|
انتصار غزّة وانقلاب المشهد
|
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان كاتب وأكاديمي فلسطيني جامعة الأزهر بغزة ما الذي جرى؟! فبعد واحد وخمسين يوماً من التقتيل والتدمير والحرق والتجريف والقصف من الأرض ومن البحر ومن الجو، وضعت الحرب الصهيونية المجنونة أوزارها، ولكن ما الذي جرى فما كان للحرب إلا أن تتوقف رحاها؟! وهل كان توقفها انتصاراً لنا أم انتصارٌ علينا؟ فإن كان انتصاراً لنا، فهل ما خسرناه فيها يُبقي انتصارنا انتصاراً فتراه أبصارنا وبصائرنا كسباً أم أنه يشوهه فنراه حجة علينا وكسراً للهمة والإرادة فينا وانكساراً للوطني في طموحنا؟! ما هو نتاج مقارنة واعية بين قائمتي أرباحنا وخسائرنا؟! ألفان ومائتا مواطن صعدوا شهداء إلى الله وبأمره؛ ما زاد عن العشرة آلاف هم جرحى ومعاقون؛ نحو ثلاثمائة ألف مواطن باتوا مشردين بين الشوارع ومراكز الإيواء وتحت مظلات المباني من العمارات والأبراج وأسطحها؛ عشرات الأسر من الرضيع فيها إلى وليها أبيدت عن كاملها؛ الآلاف من البيوت والمصانع والمراكز والمنشآت والجمعيات سويت أعاليها بقواعدها، العشرات من المراكز الصحية والطبية ومراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة أمطرتها دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيران صواريخها البحرية والجوية والأرضية؛ عشرات الأسر التي فرّت من جحيم القصف طلباً للنجاة من الموت طالها ما فرّت منه فغادرت الحياة! كيف يمكن للمقاومة، إذَنْ، أن تعلن انتصارها- والحالة كذلك- وسط كل المشاهد الكارثية التي نراها وها نحن نذكر بعض شيء منها أو مثال عنها؟! هذا السؤال ومثله وغيره من أسئلة كثيرة ما تزال تتردد هي أسئلة لا غبار على طرحها بغية استجلائها والإفادة منها ومن الإجابة عنها، مع الحق في معارضتها أو تعديلها أو تطويرها، انطلاقاً من نظرة وطنية شمولية واسعة لا من نظرية حزبية أو شخصية ضيقة تستمد رأيها من حب أو كره أو اصطفاف أو غضب أو عصبية. لقد لاحظت- كما لاحظ غيري وهم كثيرون- أن كثيراً ممن يسألون غيرهم أو يتساءلون فيما بينهم أثناء جلساتهم وأحاديثهم عما إذا كان ما انتهت إليه الحرب انتصاراً، إنما يعانون من مشكلة كبيرة عقدوا العزم على أن يبقوها في عقولهم ويجعلوها على الدوام حبيسة حساباتهم، وهم لا يغادرون البكاء أو التباكي على الشهداء، فيتسمرون عند عددهم الذي زاد عن الألفين، وعند عدد الجرحى الذي زاد عن العشرة آلاف، وكأن الأمر ليس إلا حسبة تجارية أولها الشراء بسعر أقل من سعر البيع، فيما آخرها البيع بسعر كلما فاق سعر الشراء كلما كانت حسبة الربح أكثر وكانت الصفقة التجارية أكبر! ما هكذا تكون معايير الحسبة في معارك التحرر الوطني، لا سيما وإن معارك التحرر الوطني لا يخوضها إلا المستضعفون ضد الباطشين والطواغيت والجلادين والمعتدين والمغتصبين والمحتلين، في صيغة تبتعد عن قانون التجارة وحسابات السوق، الأمر الذي يوقع البعض في خطأ جسيم وهو يصوغ حسبة يقارن من خلالها بين خسائر المنتهكة حقوقهم والمستضعفين وخسائر المحتلين، إذ يقول ليثبت صحة حسبته التي لا يمكن أن تكون صحيحة البتّة: فقدنا 2200 شهيد من شعبنا مقابل 70 قتيلاً من جنود عدوّنا، ما يعني أن ما فقدناه من الأرواح يعادل ثلاثين ضعفاً وأكثر مما فقد عدونا. حسبة- على هذا النحو- تجعل البعض يصاب بالدوران والغثيان والشك والتوهان عمّا إذا كان الذي كان نصراً أو غير ذلك! هذا الشعور بالدوار والشك والغثيان والتوهان سوف يتنامى في دواخل البعض حين يشاهدون البيوت الواقعة على الأرض بكاملها في الشجاعية أو رفح أو جباليا أو بيت حانون أو خزاعة. حينذاك، لا يبقى السؤال تشكيكياً عما إذا كان الذي جرى هو انتصار أم انكسار فيتطور ليصبح استنكارياً أيضاً على نحو مفاده: "أما كان من الأفضل والأعدل لو تم القبول بالمبادرة المصرية؟! أما كنّا- لو قبلنا بالمبادرة المصرية- قد حقنَّا أرواح مئات؟! وأما كنا قد جنبنا أنفسنا هذا القتل وهذه الوحشية وهذا الدمار؟! أصحاب هذا الكلام ومشعلو هذه الأسئلة والتساؤلات- بريئة أو غير بريئة- ينسون أو يتناسون أنهم ينظرون إلى حسبتين مختلفتين بمنظار واحد، ويقارنون بين الحسبتين، ويحللون أبعاد الحسبتين بأدوات واحدة، فحركات التحرر الوطني لا تتعامل مع حسابات الربح والخسارة في إطار العمليات التجارية وقوانين السوق والتسوّق، ولكننا تتعامل معها طبقاً لقوانين التحرر الوطني التي في أول أولوياتها الحسابية هو العمل بمقتضى العلم المسبق أن إمكانياتها كحركة تحرر وطني هي دون إمكانيات العدو بكثير، وأن قدرتها على إيذاء العدو قليلة جداً إذا ما قورنت بقدرة العدو على إيذائها بل على تدميرها، غير أنها تخوض معارك تحررها الوطني إيماناً بقدرتها على الصبر والصمود والتضحية، أملاً في استنزاف العدو ومراكمة خسائره من خلال استنزافه وإصرارها على إطالة أمد هذا الاستنزاف له. وفوق ذلك، فإنها- كحركة تحرر وطني- تعلم مسبقاً أنها وهي تستنزف عدوها وتراكم باستنزافها له خسائره، فإنها في الوقت ذاته تراكم خبراتها القتالية وقدرتها على إنزال أكبر الأذى فيه، فضلاً عما تحدث فيه من ترويع وذهول وصدمة، وهو ما تحقق تماماً- وبقدر قوى- لدى الجمهور الإسرائيلي الذي آمن لسنوات طويلة بقدرة دولة الاحتلال وطول يدها. أما الآن، فقد كان العكس تماماً حيث لم يجد هذا الجمهور من يحميه ومن يؤمنه، فأصبح طيلة الوقت يجري بين حياة الشارع أو المصنع حيث الموت المحقق وبين الملاجئ التي يأمل الاحتماء فيها من موت يلاحقه. أما الحيارى في توصيف ما كان على أنه انتصار أو انكسار، أو خليط من هذا وذاك، أو أنه لا هذا ولا ذاك، فإن في تفكر الآتي وتدبّره انعتاقاً من الحيرة، فضلاً عمّا في ذلك من عبرة وموعظة وحقيقة: 1) لقد بات قاراً في الذهنية الصهيونية أن اجتثاث المقاومة والقضاء عليها ليس عسيراً فحسب، بل إنه مستحيل أيضاً، وهو ما أحدث خلخلة وارتجاجاً في الوعي الصهيوني الذي ظلّ قبل الحرب الأخيرة ثابتاً مع تصاعد فيه وتنامٍ لم يكن ثمة مجال لوقفه أو تحجيمه أو حتى إيصال قناعة حول إمكانية تحجيمه أو تغييره أو تعديله أو تخفيفه. 2) إجبار دولة الاحتلال على التفكير ألف مرة قبل أن تعيد الكرة، سواء على مستوى حرب جديدة على غزة أو على مستوى إعادة احتلالها، نظراً لما ينطوي عليه ذلك من محاذير الفشل ومخاطره وما يرتبط بكل ذلك من خسائر معنوية ومادية، فضلاً عن البشرية على المستوى العسكري أو المدني. 3) لم يكن قتل المقاومة نحو 70 عسكرياً صهيونياً بين جندي وضابط حسب اعتراف دولة الاحتلال أثناء الحرب على غزة أمراً يسيراً على الجمهور الإسرائيلي، إذ أصيب وعيه الذي ظلّ في الماضي واثقاً ومستقراً بصدمة دكّته فقلبته وغيّرت مساره وموازينه، لا سيما وإن من قتلتهم المقاومة- حسب اعتراف العدو- هم من ضباط وجنود النخبة الذين ظلت دولة الاحتلال تتباهى بهم وتفاخر وهم "جفعاتي" و"جولاني". 4) ظلّت المقاومة- طوال 51 يوماً- تمزّق هيئة جيش ظلّ يوصف بأنه لا يقهر إلى أن قهرته وكسرت نظريته الأمنية وأهانت تفوقه العسكري وهيبته. 5) فرضت المقاومة إرادتها وبسطت سيطرتها على جمهور دولة الاحتلال فتحكمت في حركته وتنقلاته، كما تحكمت في إطلاق صواريخها وقذائفها متى شاءت، حيث حددت للعدو وقتاً دقيقاً ينتظر فيه صواريخها تدك عمقه، متحدية قوته وتفوقه، ومنبهة إياه إلى إعداد قبته الحديدية، بغية تشغيلها انتظاراً لصواريخ المقاومة، أملاً في اعتراضها لإبطال مفعولها أو تحويل مسارها أو وقفه. 6) أوقفت المقاومة حركة الطيران من دولة الاحتلال وإليها عبر العالم، الأمر الذي جعل العالم كله يصوب أعينه ويشنف آذانه صوب غزّة التي ظلت تقول بالصوت والصورة: "هنا المقاومة الفلسطينية من غزّة". 7) فرضت المقاومة- طيلة 51 يوماً- وقفاً تاماً على كل مناحي الحياة في دولة الاحتلال حتى صارت حركة الجمهور محصورة فقط في الهروب إلى الملاجئ للاحتماء فيها. 8) جرب الإسرائيليون على نحو حقيقي- ولأول مرة- ألم النزوح من مناطق إقامتهم ومن مساكنهم إلى أماكن أخرى علّها تشكل لهم بعض حماية من القصف ومن الموت. 9) حظرت المقاومة على الإسرائيليين التعليم المدرسي والجامعي. 10) لم يعد المستوطنون- وهم ركيزة دولة الاحتلال وأساسها بصفتها دولة المستوطنين- آمنين حتى في مستوطناتهم، إذ نزحوا عنها وغادروها، بل إن وزير الدفاع يعلون شجعهم على مغادرتها وقدم مقترحات لهم بأن من أراد مغادرتها فليفعل، مبدياً استعداد الحكومة لدفع أموال لقاء المبيت في الفنادق، هرباً من صواريخ المقاومة. 11) صار الحصار الذي تفرضه دولة الاحتلال على غزة أمراً يشغل بال الإسرائيليين حيث بدأوا يفكرون في انعكاس تبعاته الخطيرة عليهم، كما أن الاحتلال ذاته لم يعد أمراً مسلماً به عند الجمهور الإسرائيلي، فبدأت قطاعات كبيرة ومتنوعة فيه تفكر في ضرورة إنهائه لما له من نتائج كارثية بدأ الوعي الإسرائيلي يتحسسها ويتوقعها، الأمر الذي جعله يشعر بضرورة الانتباه لها والالتفات إليها، بصفتها انعكاساً خطيراً عليه جراء استمرار الاحتلال. 12) بدأ قطاع كبير من جمهور دولة الاحتلال الوافد في الموازنة بين الهدف من قدومه إلى دولة الاحتلال والنتيجة التي وصل إليها وبات يراها، فبعد أن كان هدفه من القدوم إلى دولة الاحتلال والعيش فيها الفانتازيا (الفن(.........)ية والرفاه وسعادة الانفلات) دهمته النتيجة وكارثة الصواريخ، ما جعله يفكر في الإقلاع المعاكس، مغادراً دولة تحتل شعباً يرفضها وبأنيابه وأظافره ورصاصه وصواريخه وقذائفه وأنفاقه يقاومها. 13) صحيح أن الحرب بدأتها دولة الاحتلال على غزة، لكن هذه الحرب التي استمرت 51 يوماً رأي الإسرائيليون خلالها الأعاجيب من إبداعات المقاومة، لم تكن دولة الاحتلال هي من قرر إنهاءها على النحو الذي اعتادت عليه دوماً، وإنما المقاومة هي التي كانت صاحبة قرار إنهائها، لا سيما بعد أن فرضت ما ظلّت تصرّ عليه من تعديلات على المبادرة المصرية. 14) أبانت المقاومة- بوضوح شديد وبقوة لا تنكر- عن بأس شديد في فرض رعب ضد رعب وردع لردع، الأمر الذي بات يشكل أمام دولة الاحتلال رادعاً قوياً يمنعها من اعتبار عودتها إلى ما جربته أمراً يسيراً دون ثمن باهظ الكلفة تدفعه. 15) إن أسر المقاومة لجنود دولة الاحتلال واحتفاظها بقتلى منهم هو أمر يمكن المقاومة من التصرف في هذا الشأن وفق شروطها. 16) على المستوى العسكري والشعبي والسياسي والتفاوضي، فقد وحّدت المقاومة كلّ المكونات الوطنية والاجتماعية والأخلاقية للشعب الفلسطيني وأعادت قضيته الوطنية إلى واجهة الاهتمام من جديد. 17) إن من أهم علامات الانتصار أن المقاومة- بفعلها الإبداعي الخارق- قد مكنت المستوى السياسي الفلسطيني من التحدث بقوة عن الحق الفلسطيني المستلب، مستندة في ذلك إلى حقيقة باتت واضحة تمام الوضوح وهي أن المستوى القيادي السياسي الفلسطيني قد بات له ما يستند عليه من قوة لها أنياب وأظافر تمثلت في مقاومة عنيدة طالت صواريخها (غير العبثية!!!) عمق العمق في دولة الاحتلال، فمنعت التجول فيها وأوقفت مطارها وشلّت حركة الطائرات فيها وإليها وأوقفت العمل في مدارسها وجامعاتها، وحدّدت لها مواقيت القصف لبعض أنحائها، وفتلت عشرات من النخبة من ضباطها وجنودها، وأنزلت صواريخها عليهم من خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوق رؤوسهم وقتلوهم هم محتمون في دباباتهم، وفاجأتهم بما لم يتوقعوه بأبابيلها ذات النسخ الثلاث!!! 18) إن صمود شعبنا- بصفته الحاضن لمقاومته من ناحية والحامي لوحدته الوطنية من ناحية أخرى- أسس لصمود المقاومة صموداً أسطورياً أبدعت من خلاله إبداعاً على نحو فريد ومعجز، كما أسس لتحقيق وحدة وطنية برزت تجلياتها على المستوى المقاوم عسكرياً وشعبياً ومجتمعياً وسياسياً وتفاوضياً. 19) إن ما سيحدث لحكومة دولة الاحتلال، وعلى رأسها نتنياهو، سيكون على المستوى القريب دليلاً عمّا إذا كان الذي جرى هو انتصار لنا أم انتصار علينا، لا سيما وإن هدفاً واحداً من أهداف دولة الاحتلال لم يتحقق جراء حربها على غزة، على الرغم من محاولتها اقتناص التهدئة لتحقيق ما كانت تظن أنه قد يعدل ميزان الربح والخسارة، ولو قليلاً، فباءت بالفشل والخسران استخباراتياً وعسكرياً، حينما لم تتمكن من قنص محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، ما جعلها تفقد صوابها وتزداد وحشية وغباءً وجنوناً في استهداف المدنيين ومساكنهم وأبراجهم بكاملها، محاولةً الضغط على الشعب علّه يكفر بالمقاومة فازداد الشعب بمقاومته إيماناً وازداد منها قرباً واقتراباً والتصاقاً وعشقاً وانصهاراً. 20) إن أعظم دليل على الانتصار وأروع تجلياته تتمثل في أن غزّة الصغيرة الفقيرة المستضعفة الملوث ماؤها وهواؤها والمحاصرة من برها وبحرها وجوّها قد شهد العالم أنها سجّلت وحدها انتصاراً واضحاً على دولة الاحتلال وسط تآمر دولي وخذلان عربي. 21) إنّ صمود أهل غزّة وإبداع مقاومتها وقدرتها التي برزت تجلياتها في أكثر من حالة وأكثر من موقع أحدث خللاً خطيراً في حسابات دولة الاحتلال على المستوى الاستخباراتي والعسكري والمجتمعي، الأمر الذي فرّق التحالفات وخلق المعارضات، ليس على المستوى السياسي والعسكري القيادي والحزبي فحسب، وإنما تجاوزه ليطال الرأي العام للجمهور الإسرائيلي الذي زادت نسبة تأييده الحرب على غزّة عن 80%، فيما انخفضت بعد ذلك إلى 38%. 22) لم يكن الصمود الشعبي في غزّة أثناء الحرب عليها وتوحد المقاومة على أهداف شعبها إلا ضربة أصابت دولة الاحتلال في مقتل، فأفشلت أحد أهم أهدافه، بل لعله الأهم على الإطلاق، وهو ضرب وحدته الوطنيّة. 23) بعد أن ذاقت دولة الاحتلال مرارة الهزيمة وانهيار صيتها والدعاية لها وتشويه صورتها جراء حربها ضد المقاومة اللبنانية عام 2006، هدفت دولة الاحتلال من حربها على غزّة إلى تحسين صورتها العسكرية وترميم سمعتها فذاقت هزيمة شهد العالم أنها الأكثر مرارة في تاريخ حروبها. 24) بصمودها وإبداعها، أفشلت المقاومة حسابات دولة الاحتلال التي اعتادت التخطيط لحروب خاطفة تنهيها خلال أيام، محققة كل أو معظم أهدافها، فاستمرت الحرب الأخيرة- رغم أنف دولة الاحتلال- أكثر من خمسين يوماً، دون أن يكون قرار وقفها في يدها، بل كانت المقاومة صاحبة اليد الطولى ومالكة القرار. 25) أما القبة الحديدية- رمز التحدي ومثار التفاخر الإسرائيلي- فقد فرضت المقاومة على دولة الاحتلال وخبراء العسكرية التقنية فيها ان يعيدوا حساباتهم بعد أن لم تتمكّن من القيام بمهمتها في اعتراض صواريخ المقاومة حيث كانت نسبة فشلها في الاعتراض 80%، ما يعني أن صواريخ المقاومة حققت نجاحاً نسبته 80% في التفوّق على القبة الحديدية التي أنفقت دولة الاحتلال عليها الكثير لتفادي صواريخ المقاومة. 26) لم يكن أمام المستوطنين- تحت قصف المقاومة- إلا أن يغادروا المستوطنات التي لعبت الدور الأساسي في بناء دولة الاحتلال بصفتها دولة المستوطنين. وبعد، فإن بعض أولئك الذين لا يستطيعون- كما أنهم لا يرغبون- أن يروا الانتصار إلا في سياق حسابات الربح التجاري وخسائره، إنما يلزمهم أن يقرأوا التاريخ ليعرفوا أن جميع حركات التحرر على مستوى الحياة كلها والدنيا بأسرها ما كان في مكنتها أن تنعتق من الاحتلال وتتحرر، بل ما كان في مكنتها أن تبدأ بالمسير على درب الانعتاق من الاحتلال والتحرّر من سطوته وأصفاده لو فكرت ضمن منهج الربح والخسارة، ذلك أن من أراد الانعتاق والتحرر، فليعلم أنه ليس أمامه إلا الخسارة والخسارة والخسارة إلى أن يحقق بثباته وصموده الربح في النهاية، وهذا الربح إنما هو الحرية والاستقلال والانعتاق والتحرر من التبعية. إن أي انتصار له مظهر وله جوهر، أي له شكل وقالب وله مضمون ومحتوى. غير أن الأهم على الدوام- وفي حالتنا على وجه الخصوص- إنما هو الجوهر، وإن كان المظهر لا تُغفل قيمته ولا تنكر أهميته. أما انتصار المقاومة من حيث المضمون والجوهر والمحتوى فهو قدرتها على تغيير قناعات استقرت في الوعي الإسرائيلي طويلاً، حيث أحدثت فيه صدمة مروعة بات يستحيل معها الاستمرار في ذات الوعي وذات النهج وذات السبيل، دون التفكير في توابع الاحتلال وتوابع الحصار، ما لا يجعلنا مطمئنين أن الحصار زائل خلال شهر، فيما الاحتلال خلال شهرين، ذلك أن زوال الاحتلال درب شاق وطويل ومعبد بالألم والعناء والتضحية والفداء بالأرواح والدماء. وإن كان ذلك أقرب اليوم من الأمس وسيكون أقرب غداً من اليوم، تأسيساً على أن المقاومة قد عرفت طريقها الذي عنه لن تعود ولن تحيد، وهو ما بات لدى دولة الاحتلال غير جديد، لا سيما وإن عودة الإسرائيليين إلى ما اعتادوا عليه من حياة كلها سعادة ورفاه بعيداً عن الألم والفقد والقصف والموت والاحتماء في الملاجئ قد بات أمراً مستحيلاً طالما بقي الاحتلال. أما آخر الكلام، فإنه انتصار حقاً. إنه انتصار حقيقي بكل ما في كلمة "الانتصار" وتوصيفاتها وتجلياتها من معانٍ كثيرة تتزايد وتتوالد. إنه انتصار لا ينكره إلا مكابر وإن كان هذا الانتصار انتصاراً مرحلياً في محطة مهمة تليها محطات أُخر في المنازلة السياسية والقتالية على درب الانعتاق من الاحتلال والتحرر الوطني. أما دولة الاحتلال، فقد ضلّ أو كابر أو جهل أو تجاهل كلّ من لم يرَ أنها هُزِمت في المنازلة الأخيرة شر هزيمة، وكل من لم يرَ أن جيشها النخبوي الذي يقهر قد قهر، وكل من لم يسلّم بأنّ نظريتها الأمنية قد تم تحطيمها وقد ضربت في مقتل. غير أنه على الرغم من كل ما نقول، فليس أمامنا إلا أن نزيد من استعدادنا لعدو مواجهته لن تكون سهلة، في أيّ حال.
|
|
|
|
|
|