|
حلايب قبل وبعد مجلسِ الأمن : لماذا لم تكتملْ الصورة؟ د. سلمان محمد أحمد سلمان
|
1
نشر الزميل الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه مقالاً بعنوان "حلايب وصورة لم تكتمل" في موقع سودانايل يوم الاثنين 27 يناير عام 2014. وقد تناول الدكتور فيصل في ذلك المقال بعض جوانب الحوار الذي دار بيني وبين الأستاذ الطاهر حسن التوم في برنامج "حتى تكتمل الصورة" عن "أبعاد الصراع المصري - الأثيوبي على قضيتي الفشقة وحلايب" في 20 يناير عام 2014. كما أشار الدكتور فيصل إلى مقالي المنشور في موقع سودانايل بعنوان "حلايب: ماذا دَارَ في اجتماعِ المحجوب وعبد الناصر يوم 19 فبراير 1958؟" وأوضح انه يختلف معي في: (1) أن السودان حقّق في الفترة 29 يناير إلى 21 فبراير انتصاراً في الجانب القانوني في مسألة حلايب، (2) أن عمر لطفي مندوب مصر في الأمم المتحدة أعلن في مجلس الأمن في 21 فبراير 1958 أن مصر قررت الانسحاب من حلايب وأنها ستسمح للسودان بإجراء انتخاباته، وأنها لن تجري استفتاءها، وستسحب كتيبتها من حلايب، (3) أن الخطأ الكبير الذي ارتكبته حكومة عبدالله خليل أنها لم تترجم هذا الانتصار في اتفاقية أو حتى مذكرة تفاهم، (4) وأنني لو كنتُ المستشار القانوني لحكومة السودان في ذلك الوقت لطلبتُ من السودان أن يجلس مع القاهرة ويدخل في اتفاقٍ يرسم الحدود بين مصر والسودان ويوضح أراضي حلايب.
أود أن أشير في البداية إلى أنني تردّدتُ كثيراً في كتابة هذا الردِّ ونشره. فقد كنتُ وما أزالُ اعتقد أن الصحف الورقية أو الالكترونية ليست المكان المناسب لطرح ومناقشة الخلافات السودانية في موضوعٍ بهذا القدر من الحساسية والأهمية. وقد شاركني في هذ الرأي عددٌ من الأصدقاء. ولكنني رأيتُ في نهاية الأمر أن أنشر تعقيباً مُوجزاً أتناول فيه الردَّ على بعض الجوانب التي أثارها الدكتور فيصل، والتي كنتُ قد تعرّضتُ لها في اللقاء التلفزيوني وفي مقالاتي عن حلايب، خصوصاً في المقال الأخير عن اجتماع السيد محمد أحمد محجوب مع الرئيس جمال عبد الناصر .
2
استميحُ القارئَ عذراً في أن أعرض بإيجاز النقاط الأساسية التي تعرّضتُ لها في مقالاتي السابقة. فقد أوضحتُ في تلك المقالات:
أولاً: شملتْ الانتخابات البرلمانية السودانية الأولى التي تمّتْ في شهر نوفمبر عام 1953 منطقة حلايب والتي فاز في دائرتها (الدائرة 70 - الأمرأر والبشاريين) السيد محمد كرار كجر. كما شملتْ الانتخابات القرى الوقعة شمال مدينة حلفا وخط 22 شمال (سره وفرس ودبيره) وفاز في دائرتها السيد محمد نور الدين (الدائرة 29 وادي حلفا). لم تحتجْ مصرُ على إجراء الانتخابات في هاتين المنطقتين أو تدّعي أنهما أراضي مصرية رغم أن مصر كانت (على الأقل من الناحية النظرية) إحدى دولتي الاستعمار الثنائي في السودان، وكان يمثِّلها في مجلس الحاكم العام في الخرطوم السيد حسين ذو الفقار.
ثانياً: كانت مصر وبريطانيا أول دولتين تعترفان بالسودان عندما أعلن استقلاله في الفاتح من يناير عام 1956. لم يتضمّن خطاب الاعتراف المصري بالسودان المستقل أي إشارةٍ إلى حلايب، بل أشار الى إلزامية الاتفاقيات التي عقدتها إدارة الحكم الثنائي باسم السودان. وتشير وثائق عديدة اطلعنا عليها أن همَّ مصر ومصدر قلقها كان اتفاقية مياه النيل لعام 1929 وليس حلايب. وقد فطنتْ الحكومة السودانية لذلك وطلبتْ من مصر توضيح الاتفاقيات التي أشارت إليها في مذكرة اعترافها. وقد برزت مسألة اتفاقية مياه النيل لعام 1929 بوضوحٍ لاحقاً في الجولة الخامسة من مفاوضات مياه النيل والتي عُقِدت في شهر ديسمبر عام 1957، عندما ظهر خلافٌ حادٌ على الاتفاقية، كما ناقشنا في مقالاتنا السابقة بعنوان "خفايا وخبايا مفاوضات مياه النيل."
ثالثاً: أعاد السودان في يوم استقلاله منطقة قمبيلا إلى إثيوبيا وعيّن المأمور السوداني السابق للمنطقة السيد حامد بشرى قنصلاً للسودان في قمبيلا. لم تُثِر مصر مسألة إعادة حلايب لها رغم علم مصر الكامل بما جرى في قمبيلا. ولا بد من مقارنة الصمت المصري عن حلايب بإثارة إثيوبيا مسالة منطقة قمبيلا.
رابعاً: واصل السودان أعمال السيادة على حلايب بعد الاستقلال وعيّن الإداريين ورجال الشرطة وأرسل جنوده إلى المنطقة دون صدور أي احتجاجٍ مصريٍ على ذلك.
خامساً: أجرتْ مصرُ استفتاءاً في 23 يوليو عام 1956 تمّ بمقتضاه اختيار السيد جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية. لم تشمل إجراءات الاستفتاء منطقة حلايب أو القرى شمال وادي حلفا.
كان ذلك هو الوضع في منطقة حلايب حتى 29 يناير عام 1958.
3
كما ذكرنا في المقالات السابقة فقد تغيّر ذلك الوضع في نهاية شهر يناير عام 1958.
بدأت في شهر يناير عام 1958 الاستعدادات في السودان للانتخابات البرلمانية الثانية.
قرّرتْ مصر فجأةً ولأوّلِ مرّة إثارة مسألة مثلث حلايب في 29 يناير عام 1958. في ذلك اليوم أرسلت الحكومة المصرية مذكرةً تحتجّ فيها على نيّة السودان عقد انتخابات في منطقة حلايب باعتبار أنها تتبع لمصر بموجب اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899. وقامت مصر بإرسال فرقةٍ عسكريةٍ إلى منطقة حلايب بعد إرسال تلك المذكرة. وأعقبتْ مصرُ تلك المذكرة بمذكرةٍ أخرى في 9 فبراير عام 1958 تُعلن فيها نيّتها إجراء استفتاء في تلك المنطقة أيضاً. أعلن السودان رسمياً في 13 فبراير عام 1958 رفضه التام للمذكرة المصرية وللاستفتاء الذي قرّرت مصر إجراءه في حلايب. وأوضح السودان أن المنطقة أراضي سودانية بمقتضى تعديلات اتفاقية الحكم الثنائي
والتفاهمات التي تلتها، وبحكم الإجراءات العملية والإدارية التي قام بها السودان في المنطقة خلال فترة الحكم الثنائي وسنوات الحكم المدني الأول (أي بين الأعوام 1902 وحتى عام 1958). في 18 فبراير عام 1958 وصل وزير الخارجية السوداني السيد محمد أحمد محجوب القاهرة، والتقى بالرئيس جمال عبد الناصر منتصف نهار يوم 19 فبراير عام 1958. عرض الرئيس عبد الناصر على السيد المحجوب مقترح ألّا تُجرى انتخاباتٌ سودانيةٌ أو استفتاءٌ مصريٌ في حلايب، وأن تناقش الدولتان مسألة حلايب بعد الانتخابات السودانية والاستفتاء المصري. غير أن المحجوب رفض ذلك الحلَّ وأوضح للرئيس عبد الناصر تبعيّة حلايب للسودان، لكنه اقترح إرجاء بحث مسألة حلايب إلى ما بعد الانتخابات السودانية . تواصل اجتماع المحجوب مع الرئيس جمال عبد الناصر حتى نهاية ذلك اليوم، ولكنّ الطرفين فشلا في حلّ النزاع من خلال التفاوض.
هل فشل اجتماع القاهرة؟ نعم، وهذا ما ذكرناه في مقالنا السابق. فقد قام السيد المحجوب بالاتصال هاتفياً بمندوب السودان للأمم المتحدة في نيو يورك، السيد يعقوب عثمان، ووجّهه بتقديم شكوى السودان لمجلس الأمن ضد مصر والتي كان قد تمّ إعدادها قبل وصول السيد المحجوب القاهرة . كما أن البيان الرسمي المصري أشار بوضوحٍ إلى فشل مفاوضات القاهرة في 19 فبراير عام 1958.
4
في 20 فبراير عام 1958 رفع السودان شكوى رسمية لمجلس الأمن الدولي في نيو يورك. تشير الوثائق التي اطلعنا عليها إلى أن مشاوراتٍ مكثّفة بدأت من وراء الكواليس بين أعضاء المجلس فور رفع الشكوى، وأنه كان هناك تعاطفٌ كبيرٌ مع السودان. كما تشير تلك الوثائق إلى أن اتفاقاً برز بين معظم أعضاء المجلس مفاده العودة إلى الوضع الذي كان سائداً في حلايب قبل 29 يناير 1958 ومناقشة الطرفين السوداني والمصري للخلاف بعد الانتخابات السودانية. ولكن ثار السؤال إن كانت مصر ستوافق على ذلك المقترح بعد أن رفضته في القاهرة.
ويبدو أن الحكومة المصرية قد أخذتْ علماً بما كان يدور بين أعضاء مجلس الأمن فأصدرت بياناً في 21 فبراير عام 1958 أشارت فيه إلى أنها قرّرت تاجيل تسوية مشاكل الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية.
اجتمع مجلس الآمن الدولي في عصر يوم 21 فبراير عام 1958، أي بعد صدور بيان الحكومة المصرية (لا بُدَّ من ملاحظة فارق الزمن بين القاهرة ونيويورك والبالغ ثماني ساعات). وقد سهّلَ بيان الحكومة المصرية مهمّة مجلس الأمن تماماً، فلم يعد المجلس محتاجاً لإصدار قرارٍ لأنّ ما كان سيصدره المجلس قد تضمّنه البيان المصري الذي كان سيكرّره ويؤكّده للمجلس مندوب مصر.
تلى السيد عمر لطفي مندوب مصر للمجلس بيانه والذي تضمّن نفس العبارة الرئيسية التي تضمنها البيان المصري، وأشار إلى قرار الحكومة المصرية تأجيل تسوية مسألة الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية، على أن تبدأ المفاوضات بتسوية كافة المسائل التي لم يتخذ بشأنها قرار بعد اختيار الحكومة السودانية الجديدة.
واضحٌ أن الخلاف الرئيسي بيني وبين الدكتور فيصل يتركّز في: ماذا تعني هذه العبارة؟
الصلاة فيها السِرُّ وفيها الجهر. والعبارات الدبلوماسية هي اللغة التي تقول بها الدولة سراً ما لا تريد أن تقوله جهراً. والبيانات والتفاهمات والاتفاقيات تُفسّر بما جرى قبلها وبعدها.
فماذا إذن تعني عبارة تأجيل تسوية الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية؟
أولاً: تحدّث البيان المصري وبيان السيد عمر لطفي عن الانتخابات السودانية. ما هو تعريف الانتخابات السودانية؟ لقد عرّف السودان انتخاباته بأنها تشمل كل السودان بما فيه حلايب. وقد كرّر بيان السيد عمر لطفي مصطلح "الانتخابات السودانية" دون أن يستثني حلايب أو مناطق شمال حلفا. ألا يعني ذلك قبولاً بالتعريف السوداني؟ ألم تبدأ المشكلة بسبب نيّة السودان عقد انتخاباته في كل أجزاء بلاده؟ ليس هناك في رأيي مجال لتفسير مصطلح السيد عمر لطفي "الانتخابات السودانية" غير اشتمال هذه الانتخابات على منطقة حلايب وشمال حلفا، كما عرّف السودانُ المصطلحَ.
ثانيا: لم يُشِرْ القرار أو البيان إلى الاستفتاء المصري رغم إشارته الصريحة إلى الانتخابات السودانية. ماذا يعني ذلك غير موافقة مصر على عدم إجراء استفتائها في حلايب؟
ثالثاً: إن الحديث عن "تأجيل التسوية" لا يمكن أن يُفسّر إلا بمعنى العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل بروز النزاع، ويشمل ذلك سحب الجيش المصري من حلايب. وقد كان ذلك هو الموقف الذي تفاهمت عليه معظم دول مجلس الأمن قبل انعقاد الجلسة.
رابعاً: ما حدث في حلايب بعد اجتماع مجلس الأمن أكّدَ ذلك التفسير لعبارة السيد عمر لطفي وتفاهمات مجلس الأمن. لم يتم الاستفتاء المصري في حلايب، وتمّت الانتخابات السودانية. انسحبت الكتيبة المصرية في 25 فبراير من حلايب، وبقيت الكتيبة السودانية هناك.
وهكذا وضح بالعمل أيضاً أن عبارة تأجيل تسوية النزاع كانت تعني العودة بحلايب إلى ما كانت عليه قبل بدء النزاع، والتفاوض بين الجانبين بعد ذلك. كما وضح أيضاً أن الانتخابات السودانية معناها الانتخابات في كل أنحاء السودان بما في ذلك منطقة حلايب.
لم يكن السيد عمر لطفي يحتاج إلى أن يكون أكثر وضوحاً لينقل موافقة دولته على النقاط الثلاثة الرئيسية (إجراء الانتخابات السودانية، عدم إجراء الاستفتاء المصري، وانسحاب الجنود المصريين من حلايب). فالدول، مثل الأفراد، تحتاج لأن تحفظ ماء وجهها، ومعظم أعضاء مجلس الأمن كانوا قد وصلوا إلى تفاهماتٍ
عما تعني تلك العبارات الدبلوماسية. وكما ذكرنا أعلاه فالبيانات والتفاهمات والاتفاقيات تُفسّر بما جرى قبلها وبعدها.
عليه فبعد أن تطابق القرار المصري مع تفاهمات أغلبية أعضاء مجلس الأمن، فقد قرّر مجلس الأمن حفظ شكوى السودان والاجتماع لاحقاً بناءاً على طلب أيٍ من الطرفين وموافقة أعضاء المجلس.
5
هل كان ذلك انتصاراً للسودان؟
نحتاج في الأجابة على هذا السؤال أن نرجع إلى الوراء وننظر إلى ما عرضته مصر للسودان في اجتماع السيد محمد أحمد محجوب وزير الخارجية مع الرئيس جمال عبد الناصر في 19 فبراير عام 1958، ونقارنه بما حدث في مجلس الأمن في 21 فبراير عام 1958.
لقد رفضت الحكومة المصرية في القاهرة في 19 فبراير مقترح السودان تأجيل بحث النزاع إلى ما بعد الانتخابات. لكنها عادتْ وعرضتْ نفس المقترح في نيويورك في 21 فبراير عام 1958، أي بعد يومين فقط من اجتماع القاهرة. وعاد الوضع على الأرض في حلايب إثر ذلك إلى ما كان عليه قبل 29 يناير عام 1958. أليس ذلك انتصاراً للسودان؟
وإذا لم يكن ذلك انتصاراً فإنه سيعني أن حكومة السيد عبد الله خليل قد فرّطت في حلايب، وهي الفرضيّة التي رفضها بشدّة الدكتور فيصل، وذكر أنها السبب االرئيسي لكتابة مقاله.
6
جرت الانتخابات السودانية في نهاية شهر فبراير وبداية شهر مارس عام 1958 في كل أنحاء البلاد بما فيها حلايب وقرى شمال حلفا. وفاز في دائرة حلايب (والتي أصبح اسمها البشاريين 97) السيد حامد كرار من حزب الشعب الديمقراطي. واحتفظ السيد محمد نور الدين بمقعده عن دائرة حلفا (الدائرة 143)، أيضاً عن حزب الشعب الديمقراطي.
واصلت حكومة ائتلاف حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي (أو ما عُرف بحكومة السيدين – السيد عبد الرحمن المهدي راعي حزب الأمة، والسيد علي الميرغني راعي حزب الشعب الديمقراطي) البقاء في السلطة في الخرطوم.
لكنّ الحكومة انشغلت بخلافاتها الصغيرة والكبيرة، بما في ذلك تكوين الحكومة القادمة، وأي من الحزبين الثلاثة سوف يشكّلها. كما انشغلت قيادات تلك الأحزاب بتقسيم وتخصيص مقاعد الوزارة، والشخصيات التي ستشارك فيها. وكان واضحاً أن السيد عبد الله خليل سيفقد منصبه كرئيسٍ للوزراء. كانت هناك أيضاً مسألة المعونة الأمريكية التي كان حزب الأمة يرى قبولها، بينما كان يرفضها حزبا الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي.
انشغل رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل بالاحتمالات الكبيرة لفقدانه لمنصبه بتحالفٍ متوقّعٍ بين حزبي الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي، أو حتى بين حزبي الأمة والوطني الاتحادي. لهذا السبب فقد بدأ السيد عبد الله خليل اتصالاته بالفريق إبراهيم عبود على أمل إقناعه باستلام السلطة من خلال انقلابٍ عسكريٍ على الشرعية الدستورية، وهذا ما حدث في 17 نوفمبر عام 1958. وقد أثبت ذلك وفصّله تقريرُ لجنة التحقيق في انقلاب 17 نوفمبر عام 1958، والتي ترأسها القاضي السيد صلاح شبيكه، وشملت عضويتها القاضيين السيدين عبد الله أبو عاقلة أبو سن ومحمد الشيخ عمر.
لكل تلك الأسباب لم تعد حلايب من أسبقيات الحكومة في الفترة من 21 فبراير عام 1958 وحتى وقوع الانقلاب العسكري في 17 نوفمبر عام .1958
7
كان هناك تعاطفٌ كبيرٌ مع السودان بعد تصاعد الأحداث مع مصر، كما ذكرنا من قبل، خصوصاً من الدول الغربية. وكانت هذه الدول قد أزعجها تقارب عبد الناصر مع الكتلة الشرقية، وموافقة الاتحاد السوفيتي على تمويل وبناء السد العالي.
كانت هناك أيضاً قوة الدفع بعد شكوى السودان لمصر ونظر مجلس الأمن الشكوى. وكان هناك الحرج الكبير الذي أصاب مصر والذي عكس نفسه في التصريحات المصرية الهادئة (إن لم نقل المتراجعة) مثل "مصر تحمي ولا تعتدي" ومثل "مصر تصون ولا تتوعّد." فعبد الناصر كان يتوق لتوحيد وقيادة العالم العربي، وكان يعي جيداً أن الدخول في حربٍ مع السودان سوف يُنهي مصداقية ذلك البرنامج الطموح.
ولكنّ حكومة السيد عبد الله خليل لم تستغل ذلك التعاطف الدولي وقوة الدفع والمرونة المصرية لإنهاء النزاع مع مصر حول حلايب والقرى شمال وادي حلفا، وتركت نزاع حلايب مُعلّقاً للحكومات والأجيال القادمة.
كان كل ما طلبته الحكومة المصرية في 21 فبراير عام 1958هو أن تبدأ المفاوضات بتسوية كافة المسائل التي لم يُتخذْ بشأنها قرار بعد اختيار الحكومة السودانية الجديدة. لكن مصر احتلت حلايب عام 1992، وضمّتها لها عام 1995. وتبلور في هذا الأثناء، كما برز في العام الماضي، اتفاق كلِ ألوان الطيف السياسي في مصر من عسكريين ومدنيين، يساريين ويمنيين، إسلاميين وعلمانيين، أنه لا تفاوض ولا تفريط في شبرٍ من حلايب، دعك من جعل حلايب منطقة تكامل بين البلدين، أو اللجوء للتحكيم أو لمحكمة العدل الدولية.
لقد تعاطفت دول الغرب كثيراً مع السودان في عام 1958. ولنا أن نتساءل: أين تقف تلك الدول اليوم من السودان ومن أيٍ من قضاياه؟
8
كنا قد جادلنا في مقالنا السابق أن أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الرئيس جمال عبد الناصر للانسحاب من حلايب في فبراير عام 1958 هو مفاوضات مياه النيل وبناء السد العالي وترحيل أهالي منطقة وادي حلفا. فلم يكن منطقياً دبلوماسياً ولا عملياً أن تتمسّك مصر باحتلال حلايب وتطالب السودان بإغراق حلفا وقراها بعد ذلك من أجل قيام السدِّ العالي. وكان الرئيس عبد الناصر يعرف جيداً استحالة الجمع بين الأختين (حلايب وحلفا). عليه فقد قرّرت مصر النظر إلى الصورة الكبرى والانسحاب من حلايب على توقّعات مواصلة السودان لموافقته على قيام السدِّ العالي وإغراق مدينة حلفا و27 من القرى حولها و200,000 فدان من الأراضي الزراعية الخصبة. وهذا ما حدث عندما وقّعت حكومة الفريق إبراهيم عبود على اتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر عام 1959، ووافقت على إغراق منطقة وادي حلفا وقراها والترحيل القسري لحوالى خمسين ألف من النوبيين السودانيين.
بل إن مصر وافقت على ترحيل القُرى التي كانت تقع شمال خط 22 شمال (سره وفرس ودبيره) مع القرى السودانية الأخرى إلى منطقة خشم القربة، وليس مع النوبيين المصريين. وقد نسف ذلك الترحيل وموافقة مصر عليه إدعاء مصر بقدسيّة خط 22 شمال كفاصلٍ حدوديٍ بين البلدين.
9
لا بُدّ من التذكير هنا أن الموافقة على قيام السدِّ العالي تمّت في الجولة الثالثة للمفاوضات بين مصر والسودان حول مياه النيل في شهر أبريل عام 1955 على يد السيد خضر حمد وزير الري في حكومة السيد اسماعيل الأزهري.
كما يجب التذكير أيضاً أن السيد ميرغني حمزة وزير الري في حكومة السيد عبد الله خليل التي خلفت حكومة الأزهري في يوليو عام 1956، أكدّ ما وافق عليه السيد خضر حمد وحكومة الأزهري في ابريل عام 1955 فيما يختص بقيام السدِّ العالي. وواصل السيد ميرغني حمزة المفاوضات مع مصر على تفاصيل التعويض للسودان جراء قيام السدِّ العالي وإغراق حلفا وقراها.
لقد كان بإمكان حكومة السيد عبد الله خليل ربط قضية حلايب بالسدِّ العالي. وكان يمكن للسودان أن يقول ببساطة: نعم للسدِّ العالي لمصر مقابل إنهاء نزاع حلايب، لكن السودان لم يفعل. وقد ضاع بسبب ذلك هذا الكرت الكبير الذي كان بإمكان السودان استخدامه في مفاوضات حلايب.
10
لقد برزت، دون شكٍ، في شهر فبراير عام 1958 فرصةٌ تاريخيةٌ كبيرة لحل مشكلة حلايب. كان يمكن للسودان الاستفادة من ذلك التعاطف الدولي الكبير ، ومن المرونة المصرية التي وضحت ذلك الشهر، ومن قوة الدفع لقرار مجلس الأمن، واستغلال كرت بناء السدِّ العالي وإغراق الأراضي السودانية. لكنّ حكومة السيد عبد الله خليل لم تستغل تلك الفرصة، وتركت القضية لتتعقّد وتتشابك وتصل إلى ما وصلت إليه اليوم.
لقد كان موقف السودن التفاوضي عام 1958 أقوى بكثيرٍ من أي سنواتٍ لاحقة، خاصةً موقف اليوم المتمثّل في الصمت التام من الحكومة والمعارضة بكافة أحزابها السياسية، بما فيها الحزب الذي وقف ذلك الموقف عام 1958.
11
أثار بعض القراء السؤال عما يجب على السودان والخبراء السودانيين عمله الآن بدلاً من كتابة المقالات التي قالوا أنها أصبحت مكرّرةً ومُمِلّةً.
اقترحتُ في مقالٍ سابق ضرورة مواصلة حفظ السودان لشكواه لمجلس الأمن كل عام.
واقترحُ الآن إعادة الحياة لفريق العمل الخاص بحلايب والذي كان قد تمّ تشكيله في منتصف التسعينيات من القرن الماضي للعمل الجاد لتحضير ملفٍ سودانيٍ متكاملٍ للقضية. ومن الضروري تطعيم الفريق بخبراء شباب ليتسنّى للفريق مواصلة العمل والحفاظ على الذاكرة العلمية والوثائقية.
ومن الضروري أيضاً مواصلة إثارة القضية مع الأشقاء في مصر بهدف إقناعهم بالعودة لطاولة التفاوض.
أليس التفاوض الذي يطالب به السودان اليوم هو ما أعلنه السيد عمر لطفي في بيانه أمام مجلس الأمن في 21 فبراير عام 1958؟
[email protected] www.salmanmasalman.org
|
|
|
|
|
|