أشهد أن "رجال في الشمس" ما تزال من أشد ما قرأت عنفاً علي حواسي، برغم أنني، وربما بفضل أنني، لم أكن أنتبه عندما قرأتها لأول مرة إلي ازدحامها بالرموز التي يضاعف الوعي بها من عنف الرواية!
لقد وقع "غسان كنفاني" مباشرة، علي السبب المفصلي للمأساة الفلسطينية، ويبدو أنه قد استشعر مبكرًا جدًا أن تعريف "ياسر عرفات" وسابقيه للنضال شديد الشبه بتعريف خليفته له كما بات الجميع يعرفه، وأنهم جميعًا يحملون أرواحًا كروح قائد شاحنة "رجال في الشمس"، وبالتالي، رسم "كنفاني" بالكلمات صورة لـ "أبو الخيزران" سوف يدرك المتلقي من أول مرور علي ملامحها أنه شخصٌ يختزل هدف الحياة في جمع المال بكل طريقة ممكنة، وعلي حساب أي قيمة أخري، ليتمكن من ادخار ما يؤمن له الراحة في الظل بعد التقاعد، وهذا هو التفسير الأكثر عدالة لتمسك إسرائيل بـ "محمود عباس" علي الدوام وتماهيها مع اختياراته، وبنفس القدر، صدور أوامر قاطعة في الثمانينيات برفض استهداف "ياسر عرفات" عندما كان قاب أمتار أو أدني من فوهة بندقية جندي إسرائيلي في لبنان!
ولا شك في أن شخصية كشخصية "أبو الخيزران"، بطبيعة الحال، من الطبيعيِّ أن يتسع تصدرها القيادة لنهاية فاجعة لثلاثة فلسطينين من أجيال مختلفة وخلفيات مختلفة وذرائع مختلفة للاختباء من الواقع في جوف تغريبة!
"أبو قيس"، خسر الوطن وأنفق عمره بعد ذلك مشردًا من مخيم إلى مخيم، يداعبه حلم بالعودة إلي الديار لكنه لا يعرف كيف يحققه، و "أسعد"، مناضل متقاعد عالق بوعدٍ قطعه غيره ورسم له به شكل مستقبله، و "مروان"، شاب مقيد بإعالة أمه وبعجزه عن مكاشفة أبيه بكراهيته له لأن أباه هجر البيت وتزوج من امرأة أخرى مقطوعة الرجل، أو تزوج بيتاً في الحقيقة!
الثلاثة، بالإضافة إلي وجع الحنين، جمعهم حلم بالعبور من البصرة إلي الكويت في سبيل الحصول علي فرص أكبر مساحة، ومن هذه الخلفية يخرج "أبو الخيزران"، إنه فلسطيني آخر، حسب تقديره، تحظى شاحنته بمعاملة خاصة على الحدود!
بعد إبرام الإتفاق، غادر الجميع، في جحيم الصحراء الصيفيِّ، من البصرة متجهين إلى الكويت، وقبل الوصول إلي "صفوان" العراقية يأمرهم "أبو الخيزران" بالاختباء في خزان الشاحنة، ويحالفه الحظ هذه المرة في الخروج بهم من هذه النقطة الحدودية قبل أن يلفظوا آخر أنفاسهم، وهذا ما فشل فيه في نقطة "المطلاع" الكويتية، ذلك لأن رجال الحدود هناك توهموا أنه تأخر في البصرة نتيجة إرتكابه مغامرات نسائية أرادوا استدراجه للبوح بتفاصيلها دون أن يدور ببالهم أنه عاجز جنسيًا، لقد فقد رجولته عام 48!
يصل عنف الرواية علي المتلقي ذروة النقطة حين ينتبه إلي أن أيًا من الثلاثة لم يجرؤ خلال 21 دقيقة على الإستغاثة أو طرق جدران الخزان، وبطبيعة الحال، لفظوا أنفاسهم جميعًا مفضِّلين هذه النهاية على مواجهة حرس الحدود، ومن ناحيته، عندما يكتشف "أبو الخيزران" المأساة يسلبهم كل متعلقاتهم قبل أن يلقي بجثثهم في قمامة الكويت وهو يتسائل في ألمٍ صادق:
- لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟!
هذه رؤية "غسان كنفاني" مشفرة للواقع الفلسطيني في زمانه، أجيال محتجزة داخل حلم مغلق، يزداد نحافة كل دقيقة، تدور في هزيمتها بأسلوب قديم تجاوزه الواقع، وتنصاع لقيادة يعرفون جيدًا أنها مأجورة لتسير بهم في الإتجاه الخاطئ!
مع ذلك، لقد نسي "كنفاني" أن يترك وراءه جوابًا لسؤال فرضته الأعوام القليلة الماضية:
- ماذا لو ثاروا علي عهر الواقع؟
لقد فعلها غيرهم ونزلت بهم نفس النهاية إلي حد جعلني والله حتي قبل أن أنتهي من قراءة الخبر، وبرغم شعور الجليد الذي كان يلازمني أثنائها، أردد بصوت مسموع:
- لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟
تداولت الصحف في الأيام الماضية خبرين يتعلقان باللاجئين، ويؤكدان أن الماضي ليس مجرد عملية حصر تحليلية لأحداث أزلية ولإنسان محدد نهائيًا ولقيم تخضع لقواعد ثابتة، إنما مزارٌ لاستنباط معانٍ غير متوقعة بالمقارنة بين، أو بإعادة تركيب، أحداث صغيرة جدًا وأليفة جدًا، تُختطف من مضامينها التقليدية، لتتحول تلقائيًا إلي سرديات كبيرة بمثابة إضاءة للعقول وتهيئتها لاستيعاب حركية العالم ووسائل السيطرة علي توحشه وخبثه!
مهربون فى باريس استغلوا غفلة سائق شاحنة كان نائمًا في الكابينة، ووضعوا عائلة لاجئين داخل ثلاجة الشاحنة المتجهة إلى ألمانيا ما عرض أفراد العائلة للتجمد بعد بقائهم عدة ساعات داخل الثلاجة فى درجة حرارة لم تزد عن ثلاث درجات مئوية، ولم يتم اكتشاف مأساة اللاجئين العشرة نصفهم أطفال، إلا عند تفريغ محتويات الثلاجة بعد رحلة استغرقت ثمانى ساعات فى مدينة كيمبن غربى ألمانيا، قالت الشرطة الألمانية أنهم كانوا متجمدين تمامًا، وأنهم كانوا يرغبون فى التوجه إلى بريطانيا!
الأغرب أن بعض من نجحوا في الوصول إلي بريطانيا دون عوائق، ومنحوا الإقامة في مدينة كارديف، عاصمة مقاطعة ويلز، أكدوا بالتزامن مع هذا الخبر تقريبًا أنهم، حتى يتسنى لهم الحصول على الوجبات اليومية، مُجبرون على ارتداء أساور ملونة تحدد هويتهم كلاجئين، وإن هم رفضوا ارتدائها، سوف يُحرمون من الطعام المجاني، حدث هذا بعد أيام قليلة من طلاء منازل طالبي اللجوء في شمال إنجلترا باللون الأحمر!
من المثير لدهشة من لا يستطيع استيعاب أبعاد المشهد كاملة أن هذا التصرف مغرق في الماضوية حتي كأنه مقصود، ففيما بدا أن السيد "كاميرون" يتصرف مؤخرًا كراهبٍ متحجر، استدعت حكومته أسلوبًا للانتقاص من كرامة اللاجئين والتنكيل بإنسانيتهم كان يعامل به اليهود في الماضي، وغيرهم أيضًا!!
في روما القديمة علي سبيل المثال، كان الرومان يفرضون علي سكان المستوطنات الأصليين التزيي بأزياء تميزهم، وحتي وقت قريب كانت العائلات اليهودية في ألمانيا مرغمة علي وضع شارة علي منازلها أو محالها حتي يسهل التعرف علي مدي ارتباطها بالسلطة الزمنية، "آل روتشيلد" علي سبيل المثال!
وفي الأندلس أيضًا فُرضَ علي اليهود والسكان المحليين نفس التقليد، ذلك لأنه عندما ثار سكان طليطلة في عام 713 ميلادية ثورة عارمة لم تنطفئ إلا عندما أباح "موسى بن نصير" المدينة لجنوده لمدة 3 أيام، خاف المسلمون أن تمتد الثورة إلى بقية المدن، فعزلوا أهل الذمة في أماكن سكن خاصة بهم وفرضوا عليهم ارتداء شارات معينة حتى يسهل معرفتهم!
العثمانيون أيضًا أرغموا يهود الشام على ارتداء ملابس ملونة مختلفة عن المسلمين والمسيحيين!
في النهاية..
من السهل أن يكتشف القارئ أن اليهود هم الرابط بين كل هذه الأحداث، الخيالي منها والواقعي، وأغلب الظن أن لهم في صناعتها نبض أكيد، صحيح أن قرار "كاميرون" بارتداء اللاجئين أساور ملونة قد تم تجميده، لكن الرسالة من وراءه قد وصلت:
- لقد اكتملت عملية تبادل المقاعد، وفي انتظار أعزة الأمس شتاتٌ وجيتوات ومزيد من الموت في الخزانات!
لقد انتبه اليهود قبلنا إلي أن العالم لم يكن أبدًا رحيمًا ولا كلاً يخضع لإيقاع واحد، إنما غابة حقيقية تستر بشاعتها ووحشيتها برداء شفاف من التحضر الزائف، وعلي هذه الخلفية، قرروا أن يشغلوا العالم في حروب إنصرافية حتي تسهل السيطرة عليه، وهذا هو ما حدث، لا تلمسوا شيئاً أو دقوا جدران الخزان بكل قوة، وحتي تستجيب الحرية، فليس هناك خيار آخر..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة