية العصا و السوط ... جلد الذات و الجسد و ارهاب العقل بين التربية و السياسة بقلم / أحمد يوسف ح
|
رمزية العصا و السوط ... جلد الذات و الجسد و ارهاب العقل بين التربية و السياسة بقلم / أحمد يوسف حمد النيل
كلما يتحدث الناس عن السياسة و الاختلاف الفكري , يعلو كل صوت على حِدا ليبرز فوق الآخر , فيبدو التعصب و الضغائن و أمراض النفس. فالحالات الهستيرية و محاولة الانتقام و الحسد تبدو هي الاشياء الحاسمة في معركة تظهر فيها النزعة الذاتية. كل هذه الاشياء لا يتم ممارستها في وسط مجتمعات تشع بالتربية النفسية السليمة.
الجَّلْدُ (جلد الجسد و الذات) فضيلة انقسم الناس في مجتمعاتنا السودانية حيالها الى قسمين , مؤيد و معارض خاصة في مجال التربية. ان كانت هذه التربية في البيت أو المدرسة أو في مجال العمل و السياسة و الحياة العامة. فالفرد الذي نشأ في جو غير ديمقراطي , لا يعرف تسلسل الحوار , و لا يعرف مخاطبة العقل. فالإقناع دائما ً عنده يحتاج الى قوة تؤثر عليه ان كانت برفع الصوت أو رفع اليد , و من ثم ترتفع وتيرة النقد و تتحول الى قسوة في الحكم و الوصف و التنفيذ. يأتي الحكام الى بلادي و هم يحملون من النياشين الأكاديمية و الدرجات العلمية العليا و الرتب المدنية و العسكرية , و لكنهم لا يحملون لسان حال يدل على لطف في التعامل. فلا أرى له وصف غير انه طلاق باين ما بين الفكر و السلوك. لا ضير في أن نقتدي بما نملك من إرث اجتماعي مشبّع بالحكمة و الرواية الاجتماعية الاخلاقية. و لكن ان تتغير الظروف و الأماكن و الأزمنة و نقف حيالها بلا تمرد محمود للأحسن على أساس العلم و العلمية و النسيج الاجتماعي , يعتبر خلل واضح بل ضعف منهجي. و من الاشياء المعيبة لكل أجيال بلادي انها تنسخ بعضها , فالجيل خلف الجيل ان لم يكن له منهجه و مظهره و فكره , فلن تثور عقليته ضد الخطأ. و لعل هذه الظاهرة قد خلقها نظام التربية المتغول من البيت و المدرسة و جعل كل الحقول في حياتنا اما تابعة تماما (كنظرية التصوف في حياتنا) أو متمردة عاقة (كاختلاف السياسي المفرط مع قرينه السياسي).
فرمزية العصا في مجتمعاتنا , و حمل السوط لبعض المتصوفة و ربط السكين في الذراع للهمباته و المتسكعين , ما هي إلا اشباع لغريزة تنم على آداب و ثقافات مثل ( الهمباتة و الرباطة و ال##########ة) في حياتنا. فيراها الكثير من الناس بطولة , حتى دخلت دائرة الحكي الاجتماعي , فرسخت في أذهان المدرسين و التلاميذ , فبناءاً على هذه الثقافة يأتي المدرس الى المدرسة و هو يحمل شخصيته البطولية و تحفها هيبة المدرس و طقوسها , ثم يأتي التلميذ مهيئا من المجتمع و الأسر خانعا ً خائفاً أو متمرداً. و لكن هذا الحديث لا ينفي العقاب التربوي الموصى به و الذي فيما بعد سيكون حارسا ً لروح القانون في المؤسسات و الدولة. نحن دائما ما نحكي أحاجي خرافية عن المدرس , فمثلاً : المدرس الذي يقسو على الطلاب في وضع الاختبار بطريقة تفوق عقول الطلاب هو الأفضل و هو المتميز , و المدرس الذي يحل مسألة الرياضيات بالعكس من نقطة الحل متوجها الى أعلى (يعني بالمقلوب) هو المدرس الخرافي. و هذا يعني انه فقط يحفظ المسألة و يؤدي الحل بطريقة تلقائية. فقد يضرب الناس الأمثال بقسوة المدرس و قد لا ينتبهون الى انها ستصبح ثقافة يشب عليها غير المتعلمين بدافع الحرص على الابناء.
هنالك جدل ٌ و تباين بين نقد الذات و جلد الذات , فنقد الذات مرحلة متطورة من الديمقراطية و سلوك انساني عقدي و أخلاقي. أما جلد الذات ربما يكون ردة فعل أو انفعال العاجز , و قد يكون فيه قسوة تتماهى مع اسلوب التربية الذي يتبناه المجتمع. ان كان ذلك في الحياة المدنية أو السياسية. و في كثير من الأحيان ما هو الا صراع ما بين السلوك الذي تبناه الفرد و الأفكار التي اكتسبها من بطون الأسافير و تجارب العلوم النفسية و التربوية و انماط الحكم المتطورة في بلدان متقدمة. اسلوب التربية في مجتمعاتنا و اسلوب السياسة قد يجعل الفرد منا يقدس المادة الأكاديمية و يجعلها المكسب الأعظم فيتم تعظيم صاحبها مما يجعل الناس تغفر له كل خطاياه السلوكية و الاخلاقية , لذا جاء السياسيون كالمغشي عليهم من السقوط الأخلاقي , فالتشبث بالموقف السياسي و الانفراد بالحكم و شتم الآخر و تعرية الحزب الخصم كل هذا أشبه بالتمسك بالأكاديميات و اهمال السلوك و الاخلاق. مثل الاهتمام بالحزب السياسي و تمجيد منظريه دون النظر الى الوطنية , فالوطنية اصبحت تتمثل في ايمان الاتباع برئيس الحزب أو الطائفة , هذا السلوك خرج من صلب المجتمع و تقلقل في كل مؤسساته. فالأطباء عندما يتصوفون يؤمنون بعزيمة الشيوخ أكثر من الطب الذي درسوه , مما يعني هذا انحراف سلوكي ضد العلوم الحديثة , فالغرض عندهم ليس الفائدة العظيمة للمجتمع و انما تنحصر الفائدة في حدود الذاتية و الأنانية.
في مجتمعاتنا السودانية و في الغالب , يكون الإيمان بالعقاب البدني القاسي , فالطفل كثيرا ما يُجلد "بالعكاز" و هنالك من يستخدم " الخرطوش" أو العصا , لا ننقد العقاب مرة واحدة و لكن نقد حالة التشفي في العقاب , فكان المدرسون يجلدوننا حتى تتعرق أجسادهم أو (يقوم نفسهم) , فهذه الحالة الانتقامية لم استطيع انا كمدرس الفكاك عنها حينما اغدو مدرسا فيما بعد , لأنها تمثل لي البطولة أو الثقافة التي تربيت عليها. لذا جاءت الأجيال التي سبقتنا تؤمن بجلد الذات و الجسد و ارهاب العقل حتى النخاع , و ليس بعيد عنا طريقة العقاب العسكري و الإرهابي الذي مارسته السلطة العسكرية المدنية في بلادي السودان في مظاهرات سبتمبر/أكتوبر في هذا العام 2013م , فهذا العسكري أو الجندي أو رجل الأمن لا يفعل ذلك من تلقاء نفسه , و انما تأتيه الأوامر من أعلى , و الأمر المحير ان من يقودون الإرهاب هم رجال يحملون درجات علمية عليا , فلا نظريات التربية السلوكية و لا النظريات السياسية التي تدعو للديمقراطية و الحرية تجدي نفعا ً مع عقول و أجساد جُلدت في البيت و المدرسة و الشارع. فالأطفال في الأرياف و القرى قد تتكالب عليهم مصادر العقاب من أي عابر في الطريق , مما يجعل هنالك خطأ و تداخل سافر في الأدوار مما يولد الكراهية المباشرة بين الأطفال و المجتمع و ينقلب ذلك الى قلة الأدب و عدم الاحترام , و ان تم الاحترام يكون نوع من الخنوع و الخوف و الكبت. فالطفل الذي يحتاج الى ممارسة الحوار مع الردع المعقول من ذوي الاختصاص أو من له حق في العقاب , تجده منفلتا ً بسبب الغضب الذي ينتابه تجاه المعاقِبون.
فالعقوق السياسي ليس أمر جديد و الانشقاقات السياسية و كثرة الحركات الدينية و شذوذ الأفكار الاجتماعية و الفكرية , ليس إلا ردة فعل تربوية , صنعتها مجريات التربية العملية. مما يجعل الفرد يسير بلا هدى يقوده سلوكه العصبي الذي ورثه و سيورثه الاجيال التي تليه. فالانفلات و عدم المسؤولية ما جعل الناس في بلادي يدورون كالرحى بلا طحين , أو كأنهم (ينفخون قربة مقدودة) , أو كجمل هائج ظهرت عليه حالة من الحقد بمؤثر خارجي , بعدما كان أكثر أمناً و سكوناً عندما كان المؤثر الخارجي يعامله بسلام و هدوء. فالجلد المبرح يثير حفيظة المجلود , ان كان جلد ذاتي أو نفسي أو بدني أو كبت للعقل. لقد اثبتت التجارب أن البدوي الشرس المتمرد , عندما يرفع المدرس عليه يده أو صوته فانه يتحول الى مجرم و ينتهك حقوق المدرس بل و يضربه , و لكن عندما يخاطب عقله و يعزز نفسه لا يخرج إلا بوفاء و احترام كبير.
و حينما نرجع الى تاريخ التعليم , نجد ان المستعمر الانجليزي خدم نفسه في السودان , فعندما فتح فرص التعليم للسودانيين و كان غرضه الأول ان يتخرج موظفون بدرجة الامتياز للخدمة المدنية آنذاك الاستعمارية , و كانت النظرة الوطنية في روح المناهج غائبة , لذا جاء احترام المنهج الدراسي باللغة الانجليزية آنذاك و فيما بعد , دون التركيز على التربية الوطنية , لذا كان العقاب قاسيا على من يفشل في حفظ المناهج. و قد جرت المقارنة طويلا بصورة المستعمر , الى ان جاء السياسيون فتقمصوا شخصية المستعمر , فلا مناهج تخدم الوطن بل تخدم الحزب السياسي. لذا أصبح التعليم و سياساته في بلادي لا ثوابت لها , من الناحية التربوية أو النفسية أو الوطنية أو الفنية. فحلت محل هذه الثوابت الولاء للحزب و الفكر السياسي. فرمزية العصا و السوط التي ورثها السياسيون في بلادي من المستعمر , و جلد الذات و الجسد في التربية و السلوك , و ارهاب العقل و تكميمه و اقصائه في التربية و السياسة , من المؤثرات العظمى في الفشل في بناء ثابت وطني منهجي , و ثابت وطني دستوري و قانوني , و ثابت وطني أخلاقي.
و في الختام يمكنني أن أقول , اذا دارت رحى السياسة في هذه البلد يتقدمها المثقفون و الأكاديميون , فانه احتراق حقيقي لكل بناء يستعد الناس كل موسم لإنشائه , فليكن ما للأكاديميين للأكاديميين , و ما للسياسيين للسياسيين , و ما للعسكر للعسكر. فإذا جعل المجتمع ثوابته منطقية و علمية , و خرج السياسيون من حالة (التوهان) العريض , و رجعوا ليتصالحوا مع انفسهم فلا يجلدون النفس السودانية الطيبة لصالح شهوات عقولهم المستوردة أو المقارنة. فلتكن النهضة من هذا الشخص السوداني المبدع. فالمدرسون المبدعون الذين درسونا قد أخرجوا أجيالاً مبدعة و مسالمة.
و في نهاية هذا المقال , كان لزاما علي أن أشكر كل المدرسين الذين درسوني. و لكنني أخص بالشكر ذلك المدرس المبدع و الانسان , صاحب الابتسامة الساحرة و الكلمات الجميلة و الرقيقة حتى مع الطلاب , فما أزال اقتفي اثره بعدما أن صرت مدرساً , و لعل كثير مما أكتب قد أجده فيه خاصة الاشياء الايجابية في التربية , و لا أذكر أنه حمل عصا أو سوط , فهو الذي يخرج بنا من الفصل الى الحديقة أو الصوبة المجاورة للمدرسة الابتدائية بقرية الطلحة ود الطريفي , و هي تتبع للمدرسة الزراعية بالطلحة و التي اشتهرت بها , ضاحية من ضواحي مدني , و كنا آنذاك في الصف الأول الابتدائي , فكان يعلمنا بطريقة مسرحية و حوارية و كتابة على الرمل و الهواء. فهذا أسلوب عصري حديث جداً درج العالم كله الآن الى الانعطاف اليه , بما يسمى الآن بالفصول الخارجية و قد ذكر علماء النفس أن التدارس و المذاكرة في الأماكن الخضراء و مصادر المياه أكثر استذكارا و لا تُنسى أبداً , فما أكثرها في السودان. و كان يقول لنا الأناشيد من تأليفه و يلحنها في نفس الحصة , ثم يجري أمامنا و نجري من خلفه , فكنا نرجع الى فصولنا بروح عالية و نفس صحيحة و رغبة عالية للتعليم. هذا المعلم الساحر لن أنسى ما فعله بنا , فكلما جادت به قرائحنا من ثقافة و علوم و آداب قد خرجت من ذاكرتنا التي بناها و شيدها و لا يزال يعكف فيها و فينا , فهو الأستاذ محمد حسب الرسول عوض الكريم فهو بن الاستاذ الأزهري النابه رحمه الله حسب الرسول عوض الكريم. و من هنا أتقدم له بالتحية و الإجلال و اتمنى له الصحة و العافية.
|
|
|
|
|
|