|
حداد كروم: لم يكد يتخرج من حنتوب حتى عاد مدرساً فيها الأستاذ الطيب السلاوي
|
(دخلت مدرسة حنتوب الثانوية في 1949 وتحرجت فيها في 1952. ولأعرض منذ حين لمن علمونا فيها سائر المواد. وأعرض هذه المرة لمدرس لم يشب عن طوق التلمذة بعد ولكنه أحسن وأجاد)
الأستاذ حداد عمر كروم .هو النطاسي البارع أخضائى امراض التساء والولادة في لاحق من الزمان. مد الله في أيامه وحفظه ذخراً لأسرته وأهله ولأهل السودان أجمعين. كان عدم وصول الأستاذ أحمد سني عبيد إلى السودان في بداية الفصل الدراسي الأول من عام 1950 سبباً مباشراً في لقائنا للمرة الثانية بالأخ الكريم حداد عمر كروم بعد إكماله دراسته في حنتوب وجلوسه لامتحانات كمبريدج في ديسمبر 1949 . لكننا التقيناه في هذه المرةّ معلماً يجلس بين أساتذته الأخيار في مكتب شعبة الرياضيات ويقيم "هاوسماسترا" في داخلية "ود صيف الله" أبعد الداخليات عن داخلية "أبو لكيلك" التي التقيناه فيها للمرة الأولى في الثاني من فبراير من العام المنصرم 1949رئيسا أوّل فيها. كان حداد أول دفعته طوال سنوات دراسته في حنتوب، ذلك فضلاً عن اجتماع الوفير من الشمائل والخصال التي قلما أن تجتمع في فرد واحد: دماثة خلق وغزارة علوم اكاديمية ومعرفة بالحياة مع سعة أفق وقوة في الشخصية. تكسوه الهيبة والوقار مع حلاوة في الحديث ونقاء في السريرة، وذكاء وقّاد أهّله ليُنتخب رئيساً أول لإحدى الداخليتين الجديدتين. لم تمض إلا أسابيع قلائل بعد بداية الفصل الدراسي الأول من عام 1950، ونحن طلاب في فصل ثانية غزإلي ،وغيرنا من الفصول الأخرى، إلا قد تناوب على تدريسنا كل معلمي الرياضيات في المدرسة يشغلون مؤقتاً حصص الأستاذ أحمد سني عبيد المتوقَع وصوله في كل حين إلى حنتوب. ولكن يعد انتظار الغائب (اللي عذره معاه) . فكّر المستر براون باستدعاء الطالب السابق حداد عمر كروم ليملأ الفراغ في شعبة الرياضيات وتدريسها في الفصول المخصصة للأستاذ أحمد سني عبيد إلى حين وصوله. فتداول بروان الأمر مع نائبه السني أفندي عباس واستشار كبار المعلمين و رؤساء الشعب ومفتشي الداخليات فوافقوا بالإجماع على المقترح. فقد كان حداد عمر كروم أثيرا في نفس المستر براون وموضع ثقته وذا قبول حسن لدى كل معلميه لما عُرف عنه من صفات مثالية في كل المجالات أثناء دراسته في حنتوب. وكانت تلك المبادرة من المستر بروان جزءاً من فلسفته التربوية ودأبه مع المتميزين من طلابه منذ التحاقه بكلية غردون معلّما في سنة 1938. كان المستر براون يرجو أن يواصل الطالب حداد تعليمه الجامعي متخصصا في علوم الرياضيات في كلية الخرطوم الجامعية ليلتحق -بعد تخرجه فيها بوزارة المعارف معلماً لمادة الرياضيات. كان ذلك ديدنه فقد نصح بعضا من طلابه المتميزين يسلكوا هذا المسلك إيماناً منه بأن تقدم أي بلد وازدهاره أساسه التعليم المتميز الذى لا ينهض به إلا المعلم المتميز . لاشك أن المتميزين هم من ظهرت عليهم بوادر النبوغ من طلاب المدارس. والشىء بالشىء فقد كانت هذه فلسفة قسم "العرفاء" الذي أُنشئ في كلية غردون منذ سنينها الأولى ، ثم انتقل لاحقاً إلى بخت الرضا عام 1934. فكان يتخيّرون للالتحاق بالقسم للعمل فيما بعد في المدارس الأولية المتميزين ممن أكملوا السنة الرابعة الأولية من كبار السن ممن تتوفر فيهم مهارات القيادة فضلاً عن سمات النضوج والوعي. وتجدر الإشارة إلى أن علمية الاختيار كانت تتم برضى الطلاب، ثم بموافقة ذويهم. فيلحقون بمعهد التربية في بخت الرضا بادئ الأمر حيث يتلقون دراسة منهاج المرحلة الوسطى (أربع سنوات) فضلا ً عن بعض المواد التربوية والتدريب على مهارات التدريس. ومن ثَمّ ينتقلون إلى قسم آخر من أقسام المعهد لمدة عامين إضافيين يواصلون خلالهما دراسة المزيد من العلوم التربويه وطرق التدريس مع تقديم نماذج التدريس تحت مراقبة كبار المعلمين في المعهد العريق وتوجيهم. وفي نهاية المطاف يكونوا فد تأهلوا تماما للتوزّع في أرجاء السودان منخرطين في مهنة التعليم في المدارس الأولية .ولتعميم الفائدة فأن كلمة "العُرفاء" هي جمع لكلمة عريف، وكان العرفاء هم معلمو "الكتاتيب" في مصر . وما "كتاتيب" إلا جمع لكلمة "كُتاّب"( بضمة على حرف الكاف مع تشديد مفتوح على حرف التاء)، وهو الاسم الذى كان يطلق على مدارس المرحلة الأولية في السودان في سوابق الأزمان، إلى أن تعدّل اسم المرحلة "الأولية" إلى المرحلة الابتدائية ابّأن العهد المايوي، ثم صار الآن مرحلة الأساس بعد ذهاب سنة دراسية من سنوات السلم التعليمي المايوي ذي المراحل الثلاثة والتي كانت في مجموعها اثنتى عشرة سنة (6 – 3 – 3 )، فأصبحت سنوات الدراسة المعاصرة إحدى عشرة سنة مقسومة على مرحلتي الأساس والثانوية. ولكن طموحات الطالب حداد عمر كروم كانت تنطلق إلى آفاق أرحب وفي اتجاهات أُخر وافق عليها المستر براون رغم قناعته الثابتة أن حاجة التعليم إلى النابهين من المعلمين من أمثال حداد عمر كروم كانت أكثر إلحاحا من المهن الأخرى التى "يخرج ممتهنوها من معاطف المعلمين" ،كما قال معلم الأجيال والشاعر الكبير مبارك حسن الخليفة. وقد عُرف المستر براون باحترامه لوجهات نظر الآخرين مهما كانت مغايرة لما يراه. واختيار الطالب حداد حديث التخرج في حنتوب للعمل معلماً في ذات المرحلة التعليمية التي أكملها لتوّه، ولم يمض على تخرجه فيها سوى أسابيع قلائل ،لم يكن أمراً يحدث لأول في تاريخ التعليم في السودان. فقد سبق ذلك ما كان أعظم. فقد اختارت إدارة كلية غردون في فبراير 1927 طالب السنة النهائية في قسم المعلمين ورئيس الرؤساء وأول دفعته، مكي الطيب شبيكة، الذى لم يكن قد مضى على انتقاله إلى السنة الأخيرة إلا شهر يناير من نفس العام، اختارته ليعمل معلماً لمادة الجغرافيا في كلية غردون. فأضحى زميلاً لمعلميه ومعلماً لزملائه في غمضة عين. وتخلّى عن الزى الطلابي الذي كان يتكون من الجلابية والعمامة ، وتهندم بزي المعلمين السودانيين الذي كان يتكون من القفطان والجبة وحزام الوسط مع غطاء الرأس المعروف آنذاك ب "الطربوش المغربي". وهو طربوش أصغر حجما ولا يرتفع عالياً على الرأس، وتلتف حوله بطريقة خاصة عمامة أقصر طولا من العمامة التي يلفها عامة السودانيين على رؤوسهم. كان ذلك هو الزي الذى كان يرتديه الشيخ الخاتم أثناء ساعات النهار ، ورأيناه على "ابن عمر" أستاذ اللغة العربية مرتين لا أكثر في فترة السنتين اللتين قضاهما في حنتوب: كانت أولاهما في الاجتماع المدرسي الأول صباح الثاني من فبراير 1949، والثانية في نوفمبر عام 1950 عندما ظهر به ليتسلم كسوة الشرف المهداة له من الحاكم العام بمناسبة تقاعده بالمعاش. صدقت نظرة إداريي كلية غردون ومعلميها في نجابة مكي شبيكة. فكان عند حسن ظنهم وعلا شأنه فيما بعد وذاع صيته في مجال تاريخ السودان تدريساً وتأليفاً. وهكذا انتقل حداد عمر كروم من صفوف الطلاب إلى دنيا المعلمين وتخلّى عن أردية الكاكي القصار وصار إلى ارتداء البنطلونات المصنوعة من الفاخر من أصناف الأقمشة. وانتقل من الجلوس على الكنبات الخشبية حول ميدان الاجتماع الصباحي اليومي إلى مشاركة معلميه حضور الاجتماع من على مسرح حنتوب . غير أنه لم يُشاهد يعلن عن منشط من المناشط الصفية أو اللاصفية حيث كانت مدة اقامته كمعلم في حنتوب مؤقتة. لكنه صار يُرى متجولا في أرجاء حنتوب "ماسترا أون ديوتى" master on duty مارا ًبين الفصول . ويُذكر أن زياراته إلى قدامى زملائه في داخلية أبى لكيلك لم تنقطع. لم ينس العُشرة فقد كان ولما يزل ذلك ديدنه. وعند لقاء فرقتي داخليتي أبي لكيلك وضيف الله في منافسة رياضيه لم يكن ليبدي أين يكون قلبه وموقع سيفه بين الطرفين.ولم يكن، بالطبع، في حاجة إلى تقديم نفسه أو التعريف بها عندما دلف إلى فصلنا" ثانية غزالي" في ذلك الصباح الأغر وهو يحمل كتاب "الهندسة" مع بعض معدات الرسم الهندسي الخشبية ذات الحجم الكبير. فقد كان علماً على رأسه نار. لكنه آثر أن يعلن عن نفسه وابتسامته لم تفارق وجهه "أخوكم الكبير" حداد جاءكم يسعى لمساعدتكم في مواصلة دراسة مقرر الرياضيات إلى حين وصول الأستاذ أحمد سني عبيد في أي وقت". وانطلق في همة ونشاط يواصل ما كنا قد بدأناه من مقرر السنة الثانية على يدي أكثر من معلم . بدا لنا وكأنه قد مارس التدريس من قبل. يشرح في أناة وصبر ويأخذ بأيدي من كان في حاجة إلى مزيد من العون للحاق بزملائهم. كان يجوب أرجاء الفصل وهو يفصّل ويشرح ويعيد ويتابع ويصحّح . ولكن بعضاً من المشاكسين كانوا يسببون له شيئاً من الضيق والتوتر أحياناً عندما يدركون أنه أفاض وأكمل كل شرح وتفصيل وأضحى قاب قوسين أو أدنى من الانتقال إلى جزئية أخرى، فينبرى أحدهم طالباً المزيد من الشرح لما أفاض في شرحه وتأكد له أن كل الجالسين امامه قد استوعبوا كل ما كان يسعى الى تبيانه أو برهانه من النظريات أو المسائل الهندسية الموسومة بالنجوم، أو رصيفاتها من مسائل الجبر والحساب. فكنا نراه يقف صامتاً للحظات محدّقا في وجه السائل وسحابة من الغيظ تغطى وجهه رغم محاولته لإخفائها. فيضطر لإعادة ما سبق شرحه من قبل مستخدماً الدارجة السودانية مشحونة بعبارات ساخرة خاصة إن كان السائل ممن كنا، وكان هو على وجه الخصوص، على يقين بأن ادعاء عدم فهمه كان أمراً مقصوداً غرضه التلاعب. وبالطبع لم يكن الأستاذ حداد يحتاج إلى معرفة دخيلة نفوس المتلاعبين وهو الذي لم تمض إلا أسابيع قلائل من ابتعاده عن دنياهم والحياة بينهم. فصار بعد حين يتجاهلهم و"يضرب طناش" عن أصابعهم المرتفعة أو ادعاءاتهم شفاهة بعدم الفهم، ويواصل دون النظر إليهم. فتوقفت تلك المكايدات الصبيانية حينما لجأ إلى حيلة كشفت مدى زيف ادعاءاتهم بأن يطلب من المدعين عدم الفهم الخروج إلى السبّورة لتبين ما قصر فهمهم عن إدراكه فتنكشف ألاعيبهم في حينها . وغادر الأستاذ حداد عمر كروم أرض حنتوب بعد انقضاء الفصل الدراسي في أواخر شهر مايو ليبدأ عهداً جديداً في حياته الزاخرة طالباً في كلية الخرطوم الجامعية.
|
|
|
|
|
|